الفصل السادس

هنيبال في شمالي إيطاليا

عندما أصبح جنود هنيبال في سهول إيطاليا، وأقاموا هنالك طلَبًا للراحة شعروا بتأثير تعبهم وعنائهم بما يزيد كثيرًا على شعورهم بمثل ذلك عندما كانوا يعانون المشقَّات المضنية في قمم الجبال، فقد كانوا في أشد حالاتِ التعاسة والشقاء، وقال القائد هنيبال لضابط روماني أسره بعدئذ: إن أكثر من ثلاثين ألفًا من جنوده قد هلكوا في اجتياز جبال الألب؛ بعضهم لقِي حتفه في المعارك التي نشِبت، وأكثر من ذلك البعض هَلَكوا من البرد والتعبِ والسقوط في المهاوي العميقة، ومن الأمراض وغير ذلك من ضروب العناء والشقاء المتعددة.

وكانت بقيةُ من سَلِم من الجيش القرطجني التي وصلتْ إيطاليا مبدَّدة مريضةً عريانة إلا قليلًا، ومعدومة النشاط جانحة بالأكثر إلى الاستسلام للموت من الزحف إلى ملاقاة الجيش الروماني والجهاد لافتتاحِ إيطاليا ورومية، على أنه بعد أيام معدودة عمدوا إلى سدِّ فراغ صفوف الجيش ولمِّ شعثه، ومع أنهم ذاقوا الأمرَّين من الجوع في الجبال فقد توفَّر لهم الآن كل نوع من القوت، وهكذا نشطوا لترقيع ملابسهِم الممزقة وإصلاح أسلحتِهم المكسرة.

وكانوا في غضون ذلك يردِّدون على مسامع بعضهم البعض ذكرى الأهوال التي تعرضوا لها والمشقات التي عانوها وشوامخ الراسيات التي اجتازوها، ويعجبون من صبرهم واحتمالهم وما أقدموا عليه مما لم يقدم عليه رجال حربٍ قبلهم، وبهذا كانوا يعملون على تنشيط بعضهم بعضًا وإثارة روح البسالة في صدور محلولي العزائم من رِفاقهم، وحضهم على السير معًا لإتمام العمل الجسيم الذي أتوا لأجله وإدراك الأمجاد المُعدَّة لهم، والتي ستكون ثمرة جهادهم وشجاعتهم في المعارك التي سيُقدمون عليها.

تركنا القائد سيبيو وجيشه عند مصب نهر الرون يتأهَّبُ لركوب البحر عائدًا إلى إيطاليا بقسم من جيشه بعد أن وجَّه القسم الآخر إلى إسبانيا، فمَخر سيبيو البحر على محاذاة الشاطئ القريب من جنوى ومنها سار يريد بيزا حيث نزل إلى البر، وهناك استراح قليلًا لينظم جيشه بعد تلك السَّفرة، وبعث يستدعي الجنود الرومانية في شمال إيطاليا لتَنضوي تحت لوائه، وقد أمل من ذلك حشد جيش لُهام يمكنه من معاركة هنيبال.

وبعد أن تمَّ له من ذلك ما أراد سار نحو الشَّمال مُسرعًا جهد الإمكان، فهو قد أدرك ما تكون عليه حالة جنود هنيبال بعد هبوطهم من جبال الألب، وأراد مهاجمتَهم قبل أن يتمكَّنوا من الاستراحة وإصلاح ما أحدثته في نظامهم مشقَّات اجتياز جبالِ الألب الشاهقة، وهكذا واصل السير إلى نهر «بو» قبل أن يرى شيئًا من آثار الجيش القرطجني، أو يسمع ما يدله على المكان الموجود فيه.

ولم يكن هنيبال في الوقت نفسه متكاسلًا، فهو حالَما نال جيشه قسطًا من الراحة وأصبح في حالة تمكنه من الزحف بدأ بمعالجة القبائل التي عثَر عليها حوالي هاتيك الجبال، فوالى بعضها وهاجم البعض الآخر، فتغلب على كل قبيلة حاولت مقاومته زاحفًا على الدَّوام بلا توقُّف في سير مستمر نحو الجنوب يريد نهر «بو». ولهذا النهر عدة فروع منها فرع اسمه تيسينوس وعلى ضِفافه تلاقى الجيشان في آخر الأمر.

وكان كل واحد من القائدين دون ريبٍ يُمنِّي نفسَه بإحراز الغلبة على عدوه في العِراك الذي أصبح الآن أمرًا لا بدَّ منه، وكان سيبيو على علمٍ ببسالة هنيبال وعظم دربتِه كمُحارب، كما أن سيبيو كان قائدًا عظيمًا ومن أبطال الرومانيين، بحيث إن هنيبال لم يكن يتوقَّع فوزًا هينًا، وكان القُوَّاد يخفون ما اختلجتْ به صدورهم من الشكوك أو المخاوف في اليوم الذي سبَق نُشوب القتال، ويشجعون رجالهم بإبداء الثقة التي لا يعتورها ريبٌ بأنهم سيكونون الظافرين بالأعداء.

وعلى هذا خطب هنيبال وسيبيو في رجالهما — وذلك ما رواه مؤرِّخو تلك الأيام — فقال كل منهما لجنوده: إنه على يقين من الظَّفَر بالعدو بمنتهى السهولة، وكان الخطاب الذي نُسب إلى سيبيو كما يأتي:

«أريد أن أُلقي على مَسامعكم بعضَ كلمات أيها الجنود قبل النزول إلى المعركة، فإني لست أرى حاجة إلى كلِّ الجنود الذين كانوا تحت قِيادتي عند مصبِّ نهر الرون، فهم قد عرفوا القرطجنيين هناك وأؤكد لكم ما كانوا ليخافوهم، إن فصيلة من فرساننا قد لاقتْ وهاجمت جيشًا كبيرًا من أولئك الأعداء وبدَّدت شملهم، ومن ثمَّ زحفنا متقدمين بكل قوتنا نحو معسكر الأعداء على نية معاركتهم.

أما هم فغادروا المكان وتراجعوا إلى الوراء قبل وصولنا إلى حيث كانوا، فكان هربهم اعترافًا منهم بخوفهم منا ومن تفوُّقنا عليهم، فلو أنكم كنتم معي يومئذٍ وشهدتم هذه الحقائق كلها لما كان ثَم من حاجةٍ بي إلى مخاطبتكم بهذه الكلمات؛ لأقنعكم بالسهولة الكلية التي سوف تقهرون بها هذا العدو القرطجني، لقد سبَق لنا معارك عديدة مع هذه الأمَّة قبل الآن فسَحَقناهم يومئذٍ برًّا وبحرًا، وعندما عقد الصلح بعدئذ طَلَبنا منهم الجزية وبقينا نتقاضاها منهم عشرين عامًا.

ومن هذا تدركون أنهم أمة مغلوبة، والآن قد أقدم هذا الجيش المنكود الطالع على اجتياز جبال الألب محمولًا بجُنونه ليُلقي بنفسِه بين أيدينا، فهم سيلاقوننا وقد قلَّ عديدُهم وتناقصتْ مَعداتهم وانحلَّتْ قواهم من مشقَّات السفر وعناء اجتياز الجبال، فإن أكثر من نصف الجيش القرطجني قد هلكَ في الجبال والذين سلموا منه قد صاروا إلى حالة من الضعف والخوَر والعري والمرض لا يقوون معها على قتالنا، ومع ذلك فإنهم مضطرون إلى منازلتنا، ولو وجدوا مهربًا منا أو لو تسنَّى لهم التقهقر إلى حيث لا يواجهوننا لفعلوا ذلك بلا تردد.

ولكن لا مفرَّ لهم ولا ملجأ، فهم مُحاطون بالجبال التي هي السدُّ الشاهق الذي يعجزون عن اجتيازه ثانية بما أصابهم من قِممه وثلوجه من العَناء الذي يهدُّ العزائم ويسحقُ القُوى، فهم ليسوا أعداء حقيقيين، بل هم بقية جيشِ أعداءٍ أشبه بالظلِّ الذي لا يَلبثُ أن يزول، إذ إن عزائمهم قد خارت وقواهم قد انحطَّتْ وشجاعتهم قد ذهبت ونشاطهم قد زال؛ بما قد أصابهم من الجوع والتعب والعناء المر نفسًا وجسدًا في قطعهم هذه الجبال الشَّاهقة.

فقد يبست أمعاؤهم وجفَّت دماؤهم وتصلَّبت مفاصلهم، وأصبحوا كالأصنام المنحوتة بعد الذي ذاقوه من مر عذاب المسير وقطع الوهاد ومناوأة القبائل، فضلًا عن الجُوع والبرد وغير ذلك من أنواع البلاء الذي أنزلتْه بهم الطبيعة، ثم إن سلاحهم متحطِّم وخيولهم عُرج وكل أدوات قتالهم معطَّلة بحيث لا تصلح بعدُ لشيء، وغاية ما أخشاه الآن هو أن العالم ينكر علينا مجدَ الانتصار عليهم، ويقول لنا إن جبال الألب هي التي قهرَتْ هنيبال لا الجيش الروماني.

ومهما يكن الظفر بهم سهلًا يجب علينا أن نتذكَّر فوق كل شيء أن أمورًا جسيمة تتوقف على هذا العراك، فنحنُ في ملاقاتهم لا نسعى وراء الأمجاد فقط؛ لأنه إذا انتصر هنيبال يزحف على رومية دون ريب، وتصبح نساؤنا وأولادنا وكل ما نملكُه تحت مطلق رحمته، فتذكروا هذا وانزلوا إلى ميادين الوغى شاعرين أن رومية نفسها متوقفة على النتيجة.»

وقد نُسب إلى هنيبال أيضًا خطاب بليغ ألقاه على جنوده بمناسبة هذه المعركة، فأبدى فيه براعته ودهاءَه وما له مِن موهبة الاختراع والإبداع، وأجاد إلى الغاية في لفتِ الأنظار كلها؛ لتنحصر فيما كان مزمعًا أن يقوله بالطريقة التي هيَّأ بها الجيش لسماع خطابه، فأوقف جيشه في شكل دائرة كان أرادها أن تشهد منظرًا غريبًا خارقًا، وأتى بعدد من الأسرى الذين وقعوا في قبضتِه عندما اجتاز جبال الألب وجعلهم في وسطِ تلك الدائرة، ولعلهم كانوا الرهائن الذين سلموا إليه كما تقدَّم القول عن ذلك في الفصل السابق.

وسواء كانوا أسرى أم رهائن فإن هنيبال استقدمهم مع جيشه إلى إيطاليا، وأتى بهم إلى وسط تلك الدائرة وألقى أمامهم مثل الأسلحة التي اعتادوا استعمالها في أوطانِهم الجبلية، ثم سألهم عما إذا كانوا يريدون استخدام هذه الأسلحة في محاربة واحدهم الآخر، على شرط أن الذي يقتل خصمه منهم يُطلق سراحه ويُعطى جوادًا وسلاحًا؛ ليرجع بهما إلى وطنه بالفخر والشرف.

فقال أولئك البرابرة إنهم يفعلون، وامتشقوا تلك الأسلحة من فورهم ليقتلوا بها، فأجاز هنيبال لزوجين أو لثلاثة أزواج فقط منهم العِراك لوَحدهم، فقتل واحد من كل زوج وأطلق سراح الآخر ومنحه حريته التامة كما وعدهم هنيبال، فكان هذا العراك عاملًا على إثارة شجاعة جنود هنيبال ومهيِّجًا لنشاطهم ومجددًا الميل إلى الحربِ فيهم، وعندما تم لهنيبال من تلك الرواية ما أراده من التأثير على الجيش أطلقَ سراح الباقين من الأسرى، وعندها خاطب هنيبال جيشه المحيط به من كل جانب بما يأتي: «أيها الجنود، لم أقصد بما شهدتموه الآن مجرد إيجاد لهوٍ وتسلية لكم، بل أردت به إبداء صورة لحالتكم الخُصوصية، فأنتم محصورون من اليمين واليسار بين بَحرين، وليس لكم في مياهِ أحدهما مركبٌ واحد، وهناك نهر «بو» وجبال الألب من الوراء، ونهر «بو» أعمق وأسرع جريًا وأوفر اضطرابًا من نهر الرون. أما جبال الألب فيكفي أن أقول لكم إنكم لم تجتازوها إلا بشق النفس والعناء الكبير أيام كنتم على جمام وفي منتهى القوة والنشاط، فهي لكم الآن سور يستحيل تسلقه، وعلى هذا تكونون محصورين كالسُّجناء من كل جانب، ولا رجاء لكم بالحياة ولا أمل بالحرية إلا إذا حاربتم وانتصرتم.

على أن الانتصار والحالة هذه لن يكون صعب المنال، وأنا حيثما وجهت نظري بينكم أرى على وجوهكم سيمياء التصميم والشجاعة التي أؤكد أنها ستَجعلكم الفائزين، فالجنود التي ستواجهكم هي على الغالب حديثةُ العهد بالحروب، أي إنها تجندت مؤخرًا بحيث لا تعرف شيئًا عن النظام وعيشة المعسكر، ولا تستطيع الثبات أمام أبطال حروب عديدة مثلكم حنَّكتْهم المعارك، وجعلهم التمرن على خوض المعامع من أصلب المحاربين عُودًا وأشدهم ثباتًا في حومة الوغى، إنكم تعرفون بعضكم بعضًا وتعرفونني حق المعرفة، وأنا في الواقع كنت تلميذًا معكم أعوامًا عديدة قبل استلامي زمام القيادة.

وأما جنود سيبيو فغرباء واحدهم عن الآخر وغرباء عن قائدِهم أيضًا؛ ولهذا فليس بينهم رابطة شعور مشتركة، أما سيبيو نفسه فهو لم يتولَّ القيادة إلا من مضي ستة شهور فقط، وإني ألفت أنظاركم إلى الحياة الهنيئة المفعمة باللذَّات التي يهيئها لكم النصر، إنه يقودكم إلى رومية ويجعلكم سادةَ مدينةٍ من أعظم مدن العالم صولة وثروة، ولقد كنتم لحد هذا الوقت تحاربون لإحراز المجد أو للسيطرة على الأعداء فقط، أما الآن فإن جهادكم سيمنحكم ما هو أعظم فائدة وأجمل عائدة إذا ظفرتم.

فإن هنالك كنوزًا عظيمة تقتسمونها بينكم إذا انتصرنا، وأما إذا انكسَرْنا فإننا نهلك عن آخرنا، وبما أننا محصورون من كل جانب فلا يوجد لنا ملاذٌ يمكننا الوصول إليه بالفرار، ولكن كونوا على يقين من أن الفرار متعذر علينا ولهذا يجب أن ننتصر.»

ومن الصعب جدًّا أن نعتقد أن هنيبال كان يَشعر حقيقة، وعن إخلاصٍ، بالثقة التي أوضَحها لجنوده في خطابِه، فقد كان بدون شكٍّ شعر بشيء من المخاوف يومئذٍ، وفي الواقع أن كل المشاريع التي يقوم بها الإنسان وأدلة النجاح التي تبدو له فيها والآمال المبنية عليها تتبدَّل مترددة بين اليأس والرجاء من حين إلى آخر، بحيث يكون ما يشعر به من الحصول على الفَوز ممزوجًا بشيء من الاحتساب والوجَل وانقطاع الرجاء.

وهذه الحالة يشعر بها كل الناس شُجاعهم وجبانهم نشيطهم وضعيفهم، على أن الشجاع منهم لا يسمح لتذبذب الرجاء واليأس بالتأثير على عَمله، ولا يجيز للمخاوف التسلط على تدابيره وإزالة ما في صدره من الثِّقة، فهو يعتبر أولَ كل شيء الأمورَ الجوهرية التي تُمنِّيه بالنجاح، وذلك قبل الابتداء بعمله، ومن ثمَّ يتقدم إلى الأمام شيئًا فشيئًا تحت كلِّ الظُّروف، وبالرغم من كل حالة جويَّة سواء كانت مطرًا أو صحوًا إلى أن يبلغ الغاية وينال ما هو ساعٍ إليه.

أما غير القدير وغير الخبير والمتردِّد فلا يجاهدُ إلا عندما تبدو له تباشير الرجاء، فالغاية التي يسعى إليها يجب أن تبقى ظاهرة أمام عينيه في كل وقتٍ، فإذا اختفَتْ في ساعة غير منتظرة تذهب ريحه ويرتبك في تدابيره، ولا يعود قادرًا على الإتيان بحركة إلا إذا أعادتها التقادير مرة أخرى فمثلتها أمامه. وغني عن البيان أن هنيبال كان من أهل النشاط والتصميم فإن الوقت الذي فكر فيما إذا كان يحرك سواكنَ غضب الإمبراطورية الرومانية، ويُقدم على محاربتها قد بلغ أعظم الدرجات في نظره عندما انتظمتْ صفوفُ جيشه على ضفاف نهر إيباروس وقبل أن يعبره، فنهر إيباروس كان في نظره حد الفصلين، فإذا اجتازه لا يعود أمامَه إلا الإقدام؛ لأن وقت التردد يكون قد مضى. فالصعوبات التي عاناها من وقت إلى آخر كانت تُلقي سحابًا قاتمًا على أنوار آماله، لم تكن إلا لتستزيده تصميمًا وتجدد فيه روح النشاط والإقدام، ومثل ذلك شعر عند جبال البيرنيه وعند نهر الرون، وبمثله أحسَّ في جبال الألب حيث الأخطار الهائلة والضيقات التي تُضعضع القوى البشرية كانت كافية لحمل أي قائد آخر على الرجوع، وقد أصابه الآن مثل ذلك، حيث وجد نفسه مع جيشه محصورًا من كل جانب بجبال إيطاليا التي لا يتوقَّع اجتيازها مرة أخرى، وبما هو عتيد أن يواجهه من جيوش الإمبراطورية الرومانية الراصدة على مقرَبة منه بقيادة أحد قنصلي رومية.

على أن الخطر المحدق به لم يحمِلْه على الجزع ولا زيَّنَ له التردد ولا صور له هول الموقف، ولم يكن الجيشان على مرأى الواحد من الآخر، على أنهما كانا في الحقيقة متقابلين على جانبي نهر «بو» وقد خطر للقائد الروماني أن يعبُر النهر بجنوده، ويتقدم لملاقاة هنيبال الذي كان بعيدًا عن ضفاف النهر أميالًا معلومة، ولدى التفكير في كيفية عبور النهر والتدقيق في الوسائل المختلفة قرَّ رأيه أخيرًا على ابتناء جسر.

وقد اعتاد القواد إلقاء جسر من أي شكل كان فوق النهر المراد اجتيازه إذا كان عَميقًا، بحيث يصعب السير فيه إلا إذا كان عريضًا وسريع المجرى مما يتعذَّر معه ابتناء الجسر، فإذا صادف جيش من الجيوش الصعوبةَ الأخيرة، فإنه يعبر النهر الذي يعترضه ركوبًا في القوارب والأرماث والسباحة، وكان نهر بو في تلك النقطة متقارب الضفتين إلا أنه كان عميقًا؛ ولهذا ابتنى سيبيو جسرًا.

فقطع الجنود الأشجار القريبة من النهر ونجروها وألقوها في النهر على شكل متعارض أو متصالب، وأُنيط بعضُها ببعض فأصبحت أرماثًا بإزاء بعضها بعضًا بين الضفتين، وربطت بالبر من الجانبين فكانت على تلك الصورة أساسًا لجسر، ثم وضعوا فوقها الأخشابَ وغيرها بحيث صارتْ طريقًا يَصلح للمسير، وهكذا سار الجيش على ذلك الجسر بعد أن أوقفت فصيلة من الجند عند طرفيه لتحرسه.

ومثل هذا الجسر يصلح لوقتِ الحاجة وفي الأنهر ذات المياه الهادئة، كما لو أقيم على بحيرات ضيقة أو مجارٍ بطيئة الجري حيث لا يوجد تيار، وكثيرًا ما يبنى مثل هذه الجسر الموقت على مثل هذه المجاري بصورةٍ دائمة، إلا أن أمثالَ هذا الجسر لا تصلح ولا تثبُت فوق الأنهار التي تطغى؛ ذلك لأن شدةَ ضغط الماء عند طغيانه تحلُّ روابط الجسر، وفضلًا عن ذلك فإن النهر يحمل في طغيانه الشيء الكثير من الخشب أو الجليد فيصدم به الجسر لتعذُّرِ مرور هذه تحته، ويتكاثر ذلك إلى أن يميل الجسر من صدمتِه وينقلبُ بما عليه فيجرفه النهر إلى مصبه.

أما الجسر الذي ابتناه سيبيو فقد سد الحاجة فعبر جيشُه عليه إلى الجانب الآخر سالمًا، ولما درى هنيبال بذلك أدرك أن المعركة قد دنَت، وكان هنيبال وجيشه على مسافة خمسة أميال من ذلك المكان، وبينما كان سيبيو يشتغل في بناء الجسر كان هنيبال كعادته من يوم هبط من الجبال مشتغلًا في إخضاع القبائل والأمم الصغيرة الموجودة إلى الشمال من نهر «بو». على أن بعضًا من هاتيك القبائل قد والته ومالتْ إلى الانضواء تحت لوائه، والبعض الآخر كانوا حلفاء الرومانيين وأحبوا البقاء كذلك.

فعقد مع الذين والوه المعاهدات وأرسل إليهم النجدات، ووجَّه جنوده للتنكيل بحلفاء الرومانيين وإخضاعهم، على أنه عندما علم بأن سيبيو قد عبر النهر أصدر أمره بجَمع كل فرق جيشه في مكان واحدٍ تأهبًا للعراك المقبل، ثم دعا رؤساء الجيش وأعلن لهم اقترابَ ساعة المعركة، وردد على مسامع الجنود جميعًا كلماتِ التشجيع التي تلفظ بها سابقًا، وزاد على ذلك بأن وعد الجنود بإعطائهم إقطاعات من الأرض إذا رافق النصر أعلامه، فقال لهم: «إني أعطي كل واحد منكم حقلًا حيثما أراد إما في أفريقيا أو في إيطاليا أو في إسبانيا، وإذا فضل أحدٌ منكم المال على الأرض فله ذلك، وعنذئذ يعود كل جندي منكم إلى أهله أو أصدقائه، ويعيش بهناء كما كان قبل الحرب، ويكون محسودًا من أولئك الذين بقوا في الوطن، وإذا أراد أحد منكم الإقامة في قرطجنة أجعله وطنيًّا حرًّا، بحيث يقدر أن يعيش مستقلًّا وبشرف.»

ولكن ما هو الضمان الذي يحقق للجنود هذه المواعيد؟ ففي هذا الزمان يكون الضمان بمثابة رهائن أو بمال نقدي، أو بجعل حجج الأرض الموعود بها مع أناس مأمونين، أما في الزمن القديم فإن مثل هذه المعاملات كانت تتم على صورة مختلفة، فصاحب الوعد كان يقيد نفسَه بالأيمان المغلظة يصحبُها بطقوس دينية معلومة، يُراد بها تثبيت ما وعد به وحصر المسئولية في شخصيته.

وهكذا استجلب هنيبال خروفًا وأمسكَه بيده اليسرى أمام كل الجيش واحتملَ باليد اليمنى حجرًا ثقيلًا، ثم دعا الآلهة بصوت جهوري طالبًا إليها إهلاكَه كما سيهلك هو ذلك الخروفَ، إذا أخلف بوعده ولم يتمم تعهداته لرجاله، وعند ذلك ضربَ الخروف ضربة شديدة بذلك الحجر فسقَطَ الخروف ميتًا عند قدمَي هنيبال، وبذلك أصبح هنيبال مقيَّدًا بوعده مرتبطًا رسميًّا بكل ما تعهد به بتلك الحفلة وبذلك الدعاء.

فتضاعفت حماسة الجنود وشجاعتهم بهذه الوعود، وأصبحوا يتوقعون دنوَّ يوم العراك بفارغ الصبر، أما جنود الرومانيين فكانوا فيما أظن في حالة فكرية تختلف عن هذه؛ فقد جرتْ جوارٍ عدُّوها من طوالع النحس وتطيروا منها فحملَتْهم على اليأس والتشاؤم وضيقت منهم الصدور، ومن مُدهشات الأمور أن يستسلم الناس لأمثال هذه الحوادث التي تقع بالصدفة ويتأثروا بها، وكانت إحدى تلك الحوادث أن ذئبًا أتى إلى المعسكر من غابة هناك، وبعد أن جرح عددًا من الجند أفلتَ ونجا بنفسه.

والحادثة الأخرى كانت أقل أهمية من هذه، فإن سربًا من النحل طار إلى المعسكر، وتعلَّقَ في شجرة قائمة فوق مضرب سيبيو، فعد الجند هذا علامة لنكبةٍ تصيبهم قريبًا ولهذا خارتْ قواهم وتولَّاهم الهلع، ومن أجل هذا كانوا ينتظرون المعركة بخوفٍ واحتساب، بينما كان جنود هنيبال يتوقَّعونها بشوق وابتهاج وهم شديدو الرغبة في ملاقاة العدو.

أخيرًا دنا وقت المعركة واحتدمتْ نارها بغتة وعلى غير انتظار أحد الجانبين؛ ذلك أنَّ فرقة من جنود كل جيش كانت تزحفُ متقدمة نحو معسكر الجيش الآخر قريبًا من نهر تيسينوس للاستكشاف، والتَقيَا بالصدفة فبدأت المعركة من تلك الدقيقة، فزحف هنيبال بكل قوته كالسيل الجارف وأرسل فِرقةً من جيشه في ذات الوقت؛ لكي تهاجم عدوه من الوراء.

عندئذٍ أخذ الرومانيون في التراجع إلى الوراء بدون انتظام، وأدَّى بهم التشويش إلى اشتباك الفرسان والرجالة معًا فداستْ خيل الفرسان المشاة وجمحَت الخيل لخوفِها من الرجال وضوضائهم، وفي خلال ذلك الارتباك أُصيب القائد الروماني بجرح، ومن المعلوم أن سيبيو كان قُنصلًا وهو من رجال البلاد الجديرين بالحُرمة والإكرام والرعاية ومقامُه أشبه بمقام نصف ملك، فلما علم الضباطُ والجنود بأن القنصل قد جُرح ارتعدوا واضطربوا، وشرَعُوا في التقهقر إلى الوراء لا يلوون على شيء.

وكان لسيبيو ابن لا يزال في ريعان الشباب اسمه سيبيو أيضًا، وكان يحارب بجانب والدِه عندما جُرح، فأسرع إلى حماية والده واحتمله إلى وسطِ فرقة من الفرسان التي كانت تَقيه ضرَبات العدو، وهي في الوقت نفسه تتراجع شيئًا فشيئًا، والعدو يلاحقها بضربٍ يقدُّ الدروع إلى أن وصلتْ بقائدها الجريح إلى المعسكر، حيث ارتاح الجيش الليلَ بطوله، وهناك شرع الرومانيون في تحصينِ موقفهم، أما هنيبال فلم يرَ من الحكمة اللحاقَ بهم ومهاجمتهم هناك.

وصبر هنيبال إلى الصباح، أما سيبيو فلما رأى أنه قد جُرح وأن جيشه قد خامَ وتضعضع لم يشأ الصبر إلى الصباح، بل سار وجيشه عند منتصف الليل متراجعًا إلى الوراء تحت سِتار الظلام، وأبقى نيران المعسكر مضطرمة وبذل كل عناية؛ لكيلا يدري القرطجنيون بتراجُعه ويلاحقوه، فسار الجيش الروماني خِفية وبغايةِ الهدوء إلى أن بلغ النهر، وعبروه على نفسِ الجسر الذي ابتنوه هناك.

ولما أصبحوا على الجانب الآخر منه قطعوا قيودَ الجسرِ في الحال واحتملتْه المياه إلى نهر «بو»، ومن هناك إلى بحر أدريا حيث طاردَتْه الأرياح إلى الشاطئ في آخر الأمر، واستيقن الرومانيون من أنه لم يعُدْ لهنيبال وسيلةٌ تساعده على عبور النهر واللحاق بهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤