الفصل السابع

جبال أبنين

عندما أحسَّ هنيبال في صباح اليوم التالي أن سيبيو وجيشه قد تركُوا مواقفهم جدَّ على الفور في اللحاق بهم؛ لكي يوقفهم قبل أن يصلوا إلى النهر إلا أنه وصل متأخرًا؛ لأن معظمَ الجيش الروماني كان قد عبَرَ إلى الضفة الأخرى، ولم يبقَ منه سوى فصيلةٍ عددُها بضع مئات من الرجال كانت قد بقيتْ على جانب هنيبال من النهر لحراسة الجسر إلى أن يعبر كلُّ الجيش؛ لكي يساعد في قطع أوصال الجسر.

فأتمت تلك الجنود مهمَّتَها هذه قبل وصول هنيبال، ولكنها لم تتوفر على الوقت للنجاة إلى الجانبِ الآخر من النهر، فلما وصل هنيبال وقَعوا أسرى في يديه، وبهذه المعركة وبتقهقر سيبيو إلى ما وراء نهر «بو» تغيَّرت أحوال الرومانيين والقرطجنيين فيما يرمُون إليه؛ لأن كل الشعوب القاطنة في شمال إيطاليا التي كانت إمَّا خاضعة للرومانيين أو موالية لهم قد مالتْ إلى هنيبال، فأرسلوا بعوثًا إلى معسكره يَعرضون عليه ولاءَهم ومناصرتهم.

وفي الواقع أن فريقًا كبيرًا من الغاليين في المعسكر الروماني وهم مناصرون للرومانيين، وكانوا يحاربون تحت راية سيبيو في معركة تيسينيون تركوه بعد ذلك، واجتمعوا تحت لواء هنيبال بجملتهم وقاموا بهذه الفتنة ليلًا، وبدلًا من أن يَذهبوا إلى معسكر هنيبال سرًّا متسللين أحدثوا لغطًا كثيرًا وقتلوا الحراس، وملئوا المعسكر صياحًا وتهديدًا، وأوقعوا الرعب في قلوب بقية الجنود.

فرحب بهم هنيبال ولكنه كان كثير الحذر وأوفر الدهاء، فلم يجازف في مزج هذه الطائفة الخائنة في جيشه، على أنه بالغ في إكرامهم والحفاوة بهم وعاملهم بمنتهى الملاطفة، وأتاح لهم الرجوع إلى أوطانهم مُثقلين بالهدايا وأوصاهم بالسَّعي لما يؤيِّدُ مصلحتَه بين القبائل التي أتوا منها، وكان جيشُ هنيبال قد ازداد شجاعة وكبرتْ آمالُه بما جرى في بَدء هذه الحرب، وهكذا أخذ في الاستعداد الضروري لعبور النهر.

فمن الجنود من ابتنوا أرماثًا ومنهم مَن سار إلى أعالي النهر بقصد العثور على رقراق يعبرون منه، ومنهم من قطع النهر سباحة، وكانوا في قطعهم النهر على تلك الصورة مطمئنين غير مبالين؛ لأن الرومانيين لم يرصدوا لهم ولا وقفوا ليصدوهم عن ذلك، بل ولوا الأدبار مُمعنين في الهزيمة بأسرع ما استطاعوه وهم حاملون سيبيو الذي أخذتْ جراحُه في التورُّم والفساد، وسببت له الآلام الشديدة.

وفي الواقع أن الرومانيين كانوا قد خاموا ويئسوا لما رأوه من الخطر المحدق بهم، وحالَما وصل الخبر إلى المدينة أسرعت الحكومة بإرسال سُعاة إلى سيسيليا؛ لاسترجاع القنصل الآخر وكان اسمه سمبرونيوس، ويذكر القراء أنه عندما ألقيتِ القرعة بينه وبين سيبيو قضتْ على هذا الأخير بالذهاب إلى إسبانيا؛ ليوقف زحف هنيبال وتعين على سمبرونيوس الذهاب إلى سيسيليا؛ لكي يمخر من هنالك إلى أفريقيا.

وكان الغرض من هذه الخطة مهاجمة قرطجنة وتهديد القرطجنيين في أوطانهم؛ لكي يشغلوهم هناك ويمنعونهم من إرسال النجدات إلى هنيبال، ويُلجئوهم إن أمكن إلى استدعائه من إيطاليا؛ لكي يذود عن حياضهم ويدافع عن عاصمتهم.

أما الآن وقد اجتاز هنيبال جبال الألب وتجاوزها إلى ما وراء نهر «بو»، وهو زاحف على رومية وسيبيو مثخن بالجراح وجيشه منهزم أمامه لا يَلوي على شيء، فقد اضطر الرومانيون إلى العدول عن تهديد قرطجنة، وأنفذوا الرسل إلى سمبرنيوس يأمرونه بالرجوع إلى رومية؛ ليساعد في الدفاع عنها، وكان سمبرونيوس معروفًا بحدة المزاج لخوض الغمَرات.

فرجع في الحال إلى إيطاليا وجنَّد عساكرَ جديدةً لجيشه واقتاده زاحفًا نحو الشمال؛ للاجتماع بالقائد سيبيو على نهر «بو»، وكان سيبيو يتألم من جراحه الخطِرة بحيث لا يقوى على إدارة أمور جيشه، وقد تقهقر ببطء أمام هنيبال فزاد المسير في آلامِه التي نفِرت وجاشت بسبب حركات السفر الدائم، فوصل على تلك الحالة إلى ثرابيا وهو نهر صغيرٌ يجري شمالًا ويصب في نهر «بو» وعبره، على أنه رأى نفسه عاجزًا عن متابعة المسير بالنظرِ إلى اشتداد الآلام، فأوقف الجيش وأمرَه بأن يعسكر هناك وأقام التحصينات حول معسكره وتأهَّب للوقوف في وجه العدو.

ولحسن طالعه انكشفت غمته بوصول سمبرونيوس وجيشه إليه وهو هناك فاتَّحد الجيشان، وهكذا التقى هناك قائدان، وكان نابوليون يقول: إن قائدًا جاهلًا خير من قائدين خبيرين؛ ذلك لأن من الأمور الجوهرية للفوز في كل الحركات العسكرية حصول السرعة والثقة والتصميم بدون أقل تردد، وهو لا يتم إلا إذا توحدت القيادة وصدر الرأي عن فكر واحد مستقل.

وقد صح قولُ نابوليون هنا؛ فإن سمبرونيوس وسيبيو اختلفا على الخطة التي يجب العمل بها؛ إذ إن سمبرونيوس أراد مهاجمة هنيبال مباشرة أما سيبيو فأشار بالتأنِّي، وعزا سمبرونيوس تردد سيبيو عن الابتداء بالعراك إلى الذُّعر الذي استولى عليه وانحلال عزيمته بما ناله من جراحه، أو أنه مدفوع بالحسد من أن يحرز سمبونيوس شرَفَ البطش بالقرطجنيين وحدَه، بينما سيبيو طريح الفراش في مضربه، وكان سيبيو من الجهة الأخرى يظن أن سمبرونيوس غير متروٍّ أو أنه مُغامر في تصميمه على خوض المعمعة لمجالدة عدوٍّ لا يعرف عن قوته وبطشه شيئًا.

وفيما كان القائدان مختلفين في الرأي بشأن العراك المقبل حدَثت مناوشات غير ذات بال بين طرفي الجيش، ظن سمبرونيوس عندها أن الميزة حاصلةٌ بجانبه، فزاد ذلك في تهوُّسه وعول على استجلاب عراك عُمومي، وأصبح كارهًا لتردد سيبيو وحذره، وقال لسيبيو: «إن الجنود تائقة إلى الكفاح وهي قوية وعلى جمام، فمن الحماقة أن نمسكها عن ذلك بسبب تراخي رجل واحد مريض، وفضلًا عن ذلك ما الفائدة من التأجيل؛ فنحن على أتم أُهبة لمنازلة القرطجنيين أكثر من أي وقت آخر.

ثم إنه لا يوجد قنصل ثالث نتوقَّع مجيئه لمناصرتنا، وأي عار يلتحق بنا نحن الرومانيين الذين اقتدنا جيوشنا في الحروب الماضية إلى أبوابِ قرطجنة بالذات، إذا سمحنا لهنيبال بالسيطرة على كل شمالي إيطاليا بينما نحن نتراجع أمامه بالتدريج خائفين من منازلة جيشه طالما أنزلنا به العبر في الماضي.» ولم يخفَ على هنيبال ما كان بين القائدين الرومانيين من الخلاف؛ فجواسيسه أنبئُوه بكل ما جرى، وقالوا له إن سمبرونيوس متهوِّس للقتال أكثر من سيبيو، ففكَّر هنيبال في استدراج سمبرونيوس للعراك في وقت ومكان، يكونان مناسبين لهنيبال وغير ملائمين لسمبرونيوس.

فرسم لذلك خطة نجحت أيما نجاح، وجاءت نتيجتها مماثلة للخطط الكثيرة التي سطَّرها التاريخ للقائد القرطجني معترفًا له بالدربة والدَّهاء في التدبير، وهي مع غيرها من تدابيره التي حملت الرومانيين على اتِّهامه بالخدع والمكر في حُروبه. وكانت خطة هنيبال عبارة عن سحب الرومانيين من معسكرهم في إحدى ليالي شهر كانون الأول المظلمة الشديدة البرد وحَشرهم في النهر، وذلك النهر كان نهر ثرابيا الذي يجري شمالًا، ويصب في نهر «بو» بين معسكر الرومانيين ومعسكر القرطجنيين.

وكان من تدبيره في ذلك أن يرسل قِسمًا من جيشه عبرَ النهر؛ ليهاجم الرومانيين في الليل أو عند انبثاق الفجر مؤمِّلًا من ذلك إرغام سمبرونيوس على الخروج من معسكره ليهاجم القرطجنيين، فإذا فعل تعين على القرطجنيين أن يسرعوا الرجعة، فيعبروا النهر على رجاء أن يلاحقهم سمبرونيوس مدفوعًا إلى ذلك بحَماسة القتال وما يراه من انهزامهم، عندئذٍ يكون لدى هنيبال جيش احتياطيٌّ قوي بقي مستريحًا وفي دفء، فيخرج ويهاجم الرومانيين بنشاط وبسالة لا يعتورهما ضعف، بينما يكون الرومانيون قد تعرضوا للبَرد والبلل، وتشوَّش نظامهم من جرَّاءِ ارتباكهم في عبور النهر.

وكان من تدابير هنيبال أيضًا أن يَجعل قسمًا من جيشه في كمينٍ وراء أشجار غضَّة، يتخلَّلُها الشيء الكثير من الأعشاب العالية وهي كائنةٌ قربَ الماء، وذهب هنيبال بنفسه لفحص ذلك المكان فوجد العشب فيه ناميًا إلى حدٍّ يستر معه الفارسَ بحيثُ لا يرى منه شيء، فقرَّ رأيه على إرصاد ألف راجل وألف فارس هناك، وانتخبهم من أبرع وأشجع رجالِه وكان اختياره إياهم على الصورة التالية:

استدعى أحد أركان حربه إلى تلك البقعة وأوضح له بعض مقاصده، ثم أمره بأن يذهبَ وينتخب مائة من الفرسان ومائة من المشاة من أفضلِ أبطال الجيش، فلما أحضرهم تأمل فيهم هنيبال برضًا وارتياح، ثم قال: «نعم، أنتم الرجال الذين أحتاجهم لهذا الموقفِ ولكن بدلًا من مائتين أحتاجُ إلى ألفين، فارجعوا كلكم إلى الجيش، ولينتخب كلُّ واحد منكم تسعة رجال مثله في النشاط والقوة.» ولا حاجة إلى القول إن أولئك قد سُرُّوا كثيرًا بما طلبه منهم القائد، وأنموا رغائبه من هذا الوجه.

وهكذا اجتمع ذلك الجيش هناك مُختبئًا في خلال ذلك الضراء الذي تقدَّمَ ذِكره حيث رصد للرومانيين؛ ليوقع بهم بعد أن يعبروا النهر، وترك هنيبال أيضًا قسمًا كبيرًا من جيشه في معسكره بالذات متأهبًا للقتال، وأوصاهم بتناول الأكل والاستراحة والاستدفاء إلى أن يصدر إليهم الأمر بالذي ينتظر منهم القيام به، ولما أتمَّ هذه التدابيرَ على ما تقدَّم البيان أرسلَ فرقة من الفرسان لتعبر النهر، وتحاول بعد ذلك إزعاج الرومانيين وإرغامَهم على الخروج من معسكرهم واللحاق بها.

قال لهم هنيبال: «اذهبوا واعبروا النهر وازحَفوا على معسكر الرومانيين وناهضوا الحراس هنالك، وعندما يهب الجيش إلى مهاجمتكم تقهقروا بتمهُّلٍ أمامَهم إلى أن تعبروا النَّهر.»

ففعلت تلك الفرقة العسكرية كما أمرها هنيبال تمامًا؛ وصلَتْ إلى مُعسكر الرومانيين عند انبثاق الفَجر — لأنَّ هنيبال أراد إخراج الرومانيين من معسكرهم قبل أن يتناولوا طعامَ الفطور — فهب سمبرونيوس عندما أحس بها، وأمر جنوده بالإسراع إلى أسلحتهم متوهِّمًا أن الجيش القرطجني بجملته يهاجمه، وكان صباح ذلك اليوم باردًا وكانت الرياح تهب بشدة والجو قاتمًا يتخلَّلُه المطر والثلج، بحيث لا يرى الإنسان ما حوله.

وهكذا خرج الرومانيون فرسانهم ومشاتهم صفًّا صفًّا من معسكرهم، وهجموا على القرطجنيين الذين تراجعوا إلى الوراء على مهل، فتحمس سمبرونيوس كثيرًا عندما بانتْ له سهولة اندحار مهاجميه، وظنَّ أن النصر قد تم له عليهم فلاحقهم، وثابر على اللحاق بهم إلى أن بلغَ النهر — وكما توقع هنيبال لم يقفْ عند ذلك الحد من تأثُّرهم، ولا اكتفى بالوقوف عند ضفة النهر، فعندما اندفع فرسان القرطجنيين في الماء طالبين الجانب الآخر، تبعهم الرومانيون فرسانًا ومُشاة.

وكان ذلك النهر صغيرًا إلا أنه في ذلك اليوم طما ماؤه بسبب تَهطال الأمطار في الليل الذي مضى، وكان الماء بالطبع باردًا جدًّا، فالفرسان اجتازوه من غير أن يلحقهم أذًى، وأما المُشاة فقاسوا البلاء المر من البلَل والبرد القارس، ذلك فضلًا عن الجُوع الذي هدَّ قواهم؛ إذ إنهم لم يكونوا أكلوا شيئًا في ذلك الصباح لاستعجالهم في مهاجمة الأعداء، فنالتهم النَّهكة وأثر عليهم التعَب إلى الحد النهائي.

على أنهم بالرغم من ذلك جدُّوا في مُلاحَقة أعدائهم، وصعِدوا على ضفَّة النهر بعد أن خاضوا متدفقات مياهه، وهناك التأم شملُهم واستجمعوا صفوفَهم وأمعَنوا في اللحاق بالقرطجنيين المتراجعين أمامهم، وعندئذٍ فاجأهم جيش هنيبال الراصد على مقرَبة من النهر، وهو على أتم استعداد وعلى جمام ودفء وفتَك بهم فتكًا ذريعًا، فهالَهم الأمر الذي لم يكن في حسبانهم وتولاهم الذعر من المباغتة التي انقضت عليهم من الوراء بين صيحات كالرعد القاصف، فانخلعت قلوبهم وسقطوا تحت ضربات أعدائهم من الأمام والوراء.

وجاءت هذه الحركات بصورة سريعة جدًّا، بحيث تولى الرومانيين الذهول والجزع لما لقوه من هول الموقف بعيدين عن مُعسكرهم، وقد خارت منهم القوى في الركض وفي اجتياز مياه النهر، وأطبقَ عليهم رجال هنيبال من كل جانب فأبلوا فيهم بلاء حسنًا، فحاروا في أمرهم ولم يدروا بأية طريقة يتخلصون من تلك الورطة المشئومة، وعندها تراجعوا بكل صعوبة إلى النهر فوصلوه من أماكن مختلفة مشتتين متفرقين، فوجدوه طاميًا وقد غطَّت المياه التي طغتْ كل مكان على ضفَّتيه، فلم يعرفوا من أين ينزلون إليه ولا كيف يعبرونه وهالهم طغيان المياه كثيرًا.

ولما تمزق شمل الجيش الروماني على تلك الصورة المخيفة توقَّف القرطجنيون عن متابعة القتال، فهم كانوا مثل أعدائهم قد تبلَّلوا وتعِبوا فلم يروا من أنفسِهم مقدرة على متابعة العدو الهارب، وحاول عددٌ كبير من الجيش الروماني عبور النهر فنزلوه هرَبًا من الأعداء، فاحتملتْهم مياهه الطاغية في مجراها وأغرقتهم ولم يقوَ أحد منهم على مقاومة التيار؛ لما كانوا عليه من الخوف والتعب، وبعضهم اختبئوا في الأماكن المستورة عن القرطجنيين، ومن ثمَّ اصطنعوا أرماثًا عبروا عليها إلى الجانب الثاني من النهر.

وكانت جنود هنيبال قد تبلَّلت إلى حد الأجسام وبردت، ونالها من التعب ما بلغتْ به حد الإعياء فلم تشأ ملاحقة الرومانيين، فاجتاز هؤلاء النهر على مهَل، على أن الكثيرين منهم بالرغم من ذلك غرقوا وجرَّتْهم المياه في تيارها إلى أبعاد مختلفة وأهلكتْ منهم العددَ الكبير، وكان إذ ذاك شهر كانون الأول كما تقدم القول، فرأى هنيبال أن الطقس لا يُساعد على ملاحقةِ الأعداء، ولكنه وجد الطريق إلى جبال أبنين مفتوحةً أمامه بعد انكسار سمبرونيوس؛ لأن لا هذا ولا سيبيو يستطيعان الآن الوقوف في وجهه إلا بعدَ أن تصلهم نجدات جديدة قوية من رومية.

وفي مدة فصل الشتاء اشتبك هنيبال وجيشُه في معارك جديدة مع بقايا الجيش الروماني المنهزم، ومع بعض القبائل الوطنية المجاورة لهاتيك الأنحاء، وقاسى مشقات كثيرة لا سيما في توفير القوت لرجاله إلا أنه تمكَّن بعدئذ من إرشاء حاكم إحدى القلاع الرومانية؛ حيث كانت تحتوي على أقوات كثيرة فدفعها الحاكم إلى هنيبال فأصبح بعدها موفورَ القوت، على أن سكان هاتيك الأماكن لم تكن ميَّالة إليه ولا راضية عنه وقد حاولت في غضون الشتاء عرقلةَ مساعيه، والتهجم على رجاله بكل ما لديها من قوَّة.

فلما رأى تحرج موقفه هناك سار جنوبًا، وصمم في آخر الأمر، بالرغم من رداءة الطقس، على اجتياز جبال أبنين. وعندما يلقي القارئ نظرة على خارطة إيطاليا يجد أن نهر «بو» الكبير يمتد عبر شمالي إيطاليا كلِّه، وأن وادي أرنو ووادي أمبرو واقعان إلى الجنوب منه منفصلان عنه بسلسلة من جبال أبنين، وهذا الوادي الجنوبي هو وادي أتروريا في الجَنوب، فقرَّ رأي هنيبال على اجتياز الجبال للوصول إلى أتروريا على نيَّة أن يجد هنالك طقسًا دافئًا وسكانًا أميلَ إليه، ويكون بذلك أقرب إلى رومية.

وإذا كان هنيبال قد قهر جبالَ الألب فجبال أبنين قهرته؛ فإنه عندما بلغ أرفعَ ذراها هبَّت عليه عاصفة هوجاء، وكان البرد قارسًا إلى الغاية والهواء يهبُّ بشدة، فيحمل الثلج وحب الغمام ويدفعها على وجوه الجنود فيسدل على عيونهم نقابا كثيفًا يجعل متابعةَ السير عليهم مستحيلة، ولما أعيوا عن مقاومة العناصر وقفوا وأداروا ظهورَهم للرياح، ولكن العواصف تضاعفت في الشدة وجاء معها رعودٌ وبروق أزعجت الجنود وأوقعت الرعبَ في قلوبهم؛ لأنهم كانوا في قمم الجبال ملتحفين بالغيوم التي كان البرق والرعد ينبعثان منها.

ولم يشأ هنيبال النكوص إلى الوراء، فأصدر أوامره إلى الجيش بالنزول في تلك البقعة، وفي أفضل ملجأٍ منها استطاعوا العثور عليه فضرَبوا الخيام؛ ولكنها لم تثبت في وجه العواصف؛ إذ كانت قد اشتدت في الهياج فقلبت عمدَ الخيام واقتلعت الجنفيص من معالِقه، فكان بعضه يتمزق قطعًا وتحمله الأرياح، وكان ذلك على الأفيال أو ما بقي حيًّا منها أشد منه على الناس، فخارت قواها من البرد الشديد وماتت فلم يبقَ منها حيًّا إلا فيلٌ واحد.

إذ ذاك أمَرَ هنيبال الجيش بالتراجع من ذلك المكان فعادوا إلى وادي «بو»، ولكن هنيبال كان قلقًا هناك؛ لأن السكان كانوا منزعجين من وجوده بينهم، ذلك لأن جيشه قد التهم أقواتهم وخرَّب بلادهم وعكَّر كأس سلامتهم وهنائهم، فشعر هنيبال بأنهم سيكيدون له ليقتلوه إما بالسم أو بغيره؛ ولهذا كان كثير الحذر والاحتياط لاتقاء شرهم، وكانت له ملابس عديدة مختلفة وشعور عارية يلبسها عند التنكُّر، فيظهر كل يوم بحلَّة تختلف هي وشعر الرأس عن غيرها باللون والزي.

عمد إلى هذه الطريقة لكيلا يعرفه القتلة من وصف منظره ويغتالوه؛ إما في مضربه أو في مكان آخر، ولكنه بالرغم من ذلك كان كثيرَ القلق عظيم المخاوف على حياته، بحيث إنه لم يصدِّق أن أقبل الربيع حتى رحل وجيشه لاجتياز تلك الجبال ففازَ بذلك هذه المرة، ولما هبط من الجبل على الجانب الجنوبي علم أن جيشًا رومانيًّا جديدًا بقيادةِ قنصل جديد يزحفُ من ناحية الجنوب للقائه، فتاقَ إلى مواجهة هذه القوة الجديدة، وأسرع المسير في أقرب الطرق لملاقاتها.

على أنه وجد أن هذه الطريق تؤدِّي به إلى القسم الأدنى من وادي أرنو وهو وادٍ عريضٌ جدًّا، ولكن مع أن عبورَه سهلٌ على الغالب؛ فقد كان يومئذٍ طاغيًا لتدفق المياه عليه من الثلوج التي كانت تذوب في رءوس الجبال، وفي الواقع أن هاتيك البلاد كانت عبارة عن مستنقعاتٍ وآجام لا حد لها يصعبُ المسير فيها، ومع ذلك فقد صمم هنيبال على اجتيازها فعرَّض جيشه لصعوبات ومخاطر كثيرة زادت في هَولها على ما لقيه في جبال الألب.

فالمياه كانت قد بلغت الرُّبى في طغيانها، وهي تزداد طغيانًا على الدوام حتى غصَّتْ بها المجاري ومنخفضات الأرض، وطمت بعد ذلك على السهول كلها، وكان الماء عكرًا كثير الكُدورة بحيث تصعب رؤية أعماقه وما تحتَه، فكانت الجنود في خوضها إياه تغرَق في الحفائر والوحول، فلا تعود تتمكن من الخلاص، وقد غرق عدد كبير منها على هذه الصورة.

وكانت الجنود تعبةً خائرة القوى من البلل والبرد الشديد، ومن تعرضها لذلك على الدوام، وقد انقضى عليها أربعة أيام بلياليها في هذا المأزق الحرِج، ولم تتجاوز في جهودها مسافة كبيرة؛ لأن السير كان بطيئًا جدًّا، ولم يذقِ الجنود في تلك المدة طعمَ النوم، بل كان الكثيرون منهم يستندون على أسلحتِهم يركزونها في الماء ليغفوا قليلًا، حتى إن هنيبال نفسه كان مريضًا فأصيب بتورم في عينيه أضرَّ بإحداهما في آخرِ الأمر فلم يعُدْ يبصر بها.

على أنه لم يكن متعرضًا للعناصر مثل ضباطه؛ ذلك لأنه كان قد بقِي معه فيلٌ واحد من كل الأفيال التي جلَبها معه، فكان في غضون الأربعة أيام راكبًا ذلك الفيل بحيث لم يمسَّه الماء، وقد سيَّر أمامه رجالًا يتجسسون للفيل أفضلَ الطرق، فاستعان بهم وبالفيل على قطعِ الوحول والمياه سالمًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤