الفصل الأول

سؤال مطروح

لست أذكر في حياتي الفكرية سؤالًا قد ألحَّ عليَّ كما ألحَّ عليَّ سؤال طوال الأعوام الخمسة الأخيرة بصفة خاصة؛ فهو سؤال طرح نفسه على المفكر العربي منذ أوائل القرن الماضي، وظفر منه بإجابات تتفاوت إيجازًا وإطنابًا، وضوحًا وغموضًا، صوابًا وخطأً، ومع ذلك فلم يكن بين تلك الإجابات التي امتدت خلال قرن ونصف قرن، إجابةٌ نحسُّ معها أنَّها هي التي تقطع الشك بيقين، والحيرة باهتداء. لا لم يظفر السؤال من المفكر العربي بعدُ بجوابٍ يمكن أن يُقال عنه إنَّه هو الجواب الذي يرسم أمام الناس طريق العمل؛ إذ ما يزال الناس أمامه في الحيرة نفسها التي كانوا يقفون بها أمامه عندما طرح نفسه عليهم لأول مرة في بدايات القرن الماضي، ولا يزال سبيل العمل ملتويًا متشعِّبًا يسمح بفُرقة شديدة تشطرهم أشطرًا متباينة الأهداف متباينة الوسائل، حتى ليتعذر علينا اليوم أن نقول عن الفكر العربي إنَّه قد أصبح ذا طابع يميزه.

وأما السؤال الذي أشرتُ إليه، والذي فرض نفسه علينا فرضًا طوال أمد ليس بقريب، والذي أحسستُ بضغطه وإصراره خلال أعوامي الخمسة الأخيرة — أو قل خلال أعوام الستينيات من هذا القرن — فهو الذي يسأل عن طريقٍ للفكر العربي المعاصر، يضمن له أن يكون عربيًّا حقًّا ومعاصرًا حقًّا؛ إذ قد يبدو للوهلة الأولى أن ثمة تناقضًا أو ما يُشبه التناقض بين الحدين؛ لأنَّه إذا كان عربيًّا صميمًا، اقتضى ذلك منه أن يغوص في تراث العرب الأقدمين حتى لا يدع مجالًا لجديد — وإن من أبناء الأمة العربية اليوم من قد غاصوا هذا الغوص الذي لم يُبقِ لهم من عصرهم ذرة هواء يتنفسونها — وأما إذا كان معاصرًا صميمًا، كان محتومًا عليه أن يغرق إلى أذنيه في هذا العصر بعلومه وآدابه وفنونه وطرائق عيشه، حتى لا تبقى أمامه بقيةٌ ينفقها في استعادة شيءٍ من ثقافة العرب الأقدمين.

نعم، قد يبدو للوهلة الأولى أن بين العربية والمعاصرة تناقضًا أو ما يشبه التناقض؛ ولذلك يجيء السؤال الذي يلتمس طريقًا يجمع الطرفين في مُركَّب واحد، وكأنَّما هو سؤال يطلب أن تجتمع مع الماءِ جذوةُ نارٍ، فهل بين الطرفين مثل هذا التعارض حقًّا؟ أو أن ثمة طريقًا يجمع بينهما؟ ذلك هو السؤال.

وإنَّه ليسهل على المتسرع بالإجابة أن يجيب في حرارة المؤمن بأنه لا تعارض بين أن يكون الرجل مُتْرَعًا بالثقافة العربية القديمة، وبما ينبثُّ فيها من قيم ومعايير وطرائق عيش وسلوك وأهداف ووسائل، وأن يكون في الوقت نفسه من أصحاب التَّخصص الدقيق العميق في ثقافة هذا العصر الذي نعيش فيه، بقيمه ومعاييره وأهدافه ووسائله. أقول: إنَّه ليسهل على المتسرع بالإجابة أن يقول هذا؛ لأنَّه ما أيسر على العربي أن يعيش على مستويين لا صلة بينهما، فالقول في ناحية والتطبيق في ناحية أخرى، وهذا في ذاته إرثٌ ورثناه من ثقافة الأقدمين، فليس على العربي من بأس أن يشتعل حرارةً إذ هو يتحرك في دنيا اللفظ كلامًا أو كتابةً، حتى إذا ما فرغ من لفظه انطلق إلى دنيا العمل على نحوٍ مختلفٍ أشد اختلاف. ليس على العربي من بأس في هذه النقلة من لفظ في ناحية وعمل في ناحية، بل إنه على الأرجح لا يتمهل لحظة واحدة ليسأل نفسه وهو مغمور في العمل: أيكون هذا العمل مسايرًا لما كنت أقوله أم لا يكون؟ وما أكثر ما صادفنا بين الناس ناسًا درسوا هذا الفرع أو ذاك من فروع العلم، كالفيزياء أو الكيمياء أو ما إليهما، ولا ينفكون يزهون أمام الآخرين بدراستهم العلمية التي لم يَشُبها شيءٌ من أدب وشعر ونحو وصرف؛ فهذه كلها عندهم من علامات التخلف عن العصر وما يقتضيه. ثم يفاجئونك في جلساتهم الخاصة بقصص يروونها عن إيمان وتصديق، تقوم كلها على الخوارق والكرامات التي لا يجوز قبولها إلا إذا أجزنا تعطيل القوانين العلمية؛ فلهم أن يختاروا لأنفسهم أحدُ وجهين: فإما هم العلماء المعاصرون لروح العلم فيرفضون كل ما ينفي ذلك، وإما هم الوارثون لثقافة غير علمية فيقبلون هذا التذبذب بين أن يكون للطبيعة قوانينها وألا يكون … لكنهم يحيَوْن في عالمين وهم لا يشعرون، ويحسبون أنَّهم بهذه المجاورة بين الغرفتين، فآنًا هم يسكنون في غرفة العلم المعاصر، وآنًا آخر هم يسكنون في غرفة الخوارق والكرامات. أقول إنهم يحسبون أنهم بهذه المجاورة يكونون قد دمجوا الماضي في الحاضر ذلك الدمج العضوي الذي نعنيه حين نلتمس لأنفسنا طريقًا يجمع بين التراث الثقافي والفكر المعاصر.

ولست بالطبع أعني أن كل ما ورثناه عن الأقدمين هو هذه الوقفة التي تؤمن بالخوارق والكرامات، ولكني ضربت ذلك مثلًا سريعًا؛ لأبين به كيف يسهل على العربي — حتى المثقف بالثقافة العلمية — أن يعيش في عالمين لا تربطهما الروابط العضوية، وهو لا يدري.

ولقد تعرضت للسؤال منذ أمد بعيد، ولكني كنت إزاءه من المتعجلين الذين يسارعون بجواب قبل أن يفحصوه ويمحصوه ليزيلوا منه ما يتناقض من عناصره، فبدأت بتعصب شديد لإجابة تقول: إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بترًا، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علمًا وحضارةً ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم، بل إنِّي تمنيت عندئذٍ أن نأكل كما يأكلون، ونجدَّ كما يجدُّون، ونلعب كما يلعبون، ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون على ظنٍّ مني آنئذٍ أن الحضارة وحدة لا تتجزأ، فإما أن نقبلها من أصحابها — وأصحابها اليوم هم أبناء أوروبا وأمريكا بلا نزاع — وإما أن نرفضها، وليس في الأمر خيار بحيث ننتقي جانبًا ونترك جانبًا كما دعا إلى ذلك الداعون إلى اعتدال. بدأتُ بتعصب شديد لهذه الإجابة السهلة، وربما كان دافعي الخبيء إليها هو إلمامي بشيء من ثقافة أوروبا وأمريكا وجهلي بالتراث العربي جهلًا كاد أن يكون تامًّا، والناس — كما قيل بحق — أعداء ما جهلوا.

ثم تغيرت وقفتي مع تطور الحركة القومية، فما دام عدونا الألدُّ هو نفسه صاحب الحضارة التي توصف بأنها معاصرة، فلا مناص من نبذه ونبذها معًا. وأخذت أنظر نظرة التعاطف مع الداعين إلى طابع ثقافي عربي خالص، يحفظ لنا سماتنا، ويردُّ عَنَّا ما عساه أن يجرفنا في تياره فإذا نحن خبرٌ من أخبار التاريخ، مضى زمانه ولم يبقَ منه إلا ذكراه. لكنني حين أخذت أتعاطف مع هذه النظرة العربية الخالصة، كنتُ إزاءها بلا حول، فهذا مجال لم يكن لي فيه نصيب يُذكَر، فلا أنا قد أُتيحت لي أيامَ الدرس فرصةٌ كافية للإلمام بقسط موفور من تلك الثقافة العربية الخالصة — اللهم إلا النَّزْر اليسير الذي كان يتلقاه التلميذ في المدارس المدنية — ولا أنا أستطيع أن أجد الفراغ لأتوفر على الدرس من جديد.

وأحمدُ الله أن أتاح لي آخر الأمر هذا الفراغ كما أتاح لي مكتبة عربية أقضي فيها بعض ساعات النهار. وها هنا نشأ السؤال مرة أخرى، يلحُّ إلحاحًا شديدًا هذه المرة، نعم، لا بد من تركيبة عضوية يمتزج فيها تراثنا مع عناصر العصر الراهن الذي نعيش فيه، لنكون بهذه التركيبة العضوية عربًا ومعاصرين في آنٍ، ولكن كيف؟ ما الذي نأخذه وما الذي نتركه من القيم التي انبثت فيما خلَّف لنا الأقدمون؟ وهل في مستطاعنا أن نأخذ وأن ندع على هوانا؟ ثُمَّ ما الذي نأخذه وما الذي نتركه من هذه الثقافة الجديدة التي تهبُّ علينا ريحُها من أوروبا وأمريكا كأنها الأعاصير العاتية؟ ثم هل في مستطاعنا أن نقف منها هذه الوقفة التي تنتقي وتختار، وبعد ذلك كيف ننسج الخيوط التي استللناها من قماشة التراث، مع الخيوط التي انتقيناها من قماشة الثقافة الأوروبية والأمريكية، كيف ننسج هذه الخيوط مع تلك في رقعة واحدة، لُحمتها من هنا وسَداها من هناك، فإذا هو نسيج عربي ومعاصر؟

•••

لقد تعاورني أثناء محاولاتي الفكرية أملٌ ويأسٌ، فكثيرًا ما كنت ألمح مخرجًا يؤدي بنا إلى حيث نريد أن ننتهي إلى المزيج الثقافي الذي تكون فيه الأصالة وتكون فيه المسايرة للعصر الراهن، ثُمَّ سرعان ما يختفي هذا القبس العابر لينسدَّ أمامي الطريق؛ ولذلك كثيرًا ما وقعت في أقوال متناقضة نشرتها في لحظات متباعدة، فلا يبعد أن يجد قارئ مقالاتي والمستمع إلى محاضراتي العامة وإلى الندوات الفكرية التي شاركت فيها، آراءً متعارضةً لا يتسق بعضها مع بعض؛ وذلك لأنني كنت في كل لحظة صادقًا مع نفسي، لكن هذه النفس التي كنت صادقًا معها في تلك اللحظات المتفرقة، لم تكن دائمًا على رأي واحد ولا على شعور واحد؛ فمرة — كما قلت — كانت تظن أنها قد رأت قبسًا من نور يُعينُ على الخروج من المأزق إلى حيث نبتغي، ومرة أخرى كانت تنظر فإذا الطريق أمامها مسدود، وكنت أنا في كل مرة أطاوعها وأخلص لها. ففي المرة الأولى كنت أبشر بأن السبيل إلى ثقافة عربية معاصرة قد انفتحت أمامنا أبوابه ونوافذه، وأننا إذا فعلنا كذا وكذا، كانت لنا بذلك فلسفةٌ عربيةٌ وأدبٌ عربيٌّ وفنٌّ عربيٌّ وأخلاقٌ عربيةٌ وسياسةٌ عربيةٌ ونظرة عربيةٌ تميزنا ونعاصر بها الآخرين ممن يعيشون معنا في عالم واحد وتعترضهم معنا مشكلات واحدة. وفي المرة الثانية يأخذني اليأسُ فأكتبُ أو أتكلم لأقول ألا مخرج من الأزمة، وأننا بين طرفين متناقضين، ولا حلَّ أمامنا إلا أن نبتر طرفًا منهما بترًا ليبقى لنا الطرف الآخر خالصًا، فإما أن نتقوقع في ثقافة عربية ذهب أوانها، وإما أن ننضو عَنَّا هذا الثوب العتيق في غير أسف، لنقدِّ لأنفسنا ثوبًا جديدًا من القماش الجديد.

هكذا تعاوَرني أملٌ ويأس؛ وذلك لأنني لم أقع على الْمِفتاح الذي أفتح به الأبواب المغلقة، بل كثيرًا ما شككت بأن يكون السؤال المطروح نفسه سؤالًا غير مشروع، وأن علة الحيرة كلها والاضطراب كله، هي أننا نسأل سؤالًا هو بطبيعته لا يحتمل الجواب؟ ماذا أنت قائل لمن يسألك: كيف السبيل إلى تربيع الدائرة أو إلى تثليث المربع؟ ألست عندئذٍ ترفض السؤال نفسه قبل أن تحاول الجواب عنه؟ إن الدائرة دائرة، والمربع مربع، بحيث يستحيل أن يندمج أحدهما في الآخر دمجًا يجعل منهما شكلًا يجمع شيئًا من هذا وشيئًا من ذاك. ويحدِّثنا المناطقة — والمعاصرون منهم بصفة خاصة — فيقولون إن السؤال لا يكون سؤالًا مشروعًا عند منطق العقل إلا إذا كان له جواب ممكن ولو بعد حين، فمن المشروع — مثلًا — أن تسأل: متى يندمج سكان الأرض جميعًا في أمة واحدة؟ ولك أن تحاول الإجابة وأنت على وعي بأن الوسائل عسيرة وبعيدة، لكنها ليست مما يستحيل عند العقل، لكنه ليس من المشروع أن تسأل: متى نستطيع أن نجعل الثلاثة عددًا زوجيًّا؟ فها هنا نرفض السؤال قبل أن نحاول الجواب.

كانت — إذن — تأخذني الوساوس أحيانًا، أنه ربما كانت علة الحيرة والاضطراب أمام السؤال الذي نطرحه عن طريقة الدمج التي تتيح لنا عجينةً قوامُها أصالةٌ عربيةٌ وتجديدٌ معاصرٌ في آنٍ معًا، هي أن السؤال نفسه تنقصه عناصر السؤال المشروع بمعنى أنه يتطلب الجمع بين نقيضين لا يلتقيان.

وفجأة وجدت المفتاح الذي اهتدي به، ولقد وجدته في عبارة قرأتها نقلًا عن هربرت ريد؛ إذ وجدته يقول:

إنني لَعلى علمٍ بأن هنالك شيئًا اسمه «التراث»، ولكن قيمته عندي هي في كونه مجموعةً من وسائل تقنية يمكن أن نأخذها عن السلف لنستخدمها اليوم ونحن آمنون بالنسبة إلى ما استحدثناه من طرائق جديدة؟ فمثلًا هنالك طريقة استخدمها السابقون في حَزْم الدريس، وأخرى استخدموها في نظم المقطوعات الشعرية (السوناتا) ونستطيع أن نعلِّم هذه الطريقة أو تلك لمن شاء أن يتعلم … وإن الحالة التي يعانيها العالم اليوم لهي في رأيي كافية للدلالة على مدى ما تستطيعه الصورة الفكرية التقليدية — كنَسِيَّةً كانت أو أكاديمية — في حل مشكلاتنا، وهي الصور التي يطالبوننا اليوم بأن نحيطها بالتبجيل والتقديس لأنها هي التراث …

أقول: إنني وجدت في هذه العبارة مفتاحًا للموقف كله، فماذا عسانا أن نأخذ من تراث الأقدمين؟ الجواب هو: نأخذ من تراث الأقدمين ما نستطيع تطبيقه اليوم تطبيقًا عمليًّا، فيُضاف إلى الطرائق الجديدة المستحدثة، فكل طريقة للعمل اصطنعها الأقدمون وجاءت طريقة جديدة أنجح منها، كان لا بد من اطِّراح الطريقة القديمة ووضعها على رف الماضي الذي لا يُعنَى به إلا المؤرخون. بعبارة أخرى: إن الثقافة — ثقافة الأقدمين أو المعاصرين — هي طرائق عيش، فإذا كان عند أسلافنا طريقة تفيدنا في معاشنا الراهن، أخذناها وكان ذلك هو الجانب الذي نحييه من التراث، وأما ما لا ينفع نفعًا عمليًّا تطبيقيًّا فهو الذي نتركه غير آسفين، وكذلك نقف الوقفة نفسها بالنسبة إلى ثقافة معاصرينا من أبناء أوروبا وأمريكا.

المدار هو العمل والتطبيق، المدار هو ما يُعاش به، هو ما يستطاع سلكه في جسم الحياة كما يحياها الناس، أو كما ينبغي لهم أن يحيَوْها، فإذا ألفيتُ عند السلف طريقة تنفعني اليوم في بناء المنازل، أو في رصف الطرق، أو في إقامة الحياة الاقتصادية من زراعة وصناعة وتجارة، أو في طرائق التعبير باللفظ عما يريد الناس أن يعبروا عنه مما تَعْتَمِل به نفوسُهم اليوم، كان ذلك هو التراث الذي تحييه، وأما ما يبقى فلا مندوحة له عن أن يظل راقدًا في أجداثه، مجالًا لمن شاء من المؤرخين.

على أنه ليس كل من يأخذه ابن اليوم من إنسان الأمس جائز القبول، حتى ولو كان أداة من أدوات الحياة العملية. فالفلاح المصري قد ورث عن جده القديم طريقته في حرث الأرض وريها، لكنه تراث ظهر له اليوم من آلات البخار والكهرباء ما ينسخه، فعندئذٍ لا يجوز لهذا الفلاح أن يحتج على أدوات عصره قائلًا: لكن المحراث والشادوف والساقية هي تراثي من الآباء والأجداد، برغم أنه تراث عملي نافع في حدوده. والفلاحة المصرية قد ورثت عن جدتها القديمة طريقتها في تشييع موتاها، لكننا لا نتردد في رفض تراث كهذا، ونتمنى له الزوال السريع.

وإني لأعلم أن من القراء ممن سيأخذه العجب لهذه الأمثلة التي أسوقها تدليلًا على التراث، متى يجوز بقاؤه ومتى لا يجوز، قائلًا لنفسه: ليس هذا هو التراث الذي نعنيه حين نتحدث عن حياتنا الثقافية كيف ينبغي لها أن تكون، وماذا يجب أن تستمده من «التراث» وماذا يجب أن تهمله، فليس المحراث والشادوف وصرخات المرأة الحزينة المشيعة لفقيدها جزءًا من «التراث» بهذا المعنى الذي نعنيه، إنما نعني في هذا الصدد شرع الدين ونظم الشعر وإرسال الحكمة، والشجاعة في القتال، وإكرام الضيف، وما إلى هذه الجوانب من حياة أسلافنا، وما قيل فيها وما روي بشأنها. لكنني أقول للمعترض بأنه لا فرق في الأساس والجوهر — ما دمت قد جعلت قاعدتي ما أستطيع أن أستمده من الأسلاف من طرائق العمل في الحياة اليومية الجارية — لا فرق بين أن يكون الذي أتعلمه من السابقين هو طريقة حرث الأرض أو طريقة نظم الشعر أو طريقة توزيع المواريث على مستحقيها أو طريقة التعاقد على زواج أو الاحتفال بمولود جديد أو إقامة الشعائر الملائمة للجنازات ودفن الموتى. كلها وسائل نعيش بها ونسلك على أساسها. فإذا فعلنا كُنَّا بمثابة من أدخل تراث الماضين في صلب حياته الحاضرة، وإذا رفضنا كُنَّا رافضين لهذا التراث أن يكون جزءًا من هذه الحياة.

فإذا كان السؤال المطروح هو: كيف السبيل إلى دمج التراث العربي القديم في حياتنا المعاصرة، لتكون لنا حياة عربية ومعاصرة في آنٍ؟ كانت طريقة الإجابة السديدة هي أن أبحث عن طرائق السلوك التي يمكن نقلها عن الأسلاف العرب بحيث لا تتعارض مع طرائق السلوك التي استلزمها العلم المعاصر والمشكلات المعاصرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤