الفصل الثاني

عقبات على الطريق

مهما يكن المصدر الأول الذي يستقي منه الإنسان مبادئ المعرفة والعلم، ثُمَّ يعود فيبني على تلك المبادئ سائر أحكامه وأفكاره ومعتقداته ومذاهبه، فقد يكون ذلك المصدر الأول وحيًا من السماء، أو مشاهدات شاهدناها بحواسنا للأشياء من حولنا، أو لُمعاتٍ حدسيةٍ اهتدت بها البصيرة إلى حقيقة العالم أو حقيقة الإنسان. أقول إن المصدر الأول لمبادئ المعرفة والعلم، قد يكون بابًا من هذه الأبواب، ثُمَّ يسلط الإنسان على تلك «المبادئ» قوته الاستدلالية — وذلك هو «العقل» — ليستخرج كل ما يجد في وسعه أن يستخرجه من أحكام وأفكار. ومهما يكن ذلك المصدر الأول — وقد اختلف الفلاسفة في أيها تكون له الصدارة — فهنالك شرط لا بد من الوفاء به؛ لكي تستقيم لنا المعرفة الصحيحة بعد ذلك، وهو أن يمحوَ الإنسانُ أخطاءه التي كان قد زلَّ فيها قبل أن يستقيَ العلمَ من مصدره المختار، وأن يسدَّ الطريق على تلك الأخطاء حتى لا تعاودَه من جديد، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا؛ إذ لا يُجْدي أن نملأ وعاء الحق في أذهاننا، حين يكون وعاء الباطل ما زال هنالك قائمًا إلى جواره، فالباطل — على مر الزمن — قَمِين أن يُفسِد الحق، كما تُفسد الثمرة العطبة ما حولها من ثمرات صحاح، فإذا جاء الحق وظهر — بأية وسيلة من وسائله — وجب كذلك أن يَزهَق الباطلُ في اللحظة نفسها؛ فإقامة الصواب وتصحيح الخطأ جانبان لموقف واحد، هما الإيجاب والسلب يسيران معًا، الأول يثبت ما يستحق الإثبات، والثاني يمحو ما لا بد أن يُمحى.

وهذا بعينه هو ما حرص على فعله فلاسفة المنهج العلمي جميعًا، على اختلاف أزمانهم وتباين مناهجهم؛ فهم — إذ يرسمون للناس طرائق الفكر السديد — يُجمعون على إزالة الباطل وطَمْس مصادره؛ لتتم لهم إقامة الحق وتفجير منابعه، فذلك هو سقراط، حين أراد أن يقيم للفكر السليم مَنْهَجًا جديدًا يقاوم به ما ظنه باطلًا عند جماعة السفسطائيين — فقد كان هؤلاء السفسطائيون يشيعون في الناس رأيًا بأن الإنسان الفرد هو مقياس الحق لنفسه، فما تراه أنت حقًّا فهو حق بالنسبة إليك، وما أراه أنا حقًّا فهو كذلك حق بالنسبة إليَّ. وواضح أن مبدأ كهذا من شأنه أن يجعل لكل فرد من الناس معياره الخاص فيما هو صواب أو خطأ، وفيما هو فضيلة أو رذيلة — فأراد سقراط أن يقيم منهجًا عقليًّا قويمًا، تُقاس به الأفكار والأحكام؛ ليضع أمام الناس جميعًا قاعدةً واحدةً مشتركةً، بحيث لا يبقى بعد ذلك احتكام إلى نزعةٍ فرديةٍ أو هَوًى.

لكنه قبل أن يقيم هذا الميزان العقلي — أو قل إنَّه بالعملية نفسها التي أراد بها أن يقيم هذا الميزان — أخذ في الوقت نفسه ينكت صدور الناس وأفئدتهم لعله يقع فيها على مصادر الخطأ والضلال فيزيلها، بل ربما كان أشد اهتمامًا بأن يبين للناس أين يخطئون، منه بأن يُظهر لهم وجه الصواب في المسألة المعينة التي يحدث أن تكون مطروحة للحوار بينه وبينهم، إنه لم يزعم لنفسه قطُّ معرفةً يقينية بشيءٍ، حتى لقد قال عنه أرسطو بعد ذلك: كان سقراط يثير المشكلات ثم لا يقدم لها الحلول. ولم يكن سقراط غافلًا عن حقيقة موقفه السلبي هذا، لكنه أيقن أن رسالته الحقيقية هي في تطهير العقول أوَّلًا، لعلها بعد ذلك تتهيأ للوصول إلى الحق.

ومضى الزمان بعصوره التي توسطت بين قديم وحديث، ونهضت أوروبا نهضتها المعروفة، التي كان من نتائجها هذا التقدم العلمي العجيب، الذي ننعم اليوم بثمراته ونشقى، أفتدري ماذا كان المفتاح الذي أداره الناس فإذا الأرض غير الأرض والسماء غير السماء؟ هو أن استبدلوا منهجًا بمنهج، وفي المنهج العلمي الجديد كَمُنَ السِّرُّ كله والقوة كلها. كان الناس قبل ذلك ينهجون في تفكيرهم نهجًا لا يصلح إلا في نطاقه الخاص، وهو أن تكون هنالك تركيبة لغوية فاستخرج منها تركيبة أخرى؛ ولذلك كاد «العلم» كله إبَّان القرون الوسطى — في شرق الدنيا وغربها على السواء — ينحصر في استخراج النتائج من نصوص يضعونها بين أيديها، ثم يُعملون فيها مشارط التحليل، وقد يكون النصُّ وحيًا أوحي به أو تراثًا قديمًا هبط إليهم من السلف، لكن الطريقة واحدة في كلتا الحالتين، أما وقد أراد الناس أن يلفتوا وجوههم لفتة جديدة، يُطالعون بها الكون الفسيح بأفلاكه وبحاره وسهوله وجباله، فلم يعد يُجدي أن ننظر في نص مكتوب أمامنا لنحلله ونشرحه ونستخرج ما خفي من معانيه، أو قل إن هذا النظر المنكبَّ على الصحائف لم يعد يكفي، وكان لا بد من طريق جديد يسلكه الباحثون ليكشفوا الحجب عن سر «الطبيعة» التي تُبدي أمام النواظر «ظواهرها» وتخفي وراء الظواهر «قوانينها»، فكيف السبيل أمام الإنسان ليكشف الغطاء عن تلك القوانين؛ لأنه إذا ما فعل، أمسك باللجام وامتطى وسار، بل غاص وطار، وطوى الطبيعة كلها في قبضة يده.

كان المنهج العلمي الجديد ذا وجهين، تولى كلًّا منهما رجل: أمَّا أحد الرجلين فهو الفيلسوف الفرنسي ديكارت، الذي أراد أن يكون السير العلمي بادئًا من فكرة داخلية نثق في صوابها، ثُمَّ نمضي خارجين منها إلى حيث العالم الطبيعي وما وراءه. وأما ثانيهما فهو الفيلسوف الإنجليزي بيكون، الذي رأى أن يكون طريق السير في الاتجاه المضاد، بادئًا من الطبيعة الخارجية وما نشاهده في ظواهرها، ثُمَّ نمضي داخلين إلى فكرة عقلية نقيمها ونكون على يقين من صوابها.

ولكن ليختلفا كيف شاءا في اتجاه السير ماذا يكون؟ أنقطع الشوط من داخل نفوسنا إلى الواقع الخارجي، أم نقطعه من الواقع الخارجي إلى داخل نفوسنا؟ فالذي يهمنا من الرجلين في سياق حديثنا هذا، هو أن كليهما قد حرص أشد الحرص على محاربة الخطأ واقتلاع جذوره، حتى تُبذَر بذور المعرفة الصحيحة على أرض طيبة غير مشوبة بأخلاط الضلال.

فالرجلان معًا يلتقيان في أن المعرفة الصحيحة كان ينبغي أن تكون هي الحالة الطبيعية للإنسان السوي، لولا أن اعترضتها العوارض فسدَّت عليها الطريق؛ عوارض من أوهام الإنسان ونزواته وميوله وأهوائه ورغباته وشهواته وما قد يصيبه من تعصب وتسرع، ومن خضوع سهل لذوي الشهرة والنفوذ من أقدمين ومحدثين ومعاصرين. لماذا يخطئ الإنسان طريق الحق ما دامت نفسه وما يجري فيها واضحة له إذا ما انطوى ببصره إليها، ليمعن فيها النظر (هذا ديكارت)، وما دامت الطبيعة منشورة الصفحات لمن يريد أن يقرأ قراءة الصادق الأمين (وهذا بيكون). لماذا يقع الإنسان في الخطأ، والباطن قائم أمام بصيرته والظاهر معلن أمام بصره؟ أليس الخطأ هو أن تضع في رأسك فكرة لا تصور ما هنالك؟ فلماذا تفعل، وما هنالك يكشف لك عن نفسه إذا سلكت إليه الطريق؟

لا بد أن تكون هنالك عثرات تحول دون ذلك السير المستقيم، كأن تكون رءوسنا قد مُلئت — على غير وعي مِنَّا — بأفكار مسبقة، بثها فينا آخرون، حتى إذا ما شببنا ألفينا أنفسنا تحت سلطانها؛ ولهذا عُنِيَ الرجلان — ديكارت وبيكون — أول ما عُنيا بأن يدُقا في الرءوس دقًّا عنيفًا؛ لتنفض كل ما فيها، قبل أن نأمل في علم جديد نضعه بأنفسنا على أساس جديد.

•••

وعقيدتي هي أنَّ في تراثنا العربي — إلى جانب عوامل القوة التي سنذكرها في حينها — عوامل أخرى تعمل فينا كأبشع ما يستطيع فعله كل ما في الدنيا من أغلال وأصفاد، وأنه لمن العبث أن يرجو العرب المعاصرون لأنفسهم نهوضًا أو ما يشبه النهوض قبل أن يفكوا عن عقولهم تلك القيود لتنطلق نشيطة حرة نحو ما هي ساعية إلى بلوغه؛ إنه لا بناءَ إلا بعد أن نزيل الأنقاض ونمهد الأرض ونحفر للأساس القوي المكين.

وسأكتفي من هذه العوامل المعوقة بثلاثة:
  • الأول: أن يكون صاحب السلطان السياسي هو في الوقت نفسه، وبسبب سلطانه السياسي، صاحب «الرأي»، لا أن يكون صاحب «رأي» (بغير أداة التعريف) بحيث لا يمنع رأيه هذا أن يكون لغيره من الناس آراؤهم.
  • الثاني: أن يكون للسلف كل هذا الضغط الفكري علينا، فنميل إلى الدوران فيما قالوه وما أعادوه ألف ألف مرة، لا أقول إنهم أعادوه بصور مختلفة، بل أعادوه بصورة واحدة تتكرر في مؤلفات كثيرة، فكلما مات مؤلف، لبس ثوبه مؤلف آخر، وأطلق على مؤلَّفه اسمًا جديدًا؛ فظن أن الطعام الواحد يصبح أطعمة كثيرة إذا تعددت له الأسماء.
  • الثالث: الإيمان بقدرة الإنسان، لا كل إنسان بل المقربون منهم، على تعطيل قوانين الطبيعة عن العمل كلما شاءوا، على غرار ما يستطيعه القادرون النافذون — على صعيد الدولة — أن يعطلوا قوانين الدولة في أي وقت أرادت لهم أهواؤهم أن يعطلوها.

وسأتناول كلًّا من هذه العوامل الثلاثة بشيءٍ من التوضيح:

(أ) احتكار الحاكم لحرية الرأي

إننا إذ نريد تحديد موقفنا من تراثنا، تحديدًا يجعل الخَلَفَ موصولًا بالسلف، دون أن تُفوِّت هذه الصلة على الخلف أن يعيش في عصره ولعصره، فلست أرى مندوحة لنا عن وقفة من ذلك التراث، تميز بين ما نحييه ليحيا، وما نطمسه ليموت، صُنْعَ الوارث العاقل، الذي لا يخزن إرثه في الخزائن، ثم يطوف بتلك الخزائن المغلقة عابدًا، بل تراه يستخدم الإرث بما يعود عليه بالثمرة والنماء، فليس إرثه في حد ذاته حياة، وإنما هو وسيلة حياة، فإمَّا صَلُح وسيلة وأداة، وإما نَحَّيناه عن الطريق غير آسفين.

وإن ذلك المعيار العاقل نفسه، لَيحمل في طيه إشارة إلى أول ما ينبغي أن نتنكر له من تراثنا، وهو أن نحتكم إلى التقليد حيث يمكن تحكيم العقل. ألا إن في تراثنا ما يقيم للعقل قوائمه، فذلك — إذن — هو الجانب الجدير مِنَّا بأن نصل به حاضرنا بماضينا، لكن في تراثنا كذلك خطأً مضادًّا، أوشكت الغلبة أن تكون له في عصور الضعف، وهو الخلط الذي يركن إلى الأسهل الأيسر، فيستنيم للتقليد، فيمضي الزمن والمقلدون نائمون على مخادع الماضي الذي يقلدونه، أو — على الأصح — الماضي الذي يزعمون أنهم يقلدونه. وحقيقة الأمر هنا هي أنهم — مثل دون كيخوته — يقلدون الفرسان الأصائل بلبس الدروع، لكنهم يضعون الدروع على خواء لا فروسية فيه، فينهارون لأول نفخة ينفثها هواء. وهذا هو أبو العلاء المعري ينظر إلى عصره — وعصره من عصور الضعف السياسي والتفكك — فيقول في وصف ما يرى: «وبنو آدم بلا عقول، وهذا أمر يُلقَنه صغير عن كبير.» ثم يستأنف القول بعد بضع صفحات، ليقرر أن الطفل الناشئ يظل يعيد ما سمعه، حتى يثبت في نفسه كأنه الحق. «والذين يسكنون في الصوامع، والمتعبدون في الجوامع، يأخذون ما هم عليه، كنقل الخبر عن المخبر، لا يميزون الصدق من الكذب … وإذا المجتهد نكَّب عن التقليد، فما يظفر بغير التبليد، وإذا المعقول جُعل هاديًا، نَقَعَ برِيِّه صاديًا، ولكن أين من يصبر على أحكام العقل؟ … هيهات!» «وربما لقينا من نَظَر في كتب الحكماء، وتبع بعض آثار القدماء، فألفيناه يستحسن قبيح الأمور.»

فنحن إذ نثور على أتباع التقليد الغبي الأعمى، فإنما نثور على جانب من التراث بجانب آخر منه، فأبو العلاء الثائر على المقلدين، هو نفسه جزء من تراثنا، كما أن المقلدين جزء آخر، فأي سبيل لنا — نحن أبناءَ هذا العصر — يمكن أن تكون أوضح سبيلًا وأهدى، من أن نقلِّب في الموروث؛ لنأخذ جزءه العاقل المبدع الخلاق، وننبذ جزءه الآخر الخامل البليد؟ نأخذ جزءه العاقل المبدع الخلاق، لا لنقف عند مضمونه وفحواه، نبدي ونعيد، بل لنستخلص منه الشكل؛ كي نملأ هذا الشكل بمضمون من عصرنا ومن حياتنا ومن خبراتنا. وإنما قصدتُ بالشكل هنا «القيمة» أو طريقة النظر وميزان الحكم، كمن يستعير من صاحبه منظارًا مقرِّبًا أو مكبِّرًا، لا لينظر به إلى المشهد نفسه الذي كان ينظر إليه صاحب المنظار، بل ليكون له هو مشهده الخاص وإدراكه المتميز الأصيل، برغم المشاركة مع الآخر في منظار واحد.

فإذا أخذنا عن الأسلاف منظار العقل، الذي استخدموه وهم أشداء أقوياء، انبثقت لنا على الفور أسس جديدة نقيم عليها حياتنا الفكرية بدل الأسس السائدة. والأسس الجديدة المرجوة هي أسس الحوار الحر الذي تتعادل فيه قامات الناس، وإن تفاوتوا بعد ذلك في سداد الرأي وقوة الحجة. وأما الأسس التي نريد لها الزوال، فهي تلك التي تجيء فيها الفكرة مِن عَلٍ، لتهبط كالقَدَر على رءوس الناس، وعندئذٍ يكون الصواب هو المعيار الذي تمليه تلك الفكرة «السامية»، ويكون الخطأ هو الجرأة على مناقشتها فضلًا عن الجرأة على تجريحها والتمرد عليها.

الأصل في الفكر — إذا جرى مجراه الطبيعي المستقيم — هو أن يكون حوارًا بين «لا» و«نعم» وما يتوسطهما من ظلال وأطياف، فلا الرفض المطلق الأعمى يُعَدُّ فكرًا، ولا القبول المطلق الأعمى يعد فكرًا، ففي الأول عناد الأطفال، وفي الثاني طاعة العبيد. الله وحده هو الذي وسِع كُرسيُّه السمواتِ والأرض، فاتسع علمه للحق كله، يعلمه علم اليقين، علمًا ليس فيه «إما … وإما …» أمَّا علمنا نحن البشر، فأقصاه معرفة تحتمل البدائل، نُرجِّح فيها بديلًا على بديل، فما من فكرة إلا وتحتمل أن يكون نقيضها هو الصواب، وكل ما يسعنا — ونحن نفكر في مشكلة معروضة — هو أن نتقصى جميع الممكنات، ليقوم بينها حوار، يُثبت أحدها ويُقصي سائرها. وغالبًا ما تتمثل هذه الممكنات الكثيرة في أفراد كثيرين، كل منهم يعرض حلًّا ممكنًا على أنه هو الرأي الذي يراه، ومن الأخذ والرد خلال عملية الحوار، نقبل من الآراء المعروضة ما نقبله، ونرفض ما نرفضه؟ على أن القبول هنا يكون قبولًا لما «نظن» أنه الصواب، ويكون الرفض رفضًا لما «نظن» أنه الخطأ، وهذا الظن الذي هو سمة لا مندوحة عنه في فكر البشر، هو الذي يجعل الصواب المقبول صوابًا يحتمل الخطأ، كما يجعل الخطأ المرفوض خطأ يحتمل الصواب. وبمثل هذه النظرة إلى «نعم» و«لا» يصبح نسبيًّا ما حسبناه بادئ الأمر مُطلَقًا، ويصبح مبصرًا ما كان بادئ الأمر مكفوف البصر، في مواقف القابلين والرافضين.

لم تكن مصادفة أن أخذ سقراط يطوف في الأسواق محاورًا، كلا ولا هي مصادفة أن ساق لنا أفلاطون فكرة في حوار، ولكنه كان في الحالتين أمرًا مدبَّرًا منهما مقصودًا؛ ليكون أمام الناس من بعد، بمثابة الإعلان عن حرية الفكر كيف تكون، بل ليكون بمثابة الإعلان يعلنه الفكر ذاته في أول مرحلة له عن طريق التاريخ (فما قد كان قبل تلك المرحلة إنما كان اعتقادات تؤمن بها القلوب، أو تطبيقات شهدت بنجاحها الممارسة والفعل). أقول إن أسلوب الحوار عند سقراط وأفلاطون، قد كان بمثابة الإعلان يعلنه الفكر ذاته في أول مرحلة له على طريق التاريخ، بأنه يريد لنفسه أن يكون سؤالًا وجوابًا، أخذًا وعطاءً، يريد لنفسه أن يكون حصيلة مداولة ومجادلة ومقاولة، تنصبُّ على العقدة المعروضة للحل، إلى أن تنحلَّ العقدة خيوطًا خيوطًا، وحتى تنفصل لُحمة المشكلة عن سَدَاها، وتتعرى هياكل الأفكار والمذاهب، عندئذٍ نبصر في جلاء أين في تلك الأنسجة مصادر الخطأ وأين فيها موارد الصواب، أين في بنيانها حكم العقل وأين نزوة الهوى؟ حتى إذا ما غربلنا الخليط، وأبعدنا الغلال عن الحصى، كان لنا عندئذٍ أن نضم الصواب إلى الصواب فتكتمل في أذهاننا صورة الحق الذي نسير به على صراط الهدى.

تلك هي طبيعة الفكر الحر؛ أن يكون حوارًا متعادل الأطراف، لا يأمر فيه أحدٌ أحدًا، ولا يطيع فيه أحدٌ أحدًا، إلا بالحق، ليس فيه رجحان للموتى على الأحياء، ولا تفضيل لطائفة من الأحياء على طائفة. أمَّا إذا انقلب الوضع وانعكس، فأصبح ما نسميه «فكرًا» هو أن يأمر آمرٌ ليصدع بأمره مطيع، واختُصِر الطريق الذي كان بين المتحاورين جيئةً وذهابًا، فبات طريقًا في اتجاه واحد؛ أعني أن يكون جيئةً ولا ذهاب، أن يكون هبوطًا ولا صعود، أن يكون قولًا من هناك وسمعًا وطاعةً من هنا، فعندئذٍ قل على حرية الفكر السلام. ومن يتوهم في نفسه الحرية يومئذٍ، يكن كالحجر الذي تحدث عنه سبينوزا في الكون الذي صوَّره محتوم السير؛ فنظام الكون المجبر يقتضي أن يُلقَى الحجر، وأن يتخذ المسار الفلاني، وأن يسقط عند النقطة الفلانية من الأرض، في اللحظة الفلانية من لحظات الزمن، لكن الحجر — في سيره المجبر المرسوم — إذا فرضنا أنه ذو وعي يعي ولسان ينطق، لسمعناه يقول إنه قد قرر لنفسه أن يسير حيث يسير، وأن يقع على الأرض حيث يقع.

•••

أُسُّ البلاء في مجال الفكر هو أن يجتمع السيف والرأي الذي لا رأي غيره في يد واحدة، فإذا جلا لك صاحب السيف صارمه، وتلا عليك باطله، زاعمًا أنه هو وحده الصواب المحض والصدق الصراح، فماذا أنت صانع إلا أن تقول له «نعم» وأنت صاغر؟ … هذه صورة رسمها أبو العلاء بقوله:

جلَوْا صارمًا، وتلَوْا باطلًا
وقالوا: صدقنا؟ فقلنا: نعم

وهكذا كانت الحال في جزء من تراثنا، هو الجزء الذي ندعو إلى طمسه ليموت، فلقد يكون للأمير أو للوزير رأي، فيكون الويل عندئذٍ لمن خالف … يجلس الأمير أو الوزير، ورأيه في رأسه، والسياف إلى جواره، ثُمَّ يَمْثُلُ المخالف بين يديه، وفي مثوله هذا يكون الختام؛ وهل تظن أن صاحب السلطان عندئذٍ يقصر حكمه على المعلَن المنطوق من فكر خصمه؟ لا، والله، فإنه ليكفيه أحيانًا أن تكون الفكرة قد دارت في سريرة الخصم دون أن يعلنها أو ينطق بها. فانظر — مثلًا — إلى موقف الخليفة المهدي من بشار:

دعا المهدي بشارًا إلى حضرته، وأحضر معه النطع والسياف.

قال بشار للخليفة: علامَ تقتلني؟

أجاب المهدي: على قولك:

رُبَّ سر كتمته فكأني
أخرس، أو ثنى لساني عقلُ
ولو أني أظهرت للناس ديني
لم يكن لي في غير حبسي أكل

فقال بشار: قد كنت زنديقًا، وقد تُبْتُ عن الزندقة.

أجابه المهدي: كيف وأنت القائل:

والشيخ لا يترك عاداته
حتى يوارَى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إلى غيِّه
كذي الضنى عاد إلى نكسه

لكن غافله السياف، فإذا رأسه يهوي على النطع … وقضي على الشاعر، لم ينفعه كتمان رأيه، ولم يشفع له أن أعلن توبته. وإنا لنسأل: ماذا لو كان على عقيدة تخالف عقيدة خليفة المسلمين؟ ألم يكن يكفي هذا الخليفة أن يقول لمن خالفه: «لكم دينكم ولي دين»؟

وانظر إلى قصة الحلاج المتصوف بعد بشار الشاعر؛ قال هذا المتصوف ما قاله عن مذهبه في الحلول، وناظره علي بن عيسى الوزير، وضاق به، فقال له آخِرَ الأمر: تعلُّمك لِطهورك وفرضك أجدى عليك من رسائلَ أنت لا تدري ما تقول فيها … ما أحوجك إلى أدب!

لو اقتصر الوزير على المناظرة رأيًا برأي ومذهبًا بمذهب لما وجدنا في الأمر إلا ما يدعونا إلى الزهو بماضينا الفكري، أمَّا هذه الخاتمة المنذرة التي ختم بها الوزير حديثه، وهي أن الحلاج في حاجة إلى وزير يؤدبه، فتلك هي الطامة؛ لأن السلطة عندئذٍ تختلط بالرأي. ولقد حدث بالفعل أن أمر السلطان بضرب الحلاج ألف سوط، وبقطع يديه، ثم بإحراقه بالنار.

كان ذلك — إذن — مصيرَ شاعر اختلفت عقيدته، وكتم اختلافه في صدره ابتغاءَ التَّقِيَّة فما أفلح معه كتمانه، ومصيرَ متصوف ذهب في تصوفه مذهبًا لم يقبله أولو الأمر، فكان جزاؤه ما كان من ضرب بالسياط، وتقطيع لليدين، وإحراق بالنار. فانظر بعد ذلك إلى قصة أديب ناثر وحكيم لا نزال إلى يومنا هذا نقرأ له أدبه الساحر وحكمته النافذة، هو ابن المقفع.

كان بالبصرة عندما كان سفيان بن معاوية نائبًا عن الخليفة فيها، وكان بين الرجلين — سفيان وابن المقفع — مناوشات ومغايظات، لم يخلُ بعضها من ظَرْف وفكاهة، كأن يكون سفيان كبير الأنف، فيتعمد ابن المقفع إذا ما دخل عليه أن يقول السلام عليكما، كأنما أنف الرجل لضخامته رجل آخر يصاحبه. وكأن يقول سفيان ذات يوم لابن المقفع — ردًّا على قول ابن المقفع عن نفسه إنه ما ندم قطُّ على سكوت: صدقت، فالخرس لك خير من كلامك.

وهكذا أخذ الرجلان يتبادلان قوارص الكلمات، لكن مع هذا الفارق الكبير، وهو أنَّ أحد الرجلين كان ذا سلطان، وأما الآخر فبضاعته أدب وفكر؛ فلبث صاحب النفوذ والجاه يدسُّ لصاحبه عند الخليفة المنصور في بغداد، حتى ظفر منه بالإذن أن يقتل الأديب الحكيم، فهل يقتله كما يُقتل المجرمون؟ لا، فللأدباء الحكماء ضروب أخرى من التعذيب؛ فقد أحمى سفيان لفريسته تَنُّورًا، وجعل يقطع من جسم ابن المقفع شريحة بعد شريحة — وهو حيٌّ — ويُلقي بالشريحة في التنور، ليرى المسكين أطرافه كيف تقطع ثم تُحرَق، قبل أن تُحرَق بقيته دفعة واحدة آخر الأمر.

على أنَّ الخبر الخاص بما يسمُّونه محنة القرآن: أقديم هو أم حادث؟ كافٍ وحدَه لتصوير العلاقة بين صاحب القوة السياسية والأعزل منها، حين يقع بينهما اختلاف في الرأي، مهما تكن منزلة هذا الأعزل بين أهل العلم؛ فليأذن لي القارئ في إطالة الوقوف هنا لأقدم له صورة وافية بتفصيلاتها؛ ليفهم ما أعنيه حين أقول إنَّ الجالس على دَسْت الحُكم، كان في الوقت نفسه هو صاحب الرأي الذي لا رأي سواه، فإما اتفقتَ معه فنجوت، وإما اختلفْتَ فالويل لك ويلًا لا تدري متى يبدأ ولا كيف ينتهي.

كان هنالك رأيان عن القرآن، من حيث الحداثة والقدم، يذهب أحدهما إلى أن القرآن لكونه كلام الله فلا يُعقل ألا يكونَ أزليًّا مع أزلية الله، وإلا فهل جاء زمن كان الله فيه بغير كلامه — أي بغير علمه — إلى أن شاء فأنزله على رسوله؟ ويذهب الرأي الثاني إلى أن القرآن حادث، بمعنى أنه لم يوجد إلا وقت نزوله، وأما قبل ذلك فلم يكن.

وكان هنالك من الفقهاء والمتكلمين من يأخذون بالرأي الأول — ومنهم الإمام أحمد بن حنبل — وتصادف أن يكون الخليفة المأمون ممن يأخذون بالرأي الثاني، فهل يُترَك كل رجل وشأنه فيما يرى؟ لا، بل يأخذ الخليفة لنفسه حق التنكيل بمن لا يرى رأيه على النحو الذي سنصوره للقارئ، على أنِّي إذ أقدم للقارئ هذه الصورة، فلست أعني أنني أُناصر طرفًا دون الآخر من طرفي النزاع، هذا واضح؛ إذ أقل ما يُقال هنا هو أن المشكلة بأسرها لم تعد مشكلة لنا اليوم مما يستدعي التعصب لرأي دون رأي، وإنما أقدم هذه الصورة للقارئ ليرى فيها شيئين، ذكرت له أولهما، وهو أن صاحب الحكم في عرف أسلافنا كان هو نفسه صاحب الرأي، ويحقُّ له أن يسحق كل رأي سواه. وأما الثاني فربما كان أبشع من ذلك وأفظع، وهو أننا — نحن أبناءَ هذا العصر — نقرأ أمثال هذه الأخبار في مراجعها، فنكاد نمر عليها كما لو كانت هي الحالة الطبيعية للأمور، فمن المألوف عند الكثرة الغالبة مِنَّا أن يقرأ القارئ منهم أخبار السلف، فيجد فيها أن الخليفة الفلاني أو الوزير الفلاني قد استدعى هذا الفقيه أو ذلك المحدِّث أو الشاعر، أو من شئت من رجال الفكر والأدب، واختلف معه فأمر بقتله أو بسجنه أو بضربه، أو اتفق معه فأمر بأن يُخلَع عليه كذا وأن يُمنَح كَيْتَ. أقول إنه من الطبيعي المألوف عند الكثرة الغالبة مِنَّا أن تقرأ أمثال هذه الأخبار، فلا تأخذ الدهشةُ أحدًا، بل إن القارئ مِنَّا بعد أن تصادفه عشرات الأمثلة من هذا القبيل المتعسف، تراه يخرج من ذلك كله وهو ما يزال على إيمانه بوجوب إحيائنا للتراث، بغير تفرقة بين جيد ورديء.

فيُروى أن الخليفة المأمون كتب إلى إسحاق بن إبراهيم ليمتحن القضاة والمحدِّثين، وقد جاء في رسالته ما يقطع به أن القائلين بقدم القرآن — أي القائلين بغير المذهب الذي يعتقد هو أنه الصواب — ليسوا مجرد مخالفين له في الرأي والمذهب، بل لا بد أن يكونوا «من حشو الرعية، وسفلة العامة … وأهل جهالة بالله، وعمًى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه …» وغير ذلك من نعوت؛ مما يدل دلالة مسبقة بما يعتزم أن يُنزله على مخالفيه من تعذيب وإيذاء. وحسبنا أنه قد جعل نفسه في قضية فكرية كهذه خصمًا وحَكَمًا.

بدأت المحاكمة، فأحضر إسحاق بن إبراهيم جماعة من الفقهاء والقضاة والمحدِّثين — وكان بينهم أحمد بن حنبل — وقرأ عليهم كتاب المأمون مرتين، ثم توجه إليهم بالأسئلة واحدًا واحدًا. وستلحظ في النماذج التي نقدمها فيما يلي، كيف ضَعُفَ فريق أمام الهول المنتظر؛ فاستسلموا قائلين إننا نأخذ بما يأمرنا أمير المؤمنين أن نأخذ به، وظل فريق مستمسكًا برأيه، لكن حتى هذا الفريق الثاني، تعرض للامتحان يومًا بعد يوم، وفي كل يوم كان يضعف منهم واحد فتُفَكُّ عنه الأغلال، حتى لم يبقَ آخِرَ الأمر في قيده إلا اثنان، هما أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح. وستلحظ كذلك في هذه النماذج التي نقدمها مقدار الحيطة والحذر في إجابات الفقهاء الذين خضعوا للمحنة، كأنهم آثمون في ساحة القضاء، أرادوا إخفاء معالم إثمهم بالحذر الشديد في ضبط الإجابة وإيجازها، حتى لا تفلت منه لقطة زائدة قد تودي به إلى التهلكة.

دار الامتحان مع بشر بن الوليد على الوجه التالي:

إسحاق : ما تقول في القرآن؟
بشر : أقول القرآن كلام الله.
إسحاق : أمخلوق هو؟
بشر : الله خالق كل شيء.
إسحاق : ما القرآن بشيء؟
بشر : هو شيء.
إسحاق : فمخلوق هو؟
بشر : ليس بخالق.
إسحاق : أسألك أمخلوق هو؟
بشر : ما أُحسن غير ما قلت لك.

وجاء بعد ذلك امتحان علي بن أبي مقاتل، فكان الحوار كما يلي:

إسحاق : ما تقول يا علي، القرآن مخلوق؟
علي : القرآن كلام الله.
إسحاق : أمخلوق هو؟
علي : هو كلام الله، وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء، سمعنا وأطعنا.

ثم جاء امتحان أبي حسان الزيادي، على النحو الآتي:

إسحاق : القرآن مخلوق هو؟
الزيادي : القرآن كلام الله، والله خالق كل شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين إمامنا، وبسببه سمعنا عامة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلده الله أمرنا، فصار يقيم حجنا وصلاتنا، ونؤدي إليه زكاة أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته إمامة، إن أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا.

وبعده جاء دور ابن حنبل، فكان الحوار الآتي:

إسحاق : ما تقول في القرآن؟
أحمد : هو كلام الله.
إسحاق : أمخلوق هو؟
أحمد : هو كلام الله، لا أزيد عليها.

وهكذا مضى الامتحان، حتى إذا ما فرغ إسحاق بن إبراهيم من مهمته، كتب إلى المأمون بما أجاب به القوم رجلًا رجلًا. وبعد تسعة أيام، جاء رد المأمون وبه تعليقات على كل إجابة على حدة، فأُعيد امتحانهم، فأجابوا جميعًا هذه المرة أن القرآن مخلوق، إلا أربعة كان من بينهم أحمد بن حنبل.

فأمر إسحاق بهؤلاء الأربعة فشُدُّوا في الحديد، فلما كان من الغد دعا بهم جميعًا يُساقون في الحديد، فأعاد عليهم المحنة، فأجاب أحدهم إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده وخلَّى سبيله، وأصر الثلاثة الآخرون على قولهم.

فلما كان من بعد الغد، عاودهم مرة أخرى، فأجاب أحدهم إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده وخلَّى سبيله.

وأصر أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح على قولهما ولم يتراجعا، فشُدَّا في الحديد، حتى يفرغ أمير المؤمنين فيقضي في أمرهما بما يشاء.

لكن المأمون جاءه الأجل قبل أن يقضي في أمر الرجلين وجاء المعتصم، فأحضر أحمد بن حنبل من سجنه ليلقاه، بعد أن زادوا في قيوده. ويُروَى عنه أنه قال في وصف رحلته إلى المعتصِم مكبَّلًا بالحديد: «لم أستطع أن أمشي بأغلال الحديد، فربطتها في التِّكَّة وحملتها بيدي، ثم جاءوني بدابة فحُملت عليها، فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلَّم الله حتى جئنا دار المعتصم …»

ومضى ابن حنبل يروي قصته فقال: «… ثم دُعيت، فأُدخلت على المعتصم، فلما نظر إليَّ — وعنده ابن أبي دؤاد — قال: أليس قد زعمتم أنه حدث السن؟ وهذا شيخ مكتهل؟!

فلما دنوت من المعتصم، وسلَّمتُ، قال إلى وزيره: أَدْنِه.

فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال: اجلس.

فجلست، وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعة، ثم قلت: يا أمير المؤمنين! إلامَ دعا ابن عمك رسول الله ؟

قال المعتصم: إلى شهادة أن لا إله إلا الله.

قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله.

قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد مَنْ كان قبلي لم أتعرض إليك.

قلت: يا أمير المؤمنين! أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به.

قال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟

قلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما؟

قال ابن أبي دؤاد: هو واللهِ يا أمير المؤمنين ضالٌّ، مُضِلٌّ، مبتدع.»

«وجرت مناظرات طويلة بين القضاة والفقهاء الحاضرين وبين ابن حنبل، يومًا ويومًا وثالثًا، وكان ابن حنبل في كل مرة يُسكِتهم بقوة حجته، وقد كان الخليفة المعتصم يتلطف إلى ابن حنبل، ويَعِدُه بأحسن الجزاء لو أنه عدل عن إصراره.»

قال المعتصم: يا أحمد، أجبني إلى هذا حتى أجعلَك مِن خاصَّتي، وممن يطأ بِساطي.

قلت: يا أمير المؤمنين! يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله، حتى أجيبَهم إليها.

قال إسحاق بن إبراهيم — نائب بغداد — الذي كان أجرى المحنة أوَّلًا: يا أمير المؤمنين! ليس من تدبير الخلافة أن تُخلي سبيله ويغلب خليفتين.

قال الخليفة: خذوه، واخلعوه، واسحبوه.

«فجيء بحاملي السياط، وجردوه من ثوبه، وأوقفوه بين حاملي السياط.»

قلت: يا أمير المؤمنين! اللهَ، اللهَ! إن رسول الله قال: «لا يحل دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، إلا بإحدى ثلاث …» فبمَ تستحل دمي ولم آتِ شيئًا من هذا؟ يا أمير المؤمنين! اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك.

لكن الأمير أصم أذنيه، وأمر به. ويصف لنا ابن حنبل المشهد فيقول: جيء بكرسيٍّ وأقاموني عليه، وقال لي واحد من حمَلة السياط أنْ خُذ بيدك بأي الخشبتين، فلم أفهم قوله … فجعل أحدهم يضربني سوطين، ويجيء الآخر فيضربني سوطين، ثم الآخر كذلك … وقام المعتصم إليَّ، يدعوني إلى قولهم بخلق القرآن، فلم أجِبْه، فأعادوا الضرب، ثم عاد إليَّ المعتصم، فلم أجبه، فأعادوا الضرب، ثم جاء إليَّ الثالثة، فدعاني، فلم أعقل ما قال من شدة الضرب. ثم أعادوا الضرب، فذهب عقلي ولم أحس بالضرب. وأرعبه ذلك من أمري، وأمر بي فأُطلقت، ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أُطلقت الأقياد من رجلي.

ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، ولما رجع إلى منزله، جاءه جرَّاح فقطع لحمًا ميِّتًا من جسده، وجعل يداويه، والنائب عن الخليفة يسأل عنه في كلِّ وقت … وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد بن حنبل ندمًا كثيرًا.

هذه صورة حية، أطلنا الوقوف عندها؛ لأنَّها تنطق بما يجوز قبوله من تراثنا، وما لا يجوز.

فلئن كان أحمد بن حنبل يسمو في هذه الصورة سموًّا قلَّما ارتفع إلى منزلته إنسان من أهل الفكر؛ مما يشعرنا بالزهو أنْ كان لأسلافنا مثل هذا الوقوف عند الرأي والعقيدة، مهما كانت التضحية في سبيلهما، كأنَّما وُضع الحق في إحدى كفتي الميزان ووُضعت الدنيا بأسرها في الكفة الأخرى فرجحت كفة الحق … أقول: لئن كان هذا المثال الرائع جزءًا من الصورة يصيح بنا — نحن العربَ المحدثين — أن نقتفيَ هذا الأثر، فإن في الصورة جزءًا آخر، هو أيضًا من «التراث»؛ هو الجزء الذي يصبح فيه حامل السوط هو وحده صاحب الحق، وأخشى أن أقول إنه هو أرجح الجانبين ثقلًا في حياة السالفين.

•••

لا، لم يكن في ساحة الفكر عند الأسلاف «حوار» حر إلا في القليل النادر، وفي مواقف لم تكن بذي خطر كبير على سلطة الحاكم، وكيف يكون والحوار إنَّما يتم بين أنداد ذوي قامات متقاربة، وأوزان متكافئة؟ أمَّا وساحتنا لا تعرف هذا التكافؤ ولا ذلك التقارب في الأوزان والقامات — اللهم إلا في المبادئ النظرية التي كادت لا تشهد العمل والتطبيق — وكل الذي تعرفه هو أن تعلو فيها نخلة واحدة، أو قلة من نخيل؛ ليحيط بها كلأ قصير، فإذا ما دفعت حرارة التربة ذلك الكلأ أن يرتفع برءوسه، جُذت رءوسه لتظل قريبة من مواضع الأقدام … هذه كانت ساحة الفكر، وتلك هي كائناتها؛ فهي بطبعها ترفض أن يدور على أرضها حوار؛ إذ لا يكون حوار بين نخيل ونجيل … وفيمَ العجب؟ ألسنا قومًا على الفطرة؟ تلك إذن هي سنة الفطرة، فهل ترى — في البحر — حوار الأنداد قائمًا بين الحوت والبَلَم؟ أم هل ترى — في الفضاء — نقاش الأقران دائرًا بين سباع الطير وبغاثها؟ وهل تجري مفاوضات في الغاب — إلا في الأساطير والحكايات — بين الليوث والغزلان؟ هل علمت بزلزال يتريث حتى ينصت إلى آراء الذين ستنهدم على رءوسهم السقوف والجدران؟ هل سمعت ببركان يتروَّى ليستشير الجيران قبل أن ينفث من جوفه الحمم على ديارهم؟ هل يُبالي الرعد أن يجيء هزيمُه عند الناس في موضع السخط أو في موضع الرضا؟ تلك هي فطرة الأحياء والأشياء وظواهر الطبيعة، ونحن قوم على الفطرة، فأي عجب إذا سلكنا أنفسنا مع الفطرة فيما فطرها عليه فاطر الأرض والسماء؟

بل إننا لنزيد على كل هذه الأحياء والأشياء والظواهر في الفطرية درجة، فقد ورد في «التراث» أن من الكائنات ما لا يصلح إلا بأمير يؤمَّر عليه، وتلك هي — كما ورد في العِقد الفريد: الناس، والفأر، والغرانيق والكراكي والنحل والحشرات … هذه الطوائف كلها — من الناس إلى الحشرات — تأبى — كما يقول صاحب هذه العبارة — بحكم فطرتها أن يكون الأمر حوارًا بين أفرادها، وتريده أوامر ونواهي وزواجر تهبط من الأعلى ليصدع بها الأسفل، وطوبى لمن كان لهم الأمر في تلك الطوائف — ناسًا كانوا أو حشرات — طوبى لهم؛ لأن للأمر والنهي — كما يقول الجاحظ — لذة أين منها لذة الحواس في طعام أو شراب، بل أين منها لذة الطرب بالصوت الجميل، أو لذة النشوة باللون المونق والملمس اللين؟ فسرورك — إذا كنت صاحب أمر ونهي — هو سرور من طراز فريد، حين ينحدر أمر من شفتيك فإذا هو نافذ، وحين توقع بخاتمك، فإذا الطاعة على الناس قد وجبت، بل فإذا الحجة «العقلية» قد ألزمت كل ذي حجة. ولا تقل إنه لم يكن في الأمر إلا بصمة خاتم، وإنه ليس في بصمة الخاتم «عقل» ولا «حجة»، لا، لا تقل ذلك؛ لأنك إنما تقوله لجهلك باللذة الكبرى التي تسري في كيانك كله — من الرأس إلى القدم — إذا جلست من الناس مجلس الأمر والنهي (اقرأ «الحيوان» للجاحظ، ج١، ص٢٠٥) إنه إذا نزلت الأخبار والأوامر والنواهي من أهل الطوابق العليا إلى أهل الطوابق السفلى «… فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم، والأوامر بالانقياد، والنواهي بالتعظيم» («البداية والنهاية» لابن كثير، ج١، ص٥).

وعبثًا تقول للناس، إذا قلت لهم إنه إذا كان الأمر لزيد وكان على عمرو أن يطيع، فالكرامة الإنسانية عندئذٍ تكون كلها لزيد؛ لأن الفكرة فكرته، والتبعة الخلقية واقعة على عاتقه، وأمَّا عمرو في طاعته للأمر فهو الآلة الصماء، يُضغط على أنفه فتتحرك منه الذراعان والساقان. إنه لا يختار لنفسه ما يصنعه؛ لأن ما يصنعه قد رُسم له في لوح، لا أقول عنه إنه لوح محفوظ؛ إذ ما أكثر ما يكون لوح الأقدار عند أصحاب الأمر والنهي غير محفوظ، فتراهم يمحون في غدهم ما كانوا قد خطُّوه في أمسهم. وقد شاءت لنا الفطرة أن يستمتع كل بما كتب له، فزيد مُتعته في أن يأمر وينهى، وعمرو — كذلك — مُتعته في أن ينقاد ويطيع. ومن ذا لا يسره أن يكون كأنجم السماء، تدور في أفلاكها وهي لا تدري كيف تدور ولا لماذا تدور؟ من ذا لا يسره أن يكون كالشمس والقمر، يطلعان بميقات معلوم، ويغربان بميقات معلوم؟

•••

الفكرة عندنا ممزوجة بشخص صاحبها وكرامته، ارفضْها ترفضْه معها، واقبلْها تقبلْه، إنَّها شبيهة بالكلب في قول الإنجليز حين يقولون: من أحبني أحب كلبي. أو هي قريبة من بعير المحب وناقة الحبيبة، في تصور الشاعر العربي القديم، الذي قال إنَّه هو وحبيبته يتبادلان الحب، فلم يلبث أن امتد هذا الحب المتبادل، أن امتد ليشمل ناقته وبعيرها: «وأُحِبُّها وتُحِبُّني ويحبُّ ناقتَها بعيري» … أمَّا أن تُنزع الفكرة عن شخص قائلها لتوضع على «أرض» البحث — إذ البحث عندنا لا يُفرَش له «بساط» إلا في عالم الأمثال السائرة — فيدور عليها النقاش إيجابًا وسلبًا، وتصحيحًا وتكميلًا، دون أن يكون في شيء من ذلك كله ما يمس صاحب الفكرة في شخصه ولا في كرامته — حاكمًا كان صاحبها أو محكومًا — فذلك ليس من طباعنا، ولا هو جزء من كياننا، فإذا ذكرنا أن هذه «الموضوعية» شرط أساسي أول لأية خطوة يخطوها السائر نحو حياة العلم، فَلَكَ أن تستنتج من ذلك ما ترى.

ولو كان هذا التوحيد بين الرجل و«بنات» أفكاره، مقصورًا على رجال ليس في أيديهم حل لأمورنا ولا عقد، وليس «لبناتهم» المحصنات في حياتنا غواية، لقلنا للرجل الذي يوحد بين شخصه فكره: نعم ونعام عين، فاحضن بناتك بين ذراعيك حضنًا ليجدن الدفء في أنفاسك والعطف من أعطافك، ولا شأن لنا بعد اليوم بك أو بهن. لكن الرجل وفكره وبنات فكره، قد يكون ممن له علينا أمر وسلطان، وعندئذٍ تكون الطامَّة الكبرى؛ لأننا إذا انتزعنا بناته من أحضانه لنجعلهن ملكًا مشاعًا للناقدين، ثار الرجل لكرامته، ولن يكون لنا في الأمر عندئذٍ خيار؛ لأن صاحب السلطان وقتئذٍ لن يقول لنا: أنا وبنات فكري وحدة واحدة، فإما اخترتمونا معًا وإما نبذتمونا معًا. لا، لن يقول لنا ذلك؛ لأنه لو قالها فربما اخترنا الثانية، لكنه سيضع قراره في شق واحد له صورة الأمر النافذ، فيقول: ها أنا ذا وأفكاري معًا وحدة واحدة، وليس لكم في الموقف خيار.

(ب) سلطان الماضي على الحاضر

سلطان الماضي على الحاضر هو بمثابة السيطرة يفرضها الموتى على الأحياء، وقد يبدو غريبًا أن يكون للموتى مثل هذه السيطرة، مع أنه لم يبقَ لنا منهم إلا صفحات مرقومة صامتة، لا تمسك بيدها صارمًا تجلوه في وجوهنا فيفزعنا كما قد يفعل الأحياء من ذوي السلطان، لكن هذا هو الأمر الواقع، الذي في مستطاعنا أن نفسره، وليس في مستطاعنا أن ننكره.

إنَّ فرنسيس بيكون حين أراد أن يعين ضروب الوهم التي تضلل الإنسان عن الفكر الصحيح، جعل بينها ضربًا أطلق عليه اسم «أوهام المسرح» — ولقد كان بيكون أديبًا فيلسوفًا، أو فيلسوفًا أديبًا، يصوغ أفكاره في صور مجسدة شأن الشعراء في صياغة اللفظ — فهو هنا قد اختار صورة «المسرح» ليكثِّف بها ما يعنيه إذا ما زعم لنا أن للموتى تأثيرًا قويًّا في نفوسنا، يكاد يلهينا عن حقائق الأمور بما يحدثه فينا من الإيهام. إن النظارة في المسرح يشهدون الممثلين في أثواب الملوك أو الصعاليك، وفي أدوار المحسنين الأبطال أو المسيئين الأنذال، فسرعان ما ينسَوْن أنهم إنما يشهدون رجالًا «يمثلون» الملوك أو الصعاليك، مع أنهم ليسوا بملوك ولا بصعاليك في حيواتهم الحقيقية الواقعة. إن المحسن البطل على المسرح قد يكون في حقيقته أبشع الأشرار خسة ونذاله، كما قد يكون المسيء النذل على المسرح في حقيقة حياته الرجل الطيب المحمود الخصال، لكن هؤلاء النظارة لا يلبثون إذا ما انطفأت الأنوار، وانزاح الستار، وبدأ الممثلون يدخلون أمامهم ويسلكون بما يسلكون وينطقون ما ينطقون، حتى ينسوا نسيانًا تامًّا أنهم في مسرح وأن من أمامهم ليس هو الحقيقة الواقعة بالنسبة إلى أشخاص الممثلين في دنياهم الحقيقية الواقعة.

وهكذا قل في أمر الإنسان إذا ما وجد نفسه حيال فكرة أو عبارة قالها رجل قضى منذ زمن، لكنه ترك وراءه شهرة وسمعة تملأ النفوس بالرهبة، فقد يجد هذا الإنسان عندئذٍ أن من المتعذر جِدًّا عليه النجاة من سحر هذه الرهبة، وأن أيسر السبل وآمنها من الزلل هو أن يتقبل كل ما قد تركه له سلفه ذاك هو أن يتقبل كل ما قد تركه له سلفه ذاك ذو الشهرة والسمعة، وهيهات أن تجد من الناس من تبلغ به الجرأة أن يفضَّ عن الصندوق المسحور ختمه السحري، ليفتحه فإذا هو من الداخل خواء أو ما يُشبه الخواء. وما أكثر ما حكت لنا جداتنا قصصًا عن حجرات مسحورة ملغِزة، حين يقال لساكن قصر ورد ذكره في القصة إنه حرٌّ في استخدام الغرف جميعًا إلا غرفة مغلقة مُحرَّمة عليه، فيتركها مؤمنًا أنها لا بد مشتملة على ما تعجِز قدراته دون مواجهته والتصرف فيه.

إنَّ للزمن جلالًا أيما جلال، فأين هو الذي يستطيع الوقوف أمام أطلال الماضي — وهي أطلال — هازئًا ساخرًا؟ أين هو الذي يستطيع أن يعبث بجثث الموتى كما يعبث بقطع من الصخر الجماد؟ إن أوغل الماديين في النزعة المادية لا يملك إلا أن يتأثر بجلال القدم، برغم علمه التام أن القدم ينبغي أن ينقص من قيمة الشيء لا أن يزيدها، لو كان الأمر كله أمر مادة ومنفعة؟ فانظر إليه كم يدفع في نسخة من كتاب قيِّم هَلْهَلَتْه الأيام، وكم يدفع في نسخة من هذا الكتاب نفسه وقد أخرجته المطابع صباح اليوم؟ إنه يدفع في النسخة الأولى أضعاف أضعاف ما يدفعه في النسخة الثانية؛ لأنه يتوهم أنه إنما يشتري بماله — بالإضافة إلى الكتاب — امتدادًا زمنيًّا له عنده قيمة يعوض بها مدى حياته القصير.

ذلك كله واقع ولا سبيل إلى نكرانه، وإن الخروج عليه والتصدي له إنما يجيئان بعد مغالبة الإنسان لنفسه ولفطرته، وهذه المغالبة لأهواء النفوس وميول الفطرة هي ما نحن بحاجة إليه، حين يتبين أن تقويم القديم بأكثر من قيمته النفعية لا يقتصر على إشباعه لرغبة رومانسية في نفوسنا، بل يقف في سبيل سيرنا عقبة تحول دون التقدم نحو ما نريد أن نتقدم نحوه من تغيير للفكر وتبديل لأوضاع الحياة.

فما أسرع ما يتحول الأمر عند الإنسان من إعجاب بالقديم إلى تقديس له يوهمه بأن ذلك القديم معصوم من الخطأ، فعندئذٍ تنسدل الحجب الكثيفة بين الإنسان وبين ما قد جاءت به الأيام من تطورات في العلم والمعرفة. لقد كان العامل الأول في النهضة الأوروبية هو تحول الناس من حالة الاكتفاء بما كتب الأقدمون، إلى كتاب الطبيعة المفتوح لكل من أراد منهم أن يقرأ علمًا جديدًا؛ ذلك أن العصور المظلمة كلها، ومن بعدها العصور الوسطى كلها — وهذه وتلك قد امتدتا مع الناس نحو عشرة قرون وقعت بين القرنين الميلاديين الخامس والخامس عشر على وجه التقريب — أقول كانت تلك العصور تُدير ثقافتها وفكرها على صحف مكتوبة — بعضها مُقدَّس بحكم العقيدة الدينية وبعضها الآخر مكسو بالجلال والرهبة بحكم أنه تراث هبط إلى الناس من أسلافهم الميامين — ولم يكن على المفكر عندئذٍ إلا أن ينكبَّ على تلك الصحائف انكبابًا، حتى يحللها لفظًا لفظًا، ويكشف لنفسه عمن كمن وراء اللفظ؛ ولذلك لم يكن ذلك المفكر بحاجة إلى الخروج من الدير أو من الصومعة أو من الدار أو من المكتبة أو من الجامع، ما دامت هذه محتوية على ما يريد مطالعته من صحف — مقدسة أو غير مقدسة — ليستوعب مضموناتها، فإذا كان مفكرًا من الطراز الممتاز، أضاف إلى هذا الاستيعاب «شرحًا» جديدًا لتلك المضمونات التي طالعها.

وأترك للقارئ أن يقدر لنفسه كم هي النسبة في تراثنا العربي للكتب التي تروي نقلًا عن الآخرين: تارة تختار، وتارة تؤرخ، وطورًا تصنف. فكأنما الطهاة الذين أعدوا الطعام قلة لا تتجاوز العشرة أو العشرين، ثُمَّ تكاثرت حول المائدة ألوف تتسقط الفتات المتناثر، كل يأخذ من هذا الفُتات ما وسعت حفنتاه؟ وإني لألقي ببصري الآن إلى رفوف مكتبة عربية زاخرة: فهذا كتاب في طبقات الشعراء، وهذا في طبقات النحاة، وهذا في طبقات الأدباء، وهذا في طبقات الأطباء، وهذا في طبقات الحُفَّاظ، وهذا في طبقات الفقهاء، وهذا في طبقات المفسرين، وهذا في طبقات الشافعية، أو في طبقات الحنابلة، وهلم جرًّا. وأترك تصنيف الطبقات لأنظر إلى ركن آخر، فإذا بالعين تقع على الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، والضوء اللامع لأهل القرن التاسع، والكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، وخلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، وسلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، وحلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر.

اجترار من اجترار بعد اجترار. قلت لنفسي، وأنا أقلِّب النظر في منوعات من «التراث»: لماذا لا تفحص مجلَّدًا أو مجلدين من هذه «الكواكب» و«الدرر» لترى ماذا كان يكتب «العلماء» الذين تؤرخ لهم هذه الكتب التي لا تكاد تقع تحت الحصر. وأخذت أستعرض ضروب المؤلفات وصنوف الأعمال التي جعلت من أصحابها «علماء» استحقُّوا أن تفرد لهم هذه التواريخ كلها، فلم أخرج إلا بما يؤيد فكرة عندي سابقة كنت حصَّلتها من انطباعات متناثرة على مر الزمن، وهي أنه — باستثناء أصول قليلة جِدًّا فيها أصالة وابتكار — هنالك هذه الألوف من المجلدات التي لا تُضيف حرفًا واحدًا جديدًا، فهي شروح، وشروح للشروح، وتعليق، وتعليق على التعليق. وإني لأستسمح القارئ في أن يصبر معي خمس دقائق، يقرأ فيها هذه القائمة من المؤلفات، التي نقلتها لتكون أمامنا نموذجًا لنتاج حقبة زمنية في تاريخنا الفكري، ولن أذكر أسماء مؤلفيها — إذ ماذا يُجدي في هذا اليباب المتجانس أن تُسَمَّى كثبان الرمل بأسماء تميزها كثيبًا من كثيب؟ — لكنني سأضعها مجموعات مجموعات، كل مجموعة منها تنتمي إلى أحد «العلماء» البارزين في عصرهم:
  • الإسعاد بشرح الإرشاد، الدرر اللوامع بتحرير شرح جمع الجوامع، الفرائد في حل شرح العقائد، المسامرة في شرح المسايرة …

  • حواشٍ على تفسير البيضاوي، حواشٍ على حاشية شرح التجريد، حواشٍ على التلويح، شرح على آداب البحث.

  • شرح على جمع الجوامع، تعليق على الروضة، تعليق على المنهاج، الدر النظيم في أخبار موسى الكليم.

  • شرح الآجرومية، شرح الجزرية، شرح مقدمة الهداية في علم الرواية.

  • وهذا رجل خلده المؤرخون؛ لأنه «حفظ» الشاطبية، و«سرد» مرة النسب النبوي طردًا وعكسًا.

  • وهذا آخر خلدوه؛ لأنه قرأ القرآن على فلان، وقرأ الشاطبية والرائية على فلان، وقرأ شرح البهجة على فلان، وقرأ كتاب التبيان في آداب حملة القرآن لفلان، وقرأ السيرة النبوية على فلان، ومسند الإمام الشافعي على فلان، وصحيح مسلم على فلان، وصحيح البخاري … و«تلقن» من فلان وفلان من المشايخ، و«أذنوا له بالتلقين».

وهذه الصفة الأخيرة مفتاح مفيد، لا أقول لذلك العصر وحده، بل هو مفتاح لعصرنا هذا «الحديث» بالدرجة نفسها، فالعلم كله عندنا «يلقن» للمتعلم فإذا نبغ هذا المتعلم ليصبح — مثلًا — أستاذًا بإحدى الجامعات «أذنوا له بالتلقين».

ولقد عنيَ القوم — وما نزال في إثرهم نعنى — بعمليتي «التلقن» و«التلقين» لأنها هي عندنا — سلفًا وخلفًا على حد سواء — التعلم والتعليم.

(ﺟ) تعطيل القوانين الطبيعية بالكرامات

وأما ثالث العوامل المقيدة لعقولنا عن الأصالة، المكبلة لأرجلنا عن السير، فهو ذلك الميل الشديد الذي نحسه في نفوسنا نحو أن تكون قوانين الطبيعة لعبة في أيدي نفر من أصحاب القلوب الورعة الطيبة، فيكفي أن يشاء الله لواحد من عباده أن يكون من «الصالحين» لينصرف «صلاحه» هذا — في أوهام الناس — لا إلى شق الترع وبناء الجسور ورصف الطرق وإقامة المصانع، بل لينصرف «صلاحه» نحو تعطيل أي قانون طبيعي شاء، فهو يأتي له بالفاكهة من هواء الغرفة، وليس من الضروري عنده أن تحتاج الفاكهة إلى تربة وماء وشمس وهواء، وهو يقرأ لك الطروس المطوية؛ لأن القراءة عنده ليست مشروطة ببصر ورؤية.

ولو اقتصر الأمر في هذا على سواد العامة لما أخذنا عجب؛ فالإنسان منذ خُلق يمقت العقل ويتمنى أن تكون للقلب الغلبة والسيادة، لكن الأمر يجاوز هؤلاء إلى العلماء أنفسهم، وأي علماء؟ علماء الكيمياء والفيزياء والنبات وطبقات الأرض، ومتى؟ في عصرنا هذا، وأين؟ في قلب الجامعات!

إنك في يومنا هذا ليأخذك العجب أشد العجب، إذا ما أُتيح لك أن تجالس طائفة من رجال العلوم الطبيعية، لتستمع إلى ما يديرونه بينهم من أحاديث عن تصديق وإيمان، إذا ما فُتح لهم موضوع الخوارق والكرامات، إنهم عندئذٍ يقبلون وهم في نشوة السعادة والرضا أن يُحكى عن أصحاب الصلاح والطيبة والتقوى كل الخوارق التي تبطل أي قانون شئت من قوانين الطبيعة، كأن الله تعالى يُرضيه أن تكون سنته في كونه لهوًا وعبثًا. إن هؤلاء العلماء وهم في معاملهم لا يقبلون إلا أن تكون قوانين العلم حاسمة صارمة، فما الذي يُصيبهم إذا ما تركوا معاملهم وعادوا إلى منازلهم يسمرون؟ أيتركون عقولهم مع معاطفهم البيضاء في حجرات المعامل، ليعودوا إلى منازلهم وقد فرغت رءوسهم إلا من الخرافة وانعدام النقد وسرعة التصديق؟ أيثقل عليهم عبء العقل، فيلقون به آنًا بعد آنٍ ليستريحوا في ظل الخرافة الندي الطري الممتع اللذيذ؟

إنني إذ أقرن ما أطالعه من حكايات الخرافة الساذجة عند أسلافنا — وخصوصًا في عصور ضعفهم — بما أسمعه بأذني من حكايات الخرافة يرويها بعض رجال العلم فينا اليوم، تأخذني الدهشة العميقة، وأتساءل: هل زاد هؤلاء الرجال الذين ظفروا في ميادين العلوم الطبيعية والرياضية بأعلى الدرجات العلمية على أولئك الأسلاف السذج شيئًا في درجة التصديق؟ هل زاد هؤلاء على أولئك شيئًا إلا صفحات من علوم «حفظوها» ليلقنوها لطلابهم تلقينًا لقاء الرواتب ينفقونها على مظاهر الحياة فيبدون للأعين وكأنهم اختلفوا عن سائر العامة العوام في نظرتهم اللاعلمية إلى تسلسل الأحداث؟

أسلافنا السذج إبان عصور الضعف، وأقراننا المعاصرون في العلوم، كلاهما سواء في قبول ما يُحكى لهم من أن من ذوي النوايا الطيبة والقلوب المؤمنة من يطير في الهواء بلا أجنحة ومن يسير على الماء بلا حوامل، كلاهما سواء في تصديق ما يُحكَى لهم من قدرة أصحاب الكرامات على أن يغرفوا من وعاء صغير على النار طعامًا يكفي ألفًا من عباد الله الجائعين، وأن تخرج لهم الطيور الخضر من العدم لتظلل رءوسهم إذا اشتد بهم الهجير من شمس الصيف الحارقة، كلاهما سواء في تصديق ما يُحكى لهم عن القوة السحرية لكلمات تُكتَب أو تُقال فإذا العليل صحيح مُعافى، وإذا المهزوم المغلوب غالبًا منتصرًا، وإذا الرزق كثير والخير وفير بغير عناء العمل.

ليست الأحداث عندنا مرهونة بأسبابها الطبيعية إلا ونحن في قاعات الدرس بالمدارس والجامعات، حتى إذا ما انصرف كل مِنَّا إلى حياته الخاصة في داره أو في المجتمع، أفسح صدره لكل خرافة على وجه الأرض، يقبلها راضيًا مغتبطًا مؤمنًا مصدِّقًا.

وإذا كان هذا شأن العلماء مِنَّا والدارسين، فماذا تتوقع لشأن سواد الناس أن يكون؟ وأي عجب بعد ذلك أن نعلِّق ما شئنا من نتائج على مجرد لفظ يكتبه كاتب في صحيفة أو كتاب، أو يخطب به خطيب في حفل مجتمع أو في إذاعة؟ إننا لنقول القول في مشكلاتنا فنحسب أن العلاج قد تم، وأن المشكلات قد انحلت؛ لأننا ذوو طبائع لا تربط بين الأحداث وأسبابها الطبيعية، إلا ونحن في قاعات الدرس بالمدارس والجامعات، وهذا على أحسن الفروض.

الفرق بين «السحر» و«العلم» هو هذا بعينه، وليس أي شيء سواه، فالسحر والعلم كلاهما محاولة لرد الظواهر إلى عللها أو أسبابها، غير أن الساحر لا يقلقه أن يرد الظاهرة البادية للعين إلى علة غيبية ليس في وسع الإنسان أن يستحدثها أو أن يسيطر عليها، وأما العالم فهو لا يقر نفسًا إلا إذا رد الظاهرة المحسوسة إلى علة محسوسة كذلك؛ ليمكن بعد ذلك أن نوجد هذه العلة المحسوسة فتتبعها الظاهرة إذا أردنا. الساحر والعالم يقفان معًا إلى جانب مريض ليعملا على شفائه، فأما الساحر فيربط الظاهرة المرضية بالجن والعفاريت، وأما العالم فيربطها بجرثومة معينة، فبينما يصبح الطريق مفتوحًا أمام العالم للبحث عن الوسيلة التي يقتل بها تلك الجرثومة ليزول المرض ترى الطريق مغلقًا أمام الساحر؛ لأنه لا يدري كيف يغالب هؤلاء الجن والعفاريت لينزاحوا عن المريض فيزاح المرض؛ لذلك يلجأ إلى وسائل لا علاقة إطلاقًا بينها وبين المرض وشفائه، كأن يدق الطبول أو يحرق البخور أو يكتب الأحجبة والتمائم.

فهل أقول: إنَّنا في حياتنا الثقافية ما زلنا في مرحلة السحر التي تعالج الأمور بغير أسبابها الطبيعية، وأننا لولا علم الغرب وعلماؤه، لتعرَّت حياتنا الفكرية على حقيقتها، فإذا هي حياة لا تختلف كثيرًا عن حياة الإنسان الْبُدائي في بعض مراحلها الأولى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤