الفصل الثامن

فلسفة عربية مقترحة

(أ) ثنائية السماء والأرض

أحسبني على حقٍّ حين أزعم أن كلمة «فلسفة» هي من أكثر الكلمات دورانًا على الألسن، ومن أقلها تحديدًا عند جمهور المثقفين، هم يحبون استعمالها، ولكنهم يكرهون الوقوف عندها، كأنما هم يحبون استخدامها جرسًا ولفظًا، ويكرهون تمحيصها مضمونًا ومعنًى، فما أكثر ما تسمع في أحاديثهم عبارات مثل: فلسفتي في الحياة، فلسفة التاريخ، فلسفة اللغة، فلسفة السياسة، وغير ذلك، أمَّا أن تسألهم أن يحددوا معناها المقصود، بحيث يُفرِّقون في هذه العبارات التي أسلفناها بين الحياة وفلسفتها، والتاريخ وفلسفته، واللغة وفلسفتها، والسياسة وفلسفتها، وهكذا، فعندئذٍ يضيقون بك ذرعًا، وينقلبون على اللفظة ذاتها، فيستخدمونها هذه المرة استخدامًا يحمل معنى الزراية؛ إذ يقولون لك عندئذٍ «هذه فلسفة»، يريدون بذلك أنك بدأت تخاطبهم بما ليس له عندهم معنًى مفهوم.

فإذا شئنا أن نُحدِّثكم عن طريق مقترح نحو فلسفة عربية، أفلا يكون جديرًا بنا — بادئ ذي بدء — أن نلقي شعاعًا من الضوء على معنى الفلسفة على إطلاقها، قبل أن نتصورها عربية أو غير عربية؟ هل تفهم معنًى لقولنا «الخيول العربية» قبل أن تتصور «الخيول» على إطلاقها كيف تكون؟ وهل تدرك معنًى لقولنا «اللغة العربية» قبل أن تُدرك معنى «اللغة» في خصائصها العامة المشتركة؟ فكذلك لا أحسب أن قولنا «فلسفة عربية» سيحمل إلى أذهاننا معنًى محددًا، إلا إذا ارتسمت في تلك الأذهان صورة للفلسفة على إطلاقها: ما مقوماتها الأساسية التي بغيرها لا تكون؟

ولعل أوضح وسيلة لبيان ذلك، هي أن نفرق بين مراحل ثلاث، أو قل بين مستويات ثلاثة للإدراك: ففي المستوى الأول ترانا نعيش في صلة مباشرة مع الأشياء من حولنا، وفي تواصل مباشر بعضنا مع بعض، فأنا إذ أرى الأشياء بعيني وألمسها بيدي، وإذ أنظر إلى صديقي فأراه راضيًا أو غاضبًا، فعندئذٍ أكون في مستوى الإدراك الأول، وعلى هذا المستوى تجري شئون الحياة اليومية من بيع وشراء، ومن صناعة الصانع لما يصنعه إذ هو يعالج المادة التي يشكلها، ومن زراعة الزارع لأرضه حين يبذر الحب ويروي الزرع ويحصد الحصاد. فهذه وأمثالها كلها أشياء تتم بالصلة المباشرة بين الإنسان من جهة، وما عداه — أو من عداه — من جهة أخرى. وواضح أن ما يتصل به الإنسان في هذه الحالة، هو دائمًا أشياء بعينها، أو أشخاص بأعينهم، أو مواقف معينة هي كلها مفردات جزئية مما يشغل مكانًا مُحدَّدًا، ويقع في لحظة زمنية معلومة، لكن الإنسان لا يقف عند هذا المستوى الذي تشغله مفردات من أشياء وأشخاص ومواقف، لها مكانها ولها زمانها، إلا ريثما يفرغ من شئون حياته اليومية الجارية، وبعدئذٍ يحدث أن يتخصص من بين الناس نفرٌ يحاولون الوصول إلى قوانين عامة تضبط تلك المفردات، وهؤلاء هم العلماء، كل عالم يختار لنفسه ميدانًا يتفرغ للبحث فيه، عن القوانين التي تحكم ظواهره، فإذا نزل علينا المطر ذات يوم، وعشناه ومارسناه، كُنَّا ما نزال في المستوى الذي نُدرك فيه الوقائع والحادثات إدراكًا مُباشِرًا، أمَّا إذا تفرَّغ مِنَّا واحد لبحث هذه الظاهرة، لعله يجد لنا قوانينها الطبيعية، كان ذلك الواحد عالمًا في ميدان معلوم من ميادين التخصص، وتراه عندئذٍ ينتقل من المستوى الأول إلى المستوى الثاني — من حيث تخصيص القول أو تعميمه — فقد كان المتحدث العادي في الحالة الأولى، إنما يتحدث عن حالة معينة خاصة من حالات نزول المطر، أمَّا المتحدث على المستوى العلمي، فيقدم لك قوانين عامة تنطبق على كل حالات المطر، أينما حدثت وفي أي وقت حدثت، وقل ذلك عن شتى نواحي الطبيعة التي نشاهدها، أو نواحي الحياة الإنسانية التي نحياها.

ثم لا يقف الأمر عند هذا المستوى الثاني، بل قد نرى أنفسنا بإزاء قواعد عامة تضبط سلوكنا، أو بإزاء مجموعات من قوانين العلوم المختلفة، فهذه قوانين الضوء، وهذه قوانين الصوت، وهذه قوانين الكهرباء، وهلُمَّ جرًّا، فنسأل أنفسنا: تُرى هل هذه القواعد السلوكية العامة، وهذه المجموعات من القوانين العلمية، مستقل بعضها عن بعض، أو أننا إذا أمعنَّا النظر فيها، ألفيناها تلتقي كلها في مبادئ مشتركة بينها؟ بل ربما نجدها آخر الأمر ترتد كلها إلى مبدأ واحد عام وشامل، فنمضي في تحليلها، لنرى إذا كان ثمة ما يوحدها أو لم يكن، وعندئذٍ تكون هذه العملية الفكرية هي ما يُسَمَّى بالفلسفة. فالفلسفة — إذن — هي مستوًى من التعميم، يحاول أن يردَّ مفردات القيم السلوكية والمعارف والعلوم على اختلافها، إلى قمة واحدة، على نحو ما كان يفعله كل علم من العلوم على حدة، حين يقف عند المستوى الأول من مستويات التعميم، يحاول فيه أن يردَّ مفردات الظواهر الجزئية إلى قانون علمي واحد.

وهنا لا بد من ملاحظة هامة، وهي أنه سواء كان الأمر عند مستوى التعميمات العلمية، أم كان عند مستوى التعميم الفلسفي، فهذه التعميمات في كلتا الحالتين لا تهبط علينا من السماء، وإنما هي تُستخلَص استخلاصًا مما يحدث هنا على الأرض؛ فالعلم يستخلص قوانينه من الحوادث الواقعة هنا في حياتنا اليومية، والفلسفة تستخلص مبادئها من قوانين العمل؛ وإذن فلا العلماء ولا الفلاسفة يصمُّون آذانهم ويُغمِضون عيونهم عن جزئيات الواقع. ولو وجدنا قانونًا علميًّا لا تطبيق له على أرض الواقع، أو وجدنا مبدأً فلسفيًّا لا يمكن تعقب الصلة بينه وبين ما يحدث من حولنا وفي مجرى حياتنا، للفظناه لأنه عندئذٍ يكون كلامًا في كلام. إذن فلو قلنا: إنَّ الفلسفة هي استخلاص المبادئ المتضمنة في الفكر العلمي أو المتضمنة في الثقافة السائدة أو في حياتنا العملية، يصبح القول مفهومًا، ولو كان رجال العلم أو كان الناس في حياتهم اليومية على وعي دائم بالفروض المسبقة المدسوسة المتضمنة في أقوالهم، لما بقي للفلسفة وظيفة تؤدَّى. لا، بل كثيرًا ما يحدث أن ينتبه عالم الرياضة أو عالم الطبيعة لما ينطوي عليه علمه من فروض مسبقة خافية، فيقف برهة ليقوم هو نفسه بتحليل علمه تحليلًا يكشف عن الخبيء المنطوي. وعلى أية حال، فالذي يحدث في معظم الحالات هو أن العالم يبدأ علمه من نقطة معينة، تاركًا ما وراءها من فروض مضمرة، وكذلك الإنسان العادي في اعتقاداته وفي حياته العملية، لا يعنيه البحث عما وراء تلك الاعتقادات وما وراء هذه الحياة العملية من أسس ومبادئ، فتكون مهمة الفلسفة هي استخراج ما هو مُضمَر في أحكامنا وأفكارنا واعتقاداتنا، لننقلها من حالة الكمون إلى حالة العلن، وما أكثر ما يحدث أن تجدَ إنسانًا راضيًا كل الرضا عن أفكاره وتصرفاته، حتى إذا ما استخرجت ما تنطوي عليه تلك الأفكار والتصرفات من أسس خافية، فزع واستنكر؛ لأنه لم يكن قد حفر تحت أفكاره وتصرفاته ليرى تلك الأسس واضحة صريحة، وها هنا يتمهد الطريق أمامه إلى التحول عما هو فيه؛ لأنه — وقد رأى وراء أفكاره أسسًا لا يرضى عنها — يجد ألا مندوحةَ له عن تغييرها ليقيم سواها على أسس أخرى ترضيه.

أظن أن في هذا التحديد لمعنى الفلسفة ضوءًا كاشفًا، يبين لنا ماذا يكون الفرق — مثلًا — بين التاريخ وفلسفة التاريخ، وبين اللغة وفلسفة اللغة، بين السياسة وفلسفة السياسة، وغير ذلك من مقابلات بين الشيء وفلسفته. فالتاريخ يروي ما قد حدث، وأمَّا فلسفته فتحفر وراء هذا الذي حدث، لعلها تقع على المبدأ الذي على أساسه قد حدث، كأن يُقال مثلًا: إن الأساس الكامن وراء حوادث التاريخ هو عقل كوني يُسيِّر الأحداث ويوجهها نحو غاية يريدها، أو يُقال: إن ذلك الأساس هو ما يحدث بين طبقات المجتمع من صراع، وهكذا فهذه لا تكون تاريخًا، بل تكون فلسفة للتاريخ. وكذلك قل في اللغة وفلسفتها، فاللغة هي هذه الرموز التي نتبادلها كلامًا وكتابةً، وفق قواعد تضبط تركيباتها وتصريفاتها، أمَّا إذا حفرتُ وراء هذه التركيبات والتصريفات، لعلي أقع على جذور عنها انبثقت، كان ذلك هو فلسفة اللغة، كأن أقول — مثلًا — إن اللغة العربية تجعل الأولوية للأسماء على الأفعال والحروف، بدليل أنه لا بد لكل كلام مفيد من الاسم، على حين قد تستغني الجملة المفيدة عن الفعل والحرف، وقد أفسر هذا بأن العربي أشد اهتمامًا بالأشياء منه بالعلاقات الكائنة بين تلك الأشياء، فأنا إذ أقول هذا فلست أقول به قاعدة من قواعد اللغة، إنما أذكر مبدأ في فلسفة اللغة، والأمثلة كثيرة على الفرق بين الشيء وفلسفته، يستطيع من شاء أن ينسجها على هذا المنوال.

•••

تلك — إذن — هي الفلسفة: هي إخراج الأسس الكامنة في أفكارنا واعتقاداتنا وسلوكنا، وثقافتنا بصفة عامة، إخراجها من حالة الكمون إلى حالة الإفصاح والإيضاح والعلانية، لتسهل رؤيتها ومناقشتها، وهنا ينشأ هذا السؤال: إذا كان أمر الفلسفة كذلك، فكيف تجوز التفرقة بين فلسفة عربية وفلسفة غير عربية؟ أليست الفلسفة هي هذا البحث عن الأسس الكوامن في حياة الإنسان العقلية والسلوكية، بغض النظر عن قومية الباحث؟ وإلا فهل تختلف عملية الحفر إذا اختلفت الأيدي التي تمسك بالفأس الحافرة؟ أئذا حلل عالمان من علماء البيولوجيا — مثلًا — كائنًا من دنيا الحيوان أو النبات، جاز أن يكون التحليل عند أحدهما تحليلًا عربيًّا وعند الآخر تحليلًا غير عربي؟ فلماذا لا تكون العملية الفلسفية على هذا الغرار؟

والإجابة على ذلك هي أن الأمر كان ليكون كذلك، لو أن الموضوع المطروح للبحث أمام الفلاسفة موضوع لا يتأثر بوجهات النظر المختلفة، فلن يكون اختلاف بين فيلسوف عربي وفيلسوف إنجليزي إذا ما أراد كلاهما أن يستخرج من العمليات الفكرية أسس الاستدلال السليم، أو أراد كلاهما أن يستخرج من العدد أسس التفكير الرياضي، أمَّا إذا كان الموضوع المطروح للبحث والتحليل ذا صلة بالأصول الثقافية العامة عند هذه الأمة أو تلك، أعني الأصول التي تُبنى عليها وجهة النظر إلى موضوعات هامة، كموضوعات الإنسان والكون والله، فها هنا لا يكون بُدٌّ من أن تجيء النتائج مختلفة حتى إذا اتفق الفلاسفة جميعًا على طريقة واحدة في البحث والتحليل.

وقد تسألني في هذا الموضوع قائلًا: ألم تذكر لنا منذ حين أن الفلسفة هي صعود في سلم التعميم، من مستوى القوانين العلمية، إلى مستوًى أعلى، يجتمع عنده شمل هذه القوانين في مبدأ واحد، إذا كان ذلك مستطاعًا؟ وها أنت ذا تذكر للفلسفة موضوعات رئيسية هامة، لا شأن لها بمثل هذا الصعود، وهي التي تختلف حولها الفلسفات من أمة إلى أمة، وأعني موضوعات الإنسان وقيمته، والكون وبنيته، والله وحقيقته، فما للقوانين العلمية وهذه الموضوعات وأمثالها؟

وأُجيبك بأنك قد تعجب إذا علمت بأنك لا تكاد تعلو برأسك فوق تعميمات العلم وقوانينه، حتى تصطدم بهذه المشكلات؛ إذ ما هو إلا أن تجد نفسك أمام أسئلة تسأل: هل تسير الطبيعة — والطبيعة هي موضوع العلوم على اختلافها — هل تسير على خطة مرسومة لا تحيد عنها ذات يسار أو يمين؟ أو أنها تسير على المصادفات؟ بعبارة أخرى، هل تكون قوانين العلوم يقينية، أو تكون على درجات من الاحتمال تعلو وتهبط؟ هل تطَّرِد هذه القوانين لتشمل الكون كله — بما في ذلك الإنسان — أو أنها تتناول جانبًا وتعجِز عن جانب؟ هل نعد الإنسان ظاهرة طبيعية نخضعه للعلم كأية ظاهرة أخرى، أو أنه كائن فريد يتطلب طريقة في البحث خاصة به؟ هل تمتد حلقات السلسلة السببية، من مسبب إلى سببه، فإلى سببه الأعلى، وهلم جرًّا إلى غير نهاية، أم أنها قمينة أن تقف عند حلقة أولى نفترض فيها أنها هي السبب الأول لكل ما يتلوه من أحداث، دون أن يكون هو نفسه مسبوقًا بما يسببه؟ وهكذا وهكذا، كلها أسئلة تتفرع مباشرة — أو بطرق غير مباشرة — عن تعميمات العلم وقوانينه، فإذا نسقتها وصنَّفتها وجدتها كلها أسئلة تدور حول الله والكون والإنسان، وهي موضوعات مما تتباين فيه الثقافات. وأيًّا ما كانت الحال، فهذا هو الأمر الواقع، عرضت للناس من مختلف الشعوب والثقافات، مشكلات بعينها، نشأت حين أرادوا أن يردوا الأشياء والأفكار والمعتقدات إلى أصولها الأولى، ليعلموا من أي المصادر انبثقت، وبأي الطرق سلكت سبيلها إلينا؟ فكان لكل مجموعة من الناس وجهة للنظر، وقع على الفلاسفة مهمة استخراجها، فنشأت بذلك فلسفات تتلون بألوان القوميات المتباينة، فهذه إنجليزية، وتلك فرنسية، وهلمَّ جرًّا، فإذا كان من المقطوع به أن قد كانت للأمة العربية وقفة متميزة بإزاء الإنسان والكون والله، أفلا يكون من حقنا أن نطالب لأنفسنا بفلسفة عربية، تفصح لأنفسنا، وللعالم عن دقائق هذه النظرة ومميزاتها؟

لقد كانت لأسلافنا وجهة نظر فلسفية تميزوا بها، وأمَّا نحن — في هذا العصر — فيبدو أن النقل عن التيارات الفلسفية في أوروبا وأمريكا، قد شغلنا، حتى لم يعد أمامنا فراغ نفكر فيه لأنفسنا، وبطريقتنا الخاصة، وها أنا ذا أطرحه اليوم سؤالًا: هل من سبيل إلى إنتاج فلسفي عربي أصيل؟ إني لألحظ أن فلاسفة الهند المعاصرة — وعلى رأسهم راذاكرشنان — على شدة اتصالهم بثقافات الغرب، لبثت لهم فلسفتهم الهندية التي لا يُخطئها النظر بين سائر الفلسفات، فما تزال وجهة نظرهم إلى موقف الإنسان من الكون مطبوعة بطابعهم، وهو الطابع الذي يجعل الفرد جزءًا من الكل الذي يحتويه، بحيث لا تكون له فرديته الخاصة خارج حدود حياته الدنيا. وأمَّا نحن، فقد تجد مِنَّا نصيرًا لهذه الفلسفة أو نصيرًا لتلك، مما تعج به أوروبا وأمريكا، وبرغم اجتهادنا المذكور في حسن الهضم، وجدة العرض، فما نزال بعيدين عن أن يكون بين أيدينا ما نقدمه إلى أنفسنا وإلى العالم على أنه فلسفة عربية خالصة، تعبر عما يدور في أخلادنا حيال ما يعرض للعالم اليوم من مشكلات.

فقد تستطيع أن تقسم عالم الفلسفة في أوروبا وأمريكا اليوم ثلاثة قطاعات كبيرة، يتجانس كل منها في فلسفته السائدة بصفة عامة، فهنالك القطاع الأنجلوسكسوني الذي يشمل الشمال الغربي من أوروبا كما يشمل الولايات المتحدة الأمريكية، وهؤلاء تشغلهم فلسفة المعرفة العلمية، التي يحاولون بها — على اختلافات شديدة بينهم في ذلك — أن يحللوا تلك المعرفة تحليلًا يدلهم على مصدرها الأول ماذا يكون؟ وهنالك القطاع الذي يشمل غربي أوروبا: فرنسا وألمانيا بصفة خاصة، وهؤلاء تشغلهم فلسفة الوجود الإنساني، لا فلسفة المعرفة العلمية، ثم هنالك القطاع الشرقي من أوروبا، تشغله مشكلة المجتمع وكيف يقيم بناءه من جديد.

فجئنا نحن، أعني المشتغلين بالفلسفة من أبناء الأمة العربية، وأخذ كل مِنَّا بما يتفق واستعداده من تلك التيارات الأوروبية والأمريكية، فإذا استعرضت إنتاجنا الفلسفي — على غزارته — رأيتك أمام أصداء تردد — بصفة عامة — أصوات القطاعات الثلاثة التي ذكرتها، أو قد ترى مِنَّا من قد ترك العصر وما فيه، وارتد إلى ركن من التاريخ يلوذ به في دراساته، فواحد يدرس الفلسفة الإسلامية في عصورها السابقة، وآخر يدرس الفلسفة اليونانية القديمة، وهلمَّ جرًّا. وليس في ذلك كله عيب يُعاب — بل إنه لواجب دراسي محتوم — لولا أننا كُنَّا نودُّ أن يكون إلى جانب أولئك وهؤلاء، من يُعنى بالأمة العربية في عصرها الراهن، ويضرب بأدواته التحليلية إلى جذورها الفكرية، ليصوغ فلسفة معبرة عن وقفتها إزاء العصر ومشكلاته وما يعانيه، فأي غرابة في أن أُطرحه اليوم سؤالًا جادًّا: هل ثمة من طريق أمامنا يُخرِجنا من الطرق المسدودة التي نذهب فيها ونجيء لنسير على طريق فلسفي معاصر، يتميز بالطابع العربي المتميز الأصيل، نختلف فيما بيننا على أرضه، ولكن في حدود أُطُرِه ومبادئه؟

•••

قلنا: إنَّ الفاعلية الفلسفية هي في صميمها حفر تحت أرض الواقع الفكري، لعلنا نصل إلى الجذور الدفينة، التي عنها انبثق ذلك الواقع، وليست الفاعلية الفلسفية هي أن يقبع الفيلسوف في عُقر داره، يعتصر الأفكار في ذهنه اعتصارًا مبتور الصلة بما هو كائن. وإذا كان ذلك كذلك، فهل من شك في أن لنا اتجاهات ثقافية تميزنا بها وما زلنا نتميز؟ وهي اتجاهات لم تتحجر عبر الزمان لتثبت على صورة واحدة، وإلا فلو كان أمرها كذلك، لكان فيما صنعه أسلافنا ما يكفينا أبد الدهر، لكن لا، فاتجاهاتنا الفكرية — مع احتفاظها بأسس ثابتة وأصول — تربط ماضينا بحاضرنا، وتجعل مِنَّا أمة عربية واحدة ممتدة على التاريخ، إلا أنها بالإضافة إلى هذه الأسس والأصول، تُنمِّي فروعًا تُسايِر بها تغيرات العصر، فماذا يصنع صاحب الفكر الفلسفي، إلا أن يفرغ لتحليل هذه الحياة الثقافية العربية المعاصرة ليرتد بها إلى منابتها فتكون هذه المنابت هي ما قد يُسَمَّى بالفلسفة العربية المعاصرة، على غرار ما صنع أسلافنا بالنسبة إلى ثقافتهم وإلى مشكلاتهم الفكرية في عصرهم؟ فلقد كانت مشكلاتهم الرئيسية هي أن يوازنوا بين ما نزل به الوحي من حقائق، وبين ما كان العقل الإنساني قد أنتجه قبل ذاك، ليروا أين يلتقي هذان المصدران، وأين يفترقان. وكانت النتيجة الأساسية التي انتهوا إليها من تحليلاتهم، هي أن المصدرين كليهما تنبثق منهما حقيقة واحدة بعينها، وإذن فلا تناقض ولا تعارض بين ما تقتضيه العقيدة الدينية، وما يقتضيه العقل بمنطقه.

وأمَّا نحن في عصرنا، فقد نشأت لنا صراعات فكرية جديدة، تولدت عن ظروف العصر ومناخه، فكان لا بد لنا من وقفة إزاءها. وأهم تلك الصراعات الفكرية التي عانيناها منذ أول القرن الماضي، وما نزال نعانيها في حدة، هي طريقة اللقاء التي توائم فيها بين علوم حديثه، شاءت تطورات التاريخ أن تظهر في أوروبا وأمريكا، وكان لزامًا علينا أن نتقبلها كما هي، أو على الأقل أن نتقبل منها ما نحن قادرون على متابعته، بما لدينا من إمكانات تعليمية وعلمية ومعملية. أقول إن أهم الصراعات الفكرية التي نعانيها، منذ اتصلت الأواصر بيننا وبين الغرب الحديث، هي طريقة اللقاء التي نوائم فيها بين تلك العلوم الحديثة من جهة، وبين تراثنا الفكري من جهة أخرى.

والمتتبع لحياتنا الفكرية خلال المائة والخمسين عامًا الأخيرة، يستطيع أن يرى في وضوح كيف تشققت صفوفنا إزاء هذا اللقاء الفكري، فانشعبنا ثلاث فرق، ما زالت بادية إلى يومنا هذا، ففريق مِنَّا آثر أن يعتصم بالتراث الماضي وحده، وأن يغلق نوافذه دون العلم الحديث الوارد إلينا، حتى لقد كانت لفظة «العلماء» — إلى عهد قريب جِدًّا — لا تُطلَق إلا على من ألمَّ بالتراث الفكري وحده. وفريق آخر ذهب إلى النقيض الآخر، وارتمى في أحضان العلم الوارد، مُغلِقًا نوافذه دون تراثه حتى كان الواحد من هؤلاء لا يكاد يُحسن قراءة العربية نفسها. وفي ظني أن كلا الفريقين قد اختار لنفسه أسهل السبل؛ إذ ما أيسر على الفريق الأول أن يعبر عصور التاريخ، قافلًا إلى وراء، ليجعل من نفسه نسخة مكررة مما كان، وكذلك ما أيسر على الفريق الثاني، أن يعبر البحر الأبيض المتوسط، لينهل من موارد العلم في أوروبا، بحيث يجعل من نفسه نسخة مكررة مما هو كائن هناك، وكلا هذين الفريقين لا يصنع لنا ثقافة عربية معاصرة، لأنه إذا كان الفريق الأول عربيًّا فليس هو بالمعاصر. وإذا كان الفريق الثاني مُعاصِرًا، فليس هو بالعربي، وإنما العسر كل العسر هو ما تصدَّى له فريق ثالث، ما زال يتحسس خُطاه على الطريق؛ بغية أن يصوغ ثقافة فيها علم الغرب، وفيها قيم التراث العربي جنبًا إلى جنب، لا، بل متضافرَيْن في وحدة عضوية واحدة. ولو استطاع ذلك لوُفِّق في إنتاج ما نحن بحاجة إليه. وإذا وضعنا المشكلة في عبارة مُبسَّطة قُلنا إنه إذا كان موضع الإشكال الفلسفي عند أسلافنا هو طريقة اللقاء بين أحكام الشريعة ومنطق العقل، فقد أصبح موضع الإشكال عندنا اليوم هو طريقة اللقاء بين العلم والإنسان.

لقد فشل الغرب نفسه — وهو صانع العلم الحديث — في أن يقيم لنفسه مثل هذا اللقاء بين الطرفين، فكان له العلم، ولكنه فقد الإنسان. وليس هذا الاتهام من عندنا، بل يكفي أن نتتبع الأدب في أوروبا وأمريكا اليوم — والأدب هو المرآة المصورة للإنسان وما يعتمل في نفسه — لنرى ما يحسه الناس هناك في دخائل صدورهم من ملل وسأم وضيق وحيرة وضياع. إن الإنسان هناك يساير عصره العلمي في مقتضياته، لكنه لا يجد الفراغ ليخلو إلى نفسه ويصغي إليها، كأنما كل فرد هناك هو فاوست، أغراه الشيطان بأن يبيع نفسه من أجل علم يحصله أو مال يكسبه، أو قوة يستبد بها ويطغى. ولسنا نقول ذلك وفي أذهاننا أقل ذرة من رغبة في التهوين من شأن العلم والمال والقوة، بل نقوله لنؤكد ضرورة أن يُضاف إليها شيء آخر، هو القيم الخلقية والجمالية التي تجعل من الإنسان إنسانًا بالعُمق، بعد أن جعل منه العلم والمال والقوة إنسانًا بالطول والعرض.

وإني لأعتقد أن مثل هذا الصراع بين الطرفين — بين مقتضيات العلم ومقومات الإنسان — والرغبة في إيجاد الحلقة التي توفق بينهما فتزيل الصراع، هو ما تختلج به نفوسنا، نحن أبناءَ الأمة العربية اليوم، وننتظر صاحب الفكر الفلسفي الأصيل النافذ؛ ليغوص إلى أعماقنا الثقافية، فيستخرج لنا الصيغة المنشودة التي نقرؤها فنجد أنفسنا منعكسة فيها. وذلك هو ما حاوله الإمام محمد عبده، وما حاوله من بعده كل أعلام الفكر في بلادنا، كلٌّ بطريقته الخاصة، فحين حاول محمد عبده وضع تراثنا الديني في ضوء العصر الراهن، فإنما أراد أن يلتمس طريقة إلى هذا التوفيق الذي نبتغيه، وحينما حاول العقاد أن يُدافع عن الإسلام بدحض ما يقوله عنه خصومه مستخدمًا في ذلك ثقافته الأوروبية وثقافته العربية ممتزجتين في مركب واحد، فإنما أراد أن يجمع بين الثقافتين على صعيد مشترك، وحين أراد طه حسين أن ينقد أدب العرب الأقدمين على ضوء من الفكر الحديث، فقد أراد بدوره أن يصنع الصنيع نفسه، وعندما كتب الحكيم عددًا كبيرًا من مسرحياته وحاول فيها أن يُعانق بين الروح والمادة، وبين الأزلي والحادث، فقد أراد أن يصل بذلك إلى الغاية نفسها. وهكذا تستطيع أن تتعقب أعلام الفكر في تاريخنا الحديث والمعاصر، فتجد كل واحد منهم قد أراد بطريقته الخاصة أن يضفر ثقافة الغرب الحديث وثقافة التراث العربي في جديلة واحدة. وإني لألاحظ في هذا الصدد أن ثمة كثيرين من رجال الفكر عندنا قد بذلوا جهودًا مشكورةً في المجال الثقافي، لكنهم لم يبذلوها في سبيل هذا الجمع بين الثقافتين، فذهب بهم النسيان — أو سوف يذهب — بأسرع مما كانوا يظنُّون.

•••

لكن هذه الأمثلة التي ذكرتها، هي أقرب إلى عالم الأدب والأدباء، منها إلى عالم الفلسفة بمعناها الاحترافي الذي كنت أعنيه في أول الموضوع، فهل في وسع الفلسفة أن تُسهم في ذلك بنصيب؟ وعلى أية صورة يمكن أن يكون إسهامها؟ الحق أننا — نحن المشتغلين بالفلسفة في الجامعات العربية — قد انصرفنا في معظم الحالات إلى الدراسات الأكاديمية التي نعرض بها موضوعات ومذاهب، عرضًا هو أقرب إلى التاريخ، منه إلى التكوين الجديد المبتكر لقضايانا الفكرية، تكوينًا يجيء — كما قلت — كاشفًا عما هو مُضمَر في نفوسنا من مبادئ ومُثُل؛ ومِنْ ثَمَّ كانت لنا في الفلسفة مؤلفات عربية، لكن لم يكن لنا فلسفة عربية، نجري على فلكها، وندور حول مدارها. وإني لأتقدم فيما يلي بمحاولة — هي غاية في التواضع — أحاول أن أرسم بها تخطيطًا أوليًّا مُختَصَرًا، لما قد يصح أن يكون أساسًا لفلسفة عربية نقيمها، تعبيرًا عن وجهة نظرنا، المنبثقة عن جذور ثقافية غائرة في أعماق نفوسنا.

فأحسب أن لو تعمقنا ضمائرنا لوجدنا هناك مبدأً راسخًا، عنه انبعثت — وما تزال تنبعث — سائر أحكامنا في مختلف الميادين، هو مبدأ، لو عرضته على الناس في لغة واضحة صريحة، لما وجدت منهم أحدًا يحتج أو يُعارِض، وأعني به مبدأ الثنائية التي تشطر الوجود شطرين، لا يكونان من رتبة واحدة ولا وجه للمساواة بينهما، هما الخالق والمخلوق، الروح والمادة، العقل والجسم، المُطلَق والمتغير، الأزلي والحادث أو قُل هما السماء والأرض، إن جاز هذا التعبير. ولكي نضع هذه النظرة الثنائية وضعها المفهوم، نقول إن الفلاسفة — على مر العصور، وفي مختلف الثقافات — حين أرادوا أن يضموا أشتات المعارف والقيم في مبدأ واحد يجمع شملها، كانوا في ذلك على أربعة أوجه رئيسية؛ فمنهم من جعل الوجود كله كائنًا واحدًا متجانسًا جميعه في أنه روح صرف، فإذا وجدنا فيه كائنات نظن أنها مادية، وجب أن نترجم حقيقتها إلى لغة تجعلها روحية في جوهرها. ومنهم من جعل الوجود كله كائنًا واحدًا متجانسًا جميعه كذلك، ولكنه متجانس في أنه مادة صرف، فإذا وجدنا فيه كائنات نظن أنها روحية، وجب أن نترجم حقيقتها إلى لغة تجعلها مادية في جوهرها. ومنهم من شطر الوجود شطرين، كل منهما متجانس لكنه مستقل عن الآخر، وذلك بأن شطره إلى روح ومادة معًا، لكن هؤلاء الثنائيين قد يجعلون هذين الشطرين على مستوًى واحد من الأصالة والأولوية، فلا الروح خلقت المادة ولا المادة سبقت الروح، بل هما أزليان معًا، يتلاقيان في الكائنات كما نراها. ومن الفلاسفة فريق رابع يرد الوجوه إلى كثرة من عناصر، لا داعي لتجميعها تحت مبدأ واحد أو مبدأين. وأمَّا نحن، فأحسب أننا أميل بفكرنا إلى الثنائية — كما ذكرت — غير أنها ثنائية لا تسوي بين الشطرين، بل تجعل للشطر الروحاني الأولوية على الشطر المادي، فهو الذي أوجده، وهو الذي يُسيِّره، وهو الذي يحدد له الأهداف.

وقد يُقال هنا: ألم تكن الفلسفة الأفلاطونية — وما جرى مجراها — ضربًا من الثنائية التي تجعل الأولوية للمطلق المجرد على الأفراد والجزئيات؟ فنقول: نعم، ولكن أفلاطون قد بلغ في ذلك حَدًّا ألغى معه وجود الأفراد الجزئية وجودًا حقيقيًّا بما في ذلك أفراد الإنسان أنفسهم، فليس للفرد الإنساني الواحد من حقيقة عنده إلا بمقدار ما يُشارك في الإنسانية بمعناها المجرد. ولا أظن أن مثل هذا الإلغاء لحقائق الأفراد متفق مع عقيدتنا التي تلقي على أفراد الناس تبعات خلقية عما يعملون أفرادًا، لا أنواعًا وأجناسًا وجماعات، فهذا معناه اعترافنا الصريح بالوجود الحقيقي لهؤلاء الأفراد في حياتهم الدنيا، وفي حياتهم الآخرة على حد سواء. وإذن فالنظرة الثنائية التي تناسبنا هي نظرة متميزة فريدة، تجعل الكائن الإلهي الواحد المُطلَق في جهة، وتجعل الأفراد الجزئية في جهة أخرى، ثم نقسم عالم الأفراد هذا، إلى كثرة من عناصر بالنسبة إلى أفراد الناس — على الأقل — لأنها نظرة تأبى أن ينطمس الفرد الإنساني الحر المسئول في عجينة واحدة مع سائر مفردات العالم الطبيعي، فكأنما هي نظرة تجمع بين الثنائية والكثرة، الثنائية بالنسبة إلى الله الخالق والكون المخلوق، والكثرة بالنسبة إلى أفراد الناس الداخلين في حدود هذا الكون المخلوق، لتضمن نوعين من التفرقة والتمييز، إحداهما تفرقة تمييز الخالق من مخلوقاته بشرًا كانت تلك المخلوقات أم غير بشر، ثم تفرقة أخرى تميز — في عالم المخلوقات — بين البشر وسائر الكائنات، وذلك لتجعل للإنسان — دون سائر الكائنات — ضربًا من الإرادة الحرة المسئولة، التي لا تخضع للقوانين الطبيعية كل الخضوع، لكنها في مقابل هذه الحرية، كان عليها أن تحمل عبء الأمانة — أمانة الحرية — في شجاعة وإقدام، فهي أمانة عُرِضَت على الجبال، فأَبَيْنَ أن يَحمِلْنَها، وحمَلها الإنسان.

ومن هنا ترانا لا نطمئن بالًا حين يُقال عن الإنسان إنه ظاهرة تخضع كلها للتقنين العلمي، ونحرص على أن نبقي منه جانبًا يستعصي على ذلك التقنين؛ لأنه جانب مريد خلاق، مسئول عن خلقه وإرادته، يبتكر الفعل ابتكارًا، قد يغير به تسلسل الأسباب والمسببات كما يتصوره العلم الطبيعي.

ومن هنا كذلك كان من غير المقبول عندنا، أن يُقال إن الأخلاق مدارها — في نهاية الأمر — منفعة تعود على الناس؛ لأننا نرى أن الفضيلة هي جزاء نفسها، أرادها لنا الله، وعقلناها، فالفعل عندنا يُعَدُّ فاضلًا في ذاته بغض النظر عن نتائجه، أهي ضارة بصاحب الفعل أم نافعة له؟ وبعبارة أخرى، فإننا نقيم الأخلاق على أساس الواجب، لا على أساس الفائدة، وهذا لا ينفي أن الواجب قد يُجيء مصحوبًا كذلك بنتائج نافعة، فوق كونها واجبًا، لكنه واجب يؤدى قبل أن نفكر فيما يترتب عليه من ضر ونفع.

تلك هي الوقفة الخلقية التي نقفها — نتيجة مباشرة للصورة الكونية التي تصورناها: إله خالق وعالم مخلوق، وفي هذا العالم إنسان متميز دون سائر المخلوقات بالإرادة الحرة المسئولة، التي تتصرف في إطار التشريع الذي أوحي به من الله، لكنه مع ذلك تصرفٌ فيه حرية الاختيار، التي من شأنها أن تجعل تبعة الفعل واقعة على فاعله، فإذا لم يكن للإنسان اختيار في الواجب المفروض بحكم الشريعة، فهو كامل الحرية في اختياره داخل هذا الإطار. وذلك شبيه بموقف الكاتب، يجد أمامه لغة حاضرة جاهزة، لم يكن له دخل في وضع مفرداتها وقواعد تركيبها، لكنه بعد ذلك حُر فيما يأخذه منها وهو يكتب، فتكون عليه التبعة فيما يكتبه، خيرًا بخير وشرًّا بشر.

وكما أن الصورة الكونية التي تصورناها، قد نتج عنها نظام خلقي نسير بمقتضاه، فكذلك ينتج عنها موقف خاص بنا فيما يتعلق بمعايير الجمال في الفنون والآداب، فجمال الفن عند غيرنا هو في تشكيل اللون أو تشكيل الصوت أو تشكيل الحجر تشكيلات تمتع الحواس أوَّلًا وقبل أي شيء آخر، بصرًا كانت الحاسة النشوانة (وذلك في حالة التصوير والنحت) أم سمعًا (في حالة الموسيقى)، وأمَّا الفن عندنا فهو في هندسة تشكيلاته، هندسةً يطربُ لها الذهن من وراء الحاسة المدركة. انظر إلى الفن العربي في زخارفه ورسومه، تجد أساسه البناء الهندسي، بناء تتماثل فيه المربعات والدوائر والمثلثات وغيرها من أشكال الهندسة، بحيث يراعى في ذلك البناء أنه إذا ما امتدت عين الرائي إلى أحد أطرافه، أحس الرائي أنه يستطيع أن يمد — بذهنه وخياله — تلك التشكيلات الهندسية إلى غير نهاية. وفي هذه الانطلاقة الذهنية، من الجزئي الذي أمامنا، إلى المطلق الذي ندركه بأذهاننا وإن لم ندركه بحواسنا، في هذه الانطلاقة من المحسوس إلى المعقول، من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، من الطبيعة إلى ما وراءها، يكمن جوهر الروح العربية فيما أرى.

وهل نعدو الصواب كثيرًا، إذا قلنا إن الأدب العربي، في شتى صوره وأشكاله، كان مداره الحكمة العامة الموجزة المركزة في حيز ضئيل من اللفظ؟ الحكمة العامة التي لا يتقيد صوابها بمكان معلوم وزمان محدود؛ لأنها تصدق على كل مكان وزمان. لقد تفرد الأدب العربي بهذا الإطلاق للقول إطلاقًا يرتكز على اللمح الوامض كأنه لمعات البرق، على حين أن غيره من الآداب قد عُنيَ أول ما عُنيَ بالخبرة الذاتية التي تختلج بها نفس واحدة مفردة، هي نفس الأديب المعين، في لحظة معينة وفي موقف بذاته؛ ولذلك وجدت تلك الآداب أن القصة والمسرحية هما خير وسيلتين للتعبير؛ لأنهما تقيدان الخبرات الإنسانية في أشخاص بذواتهم، وفي حوار يدور حول أشياء ومواقف فريدة لا تتكرر. نعم، إن هذه الآداب الأخرى تبتغي الوصول إلى ما هو عام عن طريق ما هو فردي خاص، وأمَّا الأدب العربي الأصيل فقد كان يستهدف العام بخطوة واحدة مباشرة، وحتى الشعر، الذي يفرض فيه أن يكون إعرابًا عن ذات الشاعر — والشاعر بالطبع فرد واحد فريد — أقول إنه حتى الشعر عند العرب، كان مرماه البعيد أن يرسم النماذج المُطلقة المثلى، ولم يكن أن يصور هذه الحالة الواحدة المعينة أو تلك، من الحالات الجزئية التي يزخر بها تيار الحياة الواقعة، فإذا وصف الشاعر العربي جوادًا أو ناقةً أو ما شاء أن يصف، وصفه كما ينبغي له أن يكون لا كما هو كائن بالفعل، بكل ما فيه من شائبة ونقص، وهذا يؤيد ما أزعمه هنا، من أن الروح العربية الأصيلة، وإن غاصت في تفصيلات العالم الأرضي بمواقفه وحادثاته، فهي مُشْرَئِبَّة دائمًا إلى الثابت الدائم الذي لا يتغير مع الأيام ولا يزول.

إن نظرتنا إلى الكون في صميمها، تفرِّق تفرقةً واضحةً بين عالمين: عالم الكائنات المتناهية — أعني الكائنات المقيدة في وجودها بمكان وزمان معيَّنَيْن — وعالم اللامتناهي، الذي يتعالى عن أية صفة تحدد له مكانًا أو زمانًا. هذه التفرقة الحادة الواضحة بين العالمين، لا تجدها في أية ثقافة أخرى بمثل الوضوح الناصع التي تجدها به عندنا. إن الأرض — عندنا — أرض، والسماء سماء، ولا اختلاط بينهما ولا خلط، وكل ما بنيهما من صلة هو أن السماء تهدي والأرض تهتدي. وأمَّا الثقافات الأخرى، من الشرق الأقصى إلى أوروبا قديمها وحديثها، فتسيغ ضروبًا أخرى من العلاقات بين الجانبين، كأن ترى اليونان الأقدمين — مثلًا — يسيغون أن تنزل الآلهة إلى الأرض لتلهو مع البشر حينًا ثم تعود إلى عليائها من جديد.

نعم لقد كان لنا في تاريخنا الفكري متصوفة، أقلقهم هذا الفصل الحاد بين الله والإنسان، فطفقوا يلتمسون وصلًا بينهما على مذاهب مختلفة، ففريق يحل الله في الكون وفي الذات الإنسانية بحيث يجوز للإنسان عندئذٍ أن يقول «أنا الحق»، وفريق يصعد بالذات الإنسانية لتشهد الحق أو لتتحد به. فهذه كلها محاولات أراد بها أصحابها إلغاء المسافة الفارقة بين المتناهي واللامتناهي، لتصبح الحقيقة واحدة. لكن أمثال هذه الوقفات الصوفية — على رفعة قدرها وسمو شأنها — لا تعبر، فيما أعتقد، عن النظرة العربية في عمومها وصميمها.

ومن النظرة الثنائية إلى الكون، بالصورة التي قدمناها، نستطيع أن نستخلص لنا نظرية خاصة في تحليل المعرفة الإنسانية، فهذا التحليل للمعرفة — كما يكاد يجمع على ذلك مؤرخو الفلسفة جميعًا — هو أهم ما تصدَّت له البحوث الفلسفية في الثلاثة القرون الأخيرة في أوروبا وأمريكا، وهي القرون التي تكون مرحلة التاريخ الحديث. ذلك أنك إذا تصورت العالم والإنسان طرفين، فلا بد أن تسأل نفسك: تُرى كيف يُتاح للإنسان أن يعرف العالم الذي حوله، معرفةً يركن إلى صوابها؟ وهنا ترى الفلاسفة على اختلاف شديد في التحليل، وهو اختلاف كثيرًا ما يكون له أبلغ الأثر في الحياة العلمية نفسها؛ فهنالك المثاليون الذين يظنون أن المعرفة الجديرة بهذه التسمية، هي ما يبلغ حد اليقين. ولما كان اليقين لا يتوافر إلا للرياضة أو ما في حكمها من معرفة استنباطية، وجب أن تُعالَج الظواهر الطبيعية على أسس الرياضة ومناهجها. وهنالك التجريبيون الذين يذهبون إلى أن المعرفة العلمية مُحال أن تنبثق من الذهن وحده، وبالمنهج الرياضي وحده، بل لابد من تجربة نمارسها، وبالملاحظة أحيانًا، وبإجراء التجارب المعملية أحيانًا، حتى نخلص إلى قوانين الطبيعة في شتى ظواهرها.

وإني لأتساءل — على أساس نظرتنا الثنائية المقترحة — لماذا لا يكون للمعرفة نطاقان، لكل منهما وسيلة خاصة به؟ فإذا كان الأمر أمر الحقيقة المطلقة، جاءتنا المعرفة عن طريق، وإذا كان الأمر أمر الطبيعة وكائناتها، جاءت المعرفة عن طريق آخر، ولا يجوز لأي من النطاقين أن يُزاحِم الآخر في وسائله. ولكم نشبت معارك بين أناس أرادوا تطبيق وسيلة العالم الأول على العالم الثاني، أو وسيلة العالم الثاني على العالم الأول، فكانوا يعانون من هذا الخلط شر ما يعاني من تشتت وبلبلة ولبس وغموض.

وإن الطريق لتستقيم أمامنا؛ إذ نحن جعلنا للعلوم الطبيعية منهجًا، ولما يتصل بالحقيقة المطلقة منهجًا آخر. أمَّا منهج العلوم فقائم على مشاهدة الحواس وعلى إجراء التجارب وعلى سلامة التطبيق، فلا يعنينا من الدنيا إلا ظواهرها، بحيث لا يجوز لأنظارنا عندئذٍ أن تنفذ إلى ما وراء تلك الظواهر؛ لأنها بالنسبة للعلوم ليس لها وراء، فهي الظواهر وحدها — أعني ما يظهر للحواس الراصدة — هي الظواهر وحدها التي نتعقبها رصدًا ووصفًا وتحليلًا وتصنيفًا، لنستخلص منها ما عساه أن يكون هنالك من قوانين مطَّرِدة، تنتظم حدوثها ومجراها. وأمَّا منهج ما وراء الوقائع الصماء من حقائق، كالقيم الخلقية مثلًا، فذلك شيء آخر، قد لا نلجأ فيه إلى شهادة الحواس، وإلى التجارب العابرة، بقدر ما نلجأ فيه إلى إدراك البصيرة، أو إلى إملاء الوحي، أو إلى ما يسري بين الناس من عُرف وتقليد.

ها نحن أولاء، قد عرضنا مبدأ للثنائية نزعم أنه ضارب بجذوره إلى أعماقنا الثقافية، وقد فرعنا عنه نتائج هامة؛ إذ فرعنا عنه نظرة إلى الإنسان تجعله فردًا حُرًّا مسئولًا عما يفعل، لا يمحوه، ولا يطمسه، ولا يحد من فرديته كلٌّ يحيط به ليحتويه ويغمره، وفرعنا كذلك نظرة في الأخلاق، تجعل أساسها أداء الواجب، كما يفرضه الوحي أو يمليه الضمير، بغض النظر عن الفائدة العائدة من أدائه، ثم فرعنا نظرة في فلسفة الفن والأدب، تجعل الجمال الفني مرهونًا بفاعلية ذهنية تبلغ بنا عالم المطلق والمجرد، وليس هو مقصورًا على النشوة الناتجة عن الانطباع المباشر على الحواس، وفرعنا نظرة في المعرفة وتحليلها، تفرق بين معيارين، فمعيار منهما يُقاس به ضربٌ من المعرفة، ومعيار آخر يُقاس به ضربٌ آخر.

إنَّ هذه الوقفة الفلسفية المقترحة، والتي أراها محققة لما يدور في أخلادنا من مبادئ، وإن لم نفصح عنه، ربما سدت فجوات كثيرة، مما يعيب المذاهب الفلسفية السائدة في غير بلادنا، فهي — أولًا — تضمن لنا الجمع بين العلم وكرامة الإنسان، بعد أن رأينا الجمع بينهما متعذَّرًا في أوروبا وأمريكا، فالعلم هناك قد أدى إلى صناعة، والصناعة تطورت حتى أسلمت أمرها إلى تقنيات دقيقة مُعقَّدة، وهذه بدورها قد جزَّأت الإنسان إلى شرائح رقيقة من التخصص، بحيث كادت حياة الفرد الواحد تنحصر في عملية واحدة يؤديها طيلة نهاره حتى يُنهكه التعب ويأخذ منه الملل، فيغفو عن الطبيعة الحية من حوله، بل قد يسهو عن شئون أسرته نفسها؛ وبذلك تمزقت وحدته واشتدت غربته، فأصبح في دنياه شبحًا عابرًا، كأنه جاء إليه ضيفًا ثقيلًا، لا يرغب في بقائه إلا ريثما يكدح هذا الكدح الممل الرتيب.

إننا جميعًا لنسمع بما قد أصاب الشباب هناك من ذهول يشبه الهذيان لما يرونه ممتدًّا أمامهم من حياة جدباء، مهما أثرَت جيوبهم بالمال وامتلأت بطونهم بالطعام والشراب، فتعمَّدوا الانسحاب، بالعقاقير المخدرة آنًا، وبالانغماس في غيبوبة اليوجا آنًا آخر، أو هم قد يتعمدون الشذوذ، باصطناع العنف حينًا، وبغرابة السلوك حينًا آخر، وذلك كله يأسًا منهم أن يوائموا بين أنفسهم وبين حياة ضَيَّقَ العلم والصناعة خناقها، فلئن زادهم العلم وزادتهم الصناعة ثراءً وقوةً، فقد أفقداهم العيش في سلام ومصالحة مع صوت الضمير.

وإني لأزعم هنا، بأن الأخذ بثنائية النظر على النحو الذي قدمناه، قد يفتح أمامنا آفاقًا مغلقة، فهي ثنائية تضع الإنسان على قدميه فوق الأرض، وترفع رأسه إلى السماء، أي أنها تتيح له أن يعيش لهما معًا، فعلى الأرض يسعى علمًا وعملًا، بكل ما يتطلبه العلم من دقة، وما يتطلبه العمل من صبر ودأب، وفي السماء يهتدي بالمُثُل التي ترسم أمامه لتكون له على الطريق أهدافًا وغايات. العلم والقيم كلاهما — في أوروبا وأمريكا — ينبت من الأرض، كلاهما ينشد القوة والمنفعة، وأمَّا الثنائية المقترحة فتجعل العلم نباتًا ينبثق من الأرض وظواهرها، وتجعل القيم غيثًا ينزل من السماء ووحيها، العلم نسبي يتغير مع التقدم، والقيم مطلقة تشخص إليها الأبصار، فهي ثابتة حيث الأسس وإن تغيرت من حيث التطبيق بتغير الظروف.

وأحسب كثيرين ممن عرفوا شيئًا عما كنت أدعو إليه، قد يذكِّرونني في هذا الموضع، بأنني قد تنكرت لجانب من دعوتي؛ إذ كانت دعواي دائمًا هي أن القيم نسبية تتغير بتغير الثقافات، ولكني لا أراني قد بعدت كثيرًا عما كررت الدعوة إليه؛ وذلك لأن ثبات القيمة في إطارها العام، لا ينفي تغير مضمونها بحسب تفصيلات العيش في عصر من العصور، فحرية الإنسان — مثلًا — هي مبدأ مقطوع به، أو يجب أن يكون، لكن مضمون الحرية يتغير؛ لأنه يتسع مع نمو الإنسانية ونضجها.

قلت: إنَّ الثنائية المقترحة تضمن لنا — أوَّلًا — أن نجمع بين العلم وكرامة الإنسان، وهي — ثانيًا — تكفل لنا أن نضع الإنسان في موضعه الصحيح وبالنسبة الصحيحة، فلا تضخيم له ولا تهوين من شأنه، رد معي حول أرجاء العالم الفكري في عصرنا هذا، لنرى ماذا يكون موقفنا إزاء كل فلسفة نراها سائدة هنا أو هناك.

نذهب إلى العالم الأنجلوسكسوني — إنجلترا وأمريكا بصفة خاصة — فنجد الفلسفة السائدة فلسفة تحلل العلم وقضاياه، لترى متى تكون الصيغة العلمية المعينة صادقة ومتى لا تكون، لكنها لا تعبأ بالإنسان؛ إذ تترك أمر الإنسان للأدب والفن، فلنا عندئذٍ أن نقول لهم: لا، إننا نسايركم في فلسفة العلم، لكننا نوجب أن تُضاف إليها فلسفة للإنسان الحي، الذي ينبض في صدره قلب، ويطمح في حياته إلى أبعد الغايات.

ونذهب إلى غربي أوروبا — فرنسا وألمانيا — فنجد الفلسفة هناك معنية بالإنسان على طريقة خاصة؛ إذ تكاد تجعل من الإنسان إلهًا على الأرض، تتعارض حريته المطلقة مع وجود الله، فنقول لهم عندئذٍ: لا، إننا نسايركم في اهتمامكم بالإنسان، لكننا بدل أن نجعل منه إلهًا كما تفعلون نجعله رسولًا في الأرض لله، يشيع فيها ما قد شرعه له من قيم ومبادئ. ونذهب إلى شرقي أوروبا، فنجد اهتمامًا بالإنسان كذلك، ولكنه اهتمام — هذه المرة — بالنظم التي تدمج الأفراد في كلٍّ واحد، فنقول: لا، إننا نسايركم في وجوب أن تنظم العلاقات الاجتماعية على نحو يكفل للناس العدل والمساواة، ولكننا نحتم أن تُضاف مسئولية الفرد أمام ربه وأمام ضميره. وقد نذهب إلى الهند، لنرى هناك فلسفة تدمج أفراد الناس في الكون العظيم، الذي يفرز الأفراد ويبتلعهم كأنهم الموج يظهر ويختفي على سطح المحيط، فنقول: لا، إننا نحرص على أن يكون كل فرد حقيقة قائمة برأسها، وجوهرًا مستقلًّا قائمًا بذاته؛ لأنه مسئول عما يفعل وعما يدع.

ربما أكون قد أصبت التقدير أو أخطأته، فيما اقترحته ليكون أساسًا لفلسفة عربية معاصرة، لكنني على أي الحالتين مؤمن بأنه لا مندوحة لنا على أن نزيل التعارض القائم اليوم في أرجاء الدنيا جميعًا، بين العلم الذي يتقدم بخطوات كخطوات الجبابرة، وقيمة الإنسان التي تنهار بوثبات كوثبات الشياطين.

(ب) ثنائية الطبيعة والفن

نريد للمواطن العربي أن يُولَد من جديد، ولادةً تنقطع عندها خصائص الماضي وملامح الحاضر. والحق أن كل ولادة — لو استقام لها الطبع — هي حدث جديد، يضمن البقاء للأبوين، ثم يضيف إليهما جديدًا يتميز به فردًا بغير شبيه. ولو جاء الولد صورةً لأبويه، لكان إلى نتاج المصانع والمطابع أقرب منه إلى غرس الحياة ونبتها. فعجلات المطبعة قد تخرج لك من الأصل الواحد ألوف الصور، كل نسخة منها ككل نسخة، الخطأ هنا كالخطأ هناك، والصواب هنا كالصواب هناك، والصفحات تتماثل بداية ونهاية، وتتشابه أسطرًا وسياقًا. إنها كثرة عددية، لكنها كثرة تحكي الحكاية عينها، فالواحدة منها تغني عن سائرها، وما هكذا الحياة الخصبة الغنية الولود، فشجيرات التفاح تنتمي إلى أسرة واحدة، لكن أبت لها الحياة إلا أن تجيء كل شجيرة منها، وقد تميزت من أخواتها في شيء، قل أو كثر.

هذا هو الشأن في كل ولادة جديدة. أقول: لو استقام لها الطبع — طبع الحياة — لكن هذا الطبع قد لا يستقيم لها؛ إذ تفعل العوامل الدخيلة فعلها، فإذا أفراد البشر كأنهم التماثيل الصماء، سُوِّيت — في قالب واحد — من صلصال، قد يتوافر لها استواء البدن، فالساقان والذراعان كلٌّ في موضعه، والوجه تمت له قسماته وأجزاؤه: عينان وأذنان وأنف وفم، لكنها لم تَزَل برغم ذلك هي تماثيل الصلصال، جاءت كلها تكرارًا مملًّا لأصل واحد، فإذا كان لصاحب الأصل ما للفنان الأصيل من فضل ومنزلة، فليست النسخات التي سُوِّيت على غراره بذات شأن يذكر، وإنما هي قطع من التقليد الرخيص، مكانها حوانيت العرض التي تبيع الواحدة بقرش أو قرشين.

ولكم شهد التاريخ فترات وفترات: فترات تمور بالحياة وتفور، وأخرى يصيبها من الجمود ما يشبه الموت، ففي الحالة الأولى يكثر الخلق والإبداع، ويكثر الأفراد الأعلام الذين لا يُغني منهم أحد عن أحد. وفي الحالة الثانية تتشابه الفلاة، فكلها من حبات الرمل أو حصباء المدر. وإن شئت فانظر في التاريخ العربي القريب، إلى الثلاثة القرون التي امتدت به بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، والتي هي عصرنا المظلم، الذي توسط بين قديم خصب، وحاضر يحاول أن يكون خِصبًا. انظر في التاريخ العربي القريب إلى هذه الثلاثة القرون، تجدها سحابة واحدة دكناء، لفت في دخانها أفراد الناس فباتوا وكأنهم عجينة بشرية واحدة، لا فرق فيها بين قطعة وقطعة، كماء البحر تذوق طعمه كله إذا وضعت منه على لسانك قطرة، فكأنما الأناسي خلال تلك الفترة قد تحولوا أشباحًا سودًا في غرفة مظلمة، تدرك وجودها من همهمة تسمعها، لكنك لا تميز منها حرفًا أو مقطعًا.

ومن هذه العجينة البشرية التي تجانست أجزاؤها جهلًا وخرافةً، أردنا — ونريد — للمواطن العربي أن يُولَد من جديد ولادةً يتخطى بها تلك الفترة المنكودة، إلى حيث أسلاف تركوا على درب الحضارة مواقع أقدام لن تمحوها رياح، ثم يجاوز هؤلاء الأسلاف أنفسهم، بجديد يُساير به ركب العصر الذي يعيش فيه … كلام هو أيسر اليسر حين يُكتَب أو يُقال، لكنه أعسر العسر حين يُراد له أن ينتقل من مداد منثور على الورق ليصبح كائنات بشرية تنشط في فجاج الأرض وتسعى.

•••

على أنَّ عملية الولادة الجديدة هذه، قد بدأت بالفعل منذ قرن ونصف قرن، ومع ذلك فهي ما زالت بعيدة عن مرحلة اكتمالها؛ إذ هي لم تزل — بعد قرن ونصف قرن — في حالة من العثار والفوضى، تحجب عن الأعين الفاحصة وضوح الرؤية، فلا تدري ماذا تكون بعد عشرة أعوام أخرى أو عشرين، ذلك أن نقطة البداية كانت هي الشرارة التي انقدحت عند التقاء الثقافة العربية بعد بيات شتوي دام ثلاثمائة عام، بالثقافة الأوروبية الحديثة، فعندئذٍ اضطربت صفوفنا، وانقسمنا مجموعات أشتاتًا، كل منها ترى الخطأ فيما تراه الأخرى صوابًا، وهي مجموعات ما تزال إلى يومنا هذا — بعد قرن ونصف قرن — مشتتة الفكرة مفرقة الرأي، تتباين — وهي متجاورة — تباين الألوان في الطيف.

فهنالك طرفان متطرفان: طرف منهما يجزع من الثقافة الأوروبية الحديثة أشد الجزع، ويعدها ثقافة دخيلة تستهدف التسلط والسيطرة، ويلوذ منها بمكمن التراث العربي الصرف، حتى ليكتب الكاتب من هذه الجماعة وكأن عشرة قرون أو اثني عشر قرنًا لم تذهب من عمر الزمان، وكأنما الأرض لم تزل هي الأرض والسماء هي السماء. وأمَّا الطرف المتطرف الآخر فيفرح بالثقافة الأوروبية الجديدة فرحة الأطفال باللعب والهدايا، يُقلِّبونها ولا يُحلِّلونها، ويلمسونها من السطح ولا يتعمقونها، كما يفعل الذين لا يجيدون السباحة فيكتفون ببضعة أمتار يبعدون بها عن الشاطئ، ثم يأخذون في الضرب على الماء بالأذرعة والأرجل. هؤلاء — في فرحتهم الغامرة باللعبة الجديدة — يفزعهم أن تذكر لهم شيئًا عن تراث عربي ينبغي له أن يُبعَث ليحيا بنا ولنحيا به. وبين هذين الطرفين المتطرفين تجد صنوفًا شتى من الأمزجة التي تأخذ بطرف من هنا وطرف من هناك بنسب متفاوتة.

فمنهم من يقبل الغرب كله والتراث كله ويحسب أن الجمع بينهما أمر ممكن، كما صنع العقاد. ومنهم من يقبل الغرب كله وبعض التراث دون بعض، كما صنع طه حسين. ومنهم من يقبل التراث كله وبعض الغرب دون بعض، كما صنع محمد عبده. ومنهم من يُجري تعديلًا في التراث وفي الغرب معًا، كما صنع أحمد أمين وتوفيق الحكيم.

ومنهم من يكاد يرفض الجانبين معًا، فلا هو قد تعلم شيئًا من التراث العربي ليعرفه، ولا هو يرضى بقبول الثقافة الغربية خشية أن يُقال عنه إنه من توابع المستعمرين، وأمثال هؤلاء تراهم هذه الأيام بكثرة بين كُتَّاب الشعر والقصة والمسرحية، ومن هنا سر سطحيتهم، ولكن من هنا أيضًا سر الإبداع الذي يحاولونه ولو بدرجات يسيرة.

خليط عجيب، وهو خليط يدل على أننا لم نُفق بعد من هول الصدمة التي اصطدم بها الفكر العربي بالفكر الأوروبي الحديث، كما يدل على أن فترة المخاض قد امتدت بنا هذا الزمن كله دون أن تلد المواطن العربي الجديد الذي لا ينكره أحد ولا يتنكر له أحد والذي نقدمه إلى العالم المعاصر قائلين: ها نحن أولاء قد تمثلنا في هذه السحنة والملامح … نعم هو خليط فكري عجيب، هذا الذي يحيط بنا اليوم، حتى لترى نفسك في غير حاجة إلى «آلة الزمان» — التي تخيلها ﻫ. ج. ولز — لتسير بك راجعة إلى الوراء أو متقدمة إلى أمام، فتنعم بالماضي إذا شئت، وتطير إلى المستقبل إذا شئت. أقول إنك لن تجد نفسك في حاجة إلى هذه الآلة التي تنتقل بك في تيار الزمن؛ لأنك واجد حولك من نماذج المفكرين من يمثلون لك أي عصر شئت. ولن يقتضيك الأمر أكثر من حركة يسيرة تذهب بها من منزل إلى منزل يجاوره، أو من شارع إلى شارع يحاذيه، لتجد أنك قد انتقلت من العصر الجاهلي إلى أواخر القرن العشرين، فنحن نعيش العصور كلها في وقت راهن واحد، ونحن نُجسِّد الحضارات كلها في مدينة واحدة، فأين من هؤلاء جميعًا من يستحق أن يُوصَف بأنه المواطن العربي الجديد؟

•••

لن يكمل للمواطن العربي الجديد كيانه، إلا إذا أضاف إلى نفسه صفات، وتخلى عن صفات. وليس الجانب السلبي هنا بأقل قيمة من الجانب الإيجابي، بل قد يكون التخلي عن الصفات المعوِّقة أبلغ أثرًا من إضافة الصفات المرغوب في إضافتها، كالعليل الذي يهمُّه أن يطرد من بدنه جراثيم المرض، قبل أن يهمه نوع الطعام الصحي الذي ينبغي بأن يقتات به ليسترد العافية. وعلى أي الحالين فكثيرًا ما يتشابك الجانب السلبي مع الجانب الإيجابي، بحيث يقترن الطرد بالجذب، والتخلي بالإضافة، اقترانًا لا تدري معه أين انتهى الأول ليبدأ الثاني.

وإني لأنظر فأرى سلسلة الخصائص التي يُراد لها أن تقتلع جذورها من تربتنا الثقافية، قبل أن يُتاح لنا استنبات زرع جديد، إنما تترابط حلقاتها، فإذا سلَّمت بالأولى كان لزامًا أن تسلم بالثانية فالثالثة فالرابعة … وأولى هذه الحلقات وأعمقها جذورًا وأكثرها فروعًا، هي نظرة العربي إلى العلاقة بين الأرض والسماء، بين المخلوق والخالق، بين الواقع والمثال، بين الدنيا والآخرة، بين المعقول والمنقول. هذه كلها ظلال من موقف واحد وحقيقة واحدة، ونظرة العربي في صميمها هي أن السماء قد أمرت وعلى الأرض أن تُطيع، وأن الخالق قد خط وخطط وعلى المخلوق أن يقنع بالقسمة والنصيب، وأن المثال سرمديٌّ ثابت وعلى الواقع أن يقسر نفسه على بلوغه، وأنه إذا ما تعارضت الآخرة والدنيا، كانت الآخرة أحق بالاختيار، وأن المنقول إذا ما تناقض مع المعقول، ضحينا بالمعقول ليسلم المنقول.

تلك هي وقفة العربي في صميمها، لك أن تقول إنها وقفة أفلاطونية أكثر منها أرسطية؛ إذ هي وقفة من يجعل الثبات للسماء والفناء للأرض، ففي السماء الأصول وعلى الأرض الأشباح والظلال. إنها ثنائية حادة بين الغيب والشهادة، بين الروح والجسد، بين الإنسان والله. العلاقة بين الطرفين ليست هي التبادل بالأخذ والعطاء، بل هي علاقة الحاكم بالمحكوم، والحاكم هنا مطلق السلطان، والمحكوم معدوم الحول والحيلة. ولا يغير من الصورة أن يكون الحاكم المطلق عادلًا، وأن يكون المحكوم ملاقيًا جزاءه وفاقًا؛ إذ ما يزال طريق السير في اتجاه واحد، يهبط الأمر من أعلى فيصدع به الأسفل، مهما تكن ظروف الواقع وتفصيلاته التي تحيط بهذا الأسفل إذ هو يؤدي الفعل على الأرض بكل خشونة سطحها وحزونته سهلًا ووعرًا.

تلك هي الحلقة الأولى من السلسلة، تلزم عنها حلقة ثانية، وهي أن قوانين الأشياء والظواهر في الطبيعة، قد تطَّرد أو لا تطَّرد، بحسب ما يشاء لها الحكم السماوي المُطلَق. فليقل العلم ما أراد، ليقل إن قوانين المطر هي كذا وكذا، وإن قوانين هبوب الرياح هي كَيْتَ وكَيْت. ليقل إن الجرثومة الفلانية قاتلة، وإن العلة الفلانية تستلزم معلولها. نعم، ليقل العلم ما أراد أن يقوله في أشياء الطبيعة وظواهرها — بما في ذلك الإنسان — وسيظل الحكم الحاسم للمشيئة الإلهية آخر الأمر، فتتوافر الظروف التي يقول العلم عنها إنها تقتضي نزول المطر، ومع ذلك لا ينزل، أو لا تتوافر تلك الظروف الضرورية ولكن يشاء الله فتنفجر السماء بمدرار من الماء. إنه — في ظل ثقافة كهذه — تبتر الروابط بين الأسباب ومسبباتها، بين الوسائل وغاياتها، فقد تسلك الوسيلة المؤدية لكنها برغم ذلك لا تؤدي، وقد توفر الأسباب المنتجة ثم تفاجأ بأنها عقيم لا تلد. والعكس صحيح كذلك، أي أن الغاية المنشودة قد تفجؤك وأنت قابع في عقر دارك لم تتخذ لها وسيلتها، وأن النتائج المرجوة قد تمثل بين يديك صاغرة برغم أنك لم تحرك من أجلها ساكنًا، ولم تسكِّن متحرِّكًا، العلاقة مبتورة بين الغرس والثمر.

وإذا كانت هذه هي الصورة الكونية، فلا بد أن تكون كذلك هي الصورة لحياة الإنسان في مجتمعه. فلصاحب السلطان أن يريد، وعلى الناس أن يُطيعوا، الكلمة عندنا لصاحب القوة، القول النافذ لصاحب الجاه، الحق مع صاحب النفوذ. وإننا لنخدع أنفسنا عبثًا، إذا ظننا أن النظم الديمقراطية التي قد نصطنعها جادين مخلصين، تكفل لنا الديمقراطية محتوًى ومضمونًا، فالوعاء وحده لا يكفل لك نوع الشراب، وقد تكون صحافٌ ولا يكون ثريد. القانون عندنا يُسَنُّ لمن لا يستطيع عصيانه، والنظام بيننا يُقام لمن لا يقوى على هدمه. نعم، إن المواطنين جميعًا سواء أمام القضاء، لكنهم ليسوا متساوين في أن تصل أصواتهم إلى مسامع القضاة؛ إنك صاحب رأي بيننا إذا كنت صاحب منصب، فعندئذٍ يتكلم الكرسيُّ الذي تتربع عليه قبل أن يجري لسانك في فمك، عندئذٍ توزن كلماتك بموازين الذهب والجوهر، عندئذٍ يهرول إليك الصحفيون والإذاعيون لتنطق لهم بالدرر، الصحفي إلى جانبك والورقة والقلم في يده حتى لا تفلت منه درة، والإذاعي يدنو إلى شفتيك بسماعته حتى لا تتبدد في الفضاء حكمة. ويذهب عنك المنصب كما جاء، فتذهب عنك رجاحة العقل وإصابة الرأي وبلاغة الكلام.

إنَّ الحدث في حياتنا يحدث، فنسأل: «من» أحدثه؟ قبل أن نسأل «كيف» حدث؟ وذلك لأن الفعل مرتبط بالإرادة — إرادة من بيده إرادة نافذة — وليس مرتبطًا بالتسلسل السببي الذي يربط حادثة بحادثة أخرى سببت وقوعها أو اشتبكت معها في مركب واحد بوجه من الوجوه، فالمدار عند العربي هو للإرادة لا للفكر، فليس المهم أن «تعقل»، ولكن المهم هو أن «تريد» شريطة أن تملك القوة التي تنفذ إرادتك. كان ينبغي أن يكون الترتيب الطبيعي هو أن العقل العاقل فكرة صحيحة، فيسلمها إلى صاحب الإرادة ليخرجها بالتنفيذ إلى عمل، لكن هذا الترتيب الطبيعي للأمور قد انعكس على يدينا، فأصبح البدء للمريد، والبقية على العاقلين، ولما كانت الإرادة هي — بحكم طبيعتها — رغبةً وهوًى، كانت السيادة عندنا للرغبة والهوى.

قوام الأخلاق عندنا هو «الواجب» لا «السعادة»، ولطالما اختلف فلاسفة الأخلاق في أيهما أحق بأن يكون المدار: أنفعل الفعل لأن سلطة عليا قد «أوجبته» علينا، فلم يعد لنا محيص عن فعله، سواء أأسعدنا في حياتنا الدنيا أم أشقانا؟ أم نفعل الفعل لأن التجربة قد دلَّت على أنه يعود علينا بالحياة الطيبة؟ إنها إذا كانت الأولى، كان «الواجب» هو الواجب، مهما تغيرت ظروف العيش ومهما تطور المجتمع وتبدلت أوضاعه. وأمَّا إذا كانت الثانية، كان من حقنا أن نغير من الفعل لنلائم بينه وبين ما يحقق لنا سعادة العيش ورخاءه. وأعود فأقول إننا من القائلين «بالواجب» المفروض علينا من صاحب السلطان، وكان المفروض أن يكون صاحب السلطان في عليائه من السماء، ثم جاز أن يتمثل في المتربع على كرسيِّ الحكم من أفراد البشر، بل إننا لنفزع — أو ندَّعي الفزع — إذا قيل لنا إنه لا بد في مجتمع متطور أن يتطور معيار الحكم الأخلاقي على الناس والأفعال، فنتج عن ذلك موقف مشحون بالمفارقات؛ إذ انسلخت دنيا الحياة الواقعة التي يتعامل فيها الناس بالبيع والشراء والزواج والطلاق وتربية الأبناء وما إلى ذلك من صنوف التعامل، انسلخت دنيا الحياة الواقعة هذه عن دنيا القيم الأخلاقية، فالفعل في ناحية والقول في ناحية أخرى. وقد ألفنا هذا الازدواج إلفًا، توهمنا معه أنه هو طبيعة الأمور؛ ومِنْ ثَمَّ كان النفاق الذي نقع فيه كل لحظة، لا نكاد نحسه أو نعيه، فلا يثير مِنَّا دهشًا أن تنفرج الزاوية بين المدرسة بقيمها والبيت بفعله، وأن تكون هذه الزاوية أشد انفراجًا بين المسجد والسوق.

وجاءت حياتنا الفنية انعكاسًا لهذه النظرة الشاملة، التي تُعلي من شأن الخارج على حساب الداخل، فالمعيار يهبط عليك من علٍ، ولا ينبثق من طويتك، فكانت الأولوية في حياتنا الفنية كلها — بوجه عام — هي لسلامة الشكل لا لحيوية المضمون، فالرسوم أشكال هندسية، والقصائد تفعيلات موزونة. وتسربت هذه «الشكلية» إلى مناشط الحياة جميعًا، فما دمت قد حافظة على «الشكل» المقبول — عند القانون أو الشرع أو العرف — فقد أديت واجبك، بغض النظر عما ينطوي عليه هذا الشكل من لباب الفعل نفسه وما يؤدي إليه من نتائج ضارة أو نافعة. المعوِّل عندنا على «المظهر» لا على الحقيقة، فاظهر للناس في أوضاع الغِنى تكن غنيًّا، وفي أوضاع الحرية تكن حُرًّا، وفي أوضاع العالم تكن عالمًا، المهم هو أن يسلم «الشكل» من الشوائب، وهذا — بالطبع — يحتاج إلى مهارة وبراعة، ولهذا كان السُّذَّج مِنَّا، الذين يتعالون على «الشكل» بحثًا عن المضمون وحقيقته، سِراعًا إلى السقوط فالموت.

•••

جذور يجب أن تُقتلَع من أصولها، إذا أردنا للمواطن العربي أن يُولَد من جديد، فإذا ما خلت التربة من هذه الشوائب، بذرنا بذورًا أخرى لتنبت لنا نبتًا آخر. وكما كانت سلسلة الصفات التي لم نعد نريدها مرتبطة بعضها ببعض، بحيث كانت الحلقة منها تستتبع التي تليها، فمن انفصام السماء عن الأرض نشأ طغيان الحاكم بالمحكوم، وانهدمت ضرورة القوانين في الطبيعة وفي المجتمع الإنساني على السواء، وعلت الإرادة على الفكرة، وسبقت قوة الجاه رجحان الحق، وأصبحت الفضيلة هي واجبات مفروضة، وبات الفن شكلًا بغير مضمون. أقول إنه كما كانت تلك السلسلة من الصفات المبعدة متصلة الحلقات على النحو الذي رأينا، فكذلك سلسلة الصفات التي نريد لها أن تُضاف.

ولسنا نرى ما يمنع أن نبقى على هذه الثنائية فيما يختص بعلاقة الإنسان بربه، لكننا نوجب أن تُضاف ثنائية جديدة تكفل لنا النتائج المسايرة للعصر الجديد، وأعني بها ثنائية العلم والحرية، لكنه قول يحتاج إلى شرح وتفصيل:

هذا العالم بيت والإنسان ساكنه (ويساكنه في البيت نفسه كائنات أخرى لا شأن لنا بها الآن)، ومن حق الساكن أن يستخدم أثاث البيت على الوجه الذي يراه نافعًا ومؤدِّيًا، لكنه لكي يستخدم هذا الأثاث، لا بد من أن يعرف ما هو؟ وكيف ينتفع به؟ وهذه المعرفة إذا ما أُحكمت كانت هي «العلم» — العلم بالطبيعة وما فيها من صنوف الكائنات. وإنه لحديث طويل أن نفصِّل القول تفصيلًا في الخطوات التي ينبغي للباحث العلمي أن يخطوها في سبيل علمه بالطبيعة وكائناتها، فحسبنا الآن أن نسوق كلمة «العلم» وكأنها واضحة المدلول.

لكن «علم» الإنسان بالطبيعة وظواهرها وتفاعلاتها، يستوجب أن يكون هذا الإنسان نفسه «ذاتًا» عارفةً عالمةً باحثةً منقبةً. هنالك ذات تَعلم وموضوع يُعْلَم، ومهما زعمنا الصلة الدامجة لهذين الطرفين في كائن واحد، فما يزال هناك هذان «الطرفان»، الذات العارفة والموضوع المعروف، الإنسان والعالم، كطرفي العصا، والعصا واحدة.

إلى هنا والأمر أوضح من أن يُذكَر، لكن النتيجة التي تلزم عن هذه القسمة ليست واضحة دائمًا، وأعني ضرورة أن يخضع الإنسان لواقع العالم كما يثبته العلم، مع ضرورة أن تظل للذات حريتها، فترغب وترهب، وتحب وتكره، وتختار وتدع، وتقبل وتدبر، وتجرؤ وتجبن، وتستجمل وتستقبح ما شاءت لها أهواؤها وميولها.

فالعلم بالطبيعة الخارجية قيد، وانطلاق الطبيعة الداخلية على سجيتها حرية، والجمع بين ذلك القيد وهذه الحرية هو ما نريده للمواطن العصري. وبالتقيد بحقائق العلم يتشابه الناس على اختلاف قومياتهم وتباين أجناسهم، وبالحرية في انطلاق الذات وراء طبيعتها يختلف الناس، فردًا عن فرد أوَّلًا، وأمة عن أمة ثانيًا. حين أُثبت حقائق الطبيعة الخارجية فذلك «علم»، والعلم واحد للجميع، وأمَّا حين أتعقب حقائق الطبيعة الداخلية، فذلك «فن»، والفن منوع بتنوع الأفراد والأمم. العلم موضوعي والفن ذاتي، والخلط كل الخلط في أن أفسد العلم بأهواء الذات، أو أن أزيِّف الفن بموضوع يُملى عليه من خارج. وبالعلم المقيد والفن الحر يتكون الإنسان المعاصر.

فإذا كان العربي متخلِّفًا عن عصره، فذلك لأنه لا علمًا بالطبيعة اكتسب ولا فنًّا معبِّرًا عن ذاته أنشأ. فالعلم — حتى إذا ألممنا بأطراف منه — هو من اكتساب غيرنا ثم حفظناه حفظ التلميذ لدرسه. والفن — إذا زعمناه — هو سلعة منقولة عن سوانا (ولا فرق بين نقل عن أسلافنا ونقل عن معاصرينا) فإذا كان في المنقول فن فالفن لغيرنا، عبَّر به عن ذاته هو، وأمَّا نحن فذواتنا ما زالت مطمورة تنتظر الفنان الأصيل.

فإذا اتخذنا من هذه النقطة منطلَقًا؛ حقيقة علمية عن الواقع نتشابه جميعًا في الخضوع لها، وعبارة فنية تصور الذات، نتشابه جميعًا في الحرية عند صوغها، أسلمتنا هذه النقطة إلى نتيجة لازمة، وهي أننا سواسية أمام العلم وأمام الفن معًا، لا يفاوت بيننا أن فلانًا أعلى منصبًا أو أقوى جاهًا أو أكثر ثراءً من فلان، بل يفاوت بيننا أن فلانًا أصاب الحق في العلم، والصدق في الفن. بالعلم المشترك نعرف العالم ونغيره، وبالفن الذاتي نعرف الإنسان ونقوِّمه. بالعلم المشترك تنشأ الحضارة بنظمها وذواتها ومصانعها وتجارتها وزراعتها، وبالتعبير الفنِّي عن الذات تنشأ الثقافة بقيمها التي تفرق بين الحسن والقبيح، والمقبول والمرذول. العلم ملك مشاع للإنسانية جمعاء، والفن يحمل ملامح مُنشئه، وبهما معًا يتحقق الإنسان متحضِّرًا ومثقَّفًا.

ففي اليوم الذي تخرج لنا فيه البيوت والمعاهد مواطنين، توافر لهم التزام بالحقائق العلمية الموضوعية، التزامًا يديرون عليه خطط البناء الحضاري الجديد، وتحررٌ من كل التزام في التعبير عن ذوات أنفسهم، تحرُّرًا يسقط ذواتهم على عالم الأشياء، ليفاضلوا في حياتهم بين شيء وشيء، في ذلك اليوم الذي تخرج لنا فيه البيوت والمعاهد مواطنين يدركون أين يكون الفاصل بين القيد والحرية، بين الصحو والحلم، بين الواقع والخيال، بين الموضوع والذات، بين «هو» و«أنت» و«أنا». في مثل ذلك اليوم يمكن أن يُقال إنه قد تم للمواطن العربي ميلاد جديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤