الفصل العاشر

التعريف والعدد في اللغة العربية واللغات الأوروبية

الدلالة هي قوام اللغة ووظيفتها ومقياس كفايتها وارتقائها عند المقارنة بين اللغات.

ولهذا كانت عوامل التعريف والتنكير وأدواتها في مقدمة المقاييس التي تعرف بها درجة اللغة من الكفاية والارتقاء؛ لأن التعريف والدلالة عمل واحد.

وبهذا المقياس تعتبر اللغة العربية في المنزلة الأولى بين لغات الحضارة؛ إذ لا توجد بين جميع هذه اللغات لغة واحدة تبلغ مبلغها، فضلًا عن التفوق عليها، في دقة التمييز بين مواضع التعريف ومواضع التنكير على حسب معانيها.

فالمعرفات في لغات الحضارة تنقسم إلى قسمين: قسم يتحقق له التعريف بحكم وضعه، وبغير حاجة إلى أداة تزاد عليه أو نسبة تربطه بكلمة أخرى.

والقسم الآخر من المعرفات يتحقق له التعريف بأداة أو علامة أو نسبة بينه وبين كلمة أخرى.

وقد توجد هذه المعرفات بقسميها في جميع اللغات الرفيعة، ولكنها في اللغة العربية تطرد على قاعدة تلازمها ملازمة معناها، وعلى قدر درجتها من التعريف والتنكير، وليس الأمر كذلك في المعارف والنكرات التي ترد في اللغات الأخرى؛ لأن الجزاف فيها أغلب من القاعدة المطردة، وعلامة التعريف أحيانًا تبقى مع الكلمة بعد زوال الحاجة إليها.

فالضمائر وأسماء الإشارة وأسماء الموصول والأعلام موجودة في جميع لغات الحضارة، ولكنها في اللغة العربية توجد مميزة حيث يحتاج الأمر إلى التمييز، وبمقدار الحاجة إليه، وكثيرًا ما تأتي جزافًا في غيرها من اللغات.

إن ضمير المتكلم لا يحتاج إلى تمييز بين المذكر والمؤنث؛ لأن إشارة المتكلم إلى نفسه كافية للتعريف بجنسه، ولكن ضمير المخاطب يحتاج إلى التمييز كما ميزته اللغة العربية، فتقول للرجل: أنتَ كتبت بفتح التاء، وتقول المرأة: أنتِ كتبت بكسرها، ويلحق بهذه تمييز الفعل مع الجمع المخاطب؛ حيث تقول للرجال: أنتم تكتبون، وتقول للنساء: أنتن تكتبن، فإن الضمائر هنا معارف حقيقية لا يلحقها الإبهام والتنكير، ولكنها في اللغات الأخرى لا تطرد هذا الاطراد، ولا يزول عنها اللبس والإبهام في كثير من الحالات؛ إذ يتساوى المخاطب في الجمع والإفراد، وفي التذكير والتأنيث. ويحدث هذا في الضمائر التي تلحق بالفعل، فيقال عندهم: أنتم تكتب كما يقال: أنت تكتب مع التباس التذكير والتأنيث في كثير من المواضع على غير قياس.

وما يقال عن الضمائر يقال على الإجمال عن أسماء الإشارة وأسماء الموصول.

أما الأعلام فهي في اللغة العربية غنية عن أداة التعريف؛ لأن تمييز الاسم بالعملية تعريف كافٍ، ولكنها ليست كذلك في بعض لغات الحضارة؛ إذ يقال عندهم الفرنسا والألمانيا والإنجلترا والإيطاليا والإسبانيا والمصر إلى آخر هذه المسميات، وإذ يلحق هذا بأسماء البلاد كما يلحق بأسماء الشعوب على خلاف المعهود في اللغة العربية.

وأدل الدلائل على التزام التعريف بقدر الحاجة إليه في اللغة العربية: أن الأعلام الجغرافية التي تدخلها الألف واللام في اللغة العربية هي التي نفهم منها أنها أسماء أجيال من الناس، وليست أسماء أماكن غير قابلة للالتباس، فإن الهند والصين والروس مرادفة في مفهومنا للهنديين والصينيين والروسيين.

ومثل هذا في الدلالة على دقة التعريف على حسب لزومه، أن أسماء الأعلام تستغني عندنا عن أداة التعريف، ولكنها كذلك لا تخلو من أداة التنكير الذي يلازمها بين العدد الكثير من أمثالها، فإن اسم (علي) معرفة حين يدل على شخص يسمى (عليًّا)، ولكنه لا يسمى «حسنًا» ولا «محمدًا» ولا «محمودًا» من سائر الأسماء المتفرقة، ولكن التنكير لا يفارقه إذا كان هناك إنسان بهذا الاسم، وكان هناك ألف عليين مميزين من ألف حسنين ومحمدين ومحمودين.

ويجب أن نفهم أن هذا من عمل القاعدة وليس من عمل المصادفة؛ لأنه مطرد فيما يقابل هذه الحالة أو يناقضها، فإن كلمة «رجل» نكرة تحتاج إلى تنوين التنكير، ولكن هذا التنوين يفارقها إذا قلنا: «يا رجل» وعنينا به إنسانًا مقصودًا لا محل عند النداء عليه للإبهام.

وقد نتوسع هنا بعض التوسع فنقول: إن اسم التفضيل يستغني عن علامة التنكير أو يمنع من الصرف؛ لأنه لا محل للبس الإبهام مع اختيار شيء مقصود يفضل على سائر الأشياء، ويقاس عليه ما يأتي على وزن «أفعل» من الأعلام؛ لأن له من صيغة التفضيل تعريفًا فوق تعريف.

ويدل على الجزاف في التعريفات الأجنبية أن التعريف بالألف واللام عندهم يبقى مع التعريف بالإضافة؛ فيقال عندهم: كتاب محمد كما يقال: (الكتاب محمد) على الإضافة، وهو ما يقابل عندنا «كتاب يملكه محمد» و«الكتاب يملكه محمد»، وإنهما في الدلالة العربية لشيئان مختلفان.

وقد وجدت في أكثر اللغات الأجنبية علامات للتعريف، ولم توجد عندهم علامات مطردة للتنكير، فكلمة كتاب “A book” باللغة الإنجليزية معناها «كتاب واحد»، أي أن التنكير هنا يستفاد من أنه (واحد من كتب كثيرة).

فإذا تكلموا عن كتابين نكرتين أو ثلاثة كتب نكرات، فالعدد هنا هو كل ما عندهم من علامات للتنكير، وذلك على خلاف الدلالة على التنكير في اللغة العربية؛ لأن التنكير علامة غير علامة العدد في المثنى والجمع حين نذكر كلمة «كتابين» أو نذكر كلمة «كتب» مع التنوين، أو ما ينوب عن التنوين.

•••

وعلى ذكر العدد ينبغي أن نلاحظ أن التمييز يلازمه في اللغة العربية على نحو لا يعهد في لغة من اللغات، وأن الذي يستغربه بعض الأوروبيين من أحكام العدد عندنا هو مزية في لغتنا، وقاعدة تتمشى مع التمييز الفكري على اطراد، وليست بالشذوذ الذي يجري على السماع غير مفهوم ولا معقول.

إن أسماء العدد في لغتنا بعد المفرد والمثنى: ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة ثمانية تسعة عشرة، ثم تأتي الأسماء المركبة، فالأسماء المضافة فيها الألف والنون، والأسماء المضافة بغير الألف والنون.

والأصول في الأسماء أنها توضع للمذكر ثم تلحق بها علامة التأنيث، وكذلك تجري القواعد العامة في جميع اللغات، فإذا قيل في اللغة الإنجليزية (شاعر)، فهو شاعر مذكر Poet تلحق به علامة التأنيث ليدل على الشاعرة Poetess … وهكذا في سائر الأسماء مع اختلاف العلامات.

ولننظر وفاقًا لهذه السنة المطردة في جميع اللغات إلى تمييز العدد في اللغة العربية.

فإذا قيل (ثلاثة) بغير معدود، فالمفهوم أنهم ثلاثة من أسماء المذكر.

واللغة العربية قائمة على التمييز بين التذكير والتأنيث، فلا بد هنا من التمييز بالمغايرة على سنة اللغات جمعاء؛ حيث يقضي الأمر «بالمغايرة» قصدًا عند اختلاف الدلالة.

وقياسًا على سنة المغايرة يجب أن يقال: ثلاث نساء إذا قيل: ثلاثة رجال، أو يجب أن يكون عدد: (ثلاث أو أربع أو خمس أو ست أو سبع أو ثمان أو تسع أو عشر) دالًّا على معدود مؤنث عند حذف المعدود.

ويستقيم العدد بالإضافة من ثلاثة إلى عشرة، فيقال: ثلاثة رجال وعشرة رجال، ويستقيم المضاف إليه بصيغة الجمع لأنه يدل على أفراد معدودين، فإذا انتقلنا إلى المركب مع العشرة، فالتمييز هنا هو الإعراب الصحيح لاسم المعدود، وخمسة عشر رجلًا أوفق للعدد المركب من خمسة عشر رجال.

ثم ننتقل إلى عشرين وثلاثين إلى التسعين، فنقابل بين قولنا (عِشْرُو رجل) على الإضافة، وقولنا (عشرون رجلًا) على التمييز، فلا يتردد صاحب الذوق اللغوي في اختيار التمييز، وتفضيله على الإضافة، وبخاصة حين تقترب العشرون بما يزيد عليها من الآحاد فيقال: (خمسة وعشرو رجل) أو يقال: (خمسة وعشرون رجلًا) كما انتهى الذوق العربي … ولا سبيل إلى التردد في إيثار التمييز وتفضيله على الإضافة في هذه الأعداد.

فإذا انتقلنا إلى المائة، فالإضافة أيسر من التمييز بلا خلاف، وقول القائل (مائة رجل) أيسر من قوله (مائة رجلًا) بتنوين المائة، وقس على ذلك مائتين رجلًا، وثلاثمائة رجلًا، وأربعمائة رجلًا، مع التنوين في كل هذه الأعداد.

ويأتي هنا اعتراض يلوح للوهلة الأولى أنه اعتراض وجيه، ولا وجاهة فيه مع التأمل فيما ينتهي إليه.

فقد سمعنا بعض النقاد الأوروبيين يقولون: كيف يقال: خمسة رجال، على صيغة الجمع، ثم يقال: خمسمائة رجل، على صيغة المفرد؟ أليس هذا من التناقض في القياس؟

ولكن المنطق في روح اللغة أعمق من هذا المنطق (السطحي) في عقول نقادها من الغرباء عنها أو المتعجلين من أبنائها.

فإن الكلام مع الكثرة إنما يكون عن الجنس الذي يطلق عادة على العدد الكثير كلما جاوز هذا العدد بضعة أفراد قليلين إلى المئات والألوف.

ونحن نتكلم عن رجال أفراد عندما نتكلم عن خمسة أو ستة أو عشرة، أو عن جمع مميز من الاثنين.

ولكننا نتكلم عن عدد يمثل الجنس؛ حيث نجاوز الأفراد المعدودين، ويصح على هذا أن نقول: خمسمائة من رجل، أي من جنس الرجل، كما يصح أن نقول: خمسمائة رجل، ولا شك أن خمسمائة من رجل كافية للدلالة التامة على المقصود في هذا الوضع، كما أن فيها الغنى عن قولنا خمسمائة من رجال، أو خمسمائة من الرجال.

وتتبين دقة المنطق ودقة الذوق معًا عند محاولة التغيير والتعديل مجاراة للانتقاد أو الاعتراض الذي أشرنا إليه.

فإذا عمدنا إلى التغيير مجاراة لذلك الاعتراض قلنا: خمسة رجل، أو خمسة من رجل، ثم قلنا: خمسمائة رجل، على الإضافة، أو خمسمائة من رجال بدلًا من الإضافة، أو قلنا: خمسمائة رجال على الصفة والموصوف.

ولمن شاء بعد هذا التغيير أن يقارن بين ما ارتضاه منطق اللغة العربية وذوقها، وبين ما يرتضيه لها المعترضون عليها من الغرباء عنها أو المتعجلين من أبنائها؛ فإن الناقد المنصف لا يصر على اعتراضه بعد هذه المقارنة فيما نعتقد، فإن أصرَّ عليها فحق اللغة العربية في المضي مع منطقها وذوقها، وفي الثبات على قواعدها وأحكامها أصلح وأهدى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤