الفصل الحادي عشر

الصفة في اللغة العربية

الصفة من أقوى الدلالات على ضبط الأداء في لغة من اللغات.

وهي أقوى من الاسم دلالة على ضبط الأداء في المفردات وفي تراكيب التعبير، فما من لغة متقدمة أو متأخرة تخلو من الأسماء بعدد الأشياء التي يتحدث عنها أهلها، ولكن اللغات التي تقدر الصفات على حسب الموصوفات هي اللغات التي تطورت بقواعد التعبير والتمييز بين مواضع المعاني والألفاظ، أو التطبيق بين الكلمة ومعناها.

والأسماء — كما هو معلوم — قد تكون توقيفية لا إرادة للمتكلم في وضعها وإطلاقها على مسمياتها، وقد تكون منقولة عن لغة أخرى بحروفها، أو مع شيء قليل من التعديل فيها، وقد تكون مع ذلك مطلقة في أصولها لأدنى مناسبة تشير إليها، كهذا الاسم الشائع باسم (كبريت)، وأصله نسبة إلى جزيرة قبرس بمعنى القبرسي؛ لأنها كانت في الزمن القديم أشهر البلاد بمناجم الفوسفات التي تصنع منها عيدان الثقاب، ولولا الاستعمال لما كانت هذه المناسبة كافية لإطلاق هذا الاسم على مسماه عندنا؛ لأن الكلمة غريبة عن لغتنا، وهي إذا ردت إلى أصلها لم يكن لها معنًى غير أنها شيء منسوب إلى جزيرة، كما ينسب إليها الأحياء وغير الأحياء المنتمون إليها، ولكن هذه المناسبة اليسيرة كافية لتكوين الأسماء أول الأمر، ثم سيرورتها على الألسنة بغير بحث عن مناسبتها الأولى.

أما الصفات فلا بد من المطابقة بينها وبين الموصوفات في كل كلمة وكل مناسبة، ولا بد للغة الوافية من أن تستوفى أدواتها، وتحسب لها حسابها، وإلا كان النقص في تكوين الصفة وتطبيق شروطها نقصًا أصيلًا في وسائل الدلالة اللغوية.

وليس في لغات الحضارة لغة تمت لها أدوات الصفة وشروطها كما تمت للغة العربية، فهي جامعة لكل ما تفرق من هذه الشروط بين أكبر اللغات وأوسعها انتشارًا في الزمن الحاضر وفي الأزمنة المتقدمة.

إن الصفة تابعة للموصوف في اللغة العربية، مطابقة له في الإفراد والجمع، وفي التذكير والتأنيث، وفي التعريف والتنكير، وفي مواقع الإعراب.

وقد يلاحظ بعض هذه المتابعات في بعض لغات الحضارة، ولكنها لا تلاحظ جميعًا بقواعدها المطردة في غير اللغة العربية.

ففي الإنجليزية — وهي لغة يتكلم بها اليوم أكثر من مائتي مليون إنسان — تأتي الصفة سابقة لموصوفها، فيقال مثلًا: «واحد عظيم رجل» بدلًا من رجل عظيم، ويقال: «عظيم رجال» بدلًا من رجال عظماء، ويقال: «عظيم نساء» بدلًا من نساء عظيمات، ولا تتغير الصفة تبعًا لتغير مواقع الإعراب بين موقع الفاعل أو موقع المفعول ومواقع الأسماء المجرورة.

واللغة العربية تعرف الفرق بين الصفات الملازمة والصفات المتعلقة بالأفعال والمرات.

فهناك فرق بين كلمة «كريم» وكلمة «معطاء» في الصيغة وفي المادة وفي الدلالة؛ لأن الكرم صفة تتحقق بالخلق الذي تدل عليه، وبين الكريم وبين المعطي وبين المعطاء فروق في طبيعة الصفة لا تتوقف على عدد المرات ولا على مقدار العطاء، فمن أعطى مرة واحدة فهو معطٍ، أو فاعل لفعل من أفعال الكرم وإن لم يكن كريمًا على الدوام، وكذلك المعطاء الذي يعطي مرات كثيرة، ولا يلزم من ذلك أن يكون كريمًا أو أن يكون عطاؤه من عنده، فربما كان المعطاء، وفي معنى من معانيه، مرادفًا للصراف على هذا الاعتبار.

ومن ثم وجدت في اللغة العربية صيغة اسم الفاعل وصيغة الصفة المشبهة وصيغة المبالغة، وكلها أصل مقرر في اختلاف اللفظ واختلاف الدلالة على حسب معناه.

وقد يأتي لفظ الصفة تابعًا لمعناها في علامات التذكير والتأنيث كما يأتي تابعًا لهذا المعنى في بعض الأوزان.

فالصفة يجب فيها التأنيث إذا كان الموصوف مؤنثًا على الحقيقة أو على المجاز، ولكنها تؤنث بمعناها، ولا ضرورة لتأنيثها بلفظها إذا امتنع اللبس وبطلت الحاجة إلى العلامة اللفظية.

فلا حاجة إلى تاء التأنيث في مثل: (حامل ومرضع وطالق)؛ لأن اللبس بين التذكير والتأنيث ممتنع في هذه الصفات، ولكن التاء قد تلحق بالصفة إذا كان ملحوظًا فيها الفعل، ولم يكن الملحوظ فيها هو الحالة كما جاء في الشاهد المشهور:

أيا جارتا بيني فإنك طالقة
كذاك أمور الناس غادٍ وطارقة

وأيًّا كان الحكم في الخلاف بين الكوفيين والبصريين على سبب حذف التاء هنا، فالذي لا خلاف عليه أن حذفها ملحوظ فيه حالة دائمة، وليست حالة وقوع الفعل لمرة أو عدة مرات.

فالبصريون يقولون: «إنما حذفت علامة التأنيث لأن قولهم طالق وطامث وحائض وحامل في معنى ذات طلاق وطمث وحيض وحمل على معنى النسب، أي أنها قد عرفت بذلك كما يقال: رجال رامح ونابل …»، ولا خلاف هنا على التفرقة بين حالة الدوام وحالة الحدث المتكرر مرة أو مرات.

أما الأسماء التي يتساوى فيها المذكر والمؤنث؛ فالغالب فيها أنها أسماء أخذت مأخذ الصفات المشتركة التي لا فارق فيها بين صدورها في المذكر أو صدورها من المؤنث، كالضبع والفرس والعقاب والنعامة وما إليها من أسماء الحيوان المشتركة؛ فإن الضبع هنا أخذت صفة الجائحة التي تأتي على كل شيء كالسنة المجدبة.

أبا خُراشة أما أنت ذا نفرٍ
فإن قومي لم تأكلهمُ الضَّبُع

والفرس صفة من الفراسة والفرس أو التفرس كأنها اسم جنس يطلق على الذكور والإناث.

ولم يأت هذا الإبهام عن قصور اللغة في التسمية، ولا عن نقص في علامات التأنيث والتذكير، فإن التاء قد تدخل على الضبع كما تدخل على الفرس، وقد يسمى ذكر الضبع بالضبعان، ويسمى ذكر الخيل بالحصان، وتسمى أنثاها بالحجر، وقد عرف ذكر النعام باسم الظليم، وعرفت أنثى النسر والعقاب باسم أم قشعم مع الالتباس بين العقبان والنسور.

فليس هناك إبهام راجع إلى قصور اللغة وقواعدها، ولكنه تغليب للمعنى على اللفظ أحيانًا حسب الصفة المقصودة بين السامع والمتكلم.

ومن استعمال المصدر في موضع الصفة يتضح لنا أن اللغة قد بنيت على التفرقة بين المعاني في التذكير والتأنيث، وفي بعض الفروق الأخرى التي توافرت علاماتها، ولا يمكن أن ينسب إغفالها إلى نقص في تلك العلامات.

فإذا وضع المصدر موضع الصفة فهو واحد في مدلوله؛ لأن معنى المصدر لا يتغير مع الفاعل المذكر أو الفاعل المؤنث، ولا مع الواحد أو الكثيرين، فإن «العدل» مثلًا عدل واحد في صفته على جميع الحالات، فلا ضرورة لعلامات التأنيث أو الجمع إذا أراد المتكلم أن يستغني عنها، ولا يختلف المعنى إذ قيس رجل عدل وامرأة عدل ورجال عدل ونساء عدل؛ لأن الأسماء هنا في حكم المضاف والمضاف إليه من جهة المعنى، ولا تأبى اللغة مع ذلك أن تستخدم العلامات أحيانًا على حسب العرف المشهور.

ولا تظهر دقة اللغة في منطقها الخاص بها من شيء في قواعدها كما تظهر في مواضع التسوية بين التذكير والتأنيث في بعض صيغ المبالغة، كما يتساوى رجل راوية وامرأة راوية، ويتساوى رجل متلاف وامرأة متلاف، ويتساوى رجل صبور وامرأة صبور، فإن في المبالغة نوعًا من الكثرة والزيادة يلحقها بكثرة الجمع، ويجري عليها ما يجري على «كل جمع مؤنث» من قبيل «قالت الرجال وقالت النساء» والعرب المستعربة والعرب المستعربين … وهو التفات عجيب يدل على تناسق خفي وراء هذه القواعد يبعدها عن خلط المصادفة والارتجال.

ومثل هذا في الوضوح ظهور الفارق بين الكلمات التي تؤنث في اللغة العربية وهي خالية من علامات التأنيث، وبين كلمات الجنس المشترك في اللغات الأجنبية، فإن هذه الكلمات تبلغ المئات في اللغات الأجنبية لنقص في التمييز يعوضونه بإضافة ضمير في ضمائر التأنيث، ولكنها لم تترك عندنا بغير علامة مميزة لأن اللغة عاجزة عن تمييزها بعلامة من علاماتها الكثيرة، بل هي متروكة لاعتبارها أصلًا من المؤنثات المجازية أو المذكرات المجازية، فليس السبب هنا راجعًا إلى نقص العلاقات والصيغ أو إلى قواعد اللغة على العموم، ولكنه راجع إلى التصور النفساني الذي يوحي إلى الذهن إلحاق بعض الأشياء بهذا الجنس أو ذاك على حسب العوامل الكثيرة التي تعمل عملها في هذه التفرقة عند أبناء اللغات أجمعين.

وهذه مزية الصفة عندما نضيفها إلى المزايا الأخرى التي تستحق بها اللغة العربية عندنا وعند غيرنا من المنصفين أن تسمى بأم اللغات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤