التعاون الثقافي العربي

أمام الأمم العربية الآن مشاكل ثقافية معقدة، قد لا يواجه مثلها غيرهم من الأمم، فالأمم الغربية تواجه مشاكل ولكن ليست من جنس مشاكلنا، وإن كانت تتصل بها. لقد حددت مسلكها في التعليم وأوضحت غايتها إلى حد ما، ولكنها في طريقها المرسوم تجد بعض المشاكل: كالرغبة في تعميم التعليم غير الأوّلي، ونشر الثقافة، وتعديل المناهج وإصلاح بعض الخطط.

أما الأمم العربية فمشاكلها أعقد من ذلك؛ لأنها إلى الآن لم ترسم خططها واضحة، ولم تضع للتربية تعريفًا يتفق وأغراضها وآمالها، ولذلك مزّقت أساليب التربية المختلفة وحدتها، هذا تعليم ديني بحت، وهذا تعليم مدني بحت، وهذا تعليم لخدمة فرنسا، وهذا تعليم لخدمة انجلترا، وهذا تعليم لخدمة أمريكا، وهذا تعليم لخدمة التبشير ونحو ذلك. وكل هذا لا يقيَّد بقيود قومية مما ليس له نظير في أية أمة حية ترعى مصالحها ولا تسمح بتمزيق وحدتها، ونشأ عن ذلك اختلاف النزعات الأساسية بين الأمة العربية الواحدة، فكيف بالأمم العربية مجتمعة؛ ونشأ عن هذا أيضًا اختلاف المنطق واختلاف التفكير، هذا في منتهى الرجعية، وهذا في منتهى الحرية، وهذا في منتهى العصبية الدينية، وهذا في منتهى العصبية اللادينية، وهذا في منتهى العصبية لأمة أوربية، وهذا في منتهى العصبية ضد كل نزعة أوربية، حتى لكأننا في برج بابل.

قد تجد شيئًا من هذه النزعات المختلفة في الأمم الأوربية، ولكنك لا تجدها بهذه الحدة وبهذا التناقض كما تجدها في الأمم العربية بل في الأمة الواحدة العربية؛ ويشبه الخلاف بيننا وبينهم الخلاف بيننا في الملابس والخلاف بينهم، فكلهم يلبسون على نمط أساسي واحد، وإن اختلفوا ففي قيمة ما يلبسون لا في شكل ما يلبسون، أما نحن فنختلف في الأساس وفي الأشكال اختلافًا لا حد له.

إذن، نحن في أشد الحاجة إلى الإجابة عن هذين السؤالين:
  • (١)

    كيف نوحد أسس التعليم ولا نسمح بهذه النزعات المتباينة الضارة ولا نجيز الاختلاف إلا في العرض لا في الجوهر؟

  • (٢)

    ما تعريف التربية الذي يجب أن ينشده العرب، ما الجملة التي تركز فيها كل أغراض الأمم العربية في التربية والتي يجعلها رجال التربية نُصْب أعينهم لا ينحرفون عنها يَمْنة، لا يسرة؟

هذه إحدى المشاكل التي تواجه العرب.

والمشكلة الثانية: أن العرب يختلفون عن الغرب في شيء جوهري، وهو أن الأمم الأوربية والأمريكية حددت نوع مدنيتها وثقافتها: عمدت إلى الثقافة اليونانية والرومانية وغيرها فغربلتها، واتخذت خيرها، وامتصت عصارتها، وبنت عليها حضارتها وثقافتها، وخلصت من ذلك كله، ورسمت لمدنيتها منهجًا تسير عليه في كل شأن من شؤون الحياة ومنها الثقافة.

أما العرب فلهم موقف آخر، هم بين ثروة قديمة من الثقافة العربية، فيها الخير والشر، والغث والسمين، وحبات الدر وحبات الحصا، وثقافة غربية فيها الضار والنافع كذلك ولا غنى لنا عنها، تحكمنا بطبيعتها وكيمياها وما تنتج من آلات وصناعات، فإن كان على الأوربيين عبء واحد، فعلى الأمم العربية عبئان.

ماذا نأخذ من تراثنا القديم وماذا ندع؟ ماذا نأخذ من الغرب وماذا ندع؟ إن لنا دينًا ولنا لغة ولنا أدبًا لا بد أن نستمده من وحي آبائنا، وإن للغرب علومًا وفنونًا وصناعات لا بد أن نستمد منها لنجاري الزمن.

كيف نوفق بين المدنيتين ونمزج بين الحضارتين، ونكوِّن لنا شخصية ممتازة لا هي كل الشرق القديم ولا هي كل الغرب الحديث؟ كيف ننقي قديمنا ونأخذ زبدته ونفرغ منه، وكيف نحدد ما ينفعنا من الجديد ونرسم خريطته، وننتهي من ذلك ولا يكون علينا إلا ملء الخانات الفارغة منه؟

ثم مشكلة ثالثة: قد خلقت لنا المدنية الحديثة علومًا لا عهد لنا بها، وفي هذه العلوم مصطلحات فرعية لا تُحصى، في الطبيعة والكيمياء والفلك والاجتماع والنفس والعمارة والصيدلة، وخلقت لنا ألوفًا وألوف الألوف من الأدوات والصناعات والعقاقير ومركباتها ونحو ذلك، ولا غنى للعرب عن استعمالها، فكيف نتفق على تعريبها وتوحيد مصطلحاتها والاتفاق على الألفاظ الصالحة لها، فليس يليق أن تنفرد كل أمة عربية بوضع مصطلحاتها ما دامت اللغة العربية ملكًا لجميع الأمم العربية وقدرًا مشتركًا للتفاهم بينهم؟ ما وسائل التعريب؟ ما قواعد التعريب؟ كيف ينظم التعريب؟ كيف يبدل الجهد للفراغ من كل المصطلحات الأوربية حتى نقف مع الأوربيين على قدم المساواة، وننتهي من الماضي، ولا نواجه في الحاضر إلا ما اخترع حديثًا واكتشف حديثًا.
ثم مشكلة رابعة: لكل أمة من الأمم الحية دائرة معارفها، بل دوائر معارفها، تكتب بلغتها وتساير العلم في مراحله، ويعاد طبعها بين حين وآخر، ويزاد في الطبعة الجديدة ما وصل إليه العلم الحديث بين الطبعتين؛ وكل أمة تعني في دائرة معارفها بنوعين: القدر المشترك بين جميع الأمم، والعناية الخاصة بموضوعاتها الخاصة من جغرافيتها وتاريخها وأعلامها؛ هذا ما علمته انجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها.

فماذا فعلت الأمم العربية في هذا السبيل؟ دائرة معارف للبستاني لم تكمل وأكل عليها الدهر وشرب، وتقدم العلم عليها حتى أصبحت في عداد التاريخ. ثم لم تجد من يكملها ويقدمها مع الزمن، ويطبعها طبعة جديدة تتفق والنهضة العربية يكون فيها خير التراث العربي وخير التراث الغربي؟

ومشكلة خامسة: إذا وحدت الأمم العربية تعريف تربيتها ورسمت خطتها في التعليم، فلا بد من الفصل بين مسألتين: قدر أساسي مشترك تتساوى فيه الأمم العربية من حيث المناهج والخطط والغرض؛ وقدر خاص غير مشترك تحافظ فيه كل أمة عربية على شخصيتها، فتتوسع في جغرافية بلادها وتاريخ رجالها، وتسير كل أمة في المستوى الذي يناسب استعدادها ومقدرتها المالية.

فما هو هذا القدر المشترك، وما هو هذا القدر الخاص وكيف يحدد وكيف يرسم؟

•••

هذه في نظري أهم المشاكل التي تواجه العرب من الناحية الثقافية، وهذه هي الأسئلة التي يجب أن تطرح ويجاب عنها.

فكيف يكون ذلك؟

لهذا جملة وسائل:

أن يكون هناك مكتب للتعاون الثقافي تختار كل حكومة عربية من يمثلها فيه، وهؤلاء يتبادلون الرأي في هذه المشاكل وأمثالها، ويضعون الأسس اللازمة للسير عليها، وهذا هو ما بدئ به فعلًا حسبما أعلم، ولا ينقصه إلا التعميم واشتراك الأمم العربية كلها فيه، والنشاط في عمله.

ولكن هذا وحده — في نظري — لا يكفي؛ فالممثلون الرسميون عادة يُضطرون إلى تقدير اعتبارات سياسية قد تحدُّ من نشاطهم وتلوِّن بحوثهم وتفكيرهم.

ومن أجل هذا ينبغي أن تكون بجانب هذه الهيئة الرسمية هيئة أخرى غير رسمية، فيؤلفون جمعية تعاونية تبحث الموضوعات بحثًا حرًا طليقًا مجردًا عن الاعتبارات السياسية، وهذه — فضلًا — عن خدمتها للفكرة تفيد فائدة كبرى الهيئة الرسمية، وهذه الجمعية يختار أعضاؤها ممن عرفوا بالإخلاص والجد وعدم الاستهواء السياسي والغيرة على مصلحة الأمم العربية الثقافية، وتتعاون هذه الجمعية في غرضها، وتعمل في وضح النهار، ولا يكون لها غرض إلا خدمة الثقافة ومعالجة المشاكل التي أسلفنا الإشارة إليها.

وهذه الجمعية تعقد مؤتمرًا كل سنة على مثال المؤتمر الطبي، كل سنة في قطر من الأقطار العربية، سنة في القاهرة، وسنة في دمشق، وسنة في بغداد، وسنة في مكة وهكذا.

ويكون للجمعية سكرتيريتها تحدد أغراض الاجتماع وموضوعات البحث، ويتعاون أولو الخير والبر على إمدادها بالمال اللازم لها: ويكون لهذه الجمعية مجلة بلا مجلات؛ فمجلة لنشر أعمال المؤتمر وأخباره، واختيار لجانه الفرعية ومبلغ نشاط الأعضاء واللجان في نواحيها الثقافية المختلفة؛ ومجلة تكون على نمط «المختار من ريدرز ديجست» تعني بخلاصة خير المقالات التي تنشر في الصحف والمجلات العربية بل والإسلامية من غير العربية، فمثل هذه المجلة تقرب من أفكار الشرق، وتؤلف بين ثقافته، وترقي تفكيره، وفي هذا خدمة للوحدة العربية الثقافية وهكذا.

ثم بجانب هذا وذاك ضروب أخرى من التعاون الثقافي لا بد منها، مثال ذلك تبادل كبار الأساتذة والعلماء والأدباء في الأقطار العربية المختلفة، فأساتذة الشام في مصر والعراق، وأساتذة العراق في مصر والشام، وأساتذة مصر في الشام والعراق، وهكذا في الإجازات المدرسية، وفي المسامحات الصيفية، فهذا يخلق جوًا علميًا بديعيًا وتعاونًا ثقافيًا جليلًا.

ثم انتهاز الفرص العلمية والأدبية لذلك، فمهرجان لذكرى أبي العلاء في الشام تلقى فيه البحوث الأدبية من أساتذة الأقطار العربية، ومهرجان للإمام الشافعي في مصر تلقى فيه البحوث التشريعية والقانونية، ومهرجان للخليل بن أحمد في العراق تبحث فيه البحوث اللغوية، ولعمر بن الخطاب في المدينة، ولأبي الطيب المتنبي في حلب، وللإمام الأوزاعي في بيروت، وهكذا لا ينفض مهرجان حتى يعد مهرجان آخر، وفي هذه المهرجانات تتلاقى الأفكار وتتوالد الآراء، وسيكون من نتيجة ذلك حتمًا التفكير في الإصلاح من جميع نواحيه اللغوي والأدبي والنحوي والتشريعي ونحو ذلك.

إذا تم ذلك كله — وهو ما أرجو أن يكون بعد الحرب مباشرة — فنحن أمام نهضة عربية وثابة، وإصلاح عربي شامل، ووضع أسس لبناء العرب في هيكل الثقافة، وبذلك يساهمون في بناء صرح الثقافة العالمية مع البانين، ويشيدون مع المشيدين.

والله ولي التوفيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤