الشيخ رفاعة الطهطاوي (٤)

شتان بين الشيخ راحلًا إلى باريس والشيخ عائدًا من باريس، كان معصوب العينين، فعاد مفتوح العينين؛ كان يرى أن مصر أم الدنيا. فإذا هو يراها ذيل الدنيا، ولكن يجب العمل لتكون رأسها، كانت دنياه هي الأزهر وحي الأزهر، فإذا دنياه الدنيا كلها في حاضرها وغابرها ومستقبلها، بما شاهد وبما قرأ من جغرافيا وتاريخ وسياسة واجتماع؛ كانت غايته أن يكون عالمًا، ومعنى العالم في نظره أن يتقن النحو والبلاغة والأصول، فإن تظرَّف فَحِفْظُ شيء من الشعر؛ وكان مثله الأعلى الشيخ الفضالي والشيخ القويسني، وأن يجلس على مقعد بجوار عمود من أعمدة الأزهر وحوله الطلبة الكثيرون يشرح لهم أغمض الجمل وأعقد التراكيب، فإذا انتهى أقبل عليه الطلبة يتخاطفون يده لتقبيلها، فإذا هو يرى في فرنسا أن كلمة «العالم» المطلق لا مدلول لها، إنما هناك عالم جغرافيا وعالم تاريخ وهكذا، وأن شيوخ الأزهر لم يعودوا مثله الأعلى، فإن علم الأزهر نقطة من بحر العلم، وطريقة تعليمهم نقطة سوداء في مناهج التعليم، وليس مثله الأعلى أن يجلس بجوار عمود، ولكن مثله الأعلى ورسالته الكبرى أن يغزو الجهل والأمية في مصر كلها، وأن يخلق فيها حركة تعليم تقلب أوضاعها وتنير أذهانها، وتبصِّرها بالدنيا وتفهمها أين هم لأنفسهم وأين هم من الأمم الأخرى — وكان يرى الشيوخ يتملقون الولاة والأمراء تملقًا رخيصًا ليستدروا منهم كيس نقود أو خلعة سنية، فصار يرى أنه لا يستطيع أن يكف عن المدح، وإلا فسد برنامجه، فليمدح لمشروع جليل، ولإنشاء مدرسة، ولعمل خيري، ولرسم الطريق للأمراء ليتوجهوا بأعمالهم نحو الخير العام.

وأخيرًا كان يحس من نفسه الضعة إذا جالس واليًا وأميرًا أو عظيمًا، وكان يحس النقص إذا جلس في مجلس يُتكلم فيه عن شؤون الدنيا، فارتفعت نفسه، فمن فخر بلغة فهو يملك ناصية الفرنسية، ومن فخر بعلم دنيوي فليس يمكن أن يباريه، ومن فخر بمعرفة الدنيا وشؤونها فأين هو منه وقد قرأ جغرافية العالم وسياسته، وجالس أذكى الناس عقلًا وأرقاهم مدنية، وعاش في أوساط قد لا يبلغها كبير. وهكذا سمت نفسه وشعر بقوَّته في غير كبر ولا غرور، يرتفع عن بني قومه ولكن يأخذ بيدهم، ويحس قوّته فيصرفها في نفع أمته، ويحذق فهم التيارات السياسية في مصر، وعقلية الشعب وعقلية الولاة، فيعرف كيف يتجه بسفينته.

خمس سنوات في فرنسا جعلت منه إنسانًا آخر، ولكن كم من مئات ومن ألوف قضوا أعوامًا وأعوامًا في انجلترا وفرنسا وألمانيا وعادوا نكبة على أوطانهم، ولم يفيدوها حتى بكفِّ شرورهم عنها، وصدق الأثر: «الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام». ولو كان لنا في كل مجموعة من البعثة مبعوث مثل رفاعة لتغير وجه مصر.

•••

كان من العادات الظريفة التي اندثرت أن يجتمع الجم الغفير من العلماء والأمراء والأغنياء والتجار في ليلة من ليالي رمضان في بيت السادات في «بِرْكة الفِيل»، ويجلس الشريف الحسيب النسيب وشيخ السادات مجلسه الفخم الوقور يمنح الرتب والألقاب لمن شاء من الزوّار، ولكن ليست رتبة «بك» ولا «باشا» ولا نحو ذلك، إنما هي ألقاب وكُنَى يستمدها من الوحي الصوفي والإلهام اللدُنَّى، فهذا أبو الأنوار، وهذا أبو الوفاء، وهذا أبو البركات، وهذا أبو الخير؛ ففي ليلة من هذه الليالي الرمضانية كان من الزوار شيخنا الشيخ رفاعة، فتفرس فيه شيخ السادات، ونظر إليه بقلبه، ثم قال له: «اذهب فأنت أبو العزم»، وكذلك كان، وكانت كُنْية موفَّقة، فأبرز صفات «الشيخ رفاعة» عزمه.

•••

عاد الشيخ رفاعة إلى مصر سنة ١٢٤٧هـ، وقد عرفه محمد علي باشا بما كتبه عنه مدير البعثة من تقارير، وعرفة إبراهيم باشا حين قابله في الإسكندرية، لأنه سمع به حين زيارته باريس، ولأنه كان يعرف أسرته في طهطا، وقد عرف ما نكبت به من انتزاع ما في يدها من أطيان، وقطع ما يصرف لها من غلال، فأراد أن يكفِّر عن ذلك، فمنحه ٣٦ فدانًا في الخانكة (الخانقاه)، فكان ذلك مبدأ ثروته ونعمته — أرض لطيفة قريبة من القاهرة يستطيع الشيخ أن يديرها ويرفِّه عن نفسه فيها.

عيّنه محمد علي باشا مترجمًا في مدرسة الطب، وكانت بأبي زعبل، وكان ناظرها كلوت بك، وكانت محاولة أولية لمدرسة الطب أنشئت بجانب المستشفى هناك، وكان يؤخذ تلاميذها من المكاتب ومن الأزهر، لا يعرفون لغة، ولا يعرفون إلا القراءة والكتابة وقليلًا من الحساب الأوّلي، وكان المدرسون الذين يدرسون الطب إما فرنسيين أو إيطاليين، فكيف يكون التفاهم بين الطلبة والمدرسين؟ لا بد من مترجمين يعرفون العربية والفرنسية والإيطالية، فيلقي الأساتذة الدروس بلغتهم والطلبة سكوت لا يفهمون شيئًا، فيترجمه المترجمون إلى العربية، ثم يشرح المترجمون للأساتذة ما ترجموا ليثق الأساتذة من صحة الترجمة، ثم يمليه المترجمون على الطلبة بالعربية، ثم يحفظه الطلبة، ومن أظهر التقدم من الطلبة واستطاع أن يفهم من الأساتذة بعض الشيء جعل مشرفًا على الطلبة الضعاف مساعدًا للأستاذ والمترجم.

وهؤلاء المترجمون أيضًا مشكلة أخرى، فهم طائفة من السوريين أو الأرمن أو نحوهم مثل مسيو رفاييل ومسيو عنحوري، قد يجيدون اللغة الأجنبية، ولا يجيدون العربية؛ فاقتضى الأمر أن يؤتى ببعض علماء الأزهر لتصحيح ما يترجمه المترجمون، وسبَّب وجود علماء الأزهر مشكلة ثالثة، وهي أن التشريح حرام، وهو يُعمل في السر، ويخشى أن يطلع عليه علماء الأزهر فيفضحوا المدرسة ويولِّبوا عليها الرأي العام، وليس لهذه المشكلة من علاج إلا أن يختار من الأزهر الشيوخ المرِنون، كالشيخ الدسوقي والشيخ الهراوي، ويُرْجَوْن ألا يفشوا السر.

هذا هو الوضع للمدرسة أيام عين بها «الشيخ رفاعة» مترجمًا، فكان أول مترجم مصري يجيد العربية والفرنسية وله إلمام بالطب، وقد عين مرءوسًا للمسيو عنحوري، فلما رأى منه (مسيو عنحوري) هذه المقدرة تخلَّى له عن مكانه.

وعهد إلى الشيخ رفاعة إلى جانب الترجمة أن يعلِّم بعض الطلبة الإعداديين اللغة الفرنسية والجغرافيا، وصدر الأمر بأن يعطي مرتبًا على ذلك ١٢٢٣ قرشًا في الشهر، مع إضافات، كبدل انتقال ونحو ذلك. مرتب ضخم في ذلك العصر، فاثنا عشر جنيهًا كانت قدرتها الشرائية أكثر من ستين أو سبعين جنيهًا في عصرنا، حتى قبل أن يرخص ورق النقد.

ولهذا نرى الشيخ ينزوج بنت خاله الشيخ محمد الأنصاري، ويتبحبح في المعيشة، فيكون له بيت في «المهمشة» بالقرب من شبرا، وفيه حديقة لطليفة فيها أثر الذوق الفرنسي، وفي البيت جوارٍ وعبيدٌ من ملك يمينه — فلم يكن أبطل الرق بعدُ — وفي ذلك أثر للذوق الشرقي.

عمل في مدرسة الطب ما شاء الله أن يعمل، وأحس الطلبة روحًا جديدًا في المدرسة، ورقيًا في لغتهم اقتربوا به من أساتذتهم، وقرَّب إليه بعض خيار الطلبة يشجعهم ويمرنهم ويَعُدُّهم للبعثة، وكان من هؤلاء محمد علي باشا البقلي — جراح مصر الشهير — فكان يقبِّل يد الشيخ كلما رآه، ويعدُّ نفسه صنيعة من صنائعه، فلولاه ما نبغ، ولولاه ما كان مبعوثًا؛ بل أخذ الشيخ في هذه الفترة يضع الرسائل في الطب يساعد بها الطلبة ويراجع الكتب العربية القديمة من قانون ابن سينا وتذكره داود لوضع المصطلحات الطبية.

ولكن لم يلبت بهذه المدرسة إلا نحو سنتين، ثم صدر الأمر بنقله من مدرسة الطب بأبي زعبل إلى مدرسة «الطوبجية» بطره، وكان ناظرها رجلًا أسبانيًا اسمه «ساكورا» بك، واسمه في الأصل «الدون أنطونيو ده سيجويرا» عرَّبه الشيخ رفاعة إلى «ساكورا»، وكان في الأصل ضابطًا برتبة كولونيل في المدفعية، عهد إليه تأسيس هذه المدرسة وتنظيمها لتخريج ضباط للجيش وللبحرية، يؤخذ طلبتها من المكاتب، ويتعلمون بها الفنون العسكرية والحساب والجبر والهندسة ولغة أجنبية.

فعين الشيخ رفاعة ليترجم الكتب العسكرية والرياضية، بعد أن كان يترجم الكتب الطبية، وطلب إليه أن يترجم فن إحداث الجراح، بدل ما كان يترجم فن تضميد الجراح — فليكن — ها هو الشيخ يعكف على ترجمة كتاب في الهندسة يدرس في مدرسة «سانسير» بفرنسا، وها هو يقلب أيضًا الكتب القديمة في الهندسة يستخرج مصطلحاتها، وها هي مطبعة بولاق تطبعها وتوزعها على طلبة مدرسة الطوبجية.

ولكن الشيخ لم يعجبه مسيوبا كورا بك، ولم تحسن العلاقة بينهما. وتأتي سنة ١٢٥٠هـ، فيحدث في مصر طاعون شنيع، ويكثر الموتى وتضطرب الأحوال في القاهرة، ويغلو السعر حتى تكون كيلة القمح بتسعة قروش، فيسافر الشيخ بلا إذن إلى بلده طهطا.

مكث في بلده ستين يومًا، هل استراح فيها وسكن إلى أهله وأهل بلده بعد غيبة طويلة؟ هل فكّر في الطاعون وكثرة الموتى؟ هل صدَّه عن العمل تضايقه من مسيوسا كورا؟ لا شيء من ذلك، ها هو كتاب في الجغرافيا أعجب بقراءته لما كان في باريس، وأعيدت منه طبعة جديدة أدخلت عليه تعديلات جديدة، وهو كتاب ضخم واسع مؤلفه «ملطبرون» Malte-Brun دنماركي الأصل، نفي من بلاده فأقام في باريس، فعكف على دراسة الجغرافيا طول حياته، واعتصر منها مؤلفًا في ستة أجزاء ضخام، أقام في تأليفه تسعة عشر عامًا، وفيه أرقى المعلومات وأوسعها عن العالم (في عصره) لو ترجم إلى العربية لوسَّع من آفاق أهل العربية وفتح عيونهم للعالم.

في هذه الستين يومًا دأب على ترجمة الجزء الأول منه، وعاد به في يده، وقابل محمد علي باشا وقدمه إليه وشرح له قيمته، فشكره ومنحه منحة، وأنعم عليه بلقب صاغ، إذ كانت كل الرتب عسكرية، فأصبح «الصاغ رفاعة»؛ وشكا له من عمل في مدرسة الطوبجية ومن مسيوسا كورا، وقدم إليه مشروعًا لمدرسة الألسن وصف فيه برنامجها وما يصح أن تؤديه لمصر من الخدمة إذا أسست على أساس صحيح، وأنه هو أنفع لهذا العمل والإشراف عليه، فكان ذلك، ونقل من مدرسة الطوبجية إلى مدرسة الألسن، يؤسسها وينظمها ويتولى الإشراف عليها. وهنا أعطى القوس باريها وتجلت عظمته ومواهبه فيها.

ما مدرسة الألسن التي خلقها الشيخ رفاعة، وما الغرض منها؟؟

لقد عرف الشيخ رفاعة في باريس مدرسة اللغات الشرقية، أسِّست لدراسة لغات الاستشراق، وكان يسميها في كتابته مدرسة الألسن، لِمَا ذاع في العربية من اللسان العربي واللسان العجمي، ولما جرى على ألسنة العامة: «يتكلم بالسبعة ألسن». ولكن موقف مصر في اللغات غير موقف فرنسا، فوجب أن تؤسس في مصر مدرسة للألسن تواجه مطالبها وتناسب موقعها.

لقد نجحت فكرة محمد علي باشا في البعثات، وعاد أعضاؤها يتكلمون الفرنسية، ويجيدون ما تخصصوا له من المسائل الفنية، ولكنهم لا يكفْوُن للنهضة المصرية الواسعة النطاق، إن مصر محتاجة لمن ينقل لها خير ما وصل إليه العلم الحديث في كل فروعه، فلا بد من تكوين طائفة كبيرة من الشبان يحذقون العربية ولغة أخرى حية، وخاصة الفرنسية، وإلى ذلك يثقفون ثقافة فنية خاصة، هذا في الرياضة، وهذا في القانون، وهذا في الجغرافيا والتاريخ؛ حتى إذا عهد إليهم ترجمة كتاب كانوا مثقفين بعلمه ولغته، وهؤلاء المتخرجون على هذا النحو يستطيعون أن يقوموا بترجمة الكتب في الفروع المختلفة، ويصح أن يكونوا معلمين في المدارس التجهيزية والخصوصية، ويصح أن يكونوا موظفين في مصالح الحكومة التي تحتاج إلى من يجيدون لغة إلى لغتهم الأصلية، فيكونوا نواة لنهضة صحيحة — إننا بالبعثة ننقل المصريين إلى أوروبا، وبهذه المدرسة ننقل علم أوروبا إلى مصر. الترجمة، الترجمة، هي أساس النهضة لمصر، وهي مبعثها من مرتدها، والفاتحة لعيونها، لقد تقدم العلم الإسلامي، بعد وضع أساس النهضة بالترجمة في العصر العباسي، فوجب أن تكون نهضتنا الحديثة مؤسسة على الترجمة الحديثة، ولهذا لقبوا محمد علي بالمأمون الثاني.

ثم في هذا العمل — إذا نجح — فائدة أخرى، وهي إيجاد عدد كبير ممن يحذق اللغات الأجنبية، فنستطيع بهم أن نستغني عن كثير من الفرنج الذين يحتلون هذه المناصب، كما نستريح من مشاكلهم.

فلنأخذ الطلبة من النابهين في المكاتب، وندرس لهم خمس سنوات أو ستًا اللغات العربية والفرنسية والتركية، ومبادئ الرياضيات، والتاريخ والجغرافيا، ولنختر لهذه الدراسة خير من عندنا من فرنسيين وترك وعلماء أزهر، ولنخلص النية في تعليم هؤلاء الطلبة، فعليهم تتوقف النهضة، وهم معقد الأمل.

هذا هو مشروع مدرسة الألسن كما تصوره الشيخ رفاعة، وكما صادق عليه محمد علي باشا، وصدر الأمر بإنشائها، وأعدت عدتها، وفتحت، وتولى نظارتها «الشيخ رفاعة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤