الحياة الروحية (٢)

عماد الأديان كلها أن وراء هذه المملكة الظاهرة في الحياة مملكة أخرى باطنة، وهاتان المملكتان يختلف بعضهما عن بعض تمام الاختلاف؛ فالمملكة الظاهرة فيها المادة بجميع أشكالها وتطورها، من حبة الرمل إلى خلية المخ، وفيها كل مظاهر الحياة مما نرى من جماد ونبات وحيوان، وفيها كل شؤون الإنسان الظاهرة، من زرع وتجارة وصناعة، وتنظيم للحياة الاجتماعية، واستغلال وجمع وإنفاق، وتدبير ميزانيات، وإنشاء دواوين وحكومات تشرف على الأعمال، وملوك أو برلمانات تشرف على الحكومات، وهكذا — وكل ما نقرأ من أحداث التاريخ فإنما هو تاريخ هذه المملكة الظاهرة — أما المملكة الباطنة ففيها أنبياء وأولياء وقديسون وملائكة وشياطين، ويوم آخر، وبعث ونشور، وحساب وثواب وعقاب، وجنة ونار، وروح ووحي، وإلهام وإله.

وهذه المملكة الباطنة سميت أسماء مختلفة، فبعضهم يسميها «دائرة المجهول»، و«ما لا يمكن علمه»، وسماها القرآن «الغيب»، كما سمى المملكة الظاهرة «الشهادة»، فقال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، لْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ. الخ. وترى الأديان أن هذين العالمين إذا قُوما فالمملكة الظاهرة قليلة القيمة جدًا إذا قيست بمملكة الباطن؛ لأن الأولى ذاهبة فانية، والأخرى باقية خالدة؛ ولأن الأولى دخلها عنصر الزمان فأضعف قيمتها وأقصر مدتها، وأما الأخرى فلم يدخلها عنصر الزمان فخلدت. وكما كان في مملكة الظاهر خدّاعون وكذّابون يكذبون في العلم والخُلق والتجارة والصناعة، كان كذلك خداع وتمويه في عالم الغيب، كقصص العفاريت، وأعمال السحرة، والأساطير المتوارثة في كل أمة، والتنجيم والطلاسم، وهكذا.

وليس الإيمان بعالم الغيب — كما يظن بعضهم — ضربًا من الأوهام ورثناه من آبائنا الأولين أيام كانوا ضعاف العقول، أقوياء الخيال، بل هو جزء من طبيعة النفس الإنسانية ملازم لها في جميع أدوار عقليتها ومدنيتها وثقافتها، والذين أنكروه أنكروه بمنطقهم، ولم يستطيعوا التجرد منه في نفوسهم ومشاعرهم.

يشعر الناس أن هناك دائرة للمعلوم تحيط بها أسوار، وأن وراء هذه الأسوار دائرة المجهول أو عالَم الغيب، وأنهم يريدون أن ينفذوا من هذه الأسوار للوصول إليها، فمنهم من يصل ومنهم من ينقطع.

ووسائل إدراك مملكة الظاهر غير وسائل إدراك مملكة الباطن، فوسائل الأولى هو ما نسميه «العلم»، وهذا العلم يعتمد — فقط — على الحواس الخمس، وهي: السمع، والبصر، والشم، واللمس، والذوق؛ فكل المناهج العلمية، وكل الآلات والمخترعات، وكل البحوث في الطبيعة والكمياء، والفلك، والنبات والحيوان، إنما عمادها هذه الحواس الخمس، مرهفة أو مكبرة؛ حتى أدق العمليات الرياضية والهندسية، إنما هي أعمال الحواس الخمس تستخدم فيها المقارنة، ثم إعمال العقل في هذه المقارنات بالاستنتاج؛ وكل النتائج العجيبة التي وصل إليها العلم ليست إلا وليدة الملاحظات الحسية مع الاستنتاج المنطقي، وهذه هي خطة العلم دائمًا.

أما وسائل عالم الغيب، فليست الحواس ولا المنطق، وإنما هي الرياضة النفسية، واختطاط خطة غير الحواس الخمس، ومحاولة تخطي هذه الأسوار بها، والنفوذ من خلالها لإدراك عالم المجهول؛ وهذا ما سلكه دائمًا الروحانيون من الأنبياء والمتصلين بهم، فمحمد، وعيسى، وموسى، وغيرهم. لم يسلكوا سبيل العلماء في بحثهم واعتمادهم على الحواس وتجريبهم ومقارنتهم بين المواد والاستنتاج منها، إنما راضوا نفوسهم على نحوٍ ما لينفذوا إلى عالم المجهول. وغار حراء بالنسبة لمحمد في جهده للوصول إلى المجهول من عالم الغيب، كالعالِم في معمله وتجاربه في عالم الشهادة؛ هذا منهج وهذا منهج، وشتان ما بينهما. بالمنهج العلمي من ملاحظة وتجربة واستنتاج ومنطق تكتشف قضايا العلم، وبالمنهج الروحي الذي أشرنا إليه، يحدث نوع من المعرفة أساسه ما نسميه بالوحي أو الإلهام.

وفي القرآن قصة ترمز إلى الفرق بين نوعي العلمين: العلم المبني على المنطق، والعلم المبني على مكاشفة الروح، وهي قصة موسى مع العبد الصالح الذي علمه الله من لدنه علمًا؛ فموسى سلك سبيل المنطق، وبناء المسببات على الأسباب الظاهرة؛ وهذا العبد الصالح لم يسلك هذا المسلك، فخرق سفينة ليس لخرقها من سبب ظاهر، وقتل نفسًا ذكية بغير نفس، وأقام جدارًا لأهل قرية أبوا أن يُضيفوهما، وكل هذا منتقد من جانب المنطق، ولكن له ما يبرره من جانب الإلهام الروحي كما شرح في القصة١.

لقد ذهب كثير من علماء النفس إلى أن وسائل العلم والمعرفة تنحصر في الوسائل المعروفة من ملاحظة وتجربة، وعدَّوا ما يظهر غير ذلك نوعًا من المرض النفسي، أو شرودًا في الخيال؛ ولكن ظهور حالات كثيرة من المعرفة، وانكشاف أمور ليس انكشافًا أساسه المنطق، عدَّل أذهان كثير من علماء النفس، فأقروا بأن هناك إدراكًا أساسه المنطق من ملاحظة وتجربة واستنتاج، وهذا هو العادة والأغلب؛ ولكن بجانب ذلك أحوال نادرة، يستطيع فيها الإنسان أن يدرك ويعلم، ويعرف عن طريق غير المنطق، وإن كانت نادرة؛ وأقروا بأن طريقة علمنا ومعارفنا وبحثنا واستنتاجنا هي الطريقة المألوفة العادية، ولكن ليست هي كل وسائل المعرفة، فهناك من الوسائل ومن أنواع الإدراك ما لا يخضع للمنطق. ومن ذلك الحين أخذ علماء النفس ينوِّعون اتجاههم، ويوسعون بحثهم؛ فبحثوا في التصوف ونفسيته، وكيفية إدراكه ومعرفته، ولا يزالون في بدء هذا الاتجاه، وهذا البدء كان بدءًا نقط من الناحية العلمية، أما الحقائق نفسها فمقررة في كل دين، معترف بها في كل عصر.

على هذا الأساس تكون الإنسانية تسبح في دائرتين: دائرة خارجية أو ظاهرية، ودائرة داخلية أو باطنية؛ مثل الأولى كجسم الشجرة، وجذعها وساقها، ومثل الأخرى كالحياة تدب فيها فتكون وظائفها المختلفة، وتهيئها للازدهار والإثمار، ومثلها جميعًا كجسم الشمعة وقوتها على الإضاءة.

وكل ما نعني به الآن من علوم على اختلاف ألوانها، وما نعني به من تاريخ أحداث وحروب واجتماع، وما نعني به من دعوة إلى الصدق والأمانة، والجد والعدل، كل ذلك متعلق بالحياة الخارجية؛ أما الحياة الروحية فحياة داخل حياة، وحكومة داخل حكومة؛ وهذه غذاؤها الدين، وهو غذاء فاسد إن فسد، وصالح إن صلح.

ونرى في عضون التاريخ إشارات إلى هذا الحياة الروحية في معابد اليونان، وهيا كل المصريين ورموزهم: فالخاصة كانوا يفهمونها على حقيقتها ويرمزون إلى المعاني التي في صدورهم برموز مجسمة وقصص رمزية يفهمها الخاصة على أنها رمز، ويفهمها العامة على أنها حقائق. وهكذا الشأن في تاريخ سائر الأمم والديانات.

وقد حاول كشف المجهول من الحياة الخارجية والباطنية أربعة أصول؛ كل سلك طريقه الذي يناسب طبيعته ومزاجه: العلم، والفلسفة، والدين، والفن؛ وكثيرًا ما تنازعت في الطريق، وقامت بينها المشاحنات والخصومات، ومنازعاتها دليل على أنها لم تدرك وظائفها حق الإدراك؛ وأن كلا حاول أن يوسع طريقه على حساب غيره، وأن يتعدى في اختصاصه على اختصاص غيره، ولو نظرت كلها إلى طريقها من طيارة لأدركت أن الطريق المرسوم لكل منها طريق مستقل بنفسه، واضح بأعلامه، وأنها كلها تصب في دائرة وسطها، هي دائرة الحقيقة. ولو سار كل في طريقه الخاص به، ولم يتعدَّ على غيره لتوصل إلى الحقيقة من جانبه، وهذه الحقيقة كفيلة بأن تنكشف في نهاية كل طريق عما يخصه، وفيها كلها كشف الحياتين الظاهرة والباطنة، والعالمين عالم الغيب والشهادة؛ ولكن مع الأسف نرى علمًا يُغير على دين، ودينًا يغير على علم، وفلسفة تُغير عليهما، جهلًا بالطريق، وعمى عن الحقيقة.

إن العلم — كما قلت — أساسه الملاحظة والتجربة، ولا يكون ذلك إلا فيما يُلحظ ويجرَّب، فإن أراد أن يتخطى أسواره إلى عالم الغيب، فقد أدواته، وتكلم كلامًا سخيفًا، وكذلك إذا أصابه الغرور، فأنكر ما وراء السور.

والدين عماده الوحي والوصول عن طريق الروح إلى عالم الغيب بالرياضة وما إليها، والاتصال بالشعور الأنبل إلى القوة العليا، فإذا هو تخطى الدائرة الروحية إلى الدائرة العلمية، فتعرض لقضايا العلم بشرحها ويدلل عليها، أو ينكر على العلماء بحثهم ونتائجهم، فقد تعدى طوره؛ وكذلك إذا أخذ يدلل على الدين بقضايا المنطق كما فعل علماء اللاهوت وعلماء الكلام في الإسلام، فقد أتوا بفلسفة تافهة ليس فيها طعم الفلسفة ولا طعم الدين؛ وكل هؤلاء وهؤلاء مثلهم مثل من أراد أن يشم بعينه، ويرى بأذنه، ويتذوق بأنفه.

والفن من أدب وموسيقى وتصوير أساسه الفهم العاطفي، والشعور باما خفي وراء المظاهر، والوصول إلى قلب الأشياء ومزجها بعواطف الفنان ومشاعره ومزاجه، وإبرازها في شكل متناغم، والاستمداد من قوة الخالق ليخلق صورًا وألوانًا يلهم بها العواطف النبل والسمو؛ فإن هو لم يمس الباطن واكتفى بالسطح، أو اقتصر على استخراج السخرية والهزؤ، لم يؤد رسالته، وعدّ من توافه الأشياء؛ وإن هو اكتفى باستدرار المال من الأمراء والأغنياء، أو كان وسيلة لإثارة المشاعر الجنسية، كان سلعة تجارية وضيعة لا سموًا روحانيًا رفيعًا.

والفلسفة أساسها التأمل والتفكير المنطقي، وشرح ما نعلم وتمييزه عما لا نعلم، والوصول إلى جذور شجرة العلم والفن والدين لإدراك أصولها؛ فإن هي كانت لعبًا بالألفاظ، وعرضًا لآراء الفيلسوف ومشاعره، وتضاربها مع آراء الفلاسفة الآخرين ومشاعرهم، لم تؤد رسالتها، وكانت فلسفة لفظية أو شكلية أو حوارية، أو ضربًا من التعمية، أو سخافة مغلَّفة بالألفاظ الغريبة الضخمة.

وما المدنية الحقة إلى هذه الأصول الأربعة راسمة لكل أصل حدوده وطرقه، موازنة بينها حتى لا يطغى منها أصل على أصل، مهذِّبة كل أصل حتى لا يدخله الاستبداد والغرور، منقحة كل واحد منها حتى لا يدخله زيف أو تحوير أو تضليل.

ونفس كل إنسان فيها هذه العناصر الأربعة، مع تفاوت بين الناس في المقدرة والكفاية والفعالية والقابلية؛ والنفس الكلية للعالم كذلك فيها هذه العناصر واضحة جلية، وهي بجملتها وتفصيلها مظهر المدنية.

وفساد مدنيتنا التي نعيش فيها اليوم أتى من اختلال التوازن بين هذه العناصر، وما دخل على كل عنصر من الفساد.

فالعلم تقدم وتقدم، ولكن أين له القلب؟ لقد ملأ الدنيا آلات وأدوات، ونظريات في السياسة والاجتماع والاقتصاد، ولكن أصيب بعيبين: أولهما أن دائرته الطبيعية هي المادة، فأداة غروره أن يبحث فيما وراء المادة بأدوات المادة، فلما لم يجده أنكره؛ وثانيهما أن الروح لم تتقدم تقدمه وتخلفت وتخلفت، فاستُخدم التقدم العلمي لخدمة الغرائز الوحشية على شكل ممدَّن، فإذا كان الوحشي يقتل بالحجر أو الهراوة، فالعلم يقتل بالكهرباء والغواصات والطائرات والغازات الخانقات؛ والوحشي يأسر خصمه ويستعبده لخدمته، والمدني يغزو ويفتح ويستغل ويستعبد بأسلوب منظم، وفي الأمة الواحدة أنواع وأنواع من الاستعباد؛ وكذلك الشأن في بواعث اللهو والسرور، فقد ترقت في الرقص والموسيقى واللعب. فالغرائز بين المتوحش والمتمدن واحدة، والبواعث واحدة، والعلم نظَّم الشكل وهذَّب الأسلوب فقط، وقامت عظمة المدينة على ما كان عند المتوحش من غريزة حماية الأسرة أو القبيلة بشكل أضخم، من استعداد حربي عظيم، وتقوية الروح العسكري ونحو ذلك؛ فالعلم — بتقدمه من غير أن يتقدم الباعث القلبي — أبقى القديم ورقّى الشكل؛ فأصبحت المدنية على هذا الوضع وحشية مغلفة، أو همجية مفضضة.

والدين في المدنية الحديثة مظهر لا مخبر، وعمل بلا قلب، وشعائر بلا شعور، وحركات بلا روح، ورجاله أتباع السلطة المدنية، لا قادة الحياة الروحية، ينظرون بأعينهم إلى الأرض، ولا ينظرون بقلوبهم إلى السماء.

والفن تحريك للشهوة. واستجلاب للثروة، وجدّ في بقاء الشعور في مستواها الهزلي.

فهل هذا الذي نرى — من تدمير بلغ أقصى مداه، وقلق واضطراب وصل إلى نهايته، وزلزلة وبلبلة قلبت العالم رأسه على عقبه — إعلان للثورة على المدنية التي لا روح لها، ليُبنَى على أنقاضها مدنية لها روح؟

نرجو أن يكون!!

١  اقرأ القصة في سورة الكهف: وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ الآيات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤