الابتكار

أصل «ابتكر» في اللغة معناها بادر إلى الشيء، وابتكر الفاكهة أكل باكورتها ونحو ذلك — وهذا كل ما في كتب اللغة قديمها وحديثها. ثم استعملها المحدَثون في معنى الابتداع والخَلْق فقالوا: بحث «مبتكر»، وفكرة «مبتكرة» يريدون أنها جديدة مبتدعة لم يسبق إليها.

أما المعاجم الإفرنجية فقديمها لم يذكر هذا المعنى للكلمة الإفرنجية المقابلة لكلمة الابتكار. وأما المعاجم الحديثة التي تجاري الزمان وتساير الإنسان فقد أدخلتها وعرَّفتها وقالت في تعريفها: «هي القدرة على إدراك فكرة جديدة، وإنتاج آراء أو مخترعات أو أعمال جديدة في الفن أو الأدب».

وقفت عند هذا التعريف طويلًا بعد أن قلبت المعاجم العربية والإفرنجية، وتنقل بي الخيال من فكرة إلى فكرة حتى كان من ذلك هذه المقالة.

قلت: إن الفرق بين الشرق والغرب في كل شيء كالفرق بين مساجمنا في كلمة «الابتكار» ومعاجمهم، معاجمنا جامدة واقفة، ومعاجمهم سائرة متحركة، معاجمنا مقلدِّة يعّرِّف الأخير منها الشيء والكلمة كما عرَّفها الأول، رغم تقدم العلم والإنسان واللغة، ومعاجمهم تتقدم بتقدم العلم والإنسان واللغة.

شأننا في العلوم كلها شأننا في اللغة، تقليد تام ولا ابتكار. قلِّب قواعد النحو وأمثلته تجدها هي هي عند سيبويه وابن مالك وابن عقيل، واستعرض قواعد البلاغة وأمثلتها تجدها هي هي في عبد القاهر والسكاكي وكتب المدارس، فزيد أسد وزيد كالأسد، ورأيت أسدًا في الحمام، وله لبد أظفاره لم تقلَّم، وزيد كثير الرماد، وجبان الكلب، والدنيا قائمة قاعدة، والمخترعات والحياة الجديدة مستعدة لأن تمدنا بأمثلة جديدة واستعارات جديدة، ونحن جامدون على القديم. والفلسفة كانت عندنا تقليدًا للفلسفة اليونانية، وكان الفيلسوف من يفهمها بَلْه أن يبتكرها، والتأليف العربي الواسع الضخم كان عبارة عن جمع متفرِّق لا خلْق ما لم يكن.

وكنا نقلد القديم فلما غزتنا المدنية الغربية كان كل ما فعلنا أن حوّلنا وجهتنا من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الأوربية، ومن الأدب العربي إلى الأدب الغربي، وغاية فيلسوفنا أن يفهم ما كتبه الأوربيون، وغاية أديبنا أن يقلد ما ابتدعه الأوربي من نوع القصة وموضوعها وأسلوبها أو من موضوع الشعر ونمطه؛ وشأننا في المعاني والأفكار والآداب والفنون شأننا في المخترعات وفي الصناعات والأدوات، ننتظر «الأوتوموبيل» حتى يبتدع فنركبه، و«الراديو» يخترع فنستخدمه، والآلات الصناعية تبتكر عند غيرنا فنشحنها إلى بلادنا ونشحن معها من يعلمنا كيف نركبها ونستخدمها، وإذا فسدت بحثنا عن أوربي يصلحها — والفرق بين الراقي منا وغير الراقي ليس فرقًا في التقليد، فكلاهما مقلد، وإنما الفرق فيمن نقلده — فالفلاح غير الراقي يقلد قدماء المصريين في أدوات حرثه وزرعه، والمزارع المتعلم الراقي يقلد الأوروبي في أدواته وفنِّه، وكلاهما مقلد. والأديب المحافظ يقلد بديع الزمان والحريري، والأديب المجدد يقلد شكسبير أو فولتير أو نيتشه أو جوته وكلاهما مقلد، فأين المبتكر؟

سألني مستشرق مرة — وكان يزور مصر — هل أجد في مصر فيلسوفًا له فلسفة خاصة من أمثال برجسون وبرتراند رسل يدعو إلى مذهب في الفلسفة جديد، نبع من جوِّه المصري وتفكيره المصري، فقلت له — مع الأسف — لا. وسألني سائح أمريكي هل في مصر مصلح ديني الآن يقوم بدعوة جديدة لها أسسها ونظمها، فقلت له — مع الأسف — لا. ولو سألني سائل عن فنَّان له طريقته المبتكرة التي لم يقلد فيها شرقيًا قديمًا ولا غريبًا حديثًا لقلت له — مع الأسف — لا.

راعني هذا التفكير، وأفزعتني هذه النتيجة، وتساءلت بعدها هل هذا التقليد وقلة الابتكار من طبيعة عقلنا أو من سوء تربيتنا؟

لقد وصلت إلى الإجابة سريعًا، فآمنت أنه ليس من طبيعة عقلنا، ولا من أصل خلقتنا، فنحن في إدراك الأمور وفهمهما والحكم عليها لسنا أقل من غيرنا إن لم نَفْقهم، والطالب الشرقي يتعلم مع الطالب الغربي في مدرسة واحدة وجامعة واحدة فنراه يفهم كما يفهم الآخر وينقد كما ينقد، ويحكم على الأشياء كما يحكم، ويساويه أو يفوقه في كل مظاهره العقلية، وفي هذا ما يكفي للإقناع بأن المسألة ليست مسألة طبيعة العقل، وإنما المسألة مسألة تاريخ مملوء بالأوزار والأثقال، وتربية لا تبعث روح الإبداع، وجو مسمم يخنق القدرة على الابتكار.

في تاريخنا القديم أحداث عظام خطيرة كان لها الأثر الكبير في جمودنا حتى اليوم، لا أستطيع الآن استقصاءها وإنما أذكر أمثلة منها؛ فالناظر في تاريخ المسلمين يعجب من الحركة العقلية المبتكرة في القرون الثلاثة الأولى التي اخترعت فيها العلوم العربية والأفكار الحية، من مثل الخليل بن أحمد، ذي العقلية الجبارة في اختراع النحو والعروض ووضع المعاجم، ومن أمثلة المعتزلة الذين بحثوا البحوث الجديدة وأثاروها، وأبدوا رأيهم المستقل فيها، كالنظّام والجاحظ، فهذا العصر يُعَد الابتكار طابعه وخاصته. وأرى أن وقفة الخليفة المتوكل في القضاء على المعتزلة ونصر المحدِّثين، كان لها أسوأ الأثر في مهاجمة الابتكار ونصرة التقليد، ذلك أن منهج المعتزلة كان منهج التفكير الحر في حدود أصول الدين، وبحث المسائل كما يؤدي إليه العقل الطليق إلا من قيد الإيمان بالله ورسوله، فاستطاعوا بذلك أن يبحثوا كل شيء في العال من إلهيات وطبيعيات، ويختلفوافي بحوثهم اختلافًا جريئًا محبوبًا يخالف التلميذ شيخه ويجادله وقد يُفحمه، ومنهج المحدِّثين غير هذا المنهج تمامًا هو منهج نقل وأمانة في النقل، ووقوف عنده والمحافظة على الجملة، بل على اللفظة، بل على الحرف، فإن انحرف في كلمة خرج على القداسة، وهو أسلوب طبيعي معقول مقبول في حدود الحديث وحده، ليس في ذلك غلط، وإنما الغلط جاء من تعميم هذا المنهج وتطبيقه بشدة وقسوة على سائر العلوم، فاضطهد الاعتزال ووضعت في يد المحدِّثين السلطة والقوة، فأثّروا بسلطانهم وقوتهم ومنهجهم على كل العلوم، فانغمس أهلها في الرواية، وعُوِّدوا عادة النقل وتقديس الألفاظ والشيوخ والافتخار بكثرة ما يروى، وطبعت العلوم كلها بطابع الحديث، حتى التاريخ وحتى الأدب وحتى الفكاهة وحتى الفقه وحتى الشعر.

هذا المنهج كان معقولًا في الحديث، وكان يجب أن يقصر على الحديث، فتعميمه على كل العلوم كان سببًا في العقلية العربية والإسلامية وقعت في فخ التقليد، وحرمت الابتكار إلا في القليل النادر، فنحن لا نعد كثيرًا من أمثال ابن خلدون المبتكر، ولكن نعد كثيرًا من أمثال السيوطي المقلِّد.

ونشأت الأجيال والأجيال على هذا المنهاج، وأصبح التخلص منه عسيرًا يحتاج إلى قوات كبيرة وسنين طويلة. ومن أجل ذلك لما دعا دعاتنا إلى الانتباه وعدم التقليد، وقعنا في تقليد آخر هو التقليد الأوربي، لأن ملكة التقليد لا تزال ساكنة في النفوس.

وسبب آخر تاريخي أيضًا، وهو توالي الاستبداد والظلم على العالم الإسلامي من القرن الرابع الهجري إلا في فترات قصيرة، فالعسف ومصادرة الأموال، وكسب المال من طريق الملق والمدح، وإشباع شهوة الحكام، كل هذا هو ملخص تاريخ المسلمين، وكل هذا يضعف الشخصية، ويجعلها شخصية ذليلة مقلدة لا مبتكرة. والقارئ في التاريخ الأوربي يرى أن الأوربيين عند مرورهم في مثل هذا الطور من الحياة لم يبتدعوا ولم يبتكروا، وجرى عليهم قانون التقليد كما جرى علينا، وعظَّموا أرسطو أكثر مما عظمنا، وقلدوا في الفلسفة وفي الصناعة وفي الفن كما قلدنا، إنما ظهر الابتكار يوم تحرروا، فالحرية السياسية أنتجت الحرية الفكرية والاجتماعية والأدبية والصناعية — وكان ذلك قانونًا طبيعيًا يسير عليه العالم دائمًا.

هذه هي المسئولية التاريخية في الموضوع. وبجانب ذلك مسئولية التربية، فالتربية التي تقيس الطالب بمقدار ما حصله لا ما هضمه، وبمقدار اطلاعه لا مقدار خَلْقه وابتداعه، وبمقدار حفظه لا بمقدار نقده، والتربية التي تقدس الكتاب ولا تقدس التجربة، والمدرس الذي يحاسب الطالب على ما أملى ويؤاخذه على ما خَلَق، والامتحان الذي يرتب الممتحنين حسب كثرة استذكارهم لا حسب كفايتهم، كل هذه الضروب من التربية تنتج التقليد، وتميت الابتكار، تخلق قِردة مهرة، ولكن لا تخلق أناسيَّ قادة، تخرج نسخًا مطبوعة من كتب، ولكن لا تَخلق كتابًا خطيًا مبتكرًا، هي آلة تصنع المتشابهات والأمثال لا صنع يد تخرج عديم المثال؛ إن هذا النوع من التربية ينتج الطير، ولكنه حبيس في قفص، ومهما أتقنَتْ فغايتها طير جميل في قفص جميل.

إنما التربية الصحيحة هي التي تكوّن المبتكر، وتكوِّن القادة المبتدعين، وتكوِّن الشخصية الواسعة، الشخصية الناقدة، الشخصية الخالقة، هي التي تحول «مركب النقص» في الناشئ إلى «التسامي».

كثيرًا ما تساءلت ماذا كان يكون أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وعليّ وخالد وأمثالهم من رجال الإسلام لو لم يكن محمد؟ كانوا يكونون كنظرائهم في الجاهلية، إغارة وخمر وميسر وفخر بالنسب وبالكرم، ثم لا شيء، وإنما تربية محمد لهم هي التي خلقت شخصياتهم وجعلتهم رجالًا خالدين، يبتكرون ويبتدعون ويواجهون الأحداث العظيمة بقلوب عظيمة وعقول مفتحة، ويحلون ما يعرض من المشاكل حلولًا مبتكرة لا على مثال سابق؛ وكذلك كان يكون شأننا لو وجدنا المربي الصالح الذي يستطيع خلق الشخصيات، فالوالدات لا يزلن يلدن، والطبيعة لا تزال تمنح كل أمة في كل عصر عقولها الطبيعية الممتازة وفنانيها الممتازين والأيدي الممتازة، ولكنها بذور صالحة لا تجد تربة، ومادة خامة لا تجد من يصنعها بل تجد من يتلفها — إن العدة للجيش لا تكفي لنجاحه ونصره، إنما ينصر إذا امتلأ عقيدة بقوته، وأن الله معه، وأن الملائكة تؤيده، وأن الواجب يدفعه، وأن الجنة تنتظره.

وسبب ثالث قد يضاف إلى الأسباب التاريخية وإلى التربية، وهو المجتمع، فقد يكون جوًا خانقًا للابتكار، وقد يكون جوًا مشجعًا على الابتكار — يكون جوًا خانقًا إذا سخر الناس فيه من الفكرة الجديدة وصاحبها، وإذا صفقوا للمتبع واستعاذوا بالله من المبتدع، وإذا حاربوا كل من آتاهم بما لا تهوى أنفسهم فحكّموا تقاليدهم ولم يحكّموا عقولهم، وإذا كان مقياس التقدير هو الملق والخداع والنفاق لا الكفاية الممتازة، فالمال ينهال على النوع الأول انهيالًا، والحرمان والاضطهاد ينصب على الثاني انصبابًا؛ ويكون جوًا مشجعًا إذا أعجب بمن يأتي بالفكرة الجديدة، وإذا وجدت الفكرة عقولًا واسعة تتقبلها وتمنحها وتكافئ عليها.

لقد أقمت في أوربا أشهرًا فأحسست — مع قصر المدة — بمعنيين واضحين، الأول أن الناس في الأمة يحب بعضهم بعضًا أكثر مما نحب، وقد دعاني هذا أن أكتب مرة مقالًا «الشرق ينقصه الحب»، والمعنى الثاني أن الناس يحاولون أن يبحثوا في كل شخص في مجتمعهم عن صفته الممتازة أو موهبته الفائقة ليظهروها ويشجعوها ويصفقوا لها، ونحن نبحث عنها ولكن لنَكْبِتَها ونخمدها بشتى الوسائل.

هذه — في نظري — هي الأسباب الهامة في غلبة التقليد عندنا وقلة الابتكار.

وهذه الأسباب بنت حولنا سدًا كسد ذي القرنين، بعض أحجاره من مخلفات تاريخنا، وبعضها من مخلفات تربيتنا، وبعضها من مخلفات بيئتنا، وما زالت تتراكم وتعلو حتى حصرت الفكر، وحجبت عنا نور الشمس — وفي تشخيص الداء الدواء، وقبل الرِّماء تُمْلا الكنائن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤