سياحة في العالم

قرأت هذه الأيام كتاب الدكتور مشرفة «مطالعات علمية»، ووقفت طويلًا عند مقال له عنوانه «سياحة في فضاء العالمين»، وقد أعدَّ لهذه السياحة مركبًا من أشعة النور يسير بسرعة الضوء، فيقطع في الثانية ١٨٦٠٠٠ ميل، وسيصرف نحو يوم في سياحته حول المجموعة الشمسية، فيصل إلى الشمس في ثمان دقائق، ويمر على المستري والمريخ وزحل الخ؛ فإذا جاوز المجموعة الشمسية إلى أقرب نجم من مجموعة أخرى قطع المسافة بينهما في أربع سنين، وسيرى في هذا العالم مجموعات من السُّدُم، كل سديم مؤلف من مئات آلاف الملايين من النجوم، بينها مسافات تقدر بعشرات السنين الضوئية. وسيرى أن محيط الكون يقدر بنحو سبعة آلاف مليون سنة ضوئية؛ أي أننا إذا أرسلنا شعاعًا من الضوء فإن هذا الشعاع يعود إلينا بعد سبعة آلاف مليون سنة، بعد أن يكون قد طاف حول الكون كما يطوف السائح حول الأرض، ويعود إلى حيث ابتدأ.

قرأت هذا فرأيتني أملك خيرًا من هذه المطيَّة، وأسرع من هذا الضوء، وهو خيالي وفكري الذي يستطيع أن يرحل إلى هذه العوالم في لحظة، ويطوف حول الكون في لمحة. ومن اين لي بآلاف الملايين من السنين والعمر قصير والمدى طويل؟!

لقد ركبت خيالي وطفت هذه العوالم في رحلة عجيبة حقًا، وعدت بنتائج بهرتني: لقد رأيت في هذه الرحلة أن أرضنا التي ملأتنا صراخًا وصياحًا لا تساوي في هذه العوالم قطرة من البحار، ولا ذَرَّة من الرمال؛ وأني على مسافة قصيرة من رحلتي لم أتبينها في خريطة الكون لضعة شأنها وحقارة أمرها، فهي بما عليها من جبال وبحار وأنهار ونبات وحيوان وإنسان لا تساوي شيئًا، وصدق الأثر: إن دنيانا عند الله لا تزن جَناح بعوضة.

كان من غرور الإنسان أن أعتقد أنه أرقى مخلوق في العالم، وأن العالم كله مخلوق له، وكان ذلك لأنه لم ينظر إلا إلى أرضه ونفسه، وكان ينظر إلى النجوم كأنها حبات درر لامعة؛ فلما رحلْتُ هذه الرحلة رأيت عوالم وعوالم لا يشعر أهلها بأن هناك شيئًا اسمه الأرض، ولم يسمعوا بشيء اسمه الإنسان، لأن الأرض أصغر من أن تُذكر بجانب ضخامة عوالمهم، والإنسان أحقر من أن تُعرف حياته لضخامة حياتهم! — لو كان خُلق هذا العالَمُ كله للإنسان لكان أقل ما يقال فيه أنه تبذير حتى من الناحية الاقتصادية، كإسراف من يبني قصرًا فخمًا لنملة، بل مدينة عظيمة لبعوضة — لقد ظن الإنسان بعقله القاصر أن العوالم الأخرى فارغة من الحياة، ولا حياة إلا في أرضه، وعلل ذلك بأن بعض النجوم ملتهبة لا تصلح للحياة، أو أنها لا تحوي العناصر الضرورية للحياة، كأن الحياة قاصرة على نوع حياته، ولا حياة إلا على نمطه — لقد رأيت في رحلتي أن كل العوالم مائجة بالحياة، وأن كل عالم له حياة تناسبه، ومحيط ينسجم معه؛ ولكن رأيتها كلها تخضع لسنَّة النشوء والارتقاء، فأنواع الحياة كلها تتدرج إلى العقل والحياة المفكرة، وإن اختلف منطقها. وقد رأيتها قطعت مرحلة منطقنا وتفكيرنا منذ ملايين من السنين، لأن الأرض من أحدث المخلوقات، فتفكيرها من أكثر أنواع التفكير سذاجة؛ ولذلك لما عرضْتُ عليهم نوع تفكيرنا ونظمنا الاجتماعية، أمعنوا في الضحك بأكثر مما نضحك من تصرفات حشرة، وكانوا أكثر إمعانًا في الضحك حين حدثتهم بأخبار الحرب العالمية، فقد ضحكوا أولا من تسميتها العالمية، وقالوا ما أقبح جهلكم حين تنسبون ذلك إلى العالم، وما أسخفكم حين تحاربون لمطمع دنيء، وما أحمقكم حين لا تستطيعون أن تحلوا مشكلة صغيرة كهذه إلا بالقتل والتدمير والتخريب، فتعالجون حل مشكلة بخلق مشاكل أعظم منها!! حقًا إنكم لبُدائيون، وحين تصلون إلى ما وصلنا إليه نكون نحن قد وصلنا إلى السمو الأعلى، فالنسبة في سَيرنا لا تزال محفوظة. ومسافة الخلف بيننا ستظل بعيدة.

كانت هذه الرحلة كأنها عصا سحرية غيّرت معالم تفكيري، فأرضنا في هذا العالم كأنها خلية صغيرة من خلايا جسمنا بباقي الخلايا، ولو استطعنا يومًا أن نتفاهم مع مخلوقات العوالم الأخرى لكان الاتصال أتم، وسيرنا أسرع. ولكن هل من وسيلة لأن تتفاهم النملة مع الإنسان، والبعوضة مع الفيلسوف؟ إن أرضنا بناسها وحيوانها ونباتها وجبالها ليست إلا موجة صغيرة على شاطئ المحيط، ونحن محصورون في حدود ضيِّقة من كلمات «أنا» و«نحن» وجميع ضمائر المتكلم، كما أننا محبوسون في حدود حواسنا التي لا تدرك من العالم إلا اللذة والألم؛ وإنما يستطيع التجرد من ذلك كله أحيانًا الفلاسفة والمتصوفة والشعراء، فيخترقون حجب المظاهر، ويحسون — في لحظات — السمو عن هذه الجزئيات، فيلفُّون محيط العالم في لمحة، ويغرقون في بحر العالم من غير اختناق، ويفقدون أنانيتهم ليندمجوا في حياة العالم من حيث هو كلّ، ويدركون لذة ذلك بنوع من الإدراك لا يدانيه الإدراك بالعواطف ولا الإدراك بالعقل، ولا أي نوع آخر من الإدراك، ويشعرون أن العالم كله يتناغم مع نبضات قلوبهم، وخلجات نفوسهم، وإذ ذاك يدركون أن الله — فوق ما يستعين به جماهير الناس في مطالبهم الحقيرة — هو قلب العوالم الذي ينبض بحياتها، وهو إرادتها المحركة لها، ويرون أن الموت ليس إلا ذوبانًا في وعاء الأبدية!

لم أصادف في رحلتي إلا قليلًا من أهل الأرض، ليس منهم الذين قضوا حياتهم بين مزارعهم ومصانعهم لا عمل لهم إلا أن يحسبوا دخلهم وخرجهم، وليس منهم من اقتصروا على الحاجات الحسية والحياة المادية؛ وإنما رأيت طائفة من الشعراء ليس منهم أو نواس ومدرسته الذين غَنُّوا للخمر واللذات الجسمية، ولا أبو تمام والبحتري ومدرستهما ممن غنوا للملوك واستجدوا الأغنياء، فهؤلاء جميعًا التصقوا بالأرض ولم يرفعوا أعينهم إلى السماء؛ وإنما وجدت أبا العلاء حائرًا يبحث عن سر النجوم وينشد:

أمنيته شهب الدجى أم محسة
ولا عقل أم في آلها الحس والعقل

ويقول:

يا ليت شعري وهل ليت بنافعة
ماذا وراءك أو ما أنت يا فلك
كم غاض في إثرك الأقوام واختلفوا
قدمًا — فما أوضحوا حقًا ولا تركوا
شمس تغيب ويقفوا إثرها قمر
ونور صبح يوافي بعده حَلَكْ
طحنْتَ طحن الرحى من قبلنا أممًا
شتى ولم يدر خلقٌ أية سلكوا
راموا سرائر للرحمن حجَّها
ما نالهن نبي لا ولا ملك

ورأيت ابن الشِّبْل البغدادي يطوف حول العالم ويقول:

بربِّك أيها الفلك المُدارُ
أقصد ذا المسير أم اضطرار
مدارك قل لنا في أي شيء
ففي أفهامنا منك انبهار؟

ومعهم طائفة من شعراء العرب وغيرهم من الأمم ممن ترفعوا عن ضوضاء الأرض ونزعات التنازع، وحلَّقوا فوق الخصومات، ونظروا إلى الإنسانية كوحدة، بل إلى العالم كوحدة، وغنّوا للناس ليسموا سموَّهم، وينشدوا مَثَلهم — وقد سبقهم إلى ذلك درجات شعراء الصوفية، وعظماء رجالها الذين أدركوا وحدة الوجود، وجمال الخلق والخالق، وأحاطوا بالعوالم علمًا، ووصلوا إلى قلبها ينبغض وروحها تختلج، ونفذوا من مظاهرها السطحية إلى تياراتها الخفية. وقابلت الأنبياء الذين قطعوا اللاأبدية إلى الأبدية في خطوة، وأدركوا الحق وعشقوه وهاموا به، ورأوا أعراض الحياة لا قيمة لها والخير في السمو الأبدي، ويوم يجيء موت الأعراض تبقى الحياة متصلة بالرفيق الأعلى.

وفي طريقي للعودة عرجت على طائفة من الفلكيين والمنجمين كانت ميزتهم أنهم اكتشفوا حقارة الأرض وعِظَم السماء، وشُغلوا بالمسافات والأبعاد وتحليل الأشعة ورسم الخرائط الجوية، ولكنهم وقفوا عند المظاهر، ولم ينفذوا منها إلى قلبها النابض، ولذلك لم أرهم إلا حين قاربت الأرض.

عدت بعد رحلة ممتعة كاد ينعدم فيها الزمان والمكان. ولما قاربت الأرض كدت أختنق من الهواء، لأني اعتدت أن أعيش في غير هذا الهواء؛ شعرت شعور من يسكن الكوخ بعد أن سكن القصر، ومن يعيش في أرض قاحلة بعد أن أقام في البساتين الناضرة؛ وكلما قاربت مس الأرض أحسست ضوضاء وجلبة مختلطة غير منسجمة صدَّعت رأسي، وأصمت أذني.

وأدركت أني وإن خلق جسمي من تراب، وسيعود إلى تراب، فإن حبي الذي يلتهب في قلبي، وفكري الذي يجول في رأسي، ونفسي التي تحل في جسمي، تتصل بالخلود، وتنتقل من خلود إلى خلود، تسطع عليها العوالم الأخرى، كما تسطع النجوم على الأرض، وتستمتع بالاتصال بالأرواح الأخرى، وتسعد بالعمل على فك الأرواح المقيَّدة من أغلالها، وتبديد الظلام الذي يحيط بها، والأخذ بيدها لخير الإنسانية حتى تسمو إلى العوالم العليا — ورأيتني لم أخش الموت لأني فهمت حقيقته.

•••

وأعجب ما كان مني يوم عُدت من رحلتي، أني برمت بكل ما حولي، قرأت الجرائد فاستسخفت كل ما أقرأ: أخبار الحروب تافهة وحقيرة لأن الإنسان الذي يقوم بها حقير، ومكان الحروب جزء من الأرض الحقيرة؛ فلما قرأت أخبار الوفَيَات والحفلات، والحركات والتنقلات، والجرائم والسرقات والسياسات، رأيتها أسخف وأسخف، فعلى بُعد خطوات من رحلتي انقطعت هذه الضوضاء كلها، وكانت كلها أهون من فقاقيع على سطح الماء وجلست عصر هذا اليوم إلى الناس أسمع حديثهم في الغنى والفقر، وصنوف السعادة والشقاء، والملذات والآلام، والجمال والقبح، فلم يقع ذلك كله من نفسي في قليل ولا كثير، لأني كنت لا أزال مبهورًا بجمال ما رأيت، وعظم ما شاهدت في السياحة، فكان كل هذا الحديث وموضوعاته أقلَّ في سمعي من طنين ذبابة!

وسمعت قارئًا يقرأ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فكأن هذه الآية لم تدخل سمعي قبل الآن، فقد فهمت أن العالمين، هي هذه العوالم العظيمة التي ليست المجموعة الشمسية إلا عالمًا صغيرًا منها، وما قد علمنا من العوالم أقل بكثير مما لم نعلم، وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.

وقلت: ليت الذين يختالون تيهًا، ويخطرون عُجبًا، ويمسون حواجبهم، وينفخون أشداقهم، وليت الذين يتجاوزون قدرهم، ويعدون طورهم، ويفترون بمالهم وجاههم، ويعتزون بعلمهم أو فنهم أو أدبهم؛ وليت العتاة والطغاة والمستبدين، ومن يردّدون أنا وحي، ومن يتحكَّمون في أممهم اغترارًا بسلطانهم أو قوة جيشهم؛ ليت كل هؤلاء يرحلون معي هذه الرحلة العالمية، فيرون منها قيمة الأرض التي يفخرون بزخرفها ووزنها الذَّرِّي الذي يطمحون إلى السيادة على بعضٍ منها؛ إذن لتصاغرت إليهم نفوسهم، وأقلعوا عن غرورهم، وتضاءلت منهم أمانيهم ومطامحهم، وطارت نُعرة رأسهم، واعتدل صَعَر خدِّهم.

ورأيت أني إن بقيت على هذه الحال لم أصلح للحياة، ولم تنسجم نفسي مع ما حولي ومَن حولي، فكلما وقع نظري على شيء قارنته بالعوالم الأخرى فاستصغرتُه؛ ورأيتني كالمجنون وسط عقلاء، أو العاقل وسط مجانين، يتصرفون فلا أفهم كيف يتصرفون، وأتصرف فلا يفهمون ما أعمل، وأتحمس لأشياء لا يأبهون بها، ويتحمسون لأشياء لا آبه بها، وكأن لي عيونًا غير عيونهم، وآذانًا غير آذانهم؛ ورأيت أن العيش على هذا المنوال محال، فإما أن أرحل إلى العوالم الأخرى وأعيش فيها أبدًا، وكيف وقد علقت بالنفس ثاء الجسم الثقيل كما يقول ابن سينا، وإما أن أنسى رحلتي، وأعود إلى حياة الأرض سيرتي، وأزود العوالم الأخرى لِمَاما كلما شغلني أمر، أو ضغطني همّ، ففضلت الثانية مرغمًا، فلا رأى لمن لا يطاع!!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤