زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث

مقدمة

طلع القرن التاسع عشر والعالم الإسلامي في ظلمة حالكة، ومحنة شاملة: جهل مطبق، وظلم فادح، وفقر مدقع.

هذا سائح فرنسي زار مصر في آخر القرن الثامن عشر وهو مسيو فولني Volney، وأقام بها وبالشام نحو أربع سنوات يقول: «إن الجهل في هذه البلاد عام شامل، وهي في ذلك مثل سائر البلاد التركية، يشمل الجهل كل طبقاتها، ويتجلى في كل نواحيها الثقافية من أدب وعلم وفن؛ والصناعات اليدوية فيها في أبسط حالاتها، يندر أن تجد في القاهرة من يصلح ساعتك إذا فسدت، فإن عثرت على أحد منهم فهو إفرنجي».

وهذه الحكومة المصرية تخشى من الرأي العام في تعليم الرياضة والطبيعة، فتستفتي شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد الإنيابي «هل يجوز تعليم المسلمين العلوم الرياضية كالهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وتركيب الأجزاء — المعبر عنها بالكيمياء — وغيرها من سائر المعارف؟» فيجيب الشيخ في حذر: «إن ذلك يجوز مع بيان النفع من تعلمها» — كأن هذه العلوم لم يكن للمسلمين عهد بها، ولم يكونوا من مخترعيها وذوي التفوق فيها.

كان العالم الإسلامي منعزلًا، لا يتصل بأوروبا إلا فيما تعانيه تركيا من مشاكلها السياسية، فليس هناك اتصال بين الشعوب الإسلامية والشعوب الأوربية؛ لقد أغلقت على العالم الإسلامي الأبواب منذ الحروب الصليبية، وأخذ يأكل بعضه بعضًا — وقفوا في علمهم فليس إلا ترديد بعض الكتب الدينية واللغوية، وفي صناعاتهم فلا اختراع، بل ولا إتقان للقديم، وفي آلاتهم وفنونهم العسكرية فهي على نمط الأقدمين؛ وسكان المدن والريف قد أُبعدوا عن الاشتراك في الشؤون السياسية والحربية، فلا تراهم في جيش ولا في قيادة جيش، ولا تعرض عليهم المشاكل السياسية، ولا أرى لهم فيها، إنما هم مزرعة الحكام ومستغلُّ الولاة والأمراء، كلما تفتَّحت شهواتهم فعلى الرعية أن يجدوا سبيلًا لملئها بالمال يجمعونه من عَرق جبينهم وصُنع أيديهم. مركز الخلافة — وهو الآستانة — مفك منحل، والولايات من مصر والشام والعراق والحجاز متدهورة منحدرة، قد أمات نفسها توالي الاستبداد عليها، يقودها في العلم رجال الدين وهم أجهل الناس بالدنيا وشؤونها واتجاهاتها، كل همِّهم كلمة تعرب، أو جملة في كتاب تفسَّر، أو حفظ متن، أو وضع حاشية على شرح، وهذا كل عالمهم؛ أما الدنيا وكيف تسير، والشعوب وكيف تظلم، والعدل وكيف يُطلب، فموكولة إلى الله تعالى يفعل فيها ما يشاء؛ يخدمون كل وال، ويلينون مع كل ظالم؛ حتى «نابليون» لما دخل مصر لم يجد فيها قنطرة يعبر عليها لحكم مصر إلا مجلس العلماء، وقال: «إنه استعان بهم ليتقي أكبر العقبات لأن أكثرها دينية — ولأنهم لا يعرفون أن يركبوا حصانًا ولا أن يقوموا بأي عمل حربي، وقد استفدت منهم كثيرًا، واتخذتهم وسيلة للتفاهم مع الشعب، وألّفت منهم ديوان القضاء».

يأكل بعضهم بعضًا ويلعن بعضهم بعضًا. هذا الشيخ الدواخلي — أحد أكابر العلماء ونقيب الأشراف — يزدحم الناس على بابه، ويتزاحم العلماء على مائدته، فإذا غضب محمد علي باشا عليه لكلمة بلغته عنه، وأمر بالقبض عليه ونفيه إلى دسوق، هرع هؤلاء العلماء الفضلاء يكتبون العرائض يملؤونها ذمًا في الدواخلي وتشنيعًا عليه، يعدِّدون عليه ذنوبًا أكثرها في الحقيقة محامد، ويقيمون الأفراح شماتة به، ويعملون الولائم ويتضاحكون عليه، فيصرخ «الجبرتي» الرزين، ويعلق على هذا الحادث بقوله: «إنهم قد زالت هيبتهم من النفوس، وانهمكوا في الأمور الدنيوية، والحظوظ النفسانية، والوساوس الشيطانية، ومشاركة الجهال في المآثم، والمساعة إلى الولائم، في الأفراح والمآتم، يتكالبون على الأسمطة كالبهائم، فتراهم في كل دعوة ذاهبين، وعلى الخوانات راكعين … وعلى ما وجب عليهم من النصح تاركين.

أمور يضحك السفهاء منها
ويبكي من عواقبها اللبيب»

ويشمت «الجبرتي» بهذا الشيخ الدواخلي لأنه فعل مثل هذا الصنيع مع السيد عمر مكرم.

ويقودها في السياسة وال تركي يسيطر عليها بطائفة من الجند، ولا يطيل المكث إلا ريثما يغتني هو وجنوده من الأمة بالسلب والنهب والرشا، حتى صبح اسم الحكومة والوالي والجند مرعبًا مفزعًا؛ مقرونًا في النفس بمعنى الظلم والعسف واغتصاب المال.

وأعجب من هذا كله إلف الشعوب الإسلامية هذه الحالة السيئة والاستنامة إليها، وكراهيتهم لكل إصلاح؛ فإذا أريد إصلاح الجندية ثارت الانكسارية؛ وإذا أريد إصلاح القانون غضب العلماء؛ وهي مع ذلك يسودها الغرور، فهي تشعر أنها خير ما في الدنيا، وقوتها فوق كل قوة، والله ناصرها على كل عدو، ولا خوف عليها من أي شعب آخر أو ملة أخرى، أليس الله قد رد أعداءها في الحروب الصليبية، ومحا كيد من يكيدها ويعتدي عليها؟! فالعلم ليس إلا ما في كتبهم وعند علمائهم، والقوة الحربية ليست إلا فيهم، وما على السلطان إلا أن يرفع البيرق النبوي حتى تلتف حوله جنود الأرض وجنود السماء فيمحقون كل قوة، ويذلون كل جبار. يقول بعض المماليك المصريين عند ما بلغه نزول الحملة الفرنسية: «دعوهم فإذا جاءت جميع الجيوش الإفرنجية فسندوسهم بخيولنا».

وعلى الجملة فقد كان العالم الإسلامي — إذ ذاك — شيخًا هرمًا حطمته الحوادث، وأنهكه ما أصابه من كوارث، من حروب صليبية، وما تبعها من فساد نظام، واستبداد حكام، واستئثارهم بالمغانم، وفوضى أحكام، وخمود عام، واستسلامه للقضاء والقدر، وترديد قول الشاعر:

دع المقادير تجري في أعنتها
ولا تبيتن إلا خالي البال

فقد الدين روحه، وصار شعائر ظاهرية لا تمس القلب ولا تحيي الروح، وسادت الخرافات وانتشرت الأوهام، وأصبح التصوف ألعابًا بهلوانية، ووسيلة النجاح في الحياة ليس الجد في العمل ولكن التمسح بالقبور والتوسل بالأولياء. فهم الذين يُنجحون في العمل، وهم الذين ينصرون في الحروب، والشوارع والحارات مملوءة بالدجالين والمشعوذين.

هذا ما كان عليه الحال في الشرق. أما الغرب فقد حمل معه بذور الإصلاح أيام الحروب الصليبية، وبدأ يغرسها في أرضه حتى أنتجت هذه البذور أشجارًا باسقة عصفت بها الريح حينًا، ودب إليها الفساد حينًا، ولكنها تحملت الشدائد حتى استوى أمرها وكونت لها شخصيتها. رفعت ثوراتها من شأن الشعوب وجعلتها فوق شأن الحكام، فبينما كان الحكام في الشرق كل شيء ولهم كل الثروة وكل العظمة، وللشعوب كل الفقر وكل الجهل، كان النداء يدوِّي في الغرب بأن الأمة كل شيء، وأن الحاكم إنما له حق البقاء في مركزه ما خدم شعبه. وسلبوا القيادة العلمية من رجال الدين وسلّموا زمامها لرجال الدنيا، يطلقون لعقولهم العنان، ويبحثون ما شاءوا، وقصروا رجال الدين على قيادتهم في الأمور الروحانية والمسائل اللاهوتية، ولكن ليس لهم قيادة في العلم ولا في السياسة؛ فاتجه العلماء إلى الطبيعة يبحثونها في كل مناحيها، ويحاولون الوقوف على أسرار الكون، ويبنون حياتهم العملية على ما اكتشفوا منها في صناعاتهم وتجارتهم، ويستخدمون الهندسة والفلك والكيمياء والرياضة والميكانيكا في بناء السفن والمدفعية والقوى الحربية، وسببت عندهم المخترعات والصناعات والآلات ثروة كبيرة لكثير من الأفراد ساعدت على تأسيس شركات تقوم بأضخم الأعمال؛ وهذا التقدم في الصناعات رفع من شأن أفراد الشعوب، وجعل لهم الكلمة العليا في حكوماتهم، وحررهم في الفكر والعمل، فتضاعف التفكير، وتضاعف الاستكشاف، وتضاعف الإنتاج.

•••

هذا هو الشرق، مصره لا تعرف أن تصلح ساعة، وجيوشه تعبأ على طريقة الحروب الصليبية، وأسلحته هي ما كانت عليه منذ خمسة قرون، ومشايخه يبحثون في الكتب ليستخرجوا فتوى بحِلِّ تعلّم الحساب أو حرمته، وشعوبه أكواخ حقيرة فقيرة قذرة لعامة الناس، وقصور فخمة ضخمة ملئت بالجواري الحسان، وكل أسباب الترف والنعيم لعدد محدود من الولاة والأمراء، وكل ما في البلاد من خير فلهؤلاء السادة، وكل ما في البلاد من شقاء فعلى رءوس الشعب.

وهذا هو الغرب، ثورة من شعوبه على الحكام ونظام الطبقات لتسترد حريتها، وثورة على النظام الاقتصادي لتنظم الضرائب وتحرر التجارة وتحدُّ من تدخل الحكومة في الأعمال الاقتصادية، وتنشط الزراعة والصناعة بشتى الوسائل، ثم ثورة صناعية نتج عنها توسع في استخراج الفحم والحديد وصناعة الآلات.

هذا هو الحال عندما اصطدم الشرق بالغرب حول أوائل القرن التاسع عشر — لقد كان الغرب يتهيب الشرق لِمَا وقر في نفسه من عظمته أيام الحروب الصليبية، ولكن ما لبث التجار والجواسيس والرحالة الغربيون يكشفون لأممهم حال الشرق حتى اقتنعوا بضعفه؛ وكانت أكبر ناحية تفوَّق فيها الغرب على الشرق — عدا ما ذكرنا — هي الناحية البحرية؛ فإن كانت بعض دول الشرق قوية في جنودها، باسلة في قتالها، فليس لها ما تعتمد عليه من أساطيل بحرية قوية كالتي للغرب.

لقد غزا الغرب الشرق مسلحًا بالعلم الواسع في شتى نواحيه، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، وبنفسية الشعوب وجغرافية العالم وتاريخه، ومسلحًا بالأدوات الحديثة في الحروب برًا وبحرًا، وبالأساليب الحربية على آخر طراز، ومسلحًا برءوس الأموال تمده بها الحكومات والشركات، ومسلحًا برجال العلم ينزلون مع الجيش يدرسون وينقبون عن الزراعة والصناعة والحضارة القديمة والفن وما إلى ذلك.

وحيثما غزا الغرب قطرًا فسرعان ما يبث فيه أسباب حضارته من سكك حديدية تمد، وبريد ينظم، وزراعة تصلح، ومالية تضبط، وهو المشرف على كل ذلك يسخرها كما يشاء حسبما يشاء؛ ولا يكتفي بنشر حضارته المادية بل ينشر حضارته العلمية والأدبية، فالمدارس الوطنية تدرس لغته وآدابه وفنونه وعلومه، وهذه تزاحم الثقافة القديمة للبلاد شيئًا فشيئًا، والعادات الغربية تكتسح العادات القديمة، وعلى الإجمال تنبث المدنية الغربية في البلاد المفتوحة بخيرها وشرها.

كل هذا نبه الشرق مذعورًا من سباته العميق، والتفت وراءه فرأى ماضيًا قريبًا يستدعي الخجل: من إهمال مصالح البلاد وفساد مرافقها، وضعف ثغورها؛ ورأى حاضرًا خائرًا لا يقف أمام قوة، ولا يصدّ تيارًا عنيفًا، وليس يملك شيئًا إلا أن يلعن من أوصله إلى هذا الحال. وما غناء اللعن باللسان أمام قوة السنان؟

وكانت هذه حال العالم الإسلامي أجمع حول أوائل القرن التاسع عشر، سواء في ذلك ما غزى من الأقطار وما ينتظر الغزو القريب، لأن القوى الغربية تتسابق، وسقوط الأقطار الشرقية يتلاحق.

وقد كانت أكبر مصيبة أُصيب بها الشرق في هذه الآونة قِلة رجاله الخبيرين بالدنيا وشؤونها، والسياسة وألاعيبها، الماهرين في معالجة المشاكل، الحازمين في تصريف الأمور، وحتى كان إذا وجد أمثال هؤلاء لم يجدوا تأييدًا من الرأي العام الجاهل، فمن نادى بالمساواة في العدل بين الرعية من غير نظر إلى جنس أو دين اتهم بمحاربته للمسلمين، ومن نادى بتنظيم الجيش على الأساليب الحديثة اتهم بالتفرنج والخروج على التقاليد، ومن نادى بتأسيس مجلس شورى اتهم بمحاربة السلطان، والحض على الثورة، والعبث بالنظام؛ وهكذا.

وكانت هذه الخيبة التي مُنِيَ بها سببًا في التفكير في حالته والحزن على ما أصابه، ونزعة بعض المفكرين وكبار الرجال في الإصلاح، فنبغ رجال قليلون في سائر الأقطار يعالجون الإصلاح بوسائل مختلفة، كل ينظر إليه من زاوية خاصة؛ ولعل أشهر الزعماء في العصر الحديث وأكبرهم أثرًا كان محمد ابن عبد الوهاب في الحجاز، ومدحت باشا في تركيا، والسيد أحمد خان في الهند، والسيد جمال الدين الأفغاني في مصر، والسنوسي في طرابلس، وخير الدين باشا في تونس.

وسنذكر كلمة عن كل رجل من هؤلاء وغيرهم نبين بها وجهة نظره في الإصلاح، وما قدِّر له من خيبة أو فلاح، فربما جهل كثير من شباب الجيل الحاضر تاريخهم، مع قرب العهد بهم، وتأثرنا في حاضرنا ومستقبلنا بأعمالهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤