الحياة الروحية (٣)

قصتان هنديتان رمزيتان، قرأتهما هذا الأسبوع، فأعجبت بهما لطرافتهما ودقتهما، وإيحائهما إيحاء واسعًا شاملًا.

فأما الأولى: فخلاصتها أن الإنسان الأول لما شعر بضعفه، وبدأ يتعرف بربه، سمع صرخة استغاثة ملأت الآفاق، فحار في تفسيرها، ولما أعياه الأمر في البحث عن سرها أظلمت نفسه، وقلق باله، حتى جن عليه الليل، فرأى في منامه أن الروح الأعلى تجلَّت له وخاطبته: إن تقبل هديتي يزُل قلقك، وينجلِ لك ما أبهم عليهك، ويضيء ما أظلم من نفسك. إني خلقت لك ثلاث حمامات بيضاء ناصعًا لونها تسرُّ الناظرين، تُسَّمى إحداها الإيمان، والثانية الرجاء، والثالثة الحب؛ فإن أنت أسكنتها معك في أرضك، واستألفتها إليك، وحافظت على سكناها معك، ضمنت لك قوة في قلبك، ونورًا في نفسك يكشف لك الحق، ويهديك إلى الخير، ويحقق لك السعادة.

وانتبه من نومه، فرأى الحمامات الثلاث في أرضه تساكنه، وتتحبَّب إلى الناس وتتألف لهم وتصادقهم؛ ولكن ما لبثت أن رأت قليلًا من الناس يألفها ويصادقها، وكثيرًا منهم يهزأ بها، وكثيرًا آخر لا يعبأ بها، وكثيرًا ثالثًا يطاردها ويرجمها بالحجارة، حتى سئمت الحمامات من سوء ما لقيت، وعادت إلى بارئها وقالت: «سبحانك ربنا، لقد مللنا من خلقك في الأرض، فليس منهم إلا قليل أحسن استقبالنا، وأكثرهم عبسوا في وجوهنا، أو هزئوا بنا، أو طاردونا — لبئس المكان مكاننا في الأرض؛ إنا نضرع إليك أن تعفينا من سَكننا هذا، وتقربنا إليك، وتسكننا في مملكتك السماوية، حتى لا نألم ولا نشقى» قال خالقها للأولى التي اسمها الأيمان: «ذلك ما ليس في الإمكان، فليس في ملكوت السماوات مكان لك، إن أهله قد ذاب إيمانهم في تمام معرفتهم، وانكشاف الحق لهم، وتحوّل غيبهم إلى شهادة، فعودي إلى الأرض حيث أهلها في حاجة إليك، وقد منحتك ندرة أن من تقبَّلك قبولًا حسنًا سعدت نفسه، ومن آذاك أو طاردك لم يعرفني، فأظلم قلبه وشقي في حياته».

«وأما أنتِ أيها الرجاء، فكذلك لا مكان لكِ عند أهل السماء، فما محل الرجاء عند من بلغوا كل رجائهم، ونالوا منتهى أملهم — ارجعي إلى الإنسان وقد منحتك قوة أن تكوني باسمًا لهمومه، وعونًا له في محنته، وألا يخاف من الموت إذا كنت بجانبه».

«وأما أنت يا حمامة الحب فلك موقف آخر، حقًا إن لك مكانًا في ملكوت السماوات، وأنتِ نعيم الجنة؛ ولكن ألا تعودين إلى الأرض مع حمامَتي الإيمان والرجاء، فليس لها حياة بدونك! وإذا كانت الجنة لا تستغني عنك فسأمنحك القدرة على أن تجولي في لحظة بين السماء والأرض، وأن تخطري في لمحة بين أهل الفناء وأهل البقاء؛ وسأجعل جزاء من يتعشَّقك ويتذوَّقك في الأرض أن يطمح إلى لقياك في السماء».

فأطاعت ما أمرت به، ونزلت ثلاثهن إلى الأرض يحتملن الأذى من أهلها، وظلت الثالثة تذهب وتجيء. وكان ما وعدها ربها حقًا من طمأنينةِ مَن تألّف الإيمان، وشقاء من طارده، والتئام جراح من احتضن الرجاء، وعذاب من أطاره، وسعادة من عانق الحب، وشقاء من أغلق دونه بابه.

•••

وفي الحق ما الدين وراء هذه الثلاثة؟ إيمان بما وراء المحسوس لشعورنا به، فمهما غالبنا هذا الشعور بتقويمنا للمحسوس أكبر من قيمته، ومهما غالينا في تقويم العلم والمنطق، فتوازعنا الباطنية الطبيعية تنادينا من أعماقنا بالله، وتحن شوقًا إلى رؤية الحمامة البيضاء، حمامة الإيمان. ومن فقدوا الإيمان بالله لجئوا إلى تسمة أخرى لما أعجزهم فهمه، من طبيعة، أو حظ، أو قدر، أو مجهول، أو مثل أعلى للعالم أو نحو ذلك! فقد تعددت الأسماء والمسمَّى واحد سبحانه وتعالى.

والرجاء — عنصر قوي في الدين، مبناه الاعتقاد في سعة رحمة الله — لقد وُجد في كل دين لون من الرجاء ولون من الخوف، ووُجد في كل عصر من رجاله من قوّوْا جانب الرجاء ومن قووا جانب الخوف، وأنا أشدُّ حبًا لمن كانوا في جانب الرجاء، فهو أبعث للعمل، وأصلح للحياة، وأدعى إلى الطمأنينة وأفتح للرغبة في بذل الجهد لصالح الأعمال. ولست أحب طريقة الحسن البصري وأمثاله، ممن ملأوا القلوب رعبًا وتخويفًا وتهديدًا، حتى شلوا القلوب، وطيروا الحب من النفوس، وجعلوا الحياة بائسة جزينة بغيضة. والقرآن في كل سورة يكرر: بسم الله الرحمن الرحيم، والرحمة مبعث الرجاء والحب، لا الخوف والرعب.

ما الحياة وما الدين بلا رجاء؟ قرأت مرَّة أن أحد كبار العلماء الملحدين حضرته الوفاة وعنده بعض أصدقائه من أمثاله، فقال له أحدهم يشجعه على البقاء على إلحاده: «لا تخف، لقد قربت من النهاية، فتماسك وتقوَّ واحتمل». فقال المحتضر: «آه! ولكن لا أجد ما أتقوَّى به وأعتمد عليه، ليس لدي رجاء ولا أمل في حياة أخرى سعيدة، كل ما حولي ظلام».

وأما الحب فعماد الدين الحق، إنه في الدين يصحب الرجاء ولا يصحب الخوف، قد يبعث الخوف اجتناب الشرور والإتيان بالشعائر، ولكنه كالشرير يجتنب الجريمة اتقاء السلطان؛ بل الحب في الدين قد يستغني عن الرجاء والخوف.

وكانت حمامة الحب أجمل الحمامات شكلًا، وأرشقها حركة، ففتن الناس بجمالها أكثر مما فتنوا بحقيقتها، فصنعوا لها تماثيل كثيرة وسموها الحب ولا روح لها. وكل يوم يسيء الناس استعمال اسمها ألوف المرات في أتفه الأشياء، أو في لا شيء، ويحدث ذلك حين تطير إلى السماء، أو تكون في مألف القليل ممن يفهم حقيقتها.

•••

هذه قصة؛ وأما القصة الثانية فهي أن جنِّية ظريفة ممنك يسكنَّ الأمكان السحيقة، أحبت المرح يومًا، فنزلت أرض الناس ونسلت فيها؛ وشاء صغارها أن يلعبن، فصنعن «عروسًا»، وَبنيْنَ لها دارًا على قدرها، وأرادت الأم الكبيرة أن تدخل المنزل وترى «العروس»، فصغر باب المنزل عن حجمها؛ ففكرت فكرة شيطانية: أن تفرق أجزاءها وترسلها جزءًا جزءًا، ففكت أصابعها وأدخلتها، ثم رأسها، ثم قلبها، ثم سائر أجزائها: فلما كانت جميع الأجزاء في المنزل ضاق بها، واحتك بعضها ببعض، فتخاصمت الأعضاء وتحاربت، وتنازعت على الأماكن، كل يدّعي ملكية مكانة، وأنه أولى به، ولا تقبل من أي عضو احتلال مكانه أو القرب منه أو التحكك به. ثم أراد بعض الأعضاء الخروج فوجد الآخر في طريقه. وأبي أن يفتح له الطريق خشية أن يحتك ببعض الأعضاء الأخرى، واحتبس الأعضاء جميعًا في بيت «العروس» الصغير المظلم، وتدافعوا من غير جدوى، واضطرب أمرهم، وأدركتهم الحيرة، وعمى على الأعضاء أمرهم وعلاقتهم بالجسم كله؛ وحينئذ نبض القلب، ووقف بين سائر الأعضاء خطيبًا قائلًا: «أيها الأعضاء! إنكم كلكم مني، وقد ساءت حالكم، واضطرب أمركم، وسأقدم لك النصح لأزيل اضطرابكم، وسأقدم لك المعونة لتخرجوا من مأزقكم، إني شاعر بحرجكم وضيقكم، وسأعمل لرفع الحرج عنكم».

قال بعض الأعضاء: «إنا راضون عن مكاننا، غير قلقين في موقفنا».

قال القلب: «لا بأس، إنكم اعتدتم الظلام فحمدتموه، وألفتم الضيق فاطمأننتم إليه، وستحمدون معي الخروج إلى النور، والسعة بعد الضيق».

وما زال بهم حتى ألف بينهم وقادهم عضوًا عضوًا إلى الخارج، ثم جمع أشتاتهم على أحسن ما كانوا.

قال القلب هذا لأنه وحده الذي شعر أن كل عضو جزء منه، وأن كل الأعضاء متفرقة منه متجمعة حوله: وهكذا رجعها كلها إليه. وأعادها متماسكة جسمًا واحدًا كما كانت.

ودعا القلب هذه الدعوة؛ لأنه سكن الحب؛ لأنه وحده الذي يستضيء بنوره، وينصهر بناره؛ وهو وحده الذي لما مسه الحب كان منه الصبر واحتمال المكاره والتسامح والتضحية، والعمل لخير الجميع.

•••

أليست دنيانا منزل «العروس»؟! كنا جسمًا واحدًا أبناء آدم وحواء، فتفرقنا في أنحائها، وتخاصمنا في ملكيتها، واحتبسنا فيها، وفقدنا الشعور بوحدتنا، وسددنا الطرق على أنفسنا، وظن كل عضو أنه مستقل بنفسه، مستغن عن غيره.

إن العالم في كل أزمة كهذه ينتظر الداعي الذي يجمعه بعد تفرقة، ويأسوه بعد جراحه، ويدعوه إلى جمع شتاته؛ وما هذا الداعي إلا نفوسه الكبيرة التي يجود بها الزمان من آن لآن، على ندرة كندرة الجوهر في الأحجار، والصندل في الأشجار. إن هذه النفوس تشعر شعور الناس، وتحمل أعباء الناس، وتحيا للناس؛ إنها بعملها تنسج المستقبل، وتلد الأفكار للجيل الجديد؛ إنها تسمع شكوى الشعوب من ثقل أغلالهم، واستغاثتهم من سوء قيودهم، فتقدِّم أغلى شيء لديها لفك قيودهم، وتحرير عقولهم؛ إنها تعثر في أثناء جهادها على حجر الفلاسفة الذي تقلب به معادن الناس إلى ذهب خالص؛ إنها بأقوالها وأفعالها تحرك العالم وتحوِّله من جَزْر إلى مد؛ إنها ترى الغرض الأسمى على ضوء نار الحب فلا تهاب شيئًا، وتسير إلى غرضها لا تلتفت يَمنة ولا يَسرة، محطِّمة في طريقها الأصنام التي تعوق الناس عن سيرها، منشدة أناشيد الإنسانية التي تملأ الناس حماسة وأملًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤