في الأدب العربي: عُرْوَةُ بن الوَرْد

في عصر يوم زرت أستاذنا الجليل «أحمد لطفي السيد باشا» في مصيفه في «رأس البر»، وأخذنا نتحدث فنونًا من الحديث، حتى وصل بنا إلى الأدب، فقال:

لفت نظري وأنا أقرأ في «الأغاني» اليوم ما حكاه من أن معاوية قال: «لو كان لعروة ولد لأحببت أن أتزوج إليهم» وأن عبد الملك بن مروان قال: «ما يسرُّني أن أحدًا من العرب ممن لم يلدني قد ولدني إلا عروة بن الورد.

كيف يكون هذا ومعاوية هو ما هو في نفسه، وفي ملكه، وفي عظمته، وفي قومه، ثم يتمنى أن لو نال شرف الإصهار إلى عروة؟ وعبد الملك بن مروان، وهو ما هو في كل ذلك، يتمنى أن يستعيض عن نسبته إلى معاوية وأبي سفيان وبني أميَّة — هذه النسبة التي جلبت له الملك الضخم — بنسبته إلى عروة بن الورد؟

ومن هو عروة؟ صعلوك من صعاليك العرب. وكُتب اللغة تُعرِّف الصعلوك بأنه الفقير الذي لا يملك شيئًا، ولا اعتماد له إلا على الغارة والتلصص.

كيف يستقيم ذلك في الأذهان؟ أحد أمرين: إما أن تكون هذه الأقوال المنسوبة إلى معاوية وعبد الملك غير صحيحة، وإما أن يكون فهمنا للصعاليك غير صحيح!

وجدتُ السؤال صعبًا، والاعتراض وجيهًا، فلم أُحِرْ جوابًا.

واليوم عدت إلى مكتب وذكرت السؤال فرجعت إلى ديوان عروة أتلمس الحل. وجدت أن عروة — كما يصفونه — كان عبسيًا، من قبيلة عنترة، «وكان فارسًا من فرسانها، وصعلوكًا من صعاليكها المقدَّمين الأجواد، وكان يلقب بعروة الصعاليك، لجمعه إياهم، وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم، ولم يكن لهم معاش ولا مَغزَى».

ووجدت أن كلمة الصعلوك تطلق على معنيين متقابلين أتم التقابل، أحدهما في منتهى الخسة والضعة والذلة، والآخر في منتهى العزة والسمو والنبل؛ كلا المعنيين أساسه الفقر، ولذلك سُمِّيَ كلا الرجلين صعلوكًا، ولكن شتان ما بينهما؛ فأما أولهما ففقير كسول خامل، دنيء النفس، ساقط الهمة، يتلمس رزقه من السؤال، ويدور على الموسرين يتحنَّنهم، ويستدر قوته الحقير من أيديهم، هذا صعلوك حقير. وأما الآخر فشهم شجاع، يتلألأ وجهه عند الشدائد، ويطلب رزقه من سن رمحه، فإن نال ما طلب طَعِم منه وأطعم، وأكل وآكل، وتزوَّد وزوَّد، حتى يأتي على آخره فإذا هو فقير، فهذا صعلوك نبيل.

ولم آت بشيء من عندي في هذا التفريق بين الصعلوكين، فقد عبَّر عروة عنه تعبيرًا خيرًا مما عبرت، وجلاه خيرًا مما جلوت، فقال:

لحا الله صعلوكًا إذا جنَّ ليله
مصافي المُشاش آلفًا كل مجرر١
يعدُّ الغني من دهره كل ليلةٍ
أصاب قراها من صديق مُيسِّر٢
ينام عشاء ثم يصبح طاويًا
يحتُّ الحصى عن جنبه المتعفِّر٣
قليل التماس الزاد إلا لنفسه
إذا هو أمسى كالعريش المجوِّر٤
يعين نساء الحي ما يستعنه
فيضحي طليحًا كالبعير المحسر٥
ولك صعلوك صحيفة وجهه
كضوء شهاب القابس المتنور٦
مُطلًا على أعدائه يزجرونه
بساحتهم زجر المنيح المشهر٧
فإن بعدوا لا يأمنون اقترابه
تشوف أهل الغائب المتنظر٨
فذلك إن يلق المنية يلقها
حميدًا وإن يستغن يومًا فأجدر٩

وفي هذا المعنى وتقسيم الصعلوك إلى هذين القسمين أيضًا قال حاتم الطائي:

لحا الله صعلوكًا مُناه وهمه
من العيش أن يلقى لبوسًا ومطعمًا
ينام الضحى حتى إذا الليل جَنَّه
تنبه مثلوج الفؤاد مورمًا١٠
مقيمًا مع المثرين ليس ببارح
إذا نال جدوى من طعام ومجثما١١
ولكن صعلوكًا يساور همه
ويمضي على الهيجاء ليثًا مصمما١٢
إذا ما رأى يومًا مكارم أعرضت
تيمم كبراهن ثمت صمما١٣
فذلك إن يلق الكريهة يلقها
حميدًا وإن يستغن يومًا فربما١٤

•••

كان عروة صعلوكًا بالمعنى الثاني، يلمع في وجهه ضياء الأمل والنشاط، ويترفع عن المعيشة الدنيئة، ويهابه أعداؤه، ويُغير عليهم فيستغني منهم، ويفرِّق ماله على من حوله، ويعيش فقيرًا نبيلًا.

وحول هذه المعاني كلها كان شعره كله، فهو يسمى للمجد وحسن الذكر فإما مات في سبيله وإما ناله:

ذريني ونفسي أم حسان إنني
بها قبل ألا أملك البيع مُشتري
أحاديث تبقى والفتى غير خالد
إذا هو أمسى هامة فوق صير١٥
ذريني أطوف في البلاد لعلني
أخليك أو أغنيك عن سوء محضر
فإن فاز سهم للمنية لم أكن
جزوعًا وهل عن ذاك من متأخر؟
وإن فاز سهم كفكم عن مقاعد
لكم خلف أدبار البيوت ومنظر

كان عروة اشتراكيًا عمليًا، لا اشتراكيًا نظريًا فحسب، يذكرنا بتولستوي على بُعد ما بينهما في البداوة والحضارة، والأمية والثقافة، والزمن بين القرن السادس والتاسع عشر؛ ولكن الروح النبيلة فيهما واحدة فقد حمل «عروة» عبء الفقراء في قبيلته، وآلى ألا يستريح حياته أو يجدوا كفايتهم، وألف منهم فرقة تعمل معه وتسعى سعيه، وما نالوا فهو للجميع، ونفسه لا تهدأ من الشعور بهذا العبء:

ومن يك مثلي ذا عيال ومقترًا
من المال يطرح نفسه كل مطرح
ليبلغ عذرًا أو يصيب رغيبة
ومبلغ نفس عذرها مثل مُنجح

وليس عياله هم أولاده كما نفهم نحن اليوم، ولكن من يعولهم من أهله وفقراء قومه، كما تدل عليه سيرته.

وقد جمع «عروة» فقراء قومه حوله، وبنى لهم حظيرة يقيمون فيها، وهو يغزو بأشدائهم أعداءه وأعداءهم، فما جمع وجمعوا فرقة عليهم، وساوى بين نفسه وبينهم، وسماهم اسمًا إن كان قبيحًا اليوم فلم يكن قبيحًا في عهده، سماهم «أصحاب الكنيف»، «الكنيف» الحظيرة تقام من الشجر فتقي من فيها الريح والتراب والبرد.

وكان له في الهجمات والغزوات رأي لطيف، وهو تقصي حال من ينوي غزوهم، فإن كانوا كرمًا، سمحًا، تركهم ولم يُغِر عليهم، وإن كانوا أشحاء بخلاء أدنياء، تعمد غزوهم، وسلبهم ما في أيديهم، وأعطاه لأصحاب الحظيرة.

يحدثنا الرواة عن حادثة طريفة حدثت له، فقد كان «عروة» حياته في جهد متواصل من الغزو والقتال، وهذه هي أهم وسيلة من وسائل العيش في ذلك العهد، وكان إذا أصاب إبلًا أطعم أصحاب الحظيرة منها، وقسمها عليهم قسمة عادلة، وأخذ لنفسه نصيبًا مثل نصيب أحدهم؛ فأغار يومًا ونال إبلًا كثيرة، وسبى امرأة، فقسم الإبل بينهم، وأراد أن يستخلص المرأة لنفسه، فأتوا عليه حتى يطبق الاشتراكية تطبيقًا دقيقًا، وطلبوا إليه أن يقوم المرأة بالإبل ويجعلها سهمًا، فمن شاء أخذها ومن شاء تركها، أما أن يستصفيها لنفسه فلا. فغضب «عروة» أشد الغضب، وفكر أن يهد الحظيرة على من فيها، وينزع منهم ما أسدى إليهم، ويقتل من أبى عليه منهم، ولكن رجعت إليه نفسه الخيِّرة فقال: «إن فعلت أفسدت ما صنعت»؛ ثم نزل على حكمهم وترك المرأة لهم، وشكا في شعره الناس ونفسيتهم، يقول فيه إنهم كسائر الناس، ضعاف إذا جاعوا، لئام إذا شبعوا؛ وإني وإياهم كالأم والرءوم على ولدها الصغير ترضعه وتحمله، وتغذيه وتلببه، وترهن له ماء عينيها، حتى إذا تم شبابه، وأدرك خيره تزوج، فقلبت الزوجة الأم على ابنها، وسلبته قلبه بما تطيب له وتزين فحارت الأم في أمرها، إما أن تخسر ابنها إذا تنكرت له، أو تصبر على الألم من أن تكون زوجته آثر عنده منها، فدفعتها الشفقة أن تختار الثانية، وهذا ما كان منه مع أصحاب الحظيرة، فذلك قوله:

ألا إن أصحاب الكنيف وجدتهم
كما الناس لما أخصبوا وتمولوا
وإني لمدفوع إلى ولاؤهم
بماوان إذ نمشي وإذ نتملل١٦

•••

فإني وإياكم كذي الأم أرهنت
له ماء عينيها تفدى ونحمل
فلما ترجت نفعه وشبابه
أتت دونها أخرى جديد تكحل
فباتت لحد المرفقين كليهما
توحوح مما نابها وتولول١٧
تخير من أمرين ليسا بغبطة
هو الثكل إلا أنها قد تجمل١٨

•••

أكبر ميزة لعروة أنه كان رجلًا، وكان يشعر بالناس أكثر مما يشعر بنفسه، واخترع لذلك المعنى التعبير الفني الجميل «أقسم جسمي في جسوم كثيرة»، أي أقسم ما يلزم لجسمي من طعام في أجسام الناس، ثم هو لا يعبأ بهزاله إذا سمن قومه، ولا يعبأ بالأعباء يحملها لتخفيفها عن عشيرته، وقد لخص هذه النظرات في وصف نفسه بقوله:

إني امرؤ عافى أنائى شركة
وأنت امرؤ عافى أناثك واحد١٩
أتهزأ مني أن سمنت وقد ترى
بجسمي مس الحق والحق جاهد٢٠
أقسم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد٢١

لعل هذه المعاني النبيلة وأكثر منها هي التي جعلت معاوية يتمنى أن يصاهره، وعبد الملك يتمنى عروة أن يكون أباه؛ وهذا سمو في تفكير معاوية وعبد الملك عظيم، وتقدير لمعاني النبل كبير.

١  لحا: لعن، وجن الليل: أظلم، والمشاش: رأس العظم اللين الهش، ومصافي المشاش أي مفضله وملازمه، وعاقد عقد الألفة بينه وبينه، والمعنى لعن الله صعلوكًا حقير النفس، إذا أظلم ليله تحسس سقط الطعام ولازم مكانه.
٢  أي أن هذا الصعلوك إذا أصاب الضيافة من صديق غني حسب ذلك من نفسه غنى، أي أنه يرضى من عيشه بقرى ليلة من صديق.
٣  يحث الحصى: يفركه عن جسمه، وهذا علامة خموله ودناءة همته، فهو كثير النوم لا يسعى لرزق.
٤  أي إذا هو أمسى وشبع بطنه مما أعطاه الناس سقط على الأرض من التخمة، كالكوخ الذي يتداعى ويسقط، والمجور: الساقط.
٥  أي يقضي نهاره في خدمة النساء في الأعمال الوضيعة حتى يعيا فيكون كالبعير الكليل.
٦  القابس: طالب النار، والمتنور: الذي يطلب النار من بعيد، أي لله صعلوك فقير آخر متهلل الوجه، منبسط النفس للجد والعمل لا ينخشع لفقره، كأن ضوء وجهه ضوء ذي النار المستضيء بنورها.
٧  مطلًا: مشرفًا على أعدائه يغزوهم، فيزجرونه ويصيحون به — كما يصيحون بقداح الميسر عند اللعب بها — ليبعدوه.
٨  أي إن بعد أعداؤه عنه لم يهمله بعده أن يغزوهم، ولا يأمنون ذلك منه، كما يفعل أهل الغائب الذي ترتقب عودته.
٩  أي إن يمت يمت حميدًا، وإن بقى فاستغنى، فما أجدره بهذا الغني لأنه ينفقه في المحامد.
١٠  مثلوج الفؤاد: بارد القلب بليدًا، ومورمًا: منتفخًا من الغم.
١١  الجدوى: العطية، والمجثم: المكان يقيم فيه.
١٢  يساور همه: يواثبه ويدافعه.
١٣  تيمم: قصد وتعمد.
١٤  فربما أي فربما حمد أمره.
١٥  يريد أن الفتى يموت فتخرج منه هامة تعلو كل نشز كمقيدتهم في الجاهلية. الصير: القبر.
١٦  ماوان: واد في شرقي المدينة، يقول: أدركتهم وهم هزلى من شدة الجهد، لا يقدرون على المشي، فأخرجتهم وقمت بأمرهم حتى إذا قووا وأخصبوا وجدتهم كسائر الناس يكفرون النعمة.
١٧  أي باتت الأم لحد المرفقين، أي متكئة عليهما من الهم والتفكير.
١٨  يقول تفكر في خسارته أو مجاملته، وتتخير ما تريد أن تصنع، ثم تقول هو ولدي ولا غنى لي عنه.
١٩  عافى إنائي شركة: أي طالب المعروف مني خلق كثير.
٢٠  والحق جاهد: أي يجهد الناس، والحق الذي يعنيه صلة الرحم ومساعدة الضعفاء.
٢١  يقول أقسم طعامي على الناس، واكتفى بالماء الخالص غير الممزوج باللبن في الشتاء حيث الجسم أحوج إلى الغذاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤