في الطريق

مررت أمس في الشارع فرأيت «عسكري المرور» يرفع يده أو يصفر، فيقف كل من في جانب، ويتحرك كل من في جانب، ولا من يجرؤ على مخالفته، كأن في يده عصا سحرية ترغم على الطاعة.

الحوذيون يطيعون، وسائقو السيارات بما يحملون من بكوات وباشاوات وآنسات وسيدات يطيعون، والمارة على أرجلهم يطيعون، فما كل هذه العظمة؟

ليت هذا السحر في لسان المعلِّم، يأمر وينهي تلاميذه فيطيعون، فإني أرني لجالهم يأمرون فيعصون، وينهون فيعصون، وهم وتلاميذهم في نزاع دائم، وحرب مستمرة، ويذهب المعلم آخر النهار كأنه ضُرب مائة سوط من كثرة المحاكمة والمخاصمة.

وليت هذا السحر كان للمصلحين، فقد بح صوتهم ولم يُسمع نداؤهم، فطالما قالوا للأغنياء تبرعوا للفقراء فلم يتبرعوا، وللكسالى جدوا فلم يجدوا، وللحكام اعدلوا فلم يعدلوا، وذهبت أقوالهم في الصحف والمجلات والكتب والخطب أدراج الرياح، ولو منحت أقلامهم وألسنتهم قوة «عسكري المرور» لصلحت الأمور في لحظة، وتقدمت الأمة ألف خطوة في لمحة.

وليت هذا السحر كان للآباء والأمهات في البيوت، فإنا نجد الأسرة نارًا متقدة، ونزاعًا حاميًا، يأمر الأب فيعصي الابن، وتَنْهَى الأم فتخالف البنت، فلو كانت لهم سلطة في البيت كسلطة «عسكري المرور» لشملت البيت السعادة ولفّته الطمأنينة والهدوء.

وليت للحكومة هذا السحر تصدر أوامرها فلا يُتلاعب فيها، وتصدر التعليمات في التموين وغير التموين فلا يُتحايل في العبث بها، كما لا يستطيع أن يتلاعب المارة بأوامر «عسكري المرور».

الحق أن هذا السحر حيرني في تعليله!

الشخصية (عسكري المرور؟) كلا! فمنهم ضعاف الشخصية ويسمع لقولهم كأقوياء الشخصية سواء بسواء، حتى لو استعضت عن هذا العسكري بقطعة زجاج ملونة حمراء وخضراء وراءها مصباح عادي لكان لها هذا السحر.

أم لأن وراء العسكري قوة القانون؟ وهذا أيضًا غير صحيح، فقوة القانون وراء كل الأوامر التي تصدرها الحكومة، ومع ذلك تخالف سرًا وجهرًا، ويُتحايل على الهرب من أوامرها ونواهيها حيلًا لا تُحصى.

قلت ربما كان السبب أن تنفيذه تحت سمع الجمهور وبصره، فمخالفته مخالفة صريحة وراءها العقوبة الحتمية السريعة وهي ازدراء الجمهور للمخالف؛ ثم وجدت أيضًا أن هذا لا يكفي، فالجمهور بحمد الله ليس له من القوة ما يخيف، وليس له من الغيرة على تنفيذ القوانين ما يُخجل من مخالفتها.

وقلت: لعل السبب تعرض المخالف للخطر! ولكن رأيت هذا الأمر يطاع حتى في ساعة قلة الازدحام وعدم احتمال الخطر.

وأخيرًا حرت في بيان السبب فتركته للقراء.

انتقل ذهني بعد ذلك — بحكم تداعي المعاني — إلى مسألة متصلة بها، وهي هل الأوامر والنواهي تختلف قوة وضعفًا؟ ولماذا واللغة واحدة والفعل فعل أمر، ولا لا الناهية، والنحويون لم يفرقوا بين أمر وأمر، ونهي ونهي، ففعل الأمر مبني دائمًا، وفعل النهي مجزوم أبدًا؟ ومع هذا نرى دنيا الواقع تخالف دنيا النحو.

فهناك أمر عسكري المرور، وهو في القمة من الحتم والجزم وقوة التنفيذ.

وهناك أمر الطبيب ونهيه للمريض بأن يأكل كذا ويمتنع عن كذا، وهي أوامر ونواه قوية، ولكنها لا تبلغ قوة الأول، فكثيرًا ما يهزأ بها المريض ولا يعيرها اهتمامًا، ومع ذلك فلها قوتها على قدر رغبة المريض في الصحة وإيمانه بالطبيب.

وهناك أوامر الواعظين في المساجد والمجتمعات العامة، وما أضيعها!

وهناك أوامر المعلمين لتلاميذهم بأن يلتفتوا إلى الدرس، ويؤدوا الواجبات في منازلهم في حينها، وهي أوامر حالها كحال أوامر الوعاظ.

وهناك أوامر «العسكري» حين يجاوز المرور إلى الباعئين والبائعات، وحينئذ يفقد سلطانه، وتصبح أوامره أضيع من أوامر المعلمين.

وهناك أوامر التسعيرة في تحديد أثمان السكر والورق، وما إلى السكر والورق، ولا أستطيع أن أقول فيها شيئًا.

وإذا كانت الأوامر تختلف هذا الاختلاف، فواجب علم النحو الحديث أن يقسم فعل الأمر إلى أقسام متعددة، ففعل أمر بوليسي، وفعل أمر تعليمي وفعل أمر تمويني الخ، لأن لكل عصر نحوه وتصريفه.

•••

وانتقلت بعد ذلك من فعل الأمر في علم النحو إلى فعل الأمر في علم النفس، فمعلم يأمر فيطاع، ومعلم يأمر فيُعصَى، والأمران متشابهان، والتلاميذ واحدة حتى قد يكونون في فصل واحد؛ وواعظ يأمر فيُبكى، وآخر يأمر فيُستهزأ به، وقد يكون كلمهما دائرًا على معنى واحد؛ وأب يأمر فيطاع، وأب يأمر فيعصى.

وخرجت من ذلك إلى أن فعل الأمر وحده لا يكفي في التنفيذ، وإنما يحمل على التنفيذ أمران ممتزجان أتم الامتزاج، فعل الأمر ونفسية الآمر، فإذا كانت نفسية الآخر نفسية قوية وَجَدْتَ السامع تتخاذل نفسه أمام الأمر، وأحس أنه أمام قوة كهربائية هائلة، فاضطر إلى تنفيذ فعل الأمر رغم أنفه؛ وإذا كان فعل الأمر صادرًا من نفسية ضعيفة، أوعز هذا الضعف إلى السامع العصيان أو الاستخفاف — ذلك أن النفس الإنسانية مولعة بحب الأمر، لأنه مظهر السلطة؛ حتى الأطفال في ألعابهم يسرهم أن يمثلوا في بيوتهم مع الخدم أو نحوهم موقف المعلم أو الأب في أمره ونهيه؛ والنفس الإنسانية أيضًا مولعة بالعصيان، لأنه إذا كان الأمر والنهي مظهر السلطة والشخصية، فالطاعة والامتثال مظهر ضياع الشخصية؛ لذلك كانت النفس أميل إلى العصيان ما لم تشعر بقوة الآخر وسلطان الناهي. وفعل الأمر والنهي في ذاته لا قيمة له، فهو لفظ سيال، ينتهي بمجرد النطق، وإنما الأثر الحقيقي أثر النفس، فهي التي تضيّق على المأمور الخناق حتى تلزمه التنفيذ.

وشيء آخر، وهو أن المأمورين والمنهيين عندهم حاسة عجيبة يدركون بها تمام الإدراك حال الآمر والناهي من صدق أو تهريج، ومن حرارة قلب أو برودة نفس، ومن إخلاص أو نفاق، فإن شعروا بالصدق والحرارة والإخلاص خضعوا، لأن ذلك كله قوة ملزمة، وإن شعروا بالتهريج والنفاق تنمروا، لأن ذلك ضعف يتستر بالقوة، فإذا نفذوا وراء الستار أدركوا حقيقة الضعف.

•••

ثم انتبهت من تفكيري، فإذا أنا قد جاوزت عسكري المرور بمراحل، وضللت قصدي من غير وعي، فقلت: كم يجني فعل الأمر!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤