محاربة أنتيوكوس ملك الشام

ولما كان أنتيوكوس يطمح بنظره إلى امتلاك ما كان تحت سلطان إسكندر الأكبر من البلدان، وخصوصًا في آسيا الصغرى وإقليم (تراس) المسمى اليوم بالرومللي والباقي للآن تحت حكم الدولة العلية؛ مال إلى نصائح أنيبال وقبلها بكل ارتياح، وجهز جيشًا عظيمًا لمحاربة الرومانيين واجتاز البحر إلى بلاد اليونان وانضم إليه من اليونانيين إحدى القبائل التي كانت مصافية للرومانيين ومحالفة لهم ضد فيليب المقدوني، ثم انقلبت عليهم لعدم حصولها على ما كانت تبتغيه من الضيع والبلاد، فأرسلت رومة الجيوش من ثغر برنديس (الآن برنديزي) إلى بلاد اليونان، وساعدتها قرطاجة بإرسال جانب عظيم من الغلال، وكذلك انضم إليها فيليب المقدوني عدوها السابق وحكومة قبرص وباقي الحكومات اليونانية المستقلة التي كانت تخشى على استقلالها من مطامع أنتيوكوس، فانتصر عليه الرومانيون ومحالفوهم تحت قيادة كانتون في عدة مواقع، وأخيرًا تقابل الجيشان في مضيق (الترموبيل)١ في يولية سنة ١٩١ق.م.
وفاز الرومانيون بالغلبة وفَرَّ أنتيوكوس إلى آسيا الصغرى بعد أن اجتاز (إقليم تراس) وعبر بوغاز الدردنيل٢ فتبعه الرومانيون إلى بر الأناضول، وهي أول مرة يَطَأُ فيها الرومان أرض آسيا، وبمجرد دخولهم إلى هذا الإقليم انضم إليهم كثير من الإمارات الصغيرة التي قامت على أطلال مملكة الإسكندر لما سمعوه من معاملة الرومانيين لأهالي اليونان ومنحهم الحرية في نظاماتهم الداخلية، ودخل كثير منهم في عداد جنود الرومانيين.
أما أنتيوكوس فتقهقر إلى مدينة (إفسوس)٣ وصده عنها سكانها بعد أن حاول احتلال مدينة (برغامة)٤ تحت قيادة ملكهم Eumène حليف الرومان.
وفي ٥ أكتوبر سنة ١٩٠ق.م دخل الرومان إلى معسكر أنتيوكوس بالقرب من مدينة مغنيسيا٥ وهزموه هزيمة لم تقم له بعدها قائمة، واضطروه لقبول ما عرضوه عليه من شروط الصلح التي تشبه من جميع الوجوه ما أُبرِمَ مع قرطاجة وفيليب المقدوني، وهي أنه لا يجوز له محاربة أحد مجاوريه بدون إذن سناتو رومة، وأن يسلِّم ما لديه من أفيال الحرب إلى ملك برغامة، ويدفع إليه غرامة حربية تساوي مائة ألف جنيه من عملة هذا الزمان، وأن يدفع لرومة غرامة تعادل ثلاثة ملايين جنيه ويسلمها جميع مراكبه الحربية، وأن ينسحب إلى ما وراء جبال طوريس بحيث يكون هذا الجبل حدًّا لأملاكه من جهة الشمال، وأخيرًا اشترطت عليه تسليم أنيبال أكبر محرض على هذه الحرب التي كانت القاضية على ملك أنتيوكوس، فكأن أنيبال لم يكتفِ بما أصاب بلاده من الضرر بسبب مطامعه فأوقع محازبيه في ما وقع هو فيه من المصائب، ولما علم أن أنتيوكوس قبل تسليمه إلى الرومانيين فَرَّ هاربًا واحتمى لدى بروزياس ملك بثينيا.
وقد وزَّع الرومان ما أخذوه من بلاد أنتيوكوس على محالفيهم من اليونان ولم يبقوا لأنفسهم شيئًا منها، وأعطوا معظمها إلى أكبر حلفائهم، وهو Eumène ملك برغامة، فصار بالنسبة لأنتيوكوس كمسنيسا ملك نوميديا بالنسبة لقرطاجة.

وبعد أن أتموا إخضاع هذا الإقليم ورتبوا أموره ووطدوا ربط الاتحاد بين سكانه وبين الحكومة الرومانية عادوا إلى أوروبا ولم يتركوا نفرًا من جنودهم في البلاد التي فتحوها، بل ردوها لأصحابها مكتفين بأن يكونوا لهم أصدقاء مخالصين لا أعداء معاندين كما فعلوا مع بلاد اليونان سابقًا، فوجدوا منهم أكبر عضد وأعظم مساعد عند مرورهم من بلادهم قاصدين آسيا الصغرى، نعم إن بعض القبائل انقلبت على الرومانيين في أوائل محاربة أنتيوكوس لاعتقادها أنها لم تحظَ بما تستحقه من المكافأة بعد مساعدتها الرومان في أول الأمر على محاربة فيليب المقدوني، إلا أنها لم ترَ بدًّا من الإذعان بعد أن لقيت من الرومان يدًّا قوية في معاقبتهم على خيانتهم لها وعدم محافظتهم على ولائها.

وبذلك لم يبقَ لرومة مجاور تخشى تعديه على حدودها، بل لم يَبْقَ على ضفاف البحر المتوسط أمة غير متحالفة معها، وبعبارة أخرى غير خاضعة لها بالفعل، ولكن لاعتقادها عدم المقدرة على جعل بلادهم ولايات رومانية بحتة؛ تركت لها هذا الاستقلال الظاهري حتى تتمكن من إخضاعها تمامًا تبعًا لمقتضيات الظروف ودواعي الأحوال.

ولا يخفى ما بين هذه السياسة وسياسة الدول الأوروبية مع الأمم الشرقية في هذه القرون الأخيرة من التشابه، فمن راجع تاريخ احتلال الإنكليز لبلاد الهند وامتداد نفوذهم تدريجًا تارة بالفتح وغالبًا بإبرام المعاهدات الودادية (كما يسمونها) مع الأمراء والحكام، وإيقاد نيران البغضاء والشحناء بينهم، ومساعدتهم على بعضهم البعض لإضعافهم وتفريقهم، وما تبذله إنكلترا الآن من هذه السياسة المبنية على الأنانية وحب النفس في بلاد إفريقية بمساعي رجالها، مثل سسيل رود في الجنوب، والكابتن لوجارد في الوسط، واللورد كرومر في الشمال؛ يتحقق أن الإنكليز تشبهوا في سياستهم الاستعمارية بالرومانيين الذين سبقوهم في هذا المضمار.

وقد كانت نتيجة إتعابهم أجيالًا متعاقبة الخراب والدمار لما تغلبت عليهم اللذات، ومالوا مع الهوى بسبب كثرة أموالهم وشدة غناهم.

وحيث قد شوهد أن الحوادث التاريخية تتكرر فلا بد أن تكون عاقبة الإنكليز سيئة جدًّا لو داموا على هذه الخطة خطة الأثرة وامتهان حقوق الضعفاء والإكثار من امتلاك البلاد، فإن ذلك قد أثار طمع الأمم الأخرى فقامت لمزاحمتها، وسيكون لها من ألمانيا والروسيا في المستقبل أكبر منافس في المسائل الاستعمارية، وأعظم محافظ على طريق الاستعمار وهو مصر، ونؤمل أن تكون نتيجة هذه المزاحمة والمنافسة خيرًا لمصرنا التعيسة، فتحصل على ما يضمن لها استقلالها بحماية جميع الدول ذات الصالح في حفظها من السقوط في أيدي دولة واحدة تقفل طريقها وتوصد أبوابها في وجه من خالفها أو عاداها.

هوامش

(١) اشتهر هذا المضيق بمناعته، وهو يعتبر بمثابة مفتاح للجزء الجنوبي لبلاد اليونان المعروف الآن باسم موره وكان اسمه عند اليونان Péléponèse، وحصلت فيه عدة وقائع شهيرة، أهمها سنة ٤٨٠ قبل المسيح حينما قصد الفرس بلاد اليونان تحت قيادة ملكهم اكسرخس، فوقف لهم فيه ليونيداس ملك إسبارتة ومعه ثلثمائة من أهل بلاده، وهُزِمَ بدسيسة خائن دل الأعاجم على طريقة أخرى لاجتياز هذا المضيق، فاستشهد ليونيداس ومن معه بعد أن دافعوا عن أرواحهم وبلادهم دفاع الأبطال.
(٢) هو البوغاز المشهور، كان اسمه عند اليونان (هلسبونت)، يبلغ طوله ٧٠ كيلومترًا، وعرضه في بعض النقط ١٨٠٠ متر فقط، وهو منيع جدًّا وعلى ضفتيه قلاع حصينة تجعل المرور منه في غاية الصعوبة، وفي سنة ١٨٤١ أمضيت معاهدة تحجر على الدول الحربية المرور منه إلا بإذن الباب العالي، واسمه مشتق من اسم مدينة اسمها دردانيا كانت على ضفته الآسيوية.
(٣) كانت هذه المدينة ذات أهمية في صدر المسيحية، وانعقد بها عدة مجتمعات دينية للمناقشة في أصول الدين المسيحي.
(٤) كانت من أشهر مدن اليونان بآسيا الصغرى، وكان بها مكتبة عامرة تضارع مكتبة الإسكندرية.
(٥) اسمها الآن منيسيا بولاية آيدين، وهي واقعة على خط السكة الحديد الواصل بين أزمير والأشهر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤