محاربة مقدونية وجعلها ولاية رومانية

ولما علم ملك برغامة بهذه الاستعدادات أخبر الحكومة الرومانية لتأخذ حذرها لكي لا تتهمه فيما بعد بممالأة المقدونيين، فأرسلت رومة وفدًا مؤلَّفًا من سبعة أشخاص إلى بلاد اليونان لإبطال مساعي (برسيه) وتحذيرهم من سوء العاقبة لو اتبعوه، وأرسلت لمقدونية جيشًا من خمسة آلاف مقاتل في سنة ١٦٩ق.م، وانقضت هذه السنة في مناوشات خفيفة بين الطرفين لم تأتِ بفائدة قطعية.

وفي سنة ١٦٨ انتخب بوليوس أمليوس١ قنصلًا وسافر للانضمام للجيش المحارب في مقدونية، وبعد أن أعاد النظام إلى الجيش ومرنه على الحرب في عدة مواقع ومناوشات صغيرة، قصد العدو وحاربه في سهل فسيح بالقرب من مدينة بيدنه٢ وانتصر عليه نصرًا عظيمًا في ٢٢ يونيه سنة ١٦٨، أثبت به أفضلية النظام الروماني على النظام اليوناني الذي كان وضعه إسكندر الأكبر بعد تجاربه العديدة.

وبعد أن تبدد شمل الجيش المقدوني هرب (برسيه) ولجأ إلى بعض القرى الصغيرة، ثم سلم نفسه للقائد الروماني مع بكر أولاده بسبب وقوع أولاده الآخرين بين أيدي الرومانيين بدسيسة، وخيانة أحد أتباعه فأرسله وأولاده إلى رومة.

وأعلنت الحكومة الرومانية بحرية بلاد مقدونية ولم تضم إليها شيئًا منها في بادئ الأمر اكتفاء بأخذ نصف ما كان يدفعه برسيه من الجزية، ثم قسمت هذا الإقليم إلى أربعة أقسام، وحجرت على أهالي كل قسم الاتجار والتزاوج مع سكان القسم الثاني حتى تنحل من بينهم روابط الوطنية والقرابة، وقسم كذلك إقليم إليريا إلى ثلاثة أقسام بهذه القيود.

أما برسيه فسجن في مدينة رومة، ولم تطل مدته به فإنه امتنع عن الأكل حتى مات جوعًا.

ولقد كان لانخذال برسيه ووقوعه في أسر الرومانيين دوي عظيم في جميع بلاد اليونان، بل في جميع الممالك الواقعة على شواطئ البحر المتوسط، فحضر بروزياس ملك بثينيا إلى رومة ومثل أمام مجلس السناتو بكل خشوع وخضوع، وأراد ملك برغامة ومسنيسا ملك نوميديا الاقتداء به فمنعتهما الحكومة الرومانية عن مفارقة بلادهم، وألزمت ملك أنطاكية الكف عن محاربة مصر والعودة لبلاده ورد ما أخذه من مصر إليها، ونفت من بلاد اليونان كل من كان معارضًا لأعمالها أو متظاهرًا بالميل ولو قليلًا لجانب ملك مقدونية.

وبالاختصار صارت هي الدولة الوحيدة المسموعة في جميع هذه البلاد، وخشي سطوتها البعيد قبل القريب.

لكن لم تَكْفِ هذه الإجراءت لإلقاء الرعب في قلوب أهالي مقدونية، بل أخذوا يسعون جهدهم في تحرير بلادهم وتخليص وطنهم من تسلط الأجنبي فأثاروا الأهالي أكثر من مرة، وحصلت بينهم وبين جيوش الرومان حروب سالت فيها الدماء أنهارًا، وقتل فيها أغلب هذه الفئة الغيورة على استقلال بلادها، وأخيرًا لمَّا تضعضع حال البلاد وصارت غير قادرة على إبداء أقل مقاومة وقتل سراتها وأشرافها أعلن مجلس سناتو رومة في سنة ١٤٢ بجعل بلاد مقدونية ولاية رومانية، وسلبها ما كان تركه لها من الاستقلال الظاهري.

وكذلك لما نخر الشقاق عظام الأمم اليونانية، وانفصمت عرى اتحادها، وصارت أشتاتًا تسعى كل منها للإضرار بأختها للتقرب من رومة، وماتت العواطف الوطنية فيها بدسائس الرومان؛ أعلنت الحكومة الرومانية بجعل بلاد اليونان ولاية رومانية واحدة، وبذلك نجحت سياسة رومة أيَّ نجاح، وزال استقلال بلاد اليونان ومقدونية تمامًا، وصارت ولايات رومانية كما تبعها غيرها تدريجًا حتى صار البحر الأبيض المتوسط بحيرة رومانية كما سترى.

هوامش

(١) هو ابن بول أميل الشهير الذي حارب القرطاجيين في الحرب البونيقية الثانية مع (فارون) وانتصر عليهم سنة ٢١٦ق.م كما سبق ذكره في موضعه.
(٢) Pydna واسمها الآن كيتروس، وهي واقعة على خليج سلانيك ببلاد الدولة العلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤