مقدمة الكتاب

بقلم  عباس حافظ
أول سبتمبر سنة ١٩٢٢

نحن في هذه الرسالة الموجزة جئنا نكتب للحق وللتاريخ، والنية فيما سنحشد في هذا الكتاب أن لا نمزج بالحق باطلًا، ولا نستنصر عليه خيالًا، ولا ندع التاريخ يمشي إلى حدود الكذب، وينساق انسياق الخرافة، ولن يكون تاريخنا هذا على غرار ما كتب «لا مارتين»؛ فنكون قصصيين في التاريخ، ومؤرخين في القصص، ولا أن نجعل من الشخصية التي اعتزمنا أن نكتب عنها معبودًا، ليكون الناس عبدة، أو تمثالًا ننصبه فوق أكتاف الشعب، وأعناق الجماهير، ولا نريد أن نمشي فيه كما مشى الفيلسوف كارلايل في «أبطاله»، فأسس بما كتب عبادة جديدة، هي عبادة الناس للناس، فإن أمثال أولئك الذين تصدوا للكتابة عن النوابغ يجب أن ننزلهم عن تماثيلهم، إذ خرجوا بالتاريخ عن أصوله، وبالشعر عن مناحيه، وبالخيال عن حدوده.

هذا ما لا نريد أن نتحداه، وهذا ما لا نود أن نجري ركضًا فيه، وإن كنا لا نحب أن نكون مدوني أحداث، أو كتبة سلاسل مستطيلة من الرواية والتواريخ، وعدة الأيام والسنين، ولا أن نحشر الحقائق حشرًا؛ فنأتي بها جافة مستغلظة، لا سائغة، ولا عذبة الطعم، بل نيتنا أن نحملها على التحليل النفساني، ونأخذها إلى المجهر؛ فنتلمس دقائقها، ونتفحص ذراتها، ونعلم ماذا نستفيد منها، وماذا نأخذ عنها، ونتبين سر اطِّراحها، أو باعث إكبارها، غير مزوّرين على الناس، ولا محتالين على إقناعهم الحيل، ولا مفسدين عليهم الإيمان بما اعتقدوا، فلسنا أبواقًا، وما نحن بمزامير، ولكنا نمسك بقلم التاريخ، ونستمد من وحي العاطفة.

•••

نحن اليوم نعيش في زوبعة اجتماعية، وعصر عاصف، قد غبر فيه الشقاق، وغامت فيه سحائب الخصومة، وأخذ كُلٌّ بطرف من الحق، فظن الحق كله في يده، واتقدت في نفسه الحمية لوطنه، فحسب أنه وطنه وحده، والناس من خلفه أوغال أدعياء في النسبة، كذبة في الموطن.

ونحن لم نسق كلماتنا هذه لنجعلها عاتية، ونردها أعصف مما هي وأكثف، فلسنا ننتمي إلى حزب، ولا نشأنا في جماعة بعينها، ولا أسهمنا في عصبة بمفردها، ونفرنا عن أخوات لها، فإن الأدب لا يستطيع صبرًا على قوانين الأحزاب، ومبادئها، وسياستها، وروابطها، ولزوم ما لا يلزم فيها؛ إذ لا يلبث أن يختنق في ذلك الجو القاتم، وتضطرب أعصابه تحت هراوة الزعامة، وفي زحمة القطيع، وعلى عين الرضا، وعبسة السخط.

وليس أضر على الأمم الناشئة الفتية التي تريد أن تجد لها مكانًا تحت الشمس من أن تكون البلاد أحزابًا متنافرة، وجموعًا متعددة في مجتمع واحد، تعيش على تلك الكلمة الطائشة التي فاهت بها الملكة ماري أنطوانت في أشد سعرة الثورة «والله لخير لنا أن نموت ونلفظ الأنفاس من أن نرضى لأنفسنا أن ينقذنا لافابيت وصحابته».

ذلكم هو غاية الكِبْر السياسي، وأبعد مرمى الخيلاء الحزبية، بل هي تلك العاصفة التي تهوي بسفينة الحياة إلى غور الفوضى، وكانت في مأمن من اللج المتقاذف، والمد المتصاعد، وهي الزوبعة التي تُغْرِقُ سفائن الفكر، وتحطم المجاديف، وتهشم الشراع والدوافع، وهي على نقيض فكرة الله في الأرض؛ إذ لم يخلق الله شرًّا صرفًا هو الشر من أي النواحي أتيته، ولم يخلق خيرًا صُرَاحًا لا شر فيه، وإنما جعل بعض الشر يدخل في بعض الخير، وأوحى إلى الناس أن استخرجوا بعض رواسب هذا الشر، ليكون الخير أقرب إلى الطهر منه خامًا غير مصقول، ولا مقطور.

إن الذين لا يريدون أن يكسبوا أُذُنَ منافسهم ليسمع لهم ركونًا إلى أنهم أصابوا مادة الصواب كلها، فما تركوا لأحد شيئًا، إنما يعيشون في عالم من أنفسهم كالملائكة، وينظرون إلى منافسيهم كأنهم من أهل الفخَّارِ والطين.

لذلك كله كرهنا أن نثير في هذا الكتاب ما يغضب له فريق، ويطرب منه فريق، فلسنا نريد أن نكون حكوميين أكثر من الحكومة نفسها، ولا أن نكون سعديين أكثر من سعد وصحابته، بل انتوينا في هذه الرسالة أن نظهر لهذه الأمة صورة صحيحة، غير ذات ألوان، لرجل هو من نفسه في الصفوف الأولى من أمته، وهو في منصبه الرأس الأكبر في حكومته، وما أصاب مكانته لأن الناس جميعًا صغار، وهو وحده الكبير، وإنما شق طريقه في الصخر، ونحت سبيله إلى المجد، وما بلغ حتى دأب وكد. وفي الحكومة نوابغ على مثاله؛ وفي الأمة عظماء أذهان لا يقعون في الموهبة دونه، ولكنه استبقهم جميعًا، فوصل هو وتخلفوا هم.

وسيرى قارئ هذه الرسالة أن الأدب فيها أكثر من التاريخ، والتاريخ فيها أكثر من السياسة، والسياسة متضائلة فيها بجانب الشرح والبحث والتحليل، فمن ينكر على صاحب الترجمة نبوغه، ويجحد دلائل تفوقه، وقوة شخصيته، فما هذا الكتاب له، ولا نحن جلسنا نكتب ليقرأ، إذ نحن غير مستطيعين معه شيئًا، ولا رادين ضالته إلى الهدى، وليس لنا في ذلك مأرب، وإنما عالجنا الكتابة عن العظماء فيما مضى مما كتبنا، وكان فريضة علينا أن لا نغفل الكتابة عن هذه الشخصية البارزة القوية المخلدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤