الرجل العظيم ووطنيته

إن هذه الكلمة الجميلة التي تتردد اليوم على شفاه الجميع، هذه الكلمة الصغيرة التي نسميها «الوطن»، والتي تحمل إلى الروح ذلك المعنى العظيم الجليل الذي يدل على نفسه بلا شروح ولا تعليق، لا تزال كلمة من ذلك الكَلِمِ المُرَكَّبِ، الكثير المناحي الذي يحار الإنسان في سبر غَوْرِهِ، وإن تراءى له جليًّا ظاهرًا لا غموض حوله.

ولو أنك سألت صبيًّا غفلًا غريرًا، لم يغادر يومًا حدود قريته، ولم يعرف ما وراء حقول الضيعة التي نشأ فيها: «ما وطنك؟»، لما ونى في قوله: «وطني هو أرض أبي، هو الأرض التي خرجت منها وإليها سأعود!»، فإذا سمعت ذلك من وليد الحقل، وربيب المدر، وتلك الشجرة الصغيرة في غيط الإنسانية الناضرة اللون، فاعلم أن ذلك الطفل قد دفع إليك، وهو لا يدري بالتعريف الدقيق الصحيح لكلمة «الوطن»، فإن فؤاده الصغير قد حمل إلى شفتيه كلمة الوحي، ولفظ الغريزة، على حين ترى عينيه قد دارتا فيما حوله وهو لا يشعر، تتلمسان تلك المقبرة التي انبسطت في مكان قصي من القرية، حيث ثوى آباؤه أشياخ القرية وكبارها.

إن بطون أمهاتنا هي التي دفعتنا إلى ضوء الشمس، وأخرجتنا إلى نور هذه الحياة، ولكنها لا تأخذنا ثانية إليها، ولا تستعيد مرة أخرى، وأما هذه الأرض فتحملنا، وتشرف على شبيبتنا، وتخرج خبأها لغذائنا وشِبَعِنَا ورِيِّنَا، فإذا دق ناقوس الموت، وآذنت شمس حياتنا بالمغيب؛ فيومئذ تفتح صدرها للقائنا، وتنشق أخاديدها لتحوينا مرة أخرى.

فيا أيها الصدر العميق الرحيب، أيها الصدر الحنون الكريم، صدر أمنا الأولى، إنك لترأمنا صغارًا، وترسل الطعام ينمي جسومنا، وتطبعنا بطابعك، فإذا وجوه لنا متشابهة، وملامح متقاربة، وأذهان متماثلة؛ وأخلاق متلائمة، يعرفنا بها العالم كله؛ فيتبين الأمة كلها في وجه فرد واحد منها.

إن ذلك الصبي الذي أجابك بما أجاب، فيلسوف عميق الفلسفة، على جهله بالقروي وسذاجته؛ إذ أملت عليه غريزته تلك الشريعة التي جعلت لكل قطعة من الأرض حدودًا، وجعلت حدود الإيمان بها أعز أثرًا في النفس من تخومها التي صورها المصورون في خريطة الإنسانية المتعددة الألوان.

إن الأرض تخرج أبناءها، كما تنتج الشجرة ثمارها، وإن الجنسية الواحدة لتخلع على الأرض عبقريتها الخاصة بها، كما تهب الشجرة فواكهها تلك الرائحة المنفردة بها، وذلك الطعم الذي لا تجده في فاكهة شجرة ذات ثمر غيرها. وما هذه الوطنية التي تراها في رجل منا إلا الشعور بتلك الرابطة التي بين الأرض، ونتاج ما حملت الأرض، وهي العاطفة المقدسة التي بثتها القوة الإلهية في النفس لتخفف روح الأنانية، وتكسر من حدة الأثرة؛ فهي ليست فضيلة؛ لأن الفضيلة تتطلب ذهنًا يمدها، وعلمًا يوسع في أركانها، ويشد بنيانها، ولكنها غريزة ووحي وإلهام، وهي وثبة مادية، بل صوت الأرض يتردد في أنحاء النفس. وليست حاسة أدبية أول ما نشأت في الكتب، ولقنت في حلقات الدرس، وتليت في قاعات المطالعة.

وإذا كانت الوطنية ضربًا عميقًا من الحب، فإن للحب طبيعة متحركة متدافعة، إن وقفت في مكانها ركدت وأسنت، فهي أبدًا تطلب الحركة، وتستوجب الزيادة والنماء، وهي تأبى إلا أن تتحلى في مظاهر متعددة، وتتخذ ألوانًا متنوعة، وتحمل على نفسها ضرائب تؤديها، وترتضي «عوائد» تنزل راضية عنها.

وأول مظاهر هذا الحب الاحتفاظ بالماضي، والاستمساك بالذكرى، فإن العلائم الأولى لشيخوخة الشعب، وهرم الأمة — كما يقول شاتوبريان — لا تبدو عليها إلا عندما تنسى ماضيها، وتنكر تاريخها، وإن ميدان العمل المنفتح أمام الوطنية لأوسع مدًى من ميدان القتال، وساحة المعركة، وليس في العالم رجل غير الأوغاد أو الجبناء، يعجز يومًا عن تأدية عمل من ألوان البطولة، وكثيرون من أفراد الأمة لا يستطيعون أن يرتفعوا إلى عمل صالح، ووطنية صاخبة، وإنما ينساقون في فعال هادئة جلية، ولكنها لا تزال خصبة مجدبة تتطلب نشاطًا عظيمًا متواصلًا، لا يخفت يومًا ولا يهن.

وأنت فتعلم أن في ساحة المعركة يستحيل كل شيء غير حقيقته، فالجو والوسط والروح نفسها تتغير، وتتخذ شعورًا جديدًا، ووثبة غير وثبتها الأولى، وأن تلك الأنظمة العنيفة المتينة التي تسير عليها الموقعة، وذوائب النيران المتصاعدة من فوهات القذائف، وجنة الجذب والدفع، ورائحة الدماء، وهرولة الجموع، وأصوات القواد، والعلم الخفاق فوق الرؤوس، كل أولئك خليقة بأن ترد الرجل ذا الروح الساكنة الميتة الهلوع، شجاعًا باسلًا غير ذي خوف أو جزع.

ولكن في الحياة اليومية الجارية إلى ساحل الأبدية لا تجد الروح أثرًا لهذه العناصر التي تلهب الحمية، وتسعر الوجدان، وترسل وقدة النار في المشاعر، بل تجد الإرادة العارية نفسها وجهًا لوجه أمام تلك الواجبات الصغيرة، التي لا يحمل الإنسان على تأديتها غير ضميرة الحي، وغير إدراكه بمكانه من المجموع، وغير استماعه إلى ذلك الصوت الذي يبلغ سمعه من جوف المجتمع الذي يعيش فيه، ويهيب به.

«إنك حر، ولكني أنا التي حبوتك بهذه الحرية التي تنعم بها، بفضل جهادي المستمر الذي ظللت أجاهده عدة الأجيال الماضية، وإن زهوك بنفسك، وبقوتك، ومالك، وذكائك، وعلمك إنما أخذته عني، وعاد إليك مني؛ فقد جعلت منك مخلوقًا اجتماعيًّا قويًّا، فماذا فعلت لأجلي؟ وماذا رددت إليّ؟ أيتها الذرة الصغيرة التي نمت في حقلي، والشجرة التي غابت أصولها في صدري، واستمدت غذاءها من عصارتي … أية أثمار أخرجت؟ وأي نتاج كان منك؟»

هذا صوت الوطن يعهد إلى كل فرد من بنيه بفريضة من فرائضه، فأين أولئك الذين رفعوا وطنهم هذا مملكة محترمة، سيدة نفسها في العالم؟ وأين أولئك الذين جاهدوا وناضلوا لتكون مصرهم في الصف الأول من صفوف الأمم الحرة؟ فإنني أدور بعيني فلا أرى أحدًا.

ولكن كَلَّا، إنهم موجودون، إنهم متحركون، يغدون على أعيننا ويروحون، إنهم أحياء لم يموتوا، ولكنهم يعيشون عيشة الأنانية، وينعمون بحياة المسرة والغرور، ويحملون شبابهم وحميتهم إلى حيث يجدون نعمة أنفسهم، ولذاذة مشاعرهم، ولا يستمعون إلى صوت هذه الأرض المتألمة التي تحملهم فوق صدرها.

•••

في هذه النهضة العامة التي جاشت بنفوس هذه الأمة، تبطل كثيرون، وظلوا على سكونهم كأن لم تكن هناك نهضة حولهم، ولا عصفت عاصفة في حيهم، ولا سمعوا أنَّات إخوة لهم، وما دام في الدنيا حان، وفي الحان شراب، وما دام في الشارع ملهى ومغدى للحيوانية ومراح، فإنهم بالغوها، وناعمون بها، وإن مشوا إليها تحت دوي القذائف، وفي غمرات من الحتوف، وفوق أشلاء من القتلى والجرحى.

بجانب هؤلاء نهض قوم، وجاهد ألوف، وفي بهرة أولئك ظهرت القادة، وتجلت العظماء، حملوا في ضلوعهم روح مصر، وصرخوا صرخة الحق في وجه القوة، وضربوا الخيانة بسوط الحب، وقد تشعبت المسالك، وتناوحت السبل، وفي وسط تلك الجموع كان رجل يعمل في سكون، ويجاهد لأمته في صمت، غير مستعجل القدر، ولا حاشد الطبول حوله، تجمع الناس إليه ليروا ما عمل، ولا متخذ صنائع له يدسون في الجماهير دسيستهم، ويتمدحون فعاله، ويرسلون القصيد تلو القصيد في الثناء على عمله، وإنما يستمد وسائل الجهاد من عصارة ذلك الحب المقدس، ومن روح تلك الوطنية التي تلهم النفوس الإخلاص للأرض التي تغتذي كالزهر من هوائها، وما كان حب الرجل العظيم لوطنه ليبدو للناس إلا في وجوه من الصدق، وثبات الخلق، وفي مظاهر فعالة عملية؛ لأن الرجل العظيم لا يحتمل أن يدخل مادة الشعر في مادة العمل؛ فيجعل وطنيته «ديوانًا»، ويغرق وقدة ضميره في «بحور» من الشعر الوطني، بل لا يرضيه إلا أن يعمل ويضع وطنيته القوية كلها فيما يعمل، ثم لا يرضيه بعد أن يعمل إلا أن يتألم ويحس، ومعنى الألم والإحساس في وطنية الرجل العظيم الشعور بويلات وطنه، والآلام التي يعانيها في سبيل قضيته، وهو ذلك الحزن العميق الجياش الذي يأبى إلا أن يجد سبيله إلى تضميد جراح الوطن، وإصلاح وجوه الفساد فيه، ومحاولة الانتصار على كل ما يتهدد بلاده، ويرسل روح اليأس في نفوس عشيرته، ثم هو يأبى أخيرًا إلا أن يبذل كل شيء من نفسه لينقذ نفس أمته.

وإن أكبر ما تتجمل به وطنية الرجل الكبير الذهن، احترامه للقوانين، وطاعته للنظام، ولن يكون في العالم حب حتى تكون بجانبه طاعة، وكلما تمادى الحب نمت الطاعة بجانبه، والرضى بسلطانه.

ولكن لا تزال لهذه الطاعة حدود تحد بها، وإلا كانت طاعة عمياء لا تبصر، وطائشة لا تعقل، ومجنونة لا تعي، وإن القوانين أو الشرائع التي لا يكون منها إلا إضعاف الروح الوطنية، وسلب حق من الحقوق، وابتعاث اليأس يمشي في صفوف الجماهير، لا تصيب من وطنية الرجل العظيم إلا السخط، ولا تثير إلا الغضب والألم، وإنه ليقف في رأس الخارجين عليها، ويثب إليها فيهدمها من أصولها، أو ينهزم دونها، وما هو بمستنيم حتى يزيلها من الحياة، ويعفي على آثارها في الأمة.

•••

إذا تدبرت كل هذا فإنك ولا ريب تدرك أن صاحب هذه الترجمة هذا الرجل الذي ظل شبيبته كلها يعيش على القانون، ويستن قانونًا، ويهدم قانونًا، لا يزال عظيمًا في وطنيته؛ لأنه يحترم القانون ما دام القانون منزويًا في حدوده، ثم هو بعد ذلك أشد الناس خروجًا عليه، وتمردًا على بنوده، إذا تعدى القانون سننه، وتمادت به سلطته، وقد رأينا أقرب مثال لذلك، وأجل حجة يوم شهدنا ما كان منه إذ انبرى تشمبرلين في مجلس النواب، واللورد في قصر الحاكم العام؛ حيث النيل يلتقي أبيضه بأزرقه، فجعلا يحدثان الناس عن السودان، وأنه قطعة من الأرض ستظل متصلة بلندن آخر الدهر، وأن مصر ليس لها إلا المال تأخذ منه ما تشاء، وتعطي منه ما فيه الغناء، فقد خرج المترجم به من هدوئه الطبيعي، واستنفرته تلك التصريحات الكواذب، فلم يلبث أن سعى سعيه، فإذا نحن مصبحون، وقد قررت لجنة الدستور أن السودان كما كان ضمن حدود مصر، وأن هذه البلاد تجري مع النيل حيث جرى.

هذه وطنية جريئة، قوية الأعصاب، تمشي فاتحة صدرها للعالم، لا تخشى إذا أخطأت في عمل من أعمالها أن تعود عنه إلى ما هو أصلح؛ إذا قيل أخطأت وضلت، والجرأة في الوطنية عنصر قوي يشدها، ويحرك نبضها، ويسوقها إلى سبل صالحة، ويغريها بأحداث ما كانت لتعجز عنه لو أنها كانت وطنية خجلة منزوية، لا تستطيع أن تواجه حرارة الشمس؛ ولذا كانت وطنية هذا الرجل العظيم هي التي غيرت نظام الحكم في هذا البلد، وأحالت تاريخ هذه المملكة من صفحات سود في ظل حماية أليمة مخجلة لشعب حر ناهض إلى صفحات بيض تحت ملكية ديموقراطية، وأنفذت في بضعة أشهر ما عجزت كل تلك الضحايا التي سالت دماؤها نجيعًا فوق أديم هذه الأرض في جُنة الثورة، وسَورة النهضة، وما خابت تلك البعوث والوفود والبرد والمفاوضات في تحقيقه في أعوام ثلاثة، مررن طوالًا صاخبة مرتفعة الصوت، كثيرة الغيوم، متجهمة الطلعة، وهذه الوطنية التي أملت شروطها على أكبر أمة في العالم، وكتبت رغائبها، وأصرت على مطالبها، واستمع لها الناس حتى أعداؤها، ووضعت مستقبل هذه الأمة في يدها، فوضع الله عونه في يدها الأخرى، مشت بنا من وهدة كنا لا نجرأ أن نرفع فيها رؤوسنا، أو أن نذكر في العالم اسمنا وجنسيتنا، حتى يقال هذا طفل من أطفال الإنسانية يعيش في أحضان دولة أجنبية ترعاه، وتقوم على حراسته وكفالته، فأصبحنا بفضل ما أسدت إلينا هذه الوطنية الجسور الرابطة الجأش في وجه الزوبعة، الساكنة الأعصاب حيال العاصفة الهوجاء، نمشي في الدنيا أهل كرامة لا بالأذلاء المتطامنين، ولا بالمحكومين، ولا بالمحميين.

ومن أكبر مميزات وطنية العظيم صراحتها، وسعة صدرها، وقبولها كل ما يقال عنها، من نقد أو شر؛ لأنها مؤمنة بنفسها، مطمئنة إلى كل عمل تؤديه، وكل حركة تتحركها، وهي إن لم تنقد أو تعب تسأل الناس نقدًا، وتطلب إليهم تعييبًا، حتى تستريح إلى نفسها، وحتى تعلم مبلغ أثرها فيما حولها، وكيف عمركم الله لا تكون كذلك، وهي مضطلعة بخطوب كبار، متحملة أعباء ثقالًا، وهي في الرأس والطليعة، والناس من ورائها في الساقة والمؤخرة، وقد يرى أحقر جندي في المعركة ما لا يراه القائد، ولا يدركه ضابطه الأعلى، وكم جندي صغير ضئيل المرتبة أجدى على معركة كبرى، وأرشد قائدًا خطيرًا، ودله على موضع الفوز من الحومة.

وإذا كان هذا هكذا فقد كانت وطنية صاحب الترجمة وطنية صريحة، لا تريد غشًّا، ولا تطلب أن يحكم لها الناس بالعصمة من الخطأ، وبالبراءة من الزلل؛ لأنها ليست من القداسة في شيء، ولا من النبوة، وإنما هي تستهدي بوحي وجدانها، وتنطلق مستدلة بقوة عبقريتها، ونقاء ضميرها، فهي تتسع لكل نقد، وترتضي كل مناقشة، ولا تغضب من الملاحظة، وقد وقف صاحب الترجمة في خطبة له، فدعا الناس إلى نقده، وسألهم أن لا يكذبوه إذا مشى في أمر يكرهونه، أو اتخذ سبيلًا غير سبيلهم الذي يريدونه، وذلكم دليل على وطنية مستبسلة صادقة، تهب من سمعتها، ومن كرامتها، ومن نفسها لِيُسَرَّ النَّاسُ، ويجدوا لديها ما هم ناشدوه.

ثم أنت لا تجد وطنية العظيم بعد هذا كله طالبة الشهرة، تريد من أي عمل تقوم به أن تبلغ مطمح نفسها، وما تصبو إليه، فإن ذلك من ناحية العظمة منقصة ومعاب، والعظمة لا تسقط إلى ما يَسفُّ إليه الناس، ولا تطلب في الحياة ما يطلب العاديون من أهل القطيع الإنساني، والشهرة ترمي نفسها عند قدمي العظيم فيركلها بقدمه؛ لأنه يأبى أن يجعلها أساس جهاده، والحجر الأول في بناء مبادئه، وصرح تفكيره ودأبه لصالح الجماعة ومنفعة الكافة، ولئن فعل لركب رأسه، وساقه الولوع بالشهرة إلى المجازفة بنفسه، والمقامرة بمستقبله، والعظمة لا تحب المقامرة، ولا ترضى لنفسها أن تستمد قدرها من ورق اللعب، وإذا استنفر الغرام بالشهرة في فؤاد رجل، استحوذ عليه، فأقدم على ما لا يجسر عليه إلا ذو الجنة، والأحمق المستهتر، وقد أغرت الشهرة قومًا كانوا أهل موهبة كبرى، وعقول جبارة، فصدرت عنهم فعال هي مادة الطيش والحماقة كلها، فقد جُن نابليون بها جنونًا، ففتح نصف العالم في بضع سنين، وخسره في بضع ساعات، وهدم كل شيء في طريقه حتى يبلغ مقعد الإمبراطورية، فلما وُضِعَ التاج فوق رأسه، واشتمل بذلك الثوب المزركش الزاهي الألوان، رداء الإمبراطور العظيم، لم يلبث بعد انتهاء حفلة التتويج أن صاح في حجرة ثيابه بوصيفه الذي كان يعينه على خلع أرديته: «هلم اخلع عني هذا الثوب الكريه المقيت.»

تلك كانت صرخة الضمير في أعماق ذلك الرجل؛ إذ أحس أنه قد طلب أمرًا لم يكن له أن يطلبه، لولا أن حب الفخار، وطلاب الشهرة، ساقا به إلى الجنون بالسلطان، حتى لقد قال عام ١٨١١ لقائد من قواد بافاريا: «في أعوام ثلاثة سأكون سيد الكون!».

وفي حديث له مع مدام دى ريميزا قال يومًا: «لست على مثال أي رجل آخر في العالم، فإن قوانين الأخلاق، ومراعاة الواجبات العامة لا تروق في عيني، ولا تحدث أثرًا في نفسي.»، فلما أصبح معتقلًا، ضئيل النفس في جزيرة قفر نائية في بهرة الأوقيانوس، عاد يقول: «كان لا بد للإنسان دائمًا من أن يحدث الناس عن الحرية، والمساواة والعدل، والبعد عن الغرض، ثم لا يمنحهم من ذلك شيئًا البتة.»

إن رجلًا كهذا خدع شعبًا كاملًا، وجره إلى الحروب جرًّا، واستاقه بالهراوة والبندقية لأطماع نفسه، ولكي يسود الكون كله إلهًا أرضيًّا له ذهن الجبابرة، وقدم من الطين، لم يفق من نشوة ذلك المجد الزائل الذي أصابه، إلا أسيرًا لا خطر له في العالم ولا شأن.

وقد كان دزرائيلي كذلك رجلًا جسورًا في طلب الشهرة، وكانت له ذهنية نابوليون عينها، ونفسيته، فكلاهما آثر مقاصده الشخصية على مصلحة أمته، وصبغ الحياة العامة بصبغة طابعه، ولا يزال في بريطانيا إلى اليوم خلق كثير يذهبون إلى أن هذا اليهودي الغريب «دزرائيلي» الذي جلس مجلس الرئاسة في حكومة الإنكليز، لم يكن إلا رجلًا أفَّاكًا، مزورًا على الناس لونًا خداعًا من ألوان العظمة، وقد حدث عام ١٨٤١ أن السير روبرت بيل ألف وزارته، ولم يجعل لدزرائيلي مكانًا فيها، لا حقدًا ولا ضغنًا، ولا كراهية للرجل، بل كانت العلاقة بين الرجلين على أحب ما يكون بين السياسي والسياسي، ولكن السير روبرت بيل كان رجلًا ضعيف الخيال، فلم يخطر بباله أن فتى كهذا حدثًا يختلف عن بقية ساسة ذلك العصر في مظهره وخلقه سيكون له في الحياة العامة شأن، وسيروح عاملًا سياسيًّا من أكبر العوامل خطرًا ومكانة، ومنعه كذلك من طلبه في وزارته أن رجلًا كاللورد دربي قال له غير خائف ولا مؤارب: «لو أن هذا الشرير دخل في الوزارة لما بقيت فيها لحظة واحدة.»

ووقع اليأس من نفس دزرائيلي إذ حيل بينه وبين أن يكون في مقاعد الحكومة؛ فترامى على السير روبرت بيل، وتهالك عليه، متوسلًا في لهجة حقيرة ليست خليقة برجل نابغة عظيم النفس، أن يجد له مكانًا في الحكومة، ثم كتب إليه بعد ذلك يقول: «إنني أنادي فيك روح العدل، وتلك العظمة النفسانية التي هي من أكبر مزايا شخصيتك أن أنقذني من ذلة لا أستطيع لها احتمالًا.»، وأعجب من هذه الضلة التي وقع فيها رجل خطير كهذا ضحية للولوع بالشهرة، والظفر بمكان في الحكومة يظهر منه على أعناق الجماعات، أنه كذب وتنصل قائلًا بعد ذلك ببضعة أعوام: «إن أمرًا مثل هذا لم يكن، وإنه لم يسأل أحدًا في حياته وظيفة، ولا التمس من مخلوق ملتمسًا.»

إن الوطنية الصحيحة المتدفقة من نبعة ضمير حيٍّ، نقي وثَّاب، لا تحتفل كل هذا الاحتفال بالشهرة، ولا تستجم لها كل هذا الاستجمام؛ لأنها تعلم أن مجدها سيؤاتيها من حيث لا تبتغيه، وأن الخلود سيقع من نصيبها، وإن لم تسأل عنه، أو تطلبه حيث يوجد، فهي لا تخادع نفسها، ولا تكذب على ضميرها، ولا تحفر الحفر لأقدامها، وإنما هي تسير ركضًا إلى مبدئها، وتندفع في سننها الذي اختطته، فإن أصابت الحق أصابت معه الشهرة والمجد، وإن ضل صاحبها وغوى، فحسبه عزاء عن فشله أنه كان المجاهد، ويكفيه سكونًا لنفسه، ورضى عن عمله، أنه كان المستوفز الدؤوب المجد.

كذلك كانت وطنية هذا الرجل العظيم الذي نكتب الآن عنه، فهو لم يصل إلى مكانه هذا، على أجنحة الشهرة، وبخوافي الطمع وقوادمه، ولم يمش إلى مقعد الرئاسة من هذه الحكومة بجملة من العرائض، واستمارات الاستخدام، ولم يرفع عن بلاده علم الحماية المهينة، ليصيب شهرة طويلة عريضة، إذ كان منذ نشأته الأولى شابًّا متقد الذكاء، قوي الشخصية، فكانت الحكومة هي التي تمد إليه يدها، ولم يكن هو ليمد لها من نفسه يدًا، وما سأل الحكومة في كل أدوار حياته، وفي كل المناصب التي تقلدها، أن تضعه في هذا المكان، وتحمله من ذاك؛ وتعينه من الوظائف في تلك؛ لأن ذلك ليس من شأنه، ولا من سليقته، ولن يكون النابغة العظيم النفس من متسولة الوظائف، ومتكففة المناصب؛ لأنه يحس من نفسه أنه أكبر من كل مكان يوضع فيه، وأن المناصب إنما تعرض عليه، ولا يعرض نفسه هو عليها عرضًا.

وقد يقول أولئك الذين غشيتهم الغاشية: كيف لعمرنا يتقبل هذا الرجل الوزارة، ويتصدى للرئاسة، فهو ليس إلا رجلًا طماعًا، ووطنيًّا كاذبًا؛ وحكوميًّا من عبدة الحكومة، فهؤلاء قوم يتكلمون على هوى نفوسهم، فلو أن أعجز الناس، وأضأل القوم روحًا، وأخون العشيرة ضميرًا سئل أن يترأس، وطلب إليه أن ينشئ طليق الإرادة حكومة جديدة لقلب هذه الأرض ظهرها لبطنها؛ ليظهر من أحقر حظائر هذه الأمة قطيعًا ينصبه للوزارة، وأخرج من أقبية الطابق الأرضي في البلاد زمرة من المعاتبة النوكى، يضعهم على دسوت الحكم، ومقاعد الوزراء.

وما كان هذا الرجل يريد الوزارة ليأكل من راتبها، وما كان صغيرًا قبل الرئاسة فكبر بها، وما كان فقيرًا فأثرى من ورائها، وما كان خاملًا فنبه بذكرها وخطرها، ولو لم تدفع إليه على كره منه، لوقعت في يد رجل ضئيل، من قعائد القصور، ولهبطت إلى «مظلوم» بها، أو أصابها من لا «توفيق» له فيها، ولكن هذا الرجل كان قائدًا.

وكان في طليعة نوابغ الحكوميين، فكان وحده المستطيع أن يرى الشعاب المترامية في البحر، ويعرف كيف يسير سفينة السياسة في وسط تلك الصخور الشم العاتية، وكانت إرادته العنيفة المستأسدة كفيلة بأن تخرج من المأزق منتصرة رابحة.

والناس في هذا العصر يسمعون صغار الأمة، وعامتها، والأقزام فيها يقولون في مصبح كل يوم وممساه: «وطنى، وطني!»، ويستكثرون أن يفرط أحدهم في حق بلاده، ويرون الشناعة كلها أن يخون الرجل منهم أمته، ويستهتر بأمنية قومه، ثم ضلة لهم، يرتعون في لحم الرجل الكبير فيهم، ولا يستبعدون عنه أن يكون مفرطًا مستهينًا مستهترًا، كأنما الوطنية في عصرنا هذا ليست إلا بضع كلمات شعرية عذبة، يفوه بها صعلوك من صعاليك الأمة، في مشرب حان أو في ندوة من المفاليك، فإذا هو الوطني الصميم المتقد الفؤاد، المستعر الجانحة بحب بلاده، وأن نابغة من نوابغ الشعب أوتي إرادة فعالة ناضجة، وذهنية وثابة قوية، وضميرًا نقيًّا، وشخصية قائدة ذات سلطان على النفوس، يرضى لنفسه أن يقف في ساقة الأمة، ويتخلف عن جموع الوطنيين، ويستهتر بحق البلاد، وأحقر فلاح فيها غير مستهتر!

ولكنا وا أسفاه نعيش في عصر فاسد، ذاع فيه الكذب، وتخون الناس فيه بعضهم بعضًا، واتجر فريق بوطنية مزجاة، واستطال فيه القول، فأجهر الناس صوتًا أرهبهم في الجماعة مكانًا، وأدخلهم على النفوس بالأثر والخوف والإكبار، وأما الرجل الذي يعمل في صمت، ويحمل على نفسه جاهدًا، ويدأب لكي يجعل القضية الوطنية مسألة عملية، لا شعر حولها ولا قصيد، ولا زغردة بجانبها ولا ترنم ولا تغريد، فذلكم وطني لم يجر بوطنيته مجرى «المودة» الجديدة، ولم يخلص لهم في أمر، ولم يشرف عليهم من رابية، ولذلك كان أولى بأن لا يحب، ولا يكبر شأنه.

إن عصرًا كهذا ينبغي أن يوسم بميسم الانحطاط؛ لأنه جيل خيالي كاذب، لا ينشد حقًّا، ولا يطلب عملًا، وإنما يريد أن يجعل من هذه الحركة شيئًا أشبه «بالزفة»، تسير في مقدمتها «الفتوات»، ويركب في رأسها «ملك» ذو طراطير حمراء صفراء، في ثياب مهلهلة خضراء، فإذا مضى العرس، عاد إلى مكانه فوق دكة من الخشب في «حاصل» فارغ!

ولكن الوطنية الصادقة الصوت العاملة لا تأبه بما يصيح حولها من منكرة الأصوات، وإنما تسير قدمًا في طريقها إلى غايتها المنشودة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤