روح القيادة والجماهير في النهضات القومية

في كل نهضة عامة، وحركة وطنية، يعيش الناس بنفوس غير نفوسهم الحقيقية، وتتبدل أذهانهم أذهانًا غيرها، وترمى إرادتهم بعلة النقرس، أو آفة الفالج فيختفي كيان الفرد في وسط المجموع، ويسلبه الزحام والعجيج شخصيته، ورغبات نفسه، وأماني فؤاده؛ فيندمج في القطيع يمشي على هديه، ويرتدي بإرادته، وينساق في الحفل كما يوحى إليه، فكل من قويت إرادته على إرادة صاحبه، وغلبت شخصيته شخصيات عشرة من الناس، راح فيهم زعيمًا صغيرًا، واتخذ سمت القائد الضئيل، ولهجته، وسطوة نفوذه، وأوحى إلى العشرة أن ينفضوا عنهم مبادئهم؛ ويتخلوا عن آراء كانت لهم، وأن يعيشوا بوحيه وإلهامه، ويتلقوا منه تعاليمه وأوامره، ويجندوا له جنودًا على غرارهم، ويحتثوا غيرهم على أن ينضووا تحت علمهم، فهو ما يفتأ يطلب أن تكون العشرة عشرين، وأن تبلغ العشرون المائة، وكلما كثرت جنوده ارتفع في مقاليد القيادة؛ وارتقى مصاعد الزعامة؛ حتى لا يلبث أن يكون المجتمع كله في أيدي عشرة من القواد الصغار، يعيشون في أيدي بضعة من القواد الكبار، ثم لا يني هؤلاء القواد الصغار أن يدسوا على بعضهم البعض، ويرتعوا في لحمان وصفائهم، وأقرانهم، ويمشون بالنميمة على إخوة لهم في الصفوف، فترى في كل يوم جنديًّا فارًّا من صف إلى صف، وآخر منحرف عن شرذمة إلى شرذمة، وترى القائد الصغير منهم في صباح يوم محبوبًا مرحبًا به، مهتوفًا باسمه، ولا يأتي المساء إلا وهو المسخوط عليه، الظانين في إخلاصه، المتهم في عقيدته، ولا يلبث أن ينتقل هذا الحب الذي خسره إلى قائد مثله قد ربحه، وظفر به، فما ينقص من قائد يزيد قائدًا مكانة وحبًّا عند الناس وإكبارًا، وإذا كانت العامة والجماهير، وطبقات الشعب مذنبة في ذلك لضعف رأيها في الحكم، ولطبيعة التقلب المكينة في نفوسها، ولضؤولة أذهانها، وكلال أبصارها، فإن الذنب كله واقع على الذين يتصدون لقيادتهم، ويحاولون الرئاسة عليهم، والمشي في طلائعهم، فأولئك إنما يتخذون النهضات مباراة يود فيها المنافس أن يعتلي ظهر المنافس، ويمشي فوق جثته، ويتخطى الرقاب إلى سلطان عظيم يحاول أن يكون له في الناس؛ فإذا عز ذلك عليه، ولم يجد سبيلًا محمودة نقية راضية لا غبار عليها من العيب أو الذام؛ التمس الوسائل الأخرى كلها، وإن عُيِّبَ بها، وانتقص قدره.

وقد رأينا هؤلاء الزعماء الصغار يكذبون على بعضهم بعضًا، ويدسون الدسائس يتقاذفونها بينهم، وما أروج الكذب في عهود الثورات؛ إذ يصبح الكذب فنًّا من الفنون الجميلة؛ لأنه بحاجة إلى رسم بديع، وتصوير متقن، وألوان زاهية، وريشة مصور صنع حتى يبدو للعين حقيقة ناصعة، تأخذ بأذهان الناس أخذًا، وتعمي أبصارهم عن اكتشاف عيوب تلك الصورة، والاهتداء إلى وجهة الصنعة المتكلفة، الملفقة في أجزائها.

وقد شهدنا ضروبًا كثيرة لهذا الكذب الذي يعمد إليه الناس في النهضات والثورات، ورأيناها كيف تدخل على الأذهان، وتنطلي على الجماهير، وتمضي كأنها الحقائق، لا ظل للتلفيق فيها، ولا شائبة للكذب عليها؛ وهي قمينة أن تروح كذلك، خليقة أن تجد عند القوم سوقًا نافقة.

فإن الرجل الذي لم يخرج في حياته من المنطقة الحارة لا يستطيع أن يتصور ماذا تكون جبال الثلج المتحركة في الأوقيانوس الشمالي، وإن تخيلها تخيلًا، أو رسم مثالًا لها من وحي ذهنه، ومن لم ير نياجارا رأي العين فلا يتيسر له أن يعرف ما الشلالات العظيمة، وما شأنها، ووجه العجب من أمرها، وكذلك تمضي الأكاذيب مطمئنة، رخية اللبب، واثقة من نفسها؛ إذ لا يستطيع الجمهور أن يتحرى مواضع النية السوداء فيها، ولا يؤاتيه اكتشاف الغرض الخفي الذي يستسر تحتها، ولو أن رجلًا من الناس بعيد النظر، ثاقب الرأي، حديد البصر نهض في الجموع فبصَّرهم بالكذبة، وهداهم إلى فساد تلك الأراجيف، فما كنت لترى الناس بمصدقيه، بل لشد ما يغضبون، ويثورون، ويتسخطون على هذا الرجل الذي أساء إليهم؛ إذ أراد أن يقول لهم: إن الحق الذي علموه، والصدق الذي سمعوا به، لم يكن إلا كذبًا، ولم يكن غير البهتان بجملته؛ لأنه بذلك قد حرمهم من تلك اللذة الكبرى التي كانوا يجدونها من الاعتقاد بصحة ما بلغ آذانهم، ومنعهم ذلك السرور الذي كان يثلج صدورهم من أثر الإيمان العميق في أفئدتهم، فكل كذبة تبدّد، وكل أرجوفة تكتشف تحزن نفوسًا، وتؤلم صدورًا، وتغضب أذهانًا كثيرة.

وأنت فقد رأيت ما كان من فعل الكذب، وسلطانه على النفوس في ثورة كالثورة الفرنسية، وقد قرأت التاريخ، ووعيت منه أن الملكة ماري أنطوانت إنما سيقت إلى مواقف القضاء في إبان تلك الثورة، ودفعت إلى قفص المجرمين على كره من الزعيم روبسبيير، وضد إرادته، وعلى عكس رغبته، وليس ثمت حجة تدعم هذا الرأي أوثق، ولا إسناد أثبت أو أصح من بونابرت، فذلكم رجل لم يكن له من باعث يبعثه على إخفاء الحق، وكان على مستشرف من الثورة إذ جاء في أذيالها متعثرًا، ونهض في الفصل الأخير من رؤيتها، فأسدل الستار عليها مستبسلًا، وتزوج بعد ذلك بالأرشيدوقة النمسوية، وبطبيعة الحال احتفل بالبحث عن مقتل الملكة ماري قرينة زوجته، وقد أثبت نابوليون أن محاكمة ماري أنطوانت كانت ضد رغبات روبسبيير، وعلى كره منه، وإذا كان بريئًا من ذلك الإثم، نقي اليد من تلك الفعلة، فمن لعمركم يكون ذلك الرجل الذي أوحى إلى الناس في تلك الثورة المجنونة أن اقتلوا تلك الملكة، وعفّوا على آثار البيت المالك في فرنسا كلها.

لقد نهض إذ ذاك في المجلس، والثوريون في الندوة محتشدون خطيب من الخطباء يقول: «عجبًا لأعداء الجمهورية كيف يطلبون ما منعوه نجاة، ويمنون أنفسهم المنى في الفوز به … هل لأننا نسينا منذ عهد بعيد جرائم تلك المرأة النمسوية، أم لأننا أخذنا بالعرف واللين والرحمة سلالة أولئك الطغاة، لقد آن الأوان لإزالة أثر الحنان من النفوس. لقد حان حين استئصال شأفة الملكية من أرض الجمهورية، وإن وراء هؤلاء الأشراف الطغام امرأة مختفية كامنة في زاوية، وهي أصل كل بلاء في البلاد، ومحدثة كل شر ونكبة، إن العدل القومي يريد أن ينفذ قضاءه فيها.»

تلك كلمات ذلك الخطيب، فمن يكون هو وما اسمه؟

لقد كان الرجل زعيمًا صغيرًا، لم يكن ارتفع بعد إلى منصة النفوذ، لقد كان الرجل يدعى … برتران باربر.

ولكن ذلك الخطيب بعد عام واحد، أو بعض عام كتب ينفي أنه كان هو ولم يكن الرجل مصابًا في ذاكرته، مدخولًا في عقله، حتى يقال: نسي ما كان منه قبل عام، أو ما يقاربه، قد يتشفع له بعض الناس بأن الضحايا التي ذبحت بكلمة منه بعد ذلك، وتلك النفوس التي قتلت بإشارته تعدت الحصر، وفاقت العد، فكان يخلط بينها، ولا يستطيع تمييزها، وأن الضحايا امتزجت في ذاكرته، وتضاربت أسماؤها، فلا يدري من قتل ومن أُبقي، ولكن زعم باطل، وحجة مردودة، فقد كانت تلك الملكة المسكينة من بواكر الثمار التي اقتطفها عن شجرة الحياة، بل كانت أمجد ضحية ضحي بها، وأعز قربان ذبح، وأن أقسى القتلة قلوبًا، وأغلظهم أكبادًا، وأبعدهم عن الرحمة جانحة، لا يزال آخر حياته ذاكرًا أول مرة سفح فيها دمًا، وسفك نفسًا زكية، ولو كانت امرأة لويس زوجة طحان أخفت في حجرتها أخًا لها، أفلتت منه كلمة سوء في زعماء الثورة المعصومين الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم، ولا من خلاف؛ أو كانت راهبة عجوزًا تمتمت في المصلى بكلمات تعاويذ، ورُقى من وحشية الثوريين وغائلتهم، فسيقت إلى الموت تحت السكين، لكان يحتمل أن تخون ذلكم الرجل ذاكرته، وتتشابه عليه البقر، وكنا خلقاء بأن لا نطالبه بتذكر أولئك المساكين الذين ذبحهم إلا إذا طالبناه بأن يذكر لنا عدد لفائف التبغ التي دخنها في سحابة ذلك العام كله، ولئن كان بارير قتل مئات من خلق الله، فقد ذبح منهم ملكة واحدة؛ وهو الذي كان قبل الثورة ببضعة أعوام يظن أنه أصاب الشرف بكل مادته؛ من نظرة واحدة تلقيها عليه ابنة القياصرة، وزوجة الملك سليل الملوك الكبار؛ فقد راح في الندوة يدعوها بالمرأة النمسوية، ويسوقها من سجن إلى سجن؛ ويسلمها بيده إلى الجلاد، ثم تزول هذه الحادثة العظيمة في حياته من الذاكرة.

وأعجب من ذلك أن الناس في عصره صدقوه؛ وارتضوا معاذيره، ولم يعنوا مرة واحدة بنقد كلماته، أو تخطئة حججه، وذلكم عمركم الله أبلغ ما رأينا من رواج الكذب في عهد النهضات العامة، وأغرب ما شهدنا من حماقة الجماهير، وبلاهة الجماعات.

وقد أصيبت حركتنا القومية بضرب من هذا الكذب؛ ولكنه لم يكن في قوة ذلك وعنفوانه، وقحته وتبجحه، ولكنه لا يزال كذبًا فنانًا، محبوك الأطراف، بديع النسج، رقيق الغلالة، وقد غشى ذلك الكذب بوادر النهضة، ومقدمة المفاوضات؛ وطلائع الوفود والبعثات، فسمعنا أحاديث طلية، وقرأنا صحفًا طيبة، وكلمًا عذبًا رقيقًا، وأبحاثًا شيقة مستفيضة، لو أن بعضها صح وتحقق، لكنا منذ أعوام ننعم بحريتنا الضائعة، ولما ظللنا نستطيل الأيام، ونعاني آلام القلق والحيرة، والعذاب النفساني، وخشية اليأس؛ والفزع من الفشل.

وكم من أناس تجلوا لأعيننا في أول وهلة يحملون مادة البطولة في صدورهم؛ وكتاب الوطنية الملهبة المسعورة تحت أذرعهم، وسلكوا أنفسهم في الزعامة، وتهالكوا على القيادة، فأفسدوا على أهلها عملهم، وشوهوا جمال حركتهم، وأهل الزعامة لا يتيسر لهم وضع امتحانات في الفحص والاختبار، وليست الزعامة مستطيعة أن تمشي في عملها على أسلوب من أساليب «الماسونية»؛ فتأخذ الداخلين في دينها أفواجًا بالتجربة، وترسل إليهم ما يخيف لتعلم هل خافوا، وتفحص رباطة جأشهم لتستوثق من سكون أعصابهم؛ ومتانة نفوسهم؛ إذ لا تتسنى لها الفرصة، ولا يواتيها الزمن، وقد تهيم وتضل، فلا تكون ضلتها إلا إثم رجل من رجالها، ومقرفة عضو من أعضائها، فتعرف هي بالخطأ، ويشار إليها بالضلال، ويختفي الآثمون؛ وتعود الجرذان الصغيرة الخبيثة إلى الأحجار، وكان من صناعة الكذب التي مهر القوم فيها، وحذقوا أساليبها في أوائل العهد بنهضتنا أن اختلف الناس في الحق وهو واضح جلي، وتعارضوا في الظاهر وهم متفقون مبدأ وعقيدة؛ حتى ظن الذين يشرفون علينا من وراء البحر أننا قد رحنا متطرفين ومعتدلين، ومتساهلين ومتشددين، ولا ندري لمعنى الاعتدال الذي ظن الذين وسموا بالتطرف أنهم نجوا باسمهم ذاك من وصف سيئ؛ وسبة أليمة، إلا أن المعتدلين إنما يطلبون الحرية، ولكنهم يريدون معها النظام، ويجمعون إليها السلام والوفاق، والسكينة، ومستلزمات الحضارة الهادئة العاقلة، فهم يطلبون ملكية ديموقراطية، مستقلة اليد في أمرها؛ ولكنهم لا يريدون أن يخلعوا عليها إذا قدمت لهم ألوانًا من تلك الفوضى التي كانت فاشية في العصر الذاهب، وكانت علمًا على الحماية الأليمة المقيتة، وهم يستنكرون على الوطنية أن تجعل القتل والجريمة خطة من خططها، ويرونها الخيانة بعينها إذا هي كسرت قوانين الأخلاق، وتعدت سياج العقل والمنطق، ومضت موحشة مفترسة، مذهوبة اللب، لا تعي ما تقول، ولا ما يقال لها، أما التفريط في الحقوق، والاعتدال في الطلب، والتأدب في المفاوضة، والاحتشام في السؤال، والمصانعة في المناقشة، فأولئك لم تدخل مطلقًا في خطة فريق من الناس؛ ولم تكن برنامجًا من برامجهم، وإذا قيل: إن في هذا البلد حزبًا من المعتدلين؛ وآخر من المتطرفين، فلن يجسر أحد أن يقول: إن فينا «حزبًا من الخونة»؛ إذ لو اجتمعت هذه المبادئ في أذهان عصبة من الناس لكانوا «الحزب الخائن الأكبر».

وإذا كان هذا هكذا فنحن خلقاء بأن نُسَمَّى جميعًا «معتدلين» إذا كانت هذه وجوه الاعتدال، ومادته وأساليبه؛ وليس المتطرفون إلا وصفًا شعريًّا يأبى فريق من هذه الأمة إلا أن يوسم به، وإن كان ضلة وخطأ مستكملًا، وما ذلك منهم إلا جريًا على العادة، ومطاوعة للأنانية، واستسلامًا لهوى النفس، ومغالبة للعاطفة؛ إذ يريدون أن يقع لهم الفخر وحدهم إذا تغير تاريخ هذه الأمة، وتبدل نظامها، ويودون أن يصيبوا هم المجد من الجهاد والشرف من السعي، فإذا أتيح لغيرهم أن يبلغه قبلهم، وواتت الأقدار فريقًا غير فريقهم؛ فوصلوا إلى تحقيق أمنية الأمة قبل وصولهم، أنكروا ما تحقق، ورفضوا ما جاء، وعابوا ما أنفذ، وألقوا في روع الجماهير أن النية فيما وقع على أيدي الآخرين البيع والمساومة، والاستهانة بحق من الحقوق، والتفريط في مطلب من المطالب.

وذلكم شأن القادة في النهضات الأهلية، وذلكم ديدنهم، فروبسبيير كان يحقد على كل رجل سواه أوتي وطنية كوطنيته، أو أعقل منها، وأمتن روحًا، وكان يريد أن تكون زمام النهضة كلها في يده، يصرفها كما يشاء، ويمشي بها كما يريد، حتى لقد تمادى به الولوع بالسلطان، والعمل لاستعباد الجماهير، أن أنشأ عبادة جديدة، هي كما أسماها «عبادة المخلوق الأعلى»، ولا ريب في أنه كان بجانب هذا الرجل قوم مخلصون مثله، لا ينقصون عنه حمية وعبادة لوطنهم.

وأنت فترى أهل الزعامة في النهضات القومية، والقواد الوقوف في الطليعة؛ ينادون في مبدأ أمرهم بطلب حق مهضوم، ثم ينتهون بأن يستخدموا هذه المناداة لإشباع شهوة أثرتهم، وحبهم للنفوذ، فقد كان أولئك الزعماء روبسبيير، ومارات، ودانتون، وشيعتهم من الجبليين١، إنما يريدون أن يقلبوا وطنهم رأسًا على عقب، ويهدموا بناء الحكومة لكي يردوا على الشعب الجائع حقه المضيع، ويستخلصوا العدل من الظالمين، فلما جن أولئك بالسلطان، وأغراهم التفاف العامة حولهم، طاشت عقولهم، وضل ضلالهم، فمدح روبسبيير في صبيحة يوم وصفق له في الندوة، وألقيت المدائح، وكلمات الإكبار والإعجاب بإخلاصه، والتفاني في محبته، ثم لم يجد في اليوم التالي من كل هذا شيئًا؛ بل رأى القوم متجهمين له متنكرين، عابسين متسخطين، وشهد في المساء المقصلة معدة لاستقباله، والسكين معلقة فوق عنقه، فما أغنى عنه شيء من ذلك الحب، ولم تنقذه مكانته الأولى، وهذا دليل جلي على أن الذين يتصدون للزعامة لا ينبغي أن يغريهم تشبث الناس بنحورهم، واحتشاد القوم عند أبوابهم، فيستخدموا هذا الحب للذة نفوسهم، فإن الجماهير متقلبة الرأي، زئبقية المزاج، تغلب عليها النفرة من جانب إلى جانب، والنقلة من مضطرب إلى مضطرب، وليس أعجب في العالم من قوم يحبون الحرية، ويتغنون بها؛ ويتصايحون عليها، ثم يتخذون في سبيل استخدام نفوس الشعب لمصلحتهم أشد ضروب الاستبداد، وألعن ألوان السلطة المطلقة، وهي أكبر ما ينافي الحرية ويناقضها!

وكذلك لا تجد أولئك القادة في طلب الحرية إلا طلاب مآرب، وإذا لم يكونوا بادئ بدء طلاب مآرب، فإن الزهو بمكانتهم سيجعلهم في منتهى أمرهم، ولا ريب كذلك.

ومن وراء أولئك القواد فريق من الطبالين، وكتيبة من الزامرين، وفرقة من ضاربي «الرباب»، وهؤلاء لا يتمدحون رجلًا من الصفوف الأولى إلا إذا ظل على مكانته، ولا ينتمون إلى حزب من الأحزاب إلا إذا جلد على سطوته؛ لأن أفئدتهم صحراء لا تعيش فيها العاطفة، وقلوبهم قفر من معاني الوطنية، خلاء من روح الإخلاص لأحد، أو الاكتراث بنهضة بلادهم، وهم ضعفاء الشخصية، تجرهم كلمة؛ وتسوقهم خطبة، وتجتذبهم قصيدة، فقد وقف قوم من أولئك يمتدحون على رؤوس الشعب، وفي وسط الجموع، في تلك الثورة التي نحن بسبيلها، زعيمًا من الزعماء، ورأسًا من الرؤوس، وينعتونه بأنه أكبر رمز لأمانيهم، والمحرك الأول لنهضتهم، وأنه أحق منهم بالعبادة، وأولى من الجماهير بأكاليل الغار توضع فوق رأسه، وبالتماثيل تنحت لوجهه؛ وتجاب لمحياه، ثم لم يلبث أن سقط في الغد معبودهم ذاك عن أوج عليائه، وانفض الناس من حوله، وجاؤوا إليهم يتلومونهم، ويعيبون عليهم تمداحهم له، وحشد تلك المدائح يقذفون بها عند قدميه؛ فكان اعتذار أولئك الزمارين خليقًا بنفوس كنفوسهم قفر يباب، لا تجلد على مبدأ، ولا تلتزم عقيدة واحدة؛ إذ قالوا: إنه كان لا بد لهم من مؤاربة ذلك القائد الزعيم، وكان لا غناء لهم عن مخادعته، والتملق لغروره، وإثارة أنانيته؛ حتى يغريه المديح بالوقوع في الضلة، وحتى يدفعه الثناء إلى ركوب رأسه؛ فيرتكب ما ارتكب، ويقترف ما كان منتظرًا منه أن يقترف، ولقد كان ذلكم هو الباعث الذي بعثنا على أن نركم أمامه كل تلك الأكوام من الأماديح التي تشكون منها، وتتسخطون علينا من أجلها، ومن عمركم الله لام بروتس الروماني يوم كان يخادع «تاركوين» بالثناء عليه؟ …

وفي كل بلد من هؤلاء كثيرون يؤلفون جمهورًا كبير العدد، ولكنه ضئيل القيمة؛ إذ ليست القوة في العدد كما هي في الصفة والمزية، وهؤلاء إذا التفوا حول رجل من العقلاء أفسدوا عليه لبه، وشوهوا جمال وطنيته، وأضروه دون أن يجدوا على عمله، أو يردوا على عقيدته، وبمثل هؤلاء الجند لا ينتصر زعيمهم في معركة، ولا يربح ميدانًا، ولا يفوز بغاية من مطالب نفسه؛ لأنهم أشد القوم فرارًا إذا ضعف الرأس، أو ارتد القائد عن معقله، وهم خاذلوه بعد المعركة، وإن ربحها إذ سيختلفون على قسمة الأسلاب، ويتنازعون يوم الغنائم، ويتهالكون على «الجائزة»، ويتقاتلون على أكبر الأسامي، وأنبل الألقاب في الشعب، ثم يأتي من بعد هؤلاء جموع عظيمة من صغار الأحلام، وعدد عديد من الشبان والفتيان، يحملون كراسات الدرس في يد، وفي اليد الأخرى علمًا من الأعلام؛ ليكونوا في وسط النهضة عقيدة المستقبل تشد عقيدة الحاضر، وليتكلموا بألسنة الجيل القادم، ويصرخوا بأصوات ثلاثين سنة مقدمًا؛ فينقلب بهم ميدان العمل في سبيل الحركة ملعبًا من ملاعب «كرة القدم»؛ إذ النهضة في أنظارهم ضرب من الألعاب الرياضية لا يختص بفصل معين من فصول العام، ولا يروج في ميقات محدود من مواقيت السنة، بل يجري على العام كله، ويلذ اللاعبين في الصباح، وفي المساء.

ونحن قد حاولنا أن نعثر في كتاب التاريخ الإنساني عن عاطفة من عواطف الأمم نزعت بها إلى الخروج من نظام جائر إلى أسلوب عادل متخلص من النير، كان فيها الأحداث الصغار، وصبية المدارس يمشون في رأس الثورة، ويغلقون أبواب معاهدهم بأيديهم ليتنزهوا في طرقات المدينة متبطلين، وليصيحوا وهم لا يفهمون ما وراء صياحهم مع الصائحين، فلم نجد في سجل الحريات لذلك أثرًا، ونحن لا ننكر أن للشباب من وقدة النشاط في نفوسهم، ومن أرواحهم الملتهبة، وأذهانهم الفتية، وأذرعهم القوية، وسوقهم الحديدية ما يعينهم على الإسهام في نهضة بلادهم، والدفاع عن مستقبلهم، ولكن — عمركم الله — أليست أسمى ضروب الوطنية، وأجمل ألوان الحب للأرض، والإخلاص للوطن، والدفاع عن المستقبل أن ينصرف الشباب إلى استظهار كراساتهم، والإخلاد إلى علومهم يتوفرون عليها، والسكون إلى تلك المعاهد التي يرتفع فوقها صرح هذه الأمة.

ولكن كيف يستطيع هؤلاء الشباب أن يطمئنوا في معاهدهم، وينكمشوا إلى علومهم، وهم يسمعون باسمهم يذكر في مستهل الخطبة، ويرون الناس مستقبليهم في مطالع المظاهر، ويشهدون طائفة من رجال النهضة ينادونهم إلى عونهم، ويستصرخونهم لينضموا إلى صفوفهم، وينعتونهم بأبنائهم، ويقولون لهم: أنتم أبناء مصر وحدكم، والكهول والشيوخ من ورائكم أعجازها الخاوية، وفصل الشتاء في وثبتها، وزمهرير الوطنية المتجمدة الباردة في بهرتها، وأن خمسة آلاف عام تطل عليكم من قمة الأهرام ناظرة إلى عملكم، هاتفة بأسمائكم، مرتقبة أن يكون لمصر مكانها الأول تحت الشمس على أيديكم، وما لكم وللعلم اليوم، وما للعلم ولكم، فإن النهضات القومية لا تعرف علمًا، ولا تطيق أن ترى له معهدًا مفتوحًا، أو دارًا مستقبلة روادها، ونحن اليوم في فترة الانتقال؛ ومرحلة التبديل والتغيير، فلا جدوى من السكون إلى العلوم، والاطمئنان إلى الكتب، بل أنتم عما قليل عائدون إليها بأرواح أنشط، ونفوس ظمأى، و … شهية … أحدّ، فما تركتموه في عام مستطيعون أن تلموا به في شهر، وسيعوض عليكم صبركم، وستجزون من الوطن بما فعلتم من أجله، وما أسديتم من الصنيع الجميل إليه، وستكون الامتحانات إذ أفلج الله نهضتنا، وأنجح القدر مقصدنا، لسهل كثيرًا من الامتحانات التي تخرج من يد عدوكم؛ لإعجازكم والاستبداد بشبابكم، وقتل البذور الصالحة في نفوسكم، وإحلال اليأس محل الأمل في قلوبكم، ويومئذ لن نرى فيكم فتى يتسلق أعمدة القنطرة؛ فيقذف بنفسه إلى أحضان أبيه النيل مختفيًا تحت ثديه، ولن نسمع بالشاب منكم يجري إلى زجاجة من الأحماض السامة فيشتفها حتى الثمالة، فإذا استقرت في جوفه، وأحس عذاب الحياة تريد أن تدع جثمانه صرخ على أهله من الحجرة، مستغيثًا، طالبًا النجدة والإسعاف، وقد أعجزه كذلك أن يجتاز «امتحان» الموت، واختبار ألم الخلاص من الحياة، ولهذا لا نريد أن نخسر منكم جندًا محضرين، أو ينقص عديدكم من أثر هذه الامتحانات اللعينة المقيتة، فلديكم الآن فسحة طويلة تملكون فيها أنفاسكم، وتريحون من آلام الدرس، ومتاعب إجهاد الذاكرة، فتعالوا إلينا يا أبناءنا الأعزاء، وأقبلوا يا شباب العصر، و«فتوة» النهضة، وزين العهد الجديد، فنحن لا مأرب لنا من تخليص أرضكم من وطأة المستبد بها، ولا مقصد لدينا من الجهاد في سبيل تحرير بلادنا وبلادكم إلا أن نحمي عن مستقبل لكم سترونه يوم تتركون مقاعد المعهد؛ لكي تشغلوا أماكنكم في مقاعد العمل، ومنافس النضال للحياة؛ عهدًا مزهرًا، وعصرًا مجيدًا لا شائبة من الظلم تشوبه، ولا لونًا من ألوان القبح الاجتماعي يفسد جماله؛ وكيف يكون لنا من وراء ذلك مأرب، أو نضم بردتنا على نية سوء، ونحن غير لابثين طويلًا حتى ننقل إلى ساحل الأبدية، ونحمل على أعناقكم إلى الساحة المترامية وراء جدران هذه المدنية، فلن نصيب من الحرية شيئًا لنا، غير هدوء أنفسنا، ومسرتنا العميقة في حبات أفئدتنا، إذ ضمنا لكم الأرض، وكفلنا لكم الحياة الطليقة، والعصر الذهبي.

وأنت ترى أن هذه الألفاظ العذبة، وهذه القصائد المنثورة؛ والشعر المرسل الرقيق الغلائل، والنجوى المؤثرة الناعمة الأغاريد، قمينة بأن تستهوي الشباب، وتأخذ بمجامع ألبابهم، ويومئذ فاللعنة على الدرس، والشناعة للمعاهد، والتسخط على المدارس، ولخير أن تغلق تلك الدور عن آخرها، فلا يبقى منها ركن تدخل فيه أشعة الشمس، أو تنفذ إليه حرارة أنفاس النشء الصغار؛ من أن يغلق باب الأمل في وجه أمتهم، ما دام هذا الأمل معلقًا عليهم، موقوفًا على جهادهم.

ذلكم منطق الوطنية الشابة الشاعرة التي تريد أن تعمل؛ وتقوم بحوادث كبار، وتجعل الخطوب الصغار جسامًا، ولكنها لا تستطيع أن ترد تلك الألفاظ فعلًا، وتحقق ذلك الكلم وجوامعه عملًا محسوسًا، فتسيء إلى نفسها؛ وتتحيف جوانبها، وتخسر لهاتها وحنجرتها من أثر الصياح والعويل في أعراض الطرق، ووسط الضجيج، والعجيج المتلاطم.

ولا يحسب الناس أنا منكرون على الشباب وطنيتهم، متعيبوهم على حميتهم، فنحن إنما نريد أن نرى وطنيتهم منساقة في المنحى الهادئ الطبيعي الذي أرادته الأمة لهم، وقررته أنظمة الاجتماع؛ إذ لا ينبغي أن تتعدى رحب المعهد، ولا يصح أن تتخطى جدران المدرسة، فهناك جلال حمية الشباب، وهناك مزرعة الأمة من تلك القطع الإنسانية الجميلة الفارعة التي ستروح بستانًا ناضرًا، يخرج للشعب بواكر ثمار طيبة، وقرائح خصيبة مجدية نافعة؛ وهناك تلك الخلايا الرحيبة التي ينمو فيها ذلك النحل الإنساني النافع الذي يجعل مستقبل هذه الأمة معسولًا سائغًا هنيئًا؛ والشباب وهم في حلقات الدرس خلقاء بأن يكونوا على مرتقب من نهضة أمتهم، وبمرصد للعاملين من قومهم، فذلك واجبهم، وتلك فريضة عليهم.

وليس أبعث للزهور، وطغيان مد الأثرة، والرضى عن النفس، والسرور بالنفوذ، من أن يرى الرجل منَّا إذا وقف على رأس الناس في صميم النهضة بيته مختنقًا بأفراد الشعب وأخلاطه، وباحة داره غاصة بالجموع الحاشدة من كل فج وحدب، يهتفون له ويتزاحمون لتحيته، ويقدمون آيات الإخلاص لسدته، والإعجاب بعقيدته ومبدئه، وهو طالع عليهم في بزته الجميلة، طائف بطوائفهم، مستفسر عن شؤونهم، موزع ابتساماته عليهم، مقسم وعوده عن أيمانهم وشمائلهم، وكذلك كان شأن دانتون، وتلك عادته، فإذا انصرف الجمع من حضرته قذف بأوراقهم وعرائضهم، وكتب الثقة والمدائح له في نار المرجل، وقد كان يقول في ذلك: إن تلك كانت الطريقة المثلى للتخلص من تجميع متأخرات العمل على موائده ومكاتبه، وقد كان دانتون في ذلك مقلدًا غير مبتكر، فقد كان من عادة الكردينال ديبوا أن لا يخرج من حجرة مكتبه قبل أن ينفض عنه جميع أوراقه، فلا يدعها إلا نقية نظيفة لا شية عليها.

بل لقد كان من استهتار رجل كهذا بالشعب، وحبهم إياه، وتطامنهم لكلمته أن سيدة من أهل الدل والخفر، جاءت يومًا متوسلة له أن يستخدم سلطانه لإبطال أسلوب جديد، ظهر لونه من أساليب عقص الشعر، وطرق جدله وتجميله؛ لأنه لم يكن يوافق تركيب وجهها، ولم يلتئم مع طلعتها، ونظام شعرها، وكانت لها منافسة من أهل الجمال تريد أن تجعل هذا الأسلوب شائعًا في باريس كلها، فلم يكن من الرجل إلا أن وقف في رأس الجموع خطيبًا ثوار العاطفة غضوبًا يقول: «إن الأرستقراطية تريد أن تعود إلى الظهور، وتحاول أن تبدو برأسها الجميل للأحرار المتخلصين من فتنتها، وإن تلك الجدائل الجديدة ليست إلا فروعًا غير ثورية، وذلك الأسلوب الذي اتخذته جماعة من النساء ليس إلا أسلوبًا نبيلًا في الزينة، وإن تلك الضفائر والذوائب إنما قطعت من شعور النبيلات الشريفات اللاتي قتلن تحت سكين «الجيلوتين»!

فانطلت هذه الكذبة على الناس، وأجفلت ربات الخدور من هذا النذير المخيف، وأغلقت بيوت الأزياء الجديدة أبوابها، حتى لا يظن أنها تبيع الناس ذلك «الصنف» الممنوع، وحتى لا تستهدف لغضب ذلك الزعيم وموجدته، وقد خيرت النساء بين البقاء على تجميل شعورهن على تلك الطريقة؛ وبين قطع رؤوسهن على الأسلوب الجديد في قطع الرؤوس تحت تلك الأداة التي ولدتها الثورة المرعبة!

ولشد ما ضحك ذلك الرجل في أعماق نفسه، ولشد ما طرب لحيلته، وتصديق القوم لكلماته؛ إذ كان يلذه ويروح عن خاطره أن يجمع على هذا النحو بين الدعابة والشناعة في وعاء واحد!

ونحن فقد شهدنا العامة في كل ثورة وطنية يجنحون إلى جمع كل عواطفهم في نقطة واحدة، وإقامة مركز يستديرون حوله، ويحتاطون به، وإنهم ليختارون شخصًا واحدًا، وقد يهمون كثيرًا في اختياره، أو ينتخبونه عن غير حق، فيعدونه رأس كل حركة ذهنية، وممثل كل وثبة، وقائد كل كتيبة من جند الوطن، ويروحون يحشدون كل حبهم أو كرههم لذلك الرجل؛ فتجتمع عليه كراهيات الناس؛ أو تلقى عند قدميه كل موداتهم، وألوان عبوديتهم، فهو يوم مصيب منهم مادة الإعجاب به، وحينًا آخر واجد منهم مادة الاحتقار بكل قوتها، وكان أولى أن لا يستفرد هو بالحب، أو يخلص وحده بذلك الكره، بل كان حقًّا أن تشترك معه فيه الجماعة أو الصحابة، أو الأولياء، أو الندوة، أو من يعملون بوحي ذهنه، ويتحركون بإلهامه وإمرته، وكان عدلًا أن يسهم فيه الجيل نفسه والشباب كله، والزمن بماضيه وحاضره.

وما نظن رجلًا ذهب ضحية حب الناس له أولًا، وكراهيتهم له أخيرًا، وعانى من هذه الجانحة الاجتماعية ما عانى روبسبيير في الثورة الفرنسية، فلم ير الناس فيه إذ سقط عن تمثاله الوطني الحسود، والجريء المستهتر، والشجاع البهمة، والحمى الشرير، وإنما عدوه آخر أمرهم أصل البلاء برمته، والشر بكل قوته، وعصر الهول بسلطانه وويلاته، واليعقوبية مجسمة في شخصه، وفي الحق لم يكن هو الذي حمل ذلك الأسلوب الشيطاني المخيف في تلك الثورة الهوجاء إلى أبعد حد، وأقصى مدى، بل لقد كانت العامة نفسها التي أرادت أن يكون روبسبيير كما كان، وهي التي أوحت إليه أن يفعل ما فعل، وكانت هي تصفق له، وتهتف وتحبذ وتعضد؛ فخشي أن يعيش هو في وظيفته على المنطق؛ فتمله العامة، وتتجنى عليه الجماهير، وترميه بالأناة، وكانت الأناة في عصر النهضات، ووقدة النفوس في بكرة الثورات، فضيلة مركونة في زاوية، ومنقصة في الرجل إن تبدى بها، وعيبًا في أهل القيادة، لا يقل في نظر الناس عن الخيانة شناعة وجرمًا، وكان أخوف ما يخاف أن يقال قد أخذ الوطنية بالرفق، وتناولها بالمصانعة، والحكمة والحزم، وكانت تلك رذائل كلها في عصر تلك الفضيلة الذباحة الجازرة الطاغية، فكان يتهوس في وطنيته لعامته، ويتطرف في إخلاصه مرضاة لجماهيره، فلما تصنع للناس الجنون بالوطنية، وحذق تمثيل القسوة في إخلاصه، نسي على ممر الأعوام أنه المتصنع، وغاب عن ذهنه أنه الحذاق الممثل المتكلف، فوقع له الجنون حقيقة في نفسه، ومضت الحقيقة الظاهرة حقيقة عميقة، باطنة صادقة، وأعجبه ما رأى من صنع يديه، وراق في عينه ما شهد من تطرف وطنيته، وغره بنفسه ما لقي من تصفيق الجموع الجامعة لقسوته، فارتد أنانيًّا متغاليًا في حب السلطان، وكان الناس الذين مدحوه في مبدأ أمره، وقالوا عنه: إنه اكتسب تلك الشهرة الذائعة بوطنيته بفضل جهاد أعوام خمسة كان يقيم لياليها مسهدة ساهرة حتى مطالع الصبح، هم بأعيانهم الذين حاولوا إسقاطه، فلما سقط اقتادوه إلى المقصلة!

ومن هذا ترى أن التفاف العامة حول رجل منهم، قصير العمر غير عميق الأثر؛ لأن عاطفة العامة لا عقل لها، وعقلهم لا عاطفة فيه، فهم إما عاطفة بمفردها، وإما عقل خالص لا مزاج من العاطفة فيه، ولا تكون العامة في واحدة من هاتين إلا غاشمة جزارة، ولا يستطيع رجل منا أن يصيب محك العدل، أو يقسط في الحكم، إذا وقف ينظر إلى الناس بمنظار واحد من هذين، وهو مغلق عينيه الأخرى، وإذا صح هذا فما هو بعجيب أن تسمع بأن تلك العامة في تلك الثورة كانوا يصفقون في إبانها للخطيب، وهو يصيح بهم أن لا يأخذوا بالرحمة، أو يجعلوا الحلم شعار وطنيتهم، وأن سفينة الثورة لا تستطيع أن تجد سبيلها إلى المرفأ إلا على أمواج من الدماء، وأن أرواح المشفقين، وحشاشات أفئدتهم، وذماء نفوسهم ينبغي أن تكون من تلك اللجج الزبد من ذلك الجفاء، وهم الذين عادوا يهتفون محبذين مؤمنين للخطيب الذي وقف في بهرتهم يقول: إنه قد آن الأوان الذي نستطيع فيه أن نأخذ بالرأفة، ولا خطر علينا منها، وأن نظهر بواكر الرحمة واللين والحلم غير خاشين علينا أذاة ولا ضرًّا.

وإذا كان هناك شيء من الغرابة في ذلك ففي الحق لم يكن أغرب من أن يكون الخطيب الذي صفق له في الخطبتين رجل واحد بعينه، وأنه لم يكن مضى من الزمن بين الواحدة على فرط وحشيتها، وسورة العاطفة المجنونة فيها، وبين الأخرى العاقلة التي تحمل جزءًا من العقل، وجزءًا من العاطفة، غير خمسة عشر يومًا … فقط!

ونحن رأينا أمثلة من هذه النظريات، وألوانًا من هذا التقلب الذي يعتري الجماهير في نهضاتها الوطنية، وشهدنا أعراضًا متنوعة لنفسية العامة في حركتنا الحاضرة، فقد وهم كثيرون من المفكرين، وضل آخرون من قادة الرأي، وتركوا مبدأ، ووقعوا في مبدأ آخر يناقضه، وغادروا خططًا صالحة لم يستطيعوا تحقيقها، أو سلوك طريق العمل بها إلى خطط أقل رشادًا، وأضأل وطنية، وأقرب إلى روح اليأس منها إلى الاستبسال والاستماتة، وألفينا قومًا ما كانوا بالمتغيرين تغيروا، ورجالًا كنا نتوسم فيهم العظمة الذهنية نزلوا عن عظمة أذهانهم فكانوا خاصة العامة، ودون عامة الخاصة، فجعلت الجماهير الضئيلة الذهن تهتف لهم على الحالين، وتحشد من جموعهم جموعًا لتكون كواكب تمشي في حرسهم، وتصطف للقائهم وتوديعهم، ولو تصدى رجل من المخلصين، شجاع أمام العاصفة، غير هياب حيال تلك الجموع، فبصر الجماهير بمنحى سديد، أو بخطة عاقلة، أو أنكر على قيادتها مبدأ من المبادئ، أو نقد منها سبيلًا من السبل، وكان خليقًا أن يستمع له، وينظر في رأيه، ويتدبر في نقده؛ لأنه لم يرسل النقد على عواهنه، ولم يشأ أن يعكر على الناس الصفاء بمقاله، ولم تكن له عند القوم ترة؛ فأراد أن يشفي نفسه مما تجد، أو يروي غلة ترته، نعم.

فلو أن رجلًا كذلكم اضطلع بعمل مثل هذا، واحتمل مواجهة الجماهير بخطة كتلك، إذن فويل له، والويح ويحه؛ والضلة ضلته، فإنه المستهدف لسخط الناس عليه، المتعرض لغضبهم وموجدتهم، وقد رأينا كيف كان أمر رجل منا يرأس صحيفة من كبريات الصحف، كانت في إبان النهضة ترسل أوراقًا من المطبعة كالجراد المنتشر، فأوحى إليه إخلاصه أن ينقد أهل القيادة نقدًا غير جوهري، لا يشتف منه الخروج عن الصفوف، ولا ينم عن خيانة للفكرة المقدسة، فأصبحت تلك الصحيفة، والناس غاضون عنها أنظارهم، والباعة يبيعونها للقوم حميلة على الصحف الأخرى «فوق الببعة» مع الوريقات التي تظل تحت أكتاف غلمان الصحف حتى تحل النسخة التالية، ولم يكن الرجل في الوطنية آثمًا حتى تكون هذه عقوبته، وإنما رأى الناس منه رجلًا يريد أن يقطع عليهم وترًا من موسيقية وطنيتهم فتروح ناقصة النغم، فيصيبون منها وقرًا في آذانهم، وتضعف تلك اللذة السحرية التي يجدونها من العقيدة العمياء بأنهم إنما يحبون حقًّا، ويرون حقًّا، ويسمعون حقًّا.

على أن ذلك الرجل كان مخلصًا في عمله، وظل كذلك مخلصًا في صبره، فاحتمل أذاة الناس وسخطهم، غير شاك ولا متململ، ومضت صحيفته في طريقها، خاسرة في المادة، راضية عن الخسار في ضميرها.

ولم يلبث الجمهور بعد ذلك أن عاد إليها، ولم تعد هي إليه مصانعة متغيرة لوامة، ولا اعتقدت أنها ارتكبت جرمًا في الوطنية، حتى تكفر عنه، أو تتشفع لأجله.

ومن هذا ندرك أن الجماهير مصابة أبدًا بضعف الذاكرة، وسرعة النسيان؛ لأن أعمالها لا تصدر عن ذهن حاد حتى تكون بجانبه ذاكرة قوية، وليست للعواطف حافظة، وإلا لو أن لها ذلك لمضت جافة، لا تمضي في عمل حتى تراجع سجلها، وتلقي نظرة على ماضي فعالها، ولا تحدث حدثًا حتى تتحقق أن له سابقة من مثله، وماضية من طرازه.

وإذن لكانت قصة العاطفة الوطنية سلسلة مستطيلة من حلقات عمل واحد، وفكرة واحدة، ولم نر ثورة في تاريخ العالم مشت عامًا فعامًا على منهاج واحد، وطبعت من كتابها صورًا متعددة، لا تختلف واحدة عن أختها في شيء.

وكان الناس يقولون في مضرب الأمثال: إن خدمة الملوك خطرة، والزلفى عند الأمراء ضر، والعيش في قصور السلاطين لا يطول ولا يعمر، وإن رضى المليك معلق بكلمة، مرهون بلفظة، وإن الحب يدخل عليهم من أذن، ولا يلبث أن يخرج من الأخرى، وإن ابتسامة اليوم قد تصبح في الغد تجهمًا، وشرًّا مستطيرًا، وإن وراء الضحكة هبوب العاصفة العابسة الراعدة؛ وإذا كان هذا حقًّا، فأقرب منه إلى الحق الدخول في الجماهير، والعمل على اكتساب عاطفة الجماعات، والظهور على رأس الحشد في الثورات، ولئن كان في حب الشعب للرجل منا لذة مخدرة، فإنها لا تزال مع ذلك لذة خطرة، ولا يني تخديرها يصبح خمارًا مؤلمًا، ومهما أرضيت الشعب في عام، فما أنت بمستطيع أن ترضيه حجة أخرى، وإن اتبعت أهواءهم، ونزلت على أحكامهم، ومضيت تغذي عاطفتهم الغذاء الذي تسيغه، فإنك لا تلبث أن ترى المؤونة التي ادخرتها لغذائهم قد نفدت، ولا تزال عاطفة الجماعات جائعة تطلب مزيدًا، وتريد شيئًا آخر تلتهمه، فإن لم تجد لديه ما تأكله، أكلته هو والتهمته، أو اطرحته، فلا يسمع أحد عنه شيئًا حتى تمل الجماهير من خلفه عندها فتعود ثانية إليه.

وأنت قد رأيت أن للنهضات الوطنية لغة خاصة بها، وخطابة لازمة لها، وأساليب من الكلام تغلي مراجل النفوس لسماعها، فإذا سكنت الزوبعة، وعدت تقرأها في كتاب، لم تجد لها طلاوة، ولا رأيت عليها روعة، ولا ألفيت نفسك متحمسة لوقعها؛ بل تكاد ترى عليها برودة كلام الموتى، وتقطع أنفاس المرضى في محضر المنون.

وهذه اللغة التي يمشي على موسيقاها جموع الناس للقاء المدفع والنار، ويثب الحشد على وقعها لبذل نفوسهم مسترخصة، لا تتفق مع لغة العقل، ولا تجري عليها سنن المنطق، ولا تماشي الاستنتاج الصحيح، وتتفق والتعليل السديد، فهي ليست لغة صحيحة تثقل في الميزان اللغوي، وليست لغة أدب؛ إذ لا جمال للأدب عليها، وإن عيوبها اللغوية لتمر فلا تدركها الجماهير، ولا تكتشفها آذان الجماعات، إذ كان العصر الذي تقال فيه عهد الهزء بالقوانين، والسخرية من النظام؛ وليس أسهل على الوطني أن ينحرف عن أساليب الكتابة، والخروج عن أنظمة اللغة؛ ويكسر قوانين الأدب بتلك السهولة عينها التي يخرج بها عن الآداب الاجتماعية، وأنظمة الأخلاق، ويكسر القوانين المشروعة.

وليس أمام الوطني الكاتب أو الخطيب إلا الاحتيال حتى بالكذب، والمغالطة على التأثير في نفوس سامعيه أو قرائه؛ كما كان ديدن أحد خطباء الثورة الفرنسية؛ إذ قال في ندوة الثوريين: «إن شجرة الحرية — كما قال أحد الكتاب الأقدمين — لا تنمو ولا تفرع، ولا تطول إلا إذا رويت وسقيت من دماء الطغاة الظالمين!»

وقد قلب الذين كتبوا عن تلك الثورة بطون التاريخ القديم؛ ليستدلوا على اسم ذلك الفيلسوف اليوناني، أو الكاتب الروماني الذي اقتبس خطيب الثورة تلك الكلمة من كلمه، فلم يجدوا له أثرًا، ولا لتلك الكلمة أصلًا، ولم يعثروا بشجرات للحرية ترويها «مرشات» مفعمة بالدماء؛ إذ لم يكن من ديدن خطباء اليونان، ولا مذهب كتاب الرومان أن يستخدموا مثل هذا التصوير، أو يعمدوا إلى وحشية ذلك التعبير.

وأكبر ظننا أن الخطيب إنما أراد بكذب هذا الإسناد أن يزيد في رهبة كلمته وقسوتها وتأثيرها، ولم يكن الناس يومذاك يحفلون بالرجوع إلى الكتب حتى يتحققوا، أو يقتنعوا مما يقال لهم، فمرت هذه الكلمة حلوة في آذانهم، صادقة لا ظل للريبة على حقيقة اقتباسها، وصحة الرواية فيها.

وفعلت الكلمة ما أريد منها، وما كان الخطيب يقصد إليه من قولها، وهل كان لكلمة يومًا ما كان لتلك من التأثير، وما أدت إليه من النتائج، وأي تأثير لعمرك لكلمة كان معدل القتلى من فعلها ثلاثمائة مشنوق في الأسبوع!!

وقد كان خليقًا بثورتنا التي هبت ريحها منذ أعوام ثلاثة أن تحدث ثورة في الآداب، ونهضة في اللغة، وتطورًا في الفنون، وأن تحطم المبادئ البالية، وتهدم معاقل الجمود الاجتماعي، وتعفي على أثر العقائد الفاسدة، والآراء العفنة، وأنظمة الحياة الضالة الموبوءة؛ وتترك أثرًا لها في الأسرة؛ والزواج، والصحافة، والبيت، والمعهد، والسوق.

ولكن وا أسفاه لم تفعل شيئًا من ذلك، فقد مضينا نزيل قضبان السكك الحديدية، ونخرب الدور؛ ونهدم المحطات، وتوقف القطارات؛ فحطمنا ما كان يجب أن نترك، وتركنا ما كان أولى بنا أن نحطم، فظللنا كما كنا قبل النهضة أذهانًا ونقوسًا، وعقائد ومبادئ، بل لقد انتشرت الفوضى في الأدب، فخرج إلى الناس جرذان قذرة تحمل أقلامًا تسود بها أنهار الصحف، واختفى الكتاب الحقيقيون أمام الأوغال الأوكال، وقبالة غلمان لم يكونوا يومًا كتابًا، وإنما جعلتهم الفوضى كذلك، ولم نلبث أن سمعنا بأسماء لم نكن نعلم بها، وبألقاب جديدة منحوها، أو سيقت لهم.

فكل من نشرت له صحيفة من الصحف أسطرًا ضئيلة المعنى، خجلة في وسط بقية أنهار الصحيفة، صبية لا عقل لها، ظن أنه الكاتب الذي سيفتح بقلمه مغاليق الفكر، وسيأتي بالاستقلال «غير مشكوك» في «أنه التام»، ومشى بالمقالة إلى مشارب الحانات، وسقائف القهاوي، يدل عليها صحابه، وأخذها صحابه إلى صحابهم، ودارت في الحي الذي يسكنه، ومن ذلك الحي إلى العطفة المقابلة، والشارع الملاصق، وكذلك تكتسب منه الصحيفة، ويكسب هو من ورائها شهرة في وطنية كاذبة، وكذبًا في شهرة زائلة، ولقد كانت كثرة أولئك المحسوبين على الكتاب المرفوضين من الوظائف، والمتبطلين والعاطلين الذين يجوبون سحابة النهار طرق المدينة متلفتين متلددين، هي التي أدت إلى ذلك الخطب العظيم الذي تعاني منه البلاد، وإلى تلك الفرقة في الصفوف، والثغرة في البنيان المرصوص، وأولئك هم الذين قسموا الناس في الحق الواضح الأبلج أقسامًا، وأشاعوها شيعًا، وجعلوا الأمة تركب رأسها لا تدري أي الحزبين في مبدأ الأمر أجدى لها، وأحق بالنضح عنها، وهم الذين أفسدوا علينا أذهاننا، وعكروا صفاء نفسيتنا، وانتقصوا في العالم الذي ينظر إلينا من كرامتنا، وأزاغوا أبصار العامة، فلا تبصر من الحق غير وجهة واحدة، ولا تريد أن يزحزحها مزحزح عن عقيدة ضالة لديها، وهم الذين شوهوا حركة الأدب، وجعلوا كبار الكتاب يسكنون إلى نفوسهم، فلا يخرج من أقلامهم شيء من مادة ذلك الوحي الإلهي الذي ترسله السماء ينزل على أفئدتهم، وقد انصرمت هذه الأعوام خرساء لم يسمع فيها تغريد عصفور من تلك الأطيار الجميلة، ولم يخرج كتاب واحد يستحق خلودًا؛ واضطجعت الكتب القيمة على رفوف المكاتب، فلا تمد إليها الأيدي، ولا تفتح صدورها، حتى تستنشق الهواء، وحتى ترسل في الأذهان تلك الحدة التي تنمو بفضلها، فنحن اليوم راكدون آسنون، تقتلنا قتلًا بطيئًا تلك الأمواه العفنة التي تقدم إلينا لشرابنا، وشفاء غلتنا، ولو أنك علمت بعدد الطلبات، والعرائض التي ركمت في الحكومة نائمة هادئة في أماكنها، والملتمسات التي يطمع بها أصحابها أن ينالوا من أولي الشأن في البلاد إجازات، ورخصًا ليكونوا صحفيين، وأصحاب مجلات ونشرات وصحف، وهي تفوق العد، ولا يتناولها الحصر، وتستغرق سجلًّا ضخمًا لتدوينها؛ لأدركت هذه اللوثة المختفية التي أخذت بأدمغة فريق من هذه الأمة عجزوا عن سد أرماقهم من طريق العمل الجدي، والدأب على الحياة، فجعلوا الوطنية مرتزقًا، وأداة عيش، وأسلوبًا من أساليب الشعوذة، والحيل الهندية.

وكذلك حق علينا قانون الطبيعة الذي لا يخطئ ولا يضل، فإن هذه الرجعى التي نحن اليوم فيها، لا نزال نرى لها أثرًا في المحسوسات، فكما يمضي «بندول» الساعة منطلقًا في ناحية، تراه مهتزًّا قدر ما اهتز في الناحية الأخرى، وكما يتلو نشوة المساء أمام مائدة الشراب، وأقداح المشمولة الصهباء، خمار الصباح، ونومة الضحى، وألم الغداة.

وفي وسط هذه الزوبعة ثبت رجل واحد لم تفتنه فتون العامة، ولم ينزله عن مكانه الصخب الذي يملأ الفضاء عن كثب منه، أو يغرِهِ ميدان السياسة بمخادعة نفسه، والاحتيال بلغة الثورات على تضليل أذهان أمته، ولو أنه أراد أن يجمع الناس حوله بباطل تلك اللغة المنمقة، لسد على القوم جميعًا منافس الكتابة، فتلقاها هو باليمين، وحمل لواءها، وبز الخطباء أجمعين؛ إذ لم يكن ليصعب عليه أن يعتلي ذوائب المنابر، على أعين النظارة، فيرسل فيضًا من عبارات محبوبة جميلة المظهر، طلية الحاشية؛ فيخلب بها الألباب، ويخفي الحق في ركام من الكلم، وعصف من الألفاظ، ولكنه رجل وإن أوتي بلاغة منطق، وروعة أدب، وجلال نفسية لا يزال مخلصًا فيما يقول للناس، وفيًّا فيما يشعر به، ولقد رأيناه خطيبًا في عدة مواطن، فإذا به كما يقول الفيلسوف الروسي «إيفان ترجنيف» يصل إلى غرضه بضربة فأس واحدة.

ومثل هذا الرجل قد يجد الطريق إلى إقناع الجماهير الضالة الجامدة على رأي واحد، موحشًا شاقًّا، ولكنه قمين أن ينتصر ملي بأن يبلغ الغرض، ويقف على الثنية؛ إذ تزول نشوة الرؤوس، وتخفت حدة الأذهان، ويجيء الناس يسمعون في هدوء ليقتنعوا في صمت ورفق، وليروا قناع الشك منحسرًا عن وجه الباطل، ويشهدوا الحقائق متجلية أمامهم، تصدعهم حججها، وتمشي بهم إلى التفاهم والتهاون، والاتحاد والوئام.

١  هم الحزب المتطرف الذباح في الثورة الفرنسية، وكانوا يسمون بالجبليين؛ لأنهم كانوا يتخذون في المجلس مقاعد مرتفعة كأنهم متسنمون غارب الجبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤