لمحة من الماضي

قبل أن نبسط للناس شيئًا من تاريخ حضرة صاحب الدولة رأس الوزراء عبد الخالق ثروت باشا، ونسرد لهم ترجمة حياته، يخلق بنا أن ندلهم على حقيقة قد غابت عن أذهان فريق منهم، ونسيتها طائفة من جماعاتهم، وذلكم أنه في جميع الأدوار التي مر فيها، ومراحل الحياة التي تنقل بينها، ظل يسير في طريقه بماض نقي، وسيرة ناصعة، فلم يسئ يومًا إلى فرد، أو يحمل أذاة إلى مجموع، أو يضرب الأمة في مقاتلها، أو يحملها على ما لا تريد، أو يكرهها فيما تحب، أو يحببها إلى ما تكره، ولم يرتفع من منصب إلى منصب على أعناق الناس، ولم ينهض من وظيفة إلى أخرى أسمى منها بالملق، يكيله لأهل السلطان، أو بإرضاء الحكومة لإغضاب الأمة، أو بالوساطات يتشفع بها، والتوصيات يداهن ويصانع من أجلها، أو بالخمول يخلع عليه ألوانًا مصطنعة من النباهة، أو الغباء يزجيه إلى أولي الشأن في ثوب الذكاء الملتهب.

كلا لم يفعل الرجل شيئًا من ذلك، بل مضى شريفًا في عمله، عاملًا لشرفه، منكمشًا إلى منصبه، لا يتهاون فيه، ولا يعطيه أكثر مما يستحق لتعطيه الحكومة أكثر مما يستأهل، ونحن لم نر لرجل حكومي ارتفع إلى منصب الوزارة في بلدنا هذا تاريخًا ماضيًا هو في نقائه أنصع من ماضي صاحب الترجمة، ولا يزال في تاريخ هذه الحكومة منذ ألقى الإنكليز أيديهم عليها، واستبدوا بمناصبها هنات كثيرة، وسيئات لوزرائنا السابقين إذا ذكرناها، أو تحدث عنها الناس على أسماعنا، فلا نلبث أن يعلو وجوهنا الخجل، ويتولانا الاشمئزاز والاستنكار، ولو كان لنا وزراء في الماضي على غرار وزيرنا هذا، يحملون الإنكليز على احترام شخصياتهم، ويقفون على مرصد من أعمالهم ونواياهم، ومآرب سياستهم، ولا يسهمون معهم في قتل روح الوطنية في صفوف أمتهم، لما مضى نصف قرن من تاريخنا معيبًا مشينًا، خامد الأنفاس، مسكينًا متطامنًا لا يحوي غير يوميات بطعام الأمة وشرابها، وسكون نأمتها، وخسة أفراد من أهلها، فقد عشنا كل تلك الحقبة من الزمن بأمعائنا نملق الإنجليز لنوال ما في أيديهم، وكان أحق أن يكون في أيدينا، وكان أولى بأن يتملق لنا، ولا نكون نحن المتملقين الصغار النفوس العجزة الأوكال، وقد هدأت ضمائر الحكوميين منا؛ إذ خدعهم ما رأوا من ضخامة الألقاب، وهي جوفاء في غير موضعها، ومن الرواتب يرضون بها، وهي لا تغني عن فقدان الضمائر شيئًا.

وقد أفلت كثيرون من كبار هذه الأمة بماض سيئ، لا يخلو من عاب، ولا يتبرأ من ذام؛ فنسي الناس اليوم ما كان منهم، وتشفعوا لهم بحاضرهم عن ماضيهم، ولا ننكر أن هذه فضيلة من فضائل هذا الشعب، فإنه يحمل روح التسامح المكينة فيه إلى أبعد حد؛ فهو لا يني ينسى الإساءة إذا كفر عنها المسيء، وأتبعها مكرمة من المكرمات، وقفَّاها بحسنة من الحسنات، وإن الرجل منا ليحزن ويغضب إذا رأى من أحد ما يعده غضاضة عليه، وانتقاصًا من كرامته؛ وتهاونًا بحقه؛ ثم لا يلبث أن يبتسم، ويقبل ضاحكًا مستهلًّا إذا وجده قد عاد من إساءته إلى التكفير والتوب، ولكن لا يزال بجانب هذه الفضيلة العذبة الجميلة ما يشوه جمالها، ويردها في بعض الأحايين دميمة مشنوءة، وتلك منقصة الاستخفاف.

فإذا كنا نسبل على الإساءة ستر الرحمة والصفح، فنحن بجانب ذلك قد ننسى يومًا ما كان من ماضي الرجل وحسناته، ونقاء سجله، وطهر تاريخه، وذلك ضرب من التناقض في العاطفة لا نعرف له مثيلًا في نفسيات الشعوب، ولم نشهد شيئًا من أعراضه في تاريخ الاجتماع، إذ لم نر الجمود والصفح والتجاوز عن الإساءة الماضية متضاربة في فؤاد واحد، مختلطة متمازجة تحت نبض صدر رجل بمفرده.

•••

ولد صاحب الترجمة في شهر صفر الخير عام ١٢٩٠ من الهجرة و١٨٧٣ من مولد المسيح، فهو اليوم لم يحطم بعد الخمسين، وبذلك يكون أصغر من جلس في رئاسة الوزراء سنًًّا منذ سبعين عامًا، أو يزيد في بلدنا هذه، وليست الخمسون بالسن التي يجلس الرجل بها في ممالك الغرب فوق مقعد الوزير الأول، ويتولى فيها منصب الرئاسة في الحكومة، بل لا تزال سنًّا فتية في عمر الرجل السياسي، ولا يكون الحكومي في الخمسين إلا من الشباب السياسي الذي لم يرتفع معه إلى تلك المرحلة التي تجيز بلوغ الغاية، والتربع في الوزارات.

ونحن نرى هذه السن قد وقفت على ثنية الشيخوخة، ونعدها في بلادنا متقدمة تمشي متخطية الكهولة والرجل منا تبرد عاطفته قبل الرجل في بلاد الغرب، ولا يكون صاحب الستين لدينا إلا رجلًا متمهل الخطر، ثقيل الحركة، لا يجلد على عمل مجهد، ولا يطيق الاشتغال عدة ساعات مستمرة بينما ترى الرجل في السبعين من الإنكليز، أو الألمان، أو الفرنسويين واثبًا فوق الدراجة عاديًّا في معلب الجولف، سباقًا في حلبة السباق والربع ميل، مسرعًا قافزًا يحمل مضرب الكرة في يده، مشمرًا عن ساعديه، متحفزًا للهجوم، والتدافع بالأيدي والأرجل، وعلة ذلك أننا شرقيون تنمو جسومنا غير متمهلة، عاجلة غير متوانية، وأن عواطفنا حادة ملتهبة، لا تلبث أن تخفت وتنطفئ؛ إذ تحترق الأعصاب، وتهين الأنسجة، وتأكلها النار المشبوبة في الجانحة، والجهاز العصبي.

ولكن وزيرنا الأول لا يزال يلوح شديد الأسر ممتلئ القوة فتيًّا، نشيطًا حاد الذهن، مصقول الخاطر إلا وخطًا من شيب بدا في تفاريق شعره، ولاح في فوديه؛ فجعل مظهره جليلًا رائعًا، وما ذلك إلا لأنه حفظ بدنه من هماهم نفسه، وحي أعصابه، ولقد تقلد مناصب تستلزم عملًا ناصبًا، ونصبًا جاهدًا، وكان يحمل فيها على ذهنه بالعمل والدأب، ويكد في إنفاذ واجبه غير مستأن، ولا متراخي النشاط، فلم يحدث ذلك الدأب أثرًا كبيرًا في بدنه، وقوة ذهنه.

•••

وكان والده إسماعيل باشا عبد الخالق بن المرحوم عبد الخالق أفندي سر خليقة الرزقة في أوائل عهد محمد علي الكبير، فكان جده عظيمًا على رأس القرن التاسع عشر، وجاء الحفيد عظيمًا كذلك، ورأس حكومة مستقلة بعد العشرة الثانية من القرن العشرين.

كان جده لأمه كذلك من أشراف هذه المملكة، وهو المرحوم أغاة متسحفظان مصر في ذلك العهد، وكذلك انحدر صاحب الترجمة من أعصاب قوية، وطبيعة أقوى منها، ولعل ذلك سر امتلاء بدنه، وقوة شخصيته، وحدة خاطره، ومتانة طبيعته.

فلما بلغ الثامنة من عمره أدخله والده مدرسة عابدين؛ فتلقى فيها دروسه الابتدائية، وانتقل منها إلى مدرسة المعلمين «النورمال» فأتم فيها علومه الثانوية، ونال شهادة البكالوريا، وكان أول الناجحين في امتحانها من طلبة المدارس الثانوية.

تلك كانت أول بواكر هذا النبوغ، وذلكم مبدأ نضوج هذا الذهن القوي، ولا يني النبوغ يخرج ثماره على ميعاد، وعلى غير ميعاد، وقد يبطئ في الظهور وقد يبتكر، وقد يمر الفتى بشبيبته كلها صبيًّا عاديًّا لا غرابة حوله، ولا شيء يدهش من خلقه، أو من حديثه، أو من أثر ذهنه، وقد تظل كذلك فإذا هو على مستهل الثلاثين، أو على ثنية الأربعين قد راح نابغة في قومه، مكتمل الذهن، ناضج المواهب؛ فيعجب الناس لظهور هذه النادرة الجديدة، ويتساءل أقرانه، والذين رأوه في صغره، وشهدوه في مراهقته، كيف أتيح لهذا الرجل الذي كان علمًا على الغباء، ومادة التبلد، ووخامة الخاطر أن يبدو اليوم بمثل هذا الذكاء، ويتراءى بهذه الأعجوبة الجديدة، ومن أمثال هؤلاء المتسائلين تضحك الطبيعة ساخرة؛ لأنها لا تريد أن تسير في أفعالها على ما يهوى الناس، وأن تقرب نظامها من نظامهم، وتحاكي بين قوانينها وقوانينهم.

والنبوغ المبكر الوثاب من الطفولة الواضع علائمه في وجه الطفل، وهو يمشي إلى المدرسة؛ التارك دلائله تبين في أخلاق الصبي ضاحكًا وباكيًا، وغضوبًا ومارحًا، وفي حركاته وفي سكونه، يروح بطبيعته أقوى وأكمل من النبوغ الذي يأتي إذ تقبل الكهولة، وتتقدم السن؛ لأنه إنما يفيض من نبعة مستمرة على الجريان لم تكن يومًا ناضبة، ولم يكن معينها جافًّا لاصقًا بالأرض، وهو خارج من يد الطبيعة لساعته وعامه، طالع على الكون من يد الله المبدع العظيم، فلم يكن مخلوق الأعوام، أو مجهود السنين والحوادث، أو نتاج الطوارئ في حياة الرجل، أو تطور العصر، أو ثورة الزمن، كما يكون من النبوغ الذي يقبل متأخرًا متمهلًا، يمشي الهوينى إلى العالم.

ونحن فنرى أن للأصل والدم والمنشأ والأعصاب دخلًا في نبوغ صاحب هذه الترجمة، فإنه ولا ريب من عنصر آري لا أثر في تكوينه للدم السامي، وقد كان الآريون هم الذين فتحوا العالم، وأحدثوا الحضارة، وكتبوا التاريخ بأيديهم؛ لأن ذهنيتهم أكبر وأقوى من ذهنية الساميين، وتركيب أدمغتهم بخلاف تركيب أدمغة أهل العنصر السامي، وسلالتهم، كما يبدو ذلك الآن في تقاطيع وجه هذا الوزير، وشكل رأسه ومزاجه وطبيعته، ومنازع نفسه؛ وأكبر ما يؤيد لدينا هذا الرأي، ويوحي إلينا أننا على الحق فيما ظننا هو أن جده الأعلى حضر إلى هذا الوادي، واستوطن هذه البلاد بعيد الفتح العثماني، فهو منحدر من أصلاب متينة، وسليل جندية راعت العالم كله يوم بسطت سلطانها على هذا الوادي، وقد كان للهواء السجسج في هذه البلاد، والنسائم العلائل الرواحة الهادئة أثر في تخفيف حدة هذه الجندية الخشنة الرائعة.

وقد شهد هذا التأثير جميع الذين انحدروا من أوطانهم للمقام في مصر؛ فقد تطورت أذهانهم؛ وتغيرت أمزجتهم، ودخل عليها أثر هذا الجو الهادئ، فجعلهم يحملون دلائل أصلهم في وجوههم، وتأثير المناخ الذي استوطنوه في أمزجتهم وطبائعهم، وقد تجلى ذلك في عهد المماليك؛ إذ ضعفت على مر السنين روح الجندية التي كانت مكينة في نفوسهم، ووهنت في أرواحهم صبوتهم إلى الحرب، وشوقهم إلى الحومة؛ لأن جو مصر إنما يخرج كما قال العلامة الطلياني لومبروزو في كتابه «الرجل العبقري» زراعًا، وعملة، وحراثًا أكثر مما ينتج جنودًا وشجعانًا، ومساعير حرب، وتعليل ذلك أن البلاد السهلة التربة، الخفيفة الأرض التي لا تطول فيها الجبال، ولا تتحجر الأراضي لا تتطلب من الرجل إجهادًا في سبيل رزقه، ولا تسأله كدًّا متواصلًا في سبيل البحث عن قوته على حين نرى القوم في البلاد الصحرية الكثيرة الأجبال، لا يجدون العيش سهلًا ذلولًا، ولا يقعون على طعامهم إلا من بين الصخور، وفي بطون الأرض يشقونها أحافير ومناجم، وفي العمل الشاق المنهك للقوى، المتعب للأعصاب، ويوم يجد الرجل رزقه ومؤونته بلا مشقة، ويرى العيش أنضر على حبل الذراع منه يصفو مزاجه، ويعتاد الراحة، ويسكن إلى الخمول، ويروح وديعًا مبتسمًا للحياة ابتسامتها له، ساخرًا من الزمن؛ لأنه لا يكلفه غير طرح البذور، وترك الجدول الفضفاض ينساب في حقله، فإذا هو واجده بعد أيام زرعًا ناضرًا أخرج شطأه، وإذا الأرض مدرة عليه طعامًا وخيرًا، ومثل هذا الرجل لا يكون إلا وديعًا مسالمًا ضحوكًا مفراحًا، لا يحمل حزنًا، ولا يجلد على أسى، ولا تجد للكبرياء أثرًا في نفسه، ولا للخشونة عنصرًا في خلقه؛ إذ لا تقع الكبرياء والزهو إلا للرجل الذي يعلم أنه إنما يجد الطعام بشق النفس، ويحمل على نفسه ليكون سيدًا رافع الرأس، لا بالمتكفف، ولا بالسائل المحروم.

وكذلك نحن في بلدنا هذا الخصيب، فكما يجري النيل متبسمًا للشمس، وهي تلاعب صفحة أمواهه، ضاحكًا للقمر المبتدر يبسط أشعته الفضية عليه ليلتحف به غطاء حلوًا فخمًا، يعم صدره، وكما يتدفق صافيًا عذبًا فراتًا، ويفيض لا صخابًا ولا غاضبًا، عاتيًا طاغيًا على الناس في حقولهم، ترى أهل واديه كذلك صفاء نفوس، ونقاء أرواح ووداعة، ومراحًا وضحكًا، وابتسامًا، ومزاجًا رقيقًا، وصفحًا، وتهاونًا، وتسامحًا.

وإذا كان صاحب هذه الترجمة قد ورث عن آبائه روح الجندية، ومتانة الخلق، وصلابة الإرادة؛ وذلك الشمم المتسامي، فقد أخذ عن هذا الوادي كما أخذ آباؤه كذلك منذ استوطنوا هذه الأرض فضيلة الوداعة، ولين العريكة، وابتسامته الدائمة التي لا تفتر عن ثغره.

وإذا كانت تلك الجندية المتمكنة من خلقه المتأصلة في روحه لا تزال تبدو في حياته المدنية في تلك البسالة التي يواجه بها أحداث هذا العصر، وتلك الإرادة الفتية التي يحمل بها على أحرج المواقف، وأشد الظروف عنتًا وإرهاقًا وتعقدًا، وتلك العظمة التي يتجلى بها في منازعته على الحق أعداء بلاده، فإن ما اكتسبه من الروح المصرية لا يزال يبدو في مزاجه الصافي، وفي وداعة أخلاقه، ولطف حديثه.

ونحن ما رأينا في كبار رجال الحكومة، ولا في الوزراء الذين اعتلوا منصات الحكم في بلادنا هذه رجلًا محدثًا عذب المحضر، رفيق الحاشية، لطيف السمر، بسام المحيا كوزيرنا الأول؛ فإنه ليتبسط في الحديث، رافعًا الكلفة، متجاوزًا عن كبرياء المنصب، ناسيًا روعة المقعد في الحكومة، فلا يمل المستمع له حديثًا، ولا يرى على كلامه ومنطقه شيئًا يتكرهه أو يغضبه، أو يغريه بالنهوض من مجلسه، أو التعجل في الاستئذان من حضرته حتى لترى أبلغ الناس حديثًا؛ وأظرفهم فكاهة، وألطفهم في الكلام مدخلًا على النفوس ليفقد نفسه في حضرة هذا المحدث الرقيق البديع الحديث أكثر من متكلم، وتضؤل فكاهه بجانب فكاهة جليسه، ولا ترى لصاحب الترجمة فيما قرأنا عن النوابغ، والعبقريين شبيهًا له من هذه الناحية قرينه من هذه الوجهة الممتعة غير صمويل جونسون الكاتب الشاعر المخلد، فقد كان أبدع أهل عصره حديثًا، ودعابةً وسمرًا، حتى إنه يوم وضع القلم لا يكتب؛ مضى نشيط اللسان، فياضًا بالحديث؛ يضع سلطانه على نفوس سامعيه، ويجتذب أفئدة القوم برقة ندواته، وكانت مواهبه الكلامية لا تقل عن نبوغه الشعري، فكل كلمة تخرج من شفتيه تحمل السامعين إلى أبعد ما يأخذهم المدح والإعجاب، ولكن لم يكن على كلامه أثر من تلك «الشطحات» المترامية التي كانت في شعره، بل كانت أحاديثه آية البساطة والسهولة واللطف، والمتانة في آن واحد.

وكذلك كان الخطيب والسياسي المخلد إدموند بيرك معاصر جونسون، فقد كان إذا غاب هذا عن الندوة تولى هو التحدث، والتسامر مع الأعضاء، وكانوا جميعًا من كبار رجال العصر بين كتاب وشعراء، وساسة وأشراف وحكوميين، فلم يكن بيرك يقل في فكاهاته، ولطف أحاديثه عن صديقه الغائب، ورأس المحدثين الفاكهين في عصره ذاك.

وإذا نحن تدبرنا هذه الشجاعة الأدبية التي نرى في كل يوم آثارها من صاحب الترجمة، وجمعنا إليها هذه الفضيلة الكلامية الحلوة، العذبة المحضر، ذكرنا ما كان من القائد مالبرا؛ إذ قال عنه الشاعر الروائي ويليام ثكرى: إنه ليقف أمام فوهة المدفع مبتسمًا، كما يقف في قاعة الاستقبال لتحية الأضياف.

•••

وكان من أثر هذا النبوغ المبتكر أن دخل المترجم به مدرسة الحقوق في الربيع السادس عشر من عمره، وذلك عام ١٨٨٩ أي في تلك السن التي كان أقرانه في هذا العمر لا يزالون في المدارس الابتدائية طلبة طوالًا، قد نبت عذارهم في صفحات وجوههم، وفرعت قاماتهم، وصلبت أعوادهم، ويوم كانت برامج التعليم أدق منها اليوم، وأوسعها مادة، وأكثر دروسًا، وإذا عرفت ذلك، ثم علمت أنه كان أول فرقته في جميع سني مدرسة الحقوق، أدركت روعة هذا النبوغ الذي بدأ منذ صباه ناضجًا فارعًا مستفيضًا، وكان خليقًا بذلك الصبي الذي يمشي في باحة المدرسة أن يكون له شأن يذكر في مقتبل عمره، ومستهل كهولته؛ لأن الطبيعة أعدته منذ ذلك اليوم لعمل عظيم، وأرادت به حدثًا خطيرًا في تاريخ هذه الأمة، وقادته إلى طريق الحقوق؛ لأنه كان أبدًا سبيل النوابغ إلى الوزارات، ومعهد تخريج قضاة الشعب وقادته، وزعماء الرأي فيه، وقد كان له في تلك المدرسة أقران ولدات، ولكن الطبيعة لم تنتخب منهم لعملها الذي انتوته لبلدنا هذا أحدًا غيره، وقد خمل أولئك، ونبه هو؛ لأنه من صفوة من اختارتهم الطبيعة لقضية الشعوب، وأماني الأمم.

ولا غرو إذ اهتدت الحكومة إلى مواهبه منذ صباه، وتوسمت فيه ما حدث منه في رجولته؛ إذ اختارته بعد نوال إجازة الحقوق من تلك المدرسة للسفر إلى بلاد الغرب؛ لإتمام علومه، ونوال إجازة الدكتوراه النهائية؛ إذ أوحي إلى ناظر المدرسة يومذاك وهو مسيو تستو أن في أثواب ذلك الفتى بواكر عبقرية متجلية ساطعة النور؛ فرفع إلى أولي الشأن تقريرًا يوصي بأن لا تفرط الحكومة في تلك المواهب، وتتزاور عن هذا النبوغ الفتي المتقد، وأن ترسله إلى أوروبا ليأخذ من فيض ذلك العلم الذي نبع نبعه في تلك البلاد، فنزلت الحكومة على رأيه، وصدقت نبوءته، ورضيت بمقترحه؛ فأجازت سفره، وقررت له مرتبًا استثنائيًّا يكفل له النفقة مدة دراسته، ولم تكن تلك الفترة فترة بعثات علمية ولم يكن عصر الإرساليات، ولم تكن العادة أن ينقد الطالب في جامعات الغرب راتبًا ينفق منه؛ ولكن الحكومة كانت في ذلك متابعة سنة من سنن الإلهام السياسي؛ إذ بينا ترى الحكومات يومًا مشترعة نظامًا إذ هي مبطلة مثله، وهي لا تدري لم أنفذت ذاك، وأبطلت غيره، ثم لا يلبث الزمن أن يظهر فساد ما فعلت، أو صلاح ما اشترعت.

على أن القدر أبى أن تتم الفكرة، وشاءت الظروف أن تحول دون تنفيذ هذا المقترح؛ إذ اتفق أن كان والد المترجم به يومذاك مريضًا مرض موته، طريح الفراش على سرير منيته؛ فتضاربت في فؤاد ذلك الفتى عاطفتان، كل منهما تدفع الأخرى وتجتذبها، وتريد الغلبة عليها، عاطفة الشوق إلى العلم، وعاطفة الرحمة والبر بأبيه، ولكن لم تلبث الغريزة أن انتصرت على نزعات الذهن، ولا تجد الغريزة مصطدمة، وأية عاطفة إلا انتصرت في النهاية فائزة.

وهكذا آثر الفتى أن يبقى بجانب أبيه المريض على أن يحمله طلاب التوسع في العلم إلى بلاد قصية، وأبوه في محضر المنون، وأشفق من أن يلفظ الرجل أنفاسه التي طالما أجهدها في سبيل تربية فتاه، والقيام على رعايته، وهو عنه غائب، فلا يودعه الوداع الأخير.

ولم يسافر المترجم به كما كانت النية، ولم يرتحل عن مصر كما كان مقترح الحكومة، وماذا كانت تلك الإجازة التي كانت تنقصه لتجدي عليه أو تنفعه، وله من ذهنه الخصيب، وتفتح الكتب أمام عينيه، والتربية الاستقلالية التي كانت عند منال يده؛ ما يذلل له سبل الاكتمال من العلم، والتوسع في القانون، ويفتح أمامه مغاليق الفكر والرأي، ولعمركم متى كانت المدرسة معهد النبوغ، ومتى مضت الجامعة منتجة العبقريات، وهل النوابغ يستمدون من الجامعات شيئًا من مواهب نبوغهم إلا أن يحرزوا المبادئ الأولية لإظهار قوة أذهانهم، وحدّة ذكائهم، ثم ينطلق نبوغهم بعد ذلك ركضًا لا يلوي على شيء.

وقد رأينا شبابًا خرجوا من المدارس فكانوا أعظم أذهانًا من معلميهم، وأكبر أسماء من أساتذتهم، فذاع ذكرهم، ومضى معلموهم خاملي الذكر، مغمورين، لم يصيبوا هم من الخلود شيئًا، وأصابه تلاميذهم، وأين الذين علموا أمثال: شكسبير، وجونسون، وديكنز، وراسين، وكورني، وبت، وبسمارك، ومولتكي، وغيرهم، لقد جهلتهم الإنسانية، ولم تحفل بمعرفة أساميهم، أو البحث عن حياتهم وماتوا، وكأنهم لم يكونوا، وكأن أولئك المخلدين العظماء لم يتلقوا عن معلم، ولم يتخرجوا عن أستاذ، ولم يأخذوا عن أحد في حلقة درس، وفي فرقة من فرق الجامعة أو المعهد، بل كأنما خرجوا من يد الطبيعة جاهزين مفصلين، يحملون العلم من المهد، ويشعرون في أعماق قلوبهم بوحي الفنون كلها، وكيف يحتاج النوابغ إلى المعلم، وتعوزهم إجازات المعاهد، وهم الذين يخلقون العلم، ويكشفون أقطارًا جديدة منه، ويأخذونه إلى الشاطئ؛ فينظفون ما يعلق من الأوساخ به؟ وما جملة علوم هذه المدينة وفنونها وآدابها إلا من عمل النوابغ والعبقريين، لا من صنع حملة الشهادات، والمزهوين بالإجازات، والألقاب العلمية، والكنى الأدبية التي تجعل لأسمائهم ذيولًا طويلة وراءها.

ونحن قد بعثنا إلى الغرب وجامعاته عددًا عديدًا من شبابنا، وأطلقنا فتيانًا من سجون مدارسنا إلى حرية المعاهد في بلاد الحضارة والقوة والعلوم، وقد تكاثر في الأعوام الأخيرة علينا أولئك الذين عادوا بإجازاتهم العالية، وباللحى المعفاة، وبالمناظير الأستاذية، وبالألقاب السربونية، وغير السربونية مما لا نعرفه، ونفزع منه، وتأخذنا الهيبة عند سماع نبئه.

ولكن كم من هؤلاء أحدثوا انقلابًا في مادة العلم لدينا، أو غيروا وجهة الأدب عندنا، أو أثاروا نهضة اجتماعية كبرى، أو خلّدوا أسماءهم، وأرسلوها مع الشمس تجري فوق رؤوس الناس؛ فتبهر أنظارهم، وتدفئ أرواحهم؟ وأين الكاتب العبقري الذي أخرجته الجامعة؟ وأين قلم الوحي الإلهي الذي نشأ في المعهد؟ وأين المشرع العظيم الذي وثب من كلية القانون؟ وأين المهندس الصنع، الحاذق الجديد الذي جاءنا من البلد القصي على صفحة البحر الأبيض؟ وأين الكتب والتآليف التي كانت نتاج الدرس في الجامعات والأسفار، والأبحاث، والمخترعات، والمبتكرات التي خرجت وليدة الذاكرة والبقاء أعوامًا طوالًا في الكليات؟

لم نر شيئًا من ذلك في صفوفنا، وإن رأينا خلقًا كثيرًا جاؤوا بشهادات عالية، ولم يجيئونا معها بشيء من ثمرات تلك الشهادات أو دلائلها، بل هؤلاء إنما يزيدون في كل عام قوائم أسماء المحامين، أو يندمجون في وظائف الحكومة، فلا يفضلون الحكوميين الذين نشأوا في مصر، وتخرجوا من مدارسها، وأخذوا العلم عن معاهدها، أو يفوقونهم في كثير أو قليل، ولم تزدد نهضتنا بهم شيئًا، أو تمتن أصلابها فتحتمل زوبعة الحياة، وتجالد مطالب العصر. ولو أنك أحصيت عدد الذين فقدتهم هذه الأمة في بلاد الغرب، ومدارسها، وخابوا في البحث عن الشهادات يزجونها إلى دوائر الحكومة للظفر بالوظائف المنتخبة الرقية، والذين عادوا إلينا وقد فقدوا جنسيتهم، واستنكروا أن ينتسبوا إلى بلدهم، أو يذكر أمامهم وطنهم، والذين رجعوا ولم يظفروا بإجازة أو شهادة إلا إجازة زواج بفتاة دميمة، أو امرأة نصف مطلقة، أو عذراء لم تجد في بلدها فتى يتطلع إلى البناء بها، ولم تر خطابًا يتزاحمون عليها، فكأنما ذهبوا لهذا، وكأنما عز عليهم أن لا يعودوا بشيء مما ذهبوا لأجله؛ فعادوا بخفي حنين.

نعم، إنك لو أحصيت عدد هؤلاء وأولئك، لعلمت أنه لا يشفع عدد من نجحوا في مدارس الغرب لعدد الذين أخفقوا، ولا يستطيع أولئك أن يعتذروا لهؤلاء، وأن ما استفدنا به من شبابنا الذين جاؤونا بالإجازات العلمية لا يقع في شيء إذا قورن بنكبتنا من وراء ذلك، والضرر الذي لحق كياننا من أثر ما فعل المخفقون الراسبون الراكدون منهم، وحسبك ما كان من جراء هذه الزيجات الأجنبية، وما بلتنا به، حتى أصبحنا نجد ألوفًا من فتياننا في منازلنا من غير زواج عانسات، لا يجدن خطابًا، أو «منتظرات»، والشباب غير منتظر، والجمال متحول غير معمر، وقد أصبح كثيرون من الآباء يدفعون ببناتهم، وثمرات تربيتهم إلى أول خاطب مخافة أن لا يكون وراءه خاطب آخر، وفي ذلك من نذير الشقاء، وتهدم الأسرة، وفساد العيش ما فيه، وكأنما هؤلاء الشباب لا يرون في بلدهم ولا فتاة واحدة تصلح لواحد منهم، وأن أولئك الفتيات المهذبات اللاتي رأينا ما فعلن في وقدة هذه النهضة، وما أسهمن به في الوطنية الصادقة لا يصلحن أزواجًا، ولا يرقن في أعين الشباب «المستغربين»، ولا تصلح كلمة «مدام» لفتاة منهن، وكأن فتياتنا المطالبات اليوم بحق الانتخاب في نظر أولئك الشباب الذين غرتهم الحضارة الغربية، وخدعهم زخرفها، ولين ملمسها، ونعومة مظهرها لا يحاكين في ذهنيتهن، وآدابهن، وعلو مداركهن تلك البضاعة النسائية التي وردوها لنا من حلقات الدرس في الغرب، ومن الإجار الفقيرة التي كانوا يسكنونها في الجامعة.

وكذلك ترى أن كثرة الخريجين، وحملة الشهادات العالية لم ترتفع بنا، ولم تنهض بحالتنا الاجتماعية من البلاء الموكل بها، وأن ما نخسره من ورائها أكبر مما نجنيه منها، ونحن رأينا كثيرين أتموا دروسهم في الغرب، وعادوا بالدكتوراه، والإجازات النهائية، ولم تتح الأقدار لصاحب هذه الترجمة: إن يكون في الذين ذهبوا للعودة بها؛ فتخلفوا هم، واستبق المترجم به، وما شهدنا من نبوغه في القضاء، ومن عمله في المناصب القضائية التي تولاها، ثم تنقل فيها يؤيد رأينا أن النبوغ إنما يسخر من الشهادات، وأن العبقرية لا تنقصها الإجازة، أو الجلوس في الجامعة العالية.

•••

وإذا كانت الحكومة قد أخفقت في فكرتها التي أرادت تحقيقها في مبدأ أمرها من إرسال المترجم به إلى جامعة أوروبية لإتمام دروسه على نفقتها؛ لأن القدر وقف في طريقها وطريقه، فقد أبت إلا أن تدخره لنفسها، ولم تشأ أن ينطلق من يديها ليسلك نفسه في المحاماة، أو في عمل حر يسد به ثلمة في صفوف العاملين الأحرار الخارجين عن مكاتبها؛ فدخل المترجم به أول ما دخل في وظائف الحكومة في قلم قضايا الدائرة السنية، ولبث كذلك ردحًا من الزمن يظهر فيه نبوغه، وتتجلى فيه عبقريته القضائية حتى اهتدى إليه رجل من كبار رجال الحكومة يومذاك، وهو السير جون سكوت، وكان يشغل إذ ذاك منصب المستشار في وزارة الحقانية، فراعه ما رأى من وحي ذكائه، ومن أمارات التفوق تبدو على صفحة وجهه، وفي أضعاف العمل الذي بين يديه، وفي الهمة المتقدة بين أضلاعه، والتوثب إلى البروز والنهوض من مكانه ذاك؛ فاختاره ليكون كاتم سر للجنة المراقبة القضائية.

وقد كانت تلك الخطوة الأولى في طريقه إلى المجد، وسبيله إلى التفوق، وإظهار عظمة ذهنه على الأقران واللدات، فما زال يشغل تلك الوظيفة في اللجنة، ووظيفة المفتش بها، ويترقى في المناصب القضائية حتى عين بعد ذلك وكيلًا لمحكمة قنا.

ومضى زمان وهو في مكانه ذاك حتى ألهم المستر برونيات (سير ويليام برونيات بعد ذلك) أن يعمل على تعديل النظام الإداري لوزارة الحقانية؛ فوضع تقريرًا مطولًا عن ذلك، فلم يلبث المترجم به أن نقل من القضاء إلى الإدارة؛ إذ عين مديرًا لإدارة المحاكم الأهلية.

وكذلك انتقل المترجم به من مناصب القضاء إلى وظائف الإدارة للمرة الأولى، ويلوح لي أنه كان يؤثر الأولى على الأخرى؛ لأن عبقرية الحكم في الناس، والبت في خصوماتهم، وإقامة منارة العدل بينهم، كانت مكينة في نفسه، متأصلة في أعماق روحه؛ لأن في ذلك معنى النشاط، ومضطربًا لحدة الذهن، ومجالًا لسعة الخاطر، ونفوذ البصيرة، وبعد مطارح الرأي، وليس القاضي إلا ممثل الملكية، والنائب عن الإمارة، والمفوض في الحكم عن الولاية، وهو منصب يدني صاحبه إلى الناس، ويدني الناس منه، ويقرب إليه فرصة فهم الناس على حقائقهم، وتعرف منازع نفوسهم، وإدراك نفسية المظلومين والظالمين معًا، وليست ساحة القضاء إلا حلقة درس للقاضي، ومعهد بحث، ودار فحص، فإذا كان القاضي بعيد النظر، عميق الفكر، قوي الشخصية، استفاد العدل منه، واستفاد هو من منصبه؛ إذ يجتمع جلاله بجلال مقعده، وتلتقي روعة شخصيته بروعة سدته، وعلى قدر قوة الشخصية في القضاة، تكون قوة الإنكار في المجرمين، وليس القضاة إلا من كبار علماء النفس، وليست شخصيتهم إلا أول مطلب لمناصبهم، ورب قاضٍ اهتدى إلى المجرم من الجلسة الأولى.

وفي أثناء اشتغاله في الوزارة انتدب فوق أعماله للقيام بأعمال القضاء في محكمة أنشئت للأحداث في القاهرة عام ١٩٠٥، وقد وضع عنها تقريرًا مستفيضًا وافيًا، أثبته المستشار القضائي في ذلك العهد برمته في تقريره السنوي، مثنيًا على كاتبه أجمل الثناء، معترفًا له بالقدرة، مقررًا أنه من القضاة الشباب الذين برزت كفاءتهم، وعلت مقدرتهم، وتجلت عبقريتهم في مناصبهم.

وفي الحق، كل من قرأ ذلك التقرير، واستوعب ما جاء بين دفتيه رأى أدلة ساطعة على التفوق الذهني، والبراعة القانونية، والتحليل النفساني الدقيق، ويشهد غلالة رقيقة من الأدب، ونسجًا بديعًا من أساليب الكتابة.

والناس في بلدنا هذا قد اعتادوا أن يظنوا أن كل رجل منا يظفر بمديح، أو اعتراف بكفاءة من رجل من الإنكليز إنما يصيبه من طريق الممالأة، ولا يناله إلا كما ينال المولى الذليل كلمة تشجيع، أو خير من سيده، وأن الإنكليزي لا يكون معترفًا إلا إذا كان مملوقًا ممن اعترف له، محبوبًا منه، عونًا له، صنيعة معه على سياسته؛ لأننا عشنا على النفاق جيلًا طويلًا، وتعلمنا الملق والمداهنة، إذ ظننا ذلك سبيلًا إلى الحظوة، مطية إلى التفوق في المنصب، والصعود إلى المقاعد العالية، فحسبنا كل ابتسامة من الإنكليزي علمًا على الخيانة، ودليلًا على الممالأة، وإشارة إلى المصانعة، وقد يصح هذا على قوم ارتفعوا بهذه الوسيلة، وبلغوا الغاية بهذه السبيل، ولكن العظمة الذهنية قمينة أن تحمل عدوها على التهيب منها، والاحترام لها، والاستكانة أمامها، وإذا ظفر النابغة من نوابغنا في الحكومة بشهادة من رئيسه، أو كلمة مديح من الإنكليزي، فلا يكون الإنكليزي فيها إلا صادقًا، ولا يكون إلا مكرهًا على تلك الشهادة إكراهًا بدافع نفساني، ودهشة في أعماق نفسه؛ إذ يرى في الأمة المحكومة به عبقرية تصدعه وتروعه، وتملك عليه نفسه، وتغريه بأن يظهر ما كمن في صدره من الإعجاب بها، والخشوع أمام مظهرها وجلالها، وقلما ظفر منا النوابغ بهذه الشهادة، وندر من أصاب أمثال هذا الاعتراف، بينا ترى ألوفًا منا يظفرون بابتسامات الإنكليز وتحياتهم، ودلائل التحبب إليهم، ومساعدتهم، والمشي بهم إلى المناصب السامية، ولو اطلعت إلى قلوب أولئك المادحين المزهوين المتكبرين لرأيت أشد الاحتقار يكمن في إضعاف نفوسهم لهؤلاء المالقين الأذلاء، وشهدت العبث والسخرية مستعرة في حنايا ضلوعهم لهم.

وأما الأذكياء منا، وأهل الضمائر الحية التي لا تصبر على ما يهين أصحابها، أو يغريهم بخيانة بلادهم، والنوابغ العاملون المالئو مراكزهم بحق، فإنما إذ يصيبون مدائح الإنكليز يغتصبونها اغتصابًا، وينالونها منهم قسرًا وانتهابًا، بما يدخل على نفوس رؤسائهم من الرهبة، والإعجاب بتلك الشخصيات القوية؛ والضمائر المتقدة الوثابة، والأدمغة الناضجة، ودلائل النشاط، والوطنية العاملة.

ولعمري ما كان بالمديح أن يقال عن صاحب الترجمة: إنه من الأذكياء، وما كان ثناء أن ينعت بالكفاءة، ويوصف بالمقدرة، ويشار إليه بالنبوغ، فتلك معالم ذلك ظاهرة في كل عمل تقلده، وفي كل منصب اعتلاه، ولم يكن المادح شاعرًا كاذبًا، ولا مشجعًا محبذًا، ولو أنها جاءت من أي إنسان آخر غيره، لكانت من تحصيل الحاصل، ومن الأمور التي بدهت الناس جميعًا، ولا حاجة إلى إعلانها؛ لأنها معلنة عن نفسها، ولكنا إنما نغتبط بها، ونقف أمامها مثلجي الصدور، لما يختفي تحتها من ذلك المعنى البليغ الذي نشعر به، وهو شهادة العدو بالفضل، ومغالبته الكتمان، وإنكار المقدرة، وعجزه عنها، ووثوب ما في ضميره على ما في ذهنه من مبادئ رمي المحكومين بالجهالة، وتنقصهم، والتجني عليهم بالخمول، وضعف الأذهان، والإقفار من النبوغ والذكاء.

وفي عام ١٩٠٧ خلت وظيفة مستشار في محكمة الاستئناف الأهلية، فانتقل صاحب الترجمة إليها، وكان ذلك تحقيقًا لرغبته، وإنفاذًا لطلبه؛ إذ كان مكانه في الإدارة، قد أغراه بالعودة إلى مكانه في القضاء، وقد شاقه أن يجلس في الناس مجلس الحكم، ويرى الناس جناة ومجنيًّا عليهم؛ ليعود إلى دراسة أخلاق الإنسانية، وطبائعها، وشهوات أنفسها، ومنازع غرائزها.

وأبى إلا أن يرجع إلى منصة القاضي، وينصب في مقعد المستشار، على الرغم من الإلحاح عليه كثيرًا في البقاء بوظيفته في الإدارة القضائية، والعدول عن مناصب القضاة، والسكون إلى الإدارة في الوزارة؛ فلم يجد ذلك الإلحاح، وأصر على طلبته فكانت له.

ولكنه لم يلبث طويلًا في ذلك المنصب، بل اتفق له في شهر نوفمبر من العام بعينه ١٩٠٧ أن طلبت وزارة الداخلية إليه أن يكون مديرًا لأسيوط، فلم ير من حيلة له إلا قبول ذلك المنصب، ولكنه اشترط لنفسه حق الرجوع إلى منصب القضاء في محكمة الاستئناف إذا قدر له يومًا أن يعود عن الإدارة إلى سابق مكانه، أو إذا أراد هو أن يعود بدافع رغبته، ومن تلقاء نفسه.

فلما نزلت الحكومة على رأيه، وصدقت بشرطه، واعتمدت مطالبه، وتولى منصبه الجديد في مديرية أسيوط، لم يلبث أن أنعم عليه برتبة «الميرميران» الرفيعة.

ولما اعتزل المستر كوربت النائب العمومي خدمة الحكومة في عام ١٩٠٨ وقع الاختيار على صاحب الترجمة ليخلفه على ذلك المنصب، فعرضته عليه يومذاك؛ فلم يتقبله إلا بشروط اشترطها على الحكومة صونًا لأهميته، وما يجب أن يكون لمتولي ذلك المنصب من حرية العمل.

وكان المترجم به رهيبًا في مكانه ذاك، قوي الشخصية في ذلك المنصب، محترم الجانب حتى أمام وزيره، وقد وقع في ذلك العهد من الأحداث السياسية ما حدا بالمترجم به إلى المرافعة في كبرياتها.

ولعل الناس لا يزالون يذكرون وقفته تلك في قضية الورداني، وتلك المرافعة البليغة المتدفقة الفياضة التي راح يصبها في أسماع الناس في ساحة المحكمة، فقد مضت بلاغته صدرًا إلى صدر بجانب البراعة في القانون، والتعمق في البحث، والإيغال في صميم أسفار القضاء.

ولكن أعجب ما يروقنا منها، ويقع من نفوسنا عند قراءتها روح الفكاهة، وعبقرية اللعب بالألفاظ، والسخرية والتهكم المرير، فإنك لتتبين من خلال سطورها قطعة من روح المزاح الفكه السخّار من الإنسانية، ومضاعفها، ومناقصها، ومعايبها، شارلز ديكنز، الذي أراد أن يبكي الناس، فإذا العبرات مستهلة، والشؤون مستدرة، منهلَّة لقراءة كتبه، ثم عجب لهم يبكون منه ويستعبرون، ثم لا يضحكون؛ فوقع في نفسه أنه لا بد مضحكهم مدخل السرور على نفوسهم، فلم يلبث أن واتاه ذلك؛ فدخل على القوم من أبواب متفرقة من التهكم والعبث، والسخرية والمزاح، فكان أقدر الناس على ذلك، وأبلغ الكتاب مزاحًا، وفكاهة وسرورًا.

والروح الفرحة لا تزال تدخل على العظيم، وتختلط بخلقه، وتستقر في قرارة نفسه، ونحن رأينا كثيرين من العظماء سخارين من الدنيا جميعًا، حتى من أنفسهم، هزائين بالحياة، وسخافة ما اجتمعت عليه، وقامت فوق أساسه، أما العظمة المتجهمة العابسة المتكبرة التي تخشى أن تبتسم للناس، فيدنون منها غير خائفين شيئًا من جلالها، واكفهرار طلعتها، ويقتربون في سكون أعصابهم، لا رهبة في نفوسهم، ولا جزع يتغلغل إلى إضعاف أفئدتهم، فتلك عظمة مقفلة موصدة الأبواب، معتزلة تحرق نفسها في جوفها، وتتأكل بعضها، وتعيش في صحراء من نفسها، وقد تضل طريقها في تلك الصحراء، ويبلغ منها الظمأ والجوع؛ فتقضي نحْبها، ولم يسمع الناس عنها نبأ، أو تموت منقوصة العمر، أو فاقدة حقها من تقدير الإنسانية، وإكبار الجيل، وحب العصر.

ولكن ذلك التواضع الذي يقع لطائفة من عظماء النفوس، وتلك المائية في روضة أخلاقهم، وحديقة أرواحهم، وذلك الصفاء الذي يعم ذهنيتهم، ويتبدى في مزاح لبق، ونكتة طريفة، وكلمة حلوة، وضحكة متفتحة ضاجة ثوارة موسوسة، وابتسامة تملأ الحياة أملًا، وتشع على الدنيا رجاء، وفرحًا وطربًا، كل أولئك سجايا طيبة لو أتيحت للعظيم ملك ناصية القلوب، واستأسر الأفئدة، وجعل الجيل كله الذي يظهر فيه فرحًا مشرقًا بما يحبوه من التواضع الجميل، الذي يتلقى أصغر الناس بأجمل ما يتلقى كبارهم، وأهل الخطر والمكانة فيهم.

ولقد اجتمعت كل تلك الشيم في صاحب هذه الترجمة، واختلطت بشخصيته، وامتزجت بخلقه، فما شئت من سماحة ووداعة ولين عريكة، وتفتح صدر لأصغر الناس شأنًا، وما أردت من رقة حاشية، وفرحة أدب، وتظرف، وعذوبة محضر، وإنه ليفيض على المجلس من فكاهاته، وخفة روحه، ورياض أدبه، وتهكمه في رفق، وعبثه في تأدب واحتشام؛ حتى ليكاد سامعوه ينسون جلال منصبه، ورهبة مكانته في الحكومة، وعظمة نفوذه وسلطانه، وكأنما يجلسون إلى رجل نفض يده من شؤون الشعب، وتحلل من كثرة العمل، وأقال ذهنه من التفكير في صالح الجماهير، والاهتمام بما يجدي على الأمة في حياتها، ومستقبل شأنها، وكأنهم في حضرة رجل منهم، وفرد بسيط اعتيادي من صفوفهم، وقد بدا ذلك كله كما قدمنا في تلك المرافعة الكبرى التي حشدها في قضية الورداني، وفي تلك الفكاهات، والعبارات الرقيقة؛ والوصف الدقيق، والتهكم بالمجرم، والعبث بخلقه، وتصوير طبيعته، ورسم شخصيته، ونزعاته حتى ليقرأها الإنسان اليوم فلا يني يرى عليها طلاوة الجديد، وملاحة الشيء المستطرف الذي خرج لتوه وساعته من فم قائله، ويلوح لنا أن تلك الروح التهكمية المزاحة تكاد تشبه ما وقع للكثيرين من الساسة العظماء، والأدباء الكبار؛ إذ كانوا يضحكون من الحوادث حتى في أحرج المواقف، وأخطر المواطن، وأبعثها على الوجوم والألم، والحيرة والارتباك.

وكذلك مضى صاحب الترجمة في منصب النائب العمومي نشيطًا دؤوبًا، مالئًا مكانه، مرسلًا عليه جلال شخصيته، جامعًا بين خطورة المنصب وخطورة ذلك الذهن المتقد بشعلة الذكاء، ومتانة ذلك الخلق القوي المكين.

حتى إذا كان شهر إبريل سنة ١٩١٤ قبل نشوب الحرب الكبرى ببضعة أشهر عهد إلى صاحب الدولة الرجل الخطير المفعم بالعاطفة، الممتلئ وجدانًا، السريع إحساسًا، الشفاف روحًا، حسين رشدي باشا بتشكيل وزارة جديدة؛ فدفع إلى المترجم به وزارة الحقانية.

فكان في مسند الوزارة هو هو يوم كان في كرسي النائب دأبًا وعظمة، ورهبة واتساعًا لكل ما يتطلبه المنصب، واضطلاعًا بكل أعباء تلك الوظيفة السامية؛ فظل بجانب ذلك الرئيس الوطني الجليل، وزميلًا لصديقه الوفي الأمين، كما قال عنه في خطبته بفندق الكونتنتال صاحب الدولة عدلي باشا يكن.

ونحن نسجل في كتاب تاريخ البسالة الوطنية إباء تلك الوزارة السكوت على حق وطنها، ونضحها عن مطالب بلادها، والتشدد في المطالبة، والاستمساك بالمبدأ، فلم تتقبل في حق البلاد هوادة، ولم ترتض مصانعة ولا تسويفًا، وسارت على هدي وجدانها، مسترشدة بضميرها، تعمل وتناوئ، وتجد وتتشدد، حتى إذا حالت حكومة البريطان بينها وبين ما تريد، ووقفت في طريقها دون ما تود أن تبديه للأمة، وتعلنه لعامة الشعب، كانت تلك الاستقالة المخلدة لها العظيمة منها، النبيلة الأثر في تاريخ نهضة هذه البلاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤