في سبيل البرلمان

عهد صاحب الجلالة الملك في أمره الكريم الذي وجه فيه رئاسة الوزارة إلى صاحب الدولة ثروت باشا بإعداد مشروع النظام الدستوري لهذه البلاد، وقال له في نطقه الكريم: أن يعمل على أن يكون ذلك النظام كفيلًا بأن يحقق مبدأ التعاون بين الأمة والحكومة.

فكان أول ما توفر عليه الوزيران يحقق تلك الرغبة، وينفذ ذلك الأمر غير متوان، ولا متمكث، ولا متمهل في الانصياع إلى أمر الملك، فلم نلبث أن شهدنا الحكومة تجد دائبة جهدها لتضع للبلاد تلك الأنظمة التي تسقط الحكومة الماضية عن سيطرتها القديمة، وتدنيها إلى الشعب، وتجعلها راكعة عند قدمي الأمة، نازلة على أمرها، متلقية منها إرادة الحكم، وكلمة السلطان، وقد اعترف هذا الملك الدستوري الذي لم يعش في ماضي حياته يوم كان يلقب بلقب الإمارة، وينعت بنعوت السمو على أرستقراطية الأمراء، ولم يخلد إلى عزلة النبلاء، وينكمش إلى عيشة القصور، ويتجلى بكبرياء الملوك وأشباه الملوك، بل لقد عرفناه في ماضي حياته، وفي بضع السنين التي اعتلى فيها منصب السلطنة، رجلًا ديمقراطيًّا يحب الشعب، ويعمل للشعب، وطالما ألفيناه يضع يده في خدمة الأمة، ويلقي باله وعنايته في سبيل رقي الحضارة في وطنه، وإعلاء كلمة العلم في ربوع بلاده، ولقد أشرف على جامعة الشعب أميرًا، ورعى العلم وأهله سلطانًا، ونزل إلى الأمة خادمًا، كما نزل فردريك العظيم، يوم نودي به ملكًا، وهو لا يدين بعقيدة الملوك الذين يدعون أن مناصبهم إلهية، وأنهم جاؤوا من قبل ملك السماء؛ ليكونوا بالنيابة عنه ملائك الأرض، بل هو يزري بهذه العقيدة التي لم تصل إلى السماء، ولم تسقط إلى الأرض؛ لأنها لا تجد هناك مكانًا، ولا ترى لها في هذا الكوكب عابدين قانتين، وإن رأت لها في الناس مالقين منافقين، وهو لم يكن يومًا ممن يؤمنون بحقوق الملوك المقدسة، بل يعلم من نفسه، ومن الروح الديمقراطية التي نشأ عليها، ومن الوسط الذي تربى فيه، ومعاهد العلم، والجامعات التي درس في باحاتها، أن عقيدة الحقوق المقدسة قد أصبحت اليوم عقيدة حقوق البرلمانات المقدسة، وهو يدرك أن لويس الرابع عشر، الملقب بالشمس على عظمة سلطانه، ومجد مملكته، واتساع مدى حكومته، لم يكن يوم قال كلمته المعروفة عنه … «أنا الحكومة!» أروع ولا أعقل، ولا أحكم، ولا أنصف من فردريك ويليم في كلمته المتواضعة الشعبية المخلصة المفعمة ديمقراطية متينة، وروحًا صادقة، متفانية في أمتها، وهي: «أنا خادم الأمة!»

وإذا كان مليكنا المحبوب ينزل إلى شعبه، يتقرب من أمته، ويسعى سعيه المحمود لخير بلاده، فما كانت تلك كلها منه بالأمر المستغرب الذي يصيب من أهل هذا العصر دهشتهم وحيرتهم، فقد عاش أكثر شبيبته في بلاد الغرب، وعرف كيف يحترم حقوق الشعب، ويقدس حرية الأمة، وهو الذي نشأ في إيطاليا التي جاهدت عدة السنين في سبيل الظفر بحريتها، وديمقراطية أنظمتها، ومجلس برلمانها، ثم لا يزال الإخلاص إلى الشعب، والدأب على مصالح الجماهير، والسهر على رعاية شؤون الأمة في دمائه متغلغلة في صميم روحه، آخذة بكيانه، متمكنة من مزاجه الطبيعي؛ لأنه سليل ذلك الأمي العظيم الذي بزّ العبقريين، حفيد ذلك الرجل الخطير الذي أدهش أساطين العلم، بأمية غريبة؛ هي أجل وأروع من كل ما أخرجته الأذهان الجبارة، وأنتجته العقول المريعة الفياضة.

ولا تزال تلك الأمية التي «كتبت» لنفسها المجد، ورفعت مصر إلى مصاف أكبر الأمم، وعمت هذه البلاد نورًا وعلمًا، وقوة وفخارًا، هذه الأمية التي فتحت المدارس الكبرى، وبعثت البعوث، وأرسلت الإرساليات إلى جامعات الغرب، معجزة من معجزات العبقرية القوية بنفسها، التي لا تجد لها من غيرها غذاء، ولا تستمد من المواهب المكتسبة ما ينميها، ويكمل جوانبها، ويجمّل حواشيها، بل هي عظيمة من نفسها، جليلة بمبتكر جلالها، تستمد ريها من تلك الدماء القوية الخالصة التي تجري في عروقها، ومن الروح الخشنة المستحصدة المفتولة التي أشبهت التربة التي نبتت منها … تلك الصخور الشم التي طلعت من ناحيتها، وذلك الجو الجاف القاسي الذي اشتمت هواءه، وتلك التربة الصلبة التي ظهرت فيها، ولقد خرجت تلك العبقرية في العصر الذي وثبت فيه على ألوف من الأميال منها عبقرية أخرى حربية مثلها، ولكنها كانت جندية، لا يزال نصف عبقريتها وليد «سان سير»، ونتاج الفنون التي تعلمتها في المدرسة، وتلقنتها على عديد الأساتذة، ولكن عبقرية محمد علي العظيم كانت أنبل وأمتن وأغزر من العبقرية البونابرتية؛ لأن تلك لم تحطم نفسها، ولم تكسر على منزع الغرور جناحها؛ ولم تنطح الصخر برأسها، بل توفرت على إصلاح أمة، وانكمشت إلى ترقية شعب، وتفانت في سبيل خير مملكة، فمضت بذكرى طيبة؛ وأثر صالح، ولم تمت كالعبقرية النابوليونية عقيمة جدباء، غير ذات زرع وثمر، مريضة محصورة، حبيسة في جزيرة قفر نائية.

نعم، لقد اعترف ملكنا المفدى لأمته بحقها عليه؛ ووهبها من نفسه ما كانت تصبو إليه، ونزل لها عن ملكيته لديمقراطيتها؛ وأوحى إلى وزيره الأول أن يعمل لنظامها، ويغلب حقوقها على حقوق وزارته، فحق على الأمة أن تلتف حول عرشه، وتؤيد ملكه، وترفع علم الإخلاص إلى سدته، وحق على الوزير أن يدين له، ويستهل خطابته بالوفاء إلى العرش، وتأييد صاحب الجلالة؛ فالأمة كلها اليوم صافة حول مليكها، تفتديه بأرواحها، وتؤيده بقلوبها، وترفع أكف الضراعة إلى الله أن يحفظ جلالته، ويرعى عرشه، ويعلي شأن بلاده، ويمده بقوته، ويتم في عهده عصر النور والحرية، والنظام، والرفاهية، والاستقلال.

ونحن نعلم أن الملك في أمره الكريم قد نزل للأمة عن مطلقية حكمه، ووهب صاحب التاج شعبه دستورها، فهو صاحب الحق قد منحه، وسيد الدستور؛ ومؤسس الديمقراطية؛ وكان هو الذي أحق بأن يشرف على وضع الدستور، ويعهد إلى حكومته بأن تقوم على تنسيق أساليبه، ووضع خططه، ولكن لم تكد الحكومة تبدأ العمل، وتخطو الخطوة الأولى، حتى ثارت في البلاد دعوة غريبة، وخرجت فكرة طائشة، ووقف وراءها قوم يؤيدونها، ويحشدون أساليب الدفاع عنها، وهي تأليف جمعية وطنية، ينتخب أعضاؤها من أفراد الأمة لتضع دستور البلاد، وتهيئ أنظمة التشريع والتنفيذ، حتى إذا أتمت عملها، وأكملت ما وكل إليها؛ انفرطت، وتلتها الانتخابات العامة لمجلسي الشيوخ والنواب، وما أقاموا نظريتهم تلك، وما أسسوا فكرتهم التي بسطناها إلا على حجة واحدة، وهي أن الأمة ينبغي أن تقيم أساس الدستور الذي تريده بنفسها؛ ولا ينبغي لأحد أن يشرف عليها في عملها، ولا صاحب الحق نفسه، ولا الوزارة التي قامت بأمره، ولا يجب أن يكون ثمت حدود لرغبتها، أو مرشد يرشدها، أو أمثلة عليا تقدم إليها لتحتذي حذوها، ولم يكن أولئك الذين بثوا تلك الفكرة، وحاولوا ترويجها؛ قد أصابوا بها الحق، وسهلوا بها مصاعب العمل، وذللوا الطريق إلى بلوغ الغاية، بل لقد أرادوا أن يفسحوا بها مجالًا واسعًا للأنانية، ويرسلوا في البلاد ريح الفتنة، والاهتياج السياسي، والتطاحن بين أفراد الشعب على نوال صوت من الأصوات في تلك الجمعية الوطنية، كأن لا حساب على الوزارة من هذا الدستور نفسه يوم يعمل به، ويوم تقف أمام نواب الأمة مسؤولة عما عملت، مطالبة بتبرئة نفسها، أو الدفاع عن خططها إن هي أخطأت، أو تبين للنواب أنها وهمت، وجارت، وأفسدت، وكأنها ستجمع لتأليف الدستور، وتنظيم أساليب الحكم جموعًا من عامة الناس، وستسقط على أجهل الناس لتقول للأمة: هؤلاء أعلم القوم بأساليب الحكم، وأنظمة الدول، وآخر ما اهتدى الساسة والمشرعون إليه من شرائع الدستور، وكأنها تحسب تأليف لجنة لوضع قانون البلاد لا يزيد شيئًا عن هيئة تكلف بتنظيم قانون لمحاكم الإخطاط!

ولكن كيد هؤلاء الناس لم يحدث في الأمة أثرًا؛ لأنه ظاهر الغرض، بيّن القصد، ولأن النفوس التي تكيد به معروفة عند الشعب بسوء الدخلة، وسواد النية، ولم تحفل الوزارة بأن تقنع هؤلاء المحرشين، أو تدفع عنها كيدهم؛ لأنها تعلم أن الأمة لا تتأثر، ولا تتسخط ما دام كل شيء سيبسط أمامها يوم يجتمع برلمانها، ويحتشد نوابها في صعيد واحد.

وكذلك تألفت لجنة لوضع الدستور قليلة العدد؛ لأن كثرة العدد لا تجدي في أمر كهذا، ولا تفيد، ممثلة فرقًا متعددة من الشعب، وطوائف مختلفة؛ لكي يدفع كل ممثل إلى إخوانه برغائب فرقته، وأهل صناعته؛ والوسط الذي يعيش فيه.

ونحن نعلم أن كثيرين من أعضاء اللجنة ظفروا فيما مضى من تاريخ الجمعيات التشريعية في هذه البلاد بمقاعد النيابة عن دوائر مختلفة، وطوائف متعددة، وتمثيل مصالح فرق كثيرة من هذا الشعب، وطبقات عديدة من الأمة، وفيهم أصحاب العقول الناضجة، وأهل الاطلاع الواسع، والمادة الغزيرة، وفيهم العلماء والروحيون، والمحامون، والقضاة، والكتاب، والفنيون، والسروات، والمزارعون، ورؤوس القبائل والعشائر، والمتكلمون عن الألوف، وقواد المئات من أهل البلاد، ولكن لم تكد مذكرة الوزير تنشر على الأمة، ويعرف القوم أسماء الأعضاء، حتى انبرى جمع قليل ممن نعرفهم يتصدون لكل عمل صالح ليهدموه، وينبرون لكل فكرة منتجة ليعطلوا نموها؛ فتناولوا هذه الأسماء بالنقد والتجريح، وهم يعلمون أنهم بذلك يبعثون في القطر صيحات الفتنة، ويكرهون طبقات الأمة في بعضها البعض، ويسعون بالبغضاء بين الفئة والفئة، والنفور بين الفرقة والفرقة؛ لأن لكل عضو من هؤلاء عددًا عديدًا من الأمة يناصرونه، ويعيشون تحت زعامته، ويفزعون إليه في ملماتهم وشؤونهم، وأحوال حياتهم، وكل رجل من هؤلاء إذا غضب غضبت لغضبه ألوف من الناس، لا يدرون لم غضب، وهؤلاء أحرص الناس على كرامة رأسهم، ومكانة وليهم، وكلما سمعوا عنه ما يكره كرهوا هم من نقده، واستنفرهم الطعن عليه، واستفزتهم الحمية لأجله، ويوم تكون طبقات هذه البلاد أعداء بعضها البعض، ومجاميع الأمة متجنية على أخواتها، ولداتها، والأمة متنافرة متطاعنة، متسابة متشاتمة، وتنقلب الروح النيابية التي تريد أن تزكو في هذا الأفق، وتمتن وتنمو، وتثبت في مكانها؛ فوضى هوجاء طائشة اللب، مخلوطة الذهن، عمياء صماء، لا تستمع للعقل، ولا تبصر أين مواضع الرشد.

وقد جعل بعض هؤلاء القوم الذين نقدوا انتخاب الوزارة، وقدحوا في اختيار هؤلاء الأعضاء، يتلومون وينبعثون قائلين: إن منهم من لا يعرف مبادئ القراءة والكتابة، كأنما غاب عن الوزير علم ما علموا، ونسي إذ اختارهم شخصية من اختار، أو أُملي عليه أن ينتخب من لا يعرف، ويذكر في مذكرته من يجهل حقيقته، ولا يدرك شيئًا من ماضي حياته، ونحن نقول لهؤلاء المتعلمين الذين رموا بعض هؤلاء الأعضاء بالأمية: إن أميتهم تلك أنبل وأشرف قصدًا، وأعز في الوطنية مكانًا، وأثبت في البلد قدمًا من علمكم هذا، وسعة اطلاعكم تلك، فذاك علم خائن دساس، ملوث الروح، مساء الاستخدام، شرير النزعة، رمحكم يوم ركبتم ظهره، وأعنتكم يوم أردتم إظهاره، وطوح بكم إلى منازع الطيش، وركض بكم في حلبة الغرور، والنفج، والعزة الآثمة، ومن الأميين في هذه البلاد أذهان قوية، تستمد عظمتها من الفطرة، وتنمو على الخبر والتجربة، وتعلمها الحوادث ما لا تعلمون قليلًا منه من الكتب، وفي طبقات الفلاحين والصناع في بلدنا، وهم سواد الأهلين، وأغلبية السكان وطنية أمية من ناحية أذهانها، عبقرية من ناحية قلوبها، وللقلوب والعاطفة الإنسانية عبقرية حارة ملتهبة، لا تستطيع الكتب أن توقد جزءًا ضعيفًا من لهيبها وحميتها، أو تخلع على قرائها شيئًا يداني ذكاءها ولباقتها، وسرعة إحساسها، وتنبهها لما يفيدها، ومعرفتها لما يضيرها، وفي الناس عظماء أذهان تنهض على قلوب من الطين، وأرواح متأودة ضعيفة، شريرة خبيثة المنزع.

ونحن نعلم كذلك أن الرجل في بلاد الغرب لا ينبغي أن يكون متبحرًا في العلم، واسع مادة الاطلاع، أستاذًا في فنه، عارفًا بالجغرافية، والتاريخ، والبيولوجيا، والفسيولوجيا، وما إليها من مختلف العلوم قبل أن يرتفع إلى مجلس الإنابة، ويظفر بمقعد له في البرلمان، بل لا يزال في مجالس نواب الإنكليز، وغيرهم من أمم الغرب نواب لا يعرفون شيئًا أكثر من أنهم جاءوا بالنيابة عن القرية، والولاية التي ولدوا فيها، وطالت زروعهم في أرضها، وامتلكوا مساحة واسعة في إقليمها؛ فهم يدافعون عن الإقليم بوحي الإقليم، ويرعون مصالح أمتهم في البرلمان بألسنة الولاية التي جاؤوا منها، وقد يكون هؤلاء جميعًا من القرويين؛ فلم يروا غير قروية نبيلة، ذكية الفؤاد، وإن لم تؤت شيئًا كثيرًا من العلم؛ فآثروها على غيرها، وأنابوها عنها في رعاية شؤونها.

وكذلك كانت هذه القروية البادية التي ظهرت في لجنة الدستور؛ فهي لم توضع في تلك اللجنة إلا لتكون صوتًا يعبر عن خواطر مئات الألوف من المزارعين، والعاملين في الأرض، وهي تعرف ماذا تريد الأمة، وإن لم تقرأه أو تكتبه، وتدرك مطالب الشعب، وإن لم تتصفحها في تلك العرائض، والاحتجاجات، والمقالات، والأبحاث الكاذبة المتظاهرة المتكبرة، المزهوة بعلم أصحابها، ونفخة كتابها، وهي تستهدي بما يقال أمامها؛ لتدلي بما يقول لها ضميرها، ويكلمها به وجدانها، وما كان صوت الضمير شريرًا فيخطئ، وما كان إلهام الوجدان كاذبًا فيؤذي ويضر.

ومما تناولته اللجنة في جلساتها موضوع الأقليات، وهي كلمة لم نكن نعرفها، ولم نشعر بوجودها يوم تناولنا عقائدنا الدينية من مكانها، وألقينا بها في زاوية من جوانحنا، وقلنا: ديننا الأول وطننا، وأن مصر للجميع لا للعقيدة دون العقيدة، ولا لملة دون ملة، وطائفة قبل طائفة؛ لأن جامعة الوطن أمتن من جامعة الدين؛ فتلك تستمد متانتها وصلابتها وقوتها من الأرض التي نبتت منها، وارتبطت بها، وهذه لا سبب لها إلا من السماء؛ وإن جامعة الوطن هي علاقة الفرد بالفرد، والأخ بأخيه، والعشير بعشيره، وإن جامعة الدين ليست إلا الرابطة والعلاقة بين الله والناس، وهذه صلة خفية كمينة مستسرة في أعماق النفس، تطلع إلى السماء، وتنظر إلى العالم المجهول، ولا حق لها أن تفسد ما بين أهل الأرض الواحدة، وأصحاب الوطن الواحد، ويوم انضوينا تحت علم الوطنية، ومشينا جندًا محضرين لحرية البلاد، وتحرير أرضنا، لم يكن يخشى قليل كثيرًا، ولم يتلجلج في خاطر فرد واحد منا أن أخاه يوم الحرية سيروح عاسفًا حقه، ظالمًا له منكرًا فضل وطنيته، جاحدًا عمله، مستفردًا بالتشريع، مغلبًا حقه على حقه، ولكن السادة الإنكليز هم الذين خلفوا هذه الكلمة النكراء اللئيمة الطبع؛ أملًا أن تثير في النفوس ألمًا، وتوسع لهم ثغرة ينفلتون منها إلى تفرقة الأمة، واستنفار بعضها على بعض؛ ليتواتى لها ما تريد، ويحق لها ما كانت تبتغي، ولكن هذه الأمة التي أصبحت تدين بدين الوطنية، قبل أن تكون قبطية ومسلمة ويهودية لم تعد تخدع بهذه الكلمات، أو يدق عليها مغازي السياسة، ومقاصد أساليب المستعمرين، فمرت تلك الكلمة ذاهبة مع الريح؛ لم تحدث أثرًا، ولم تصل إلى مكان العقيدة من النفوس، وكانت هذه الأقليات نفسها التي تصدى السادة الإنكليز لحماية مصالحها، ونادوا برعاية حقوقها، أول الناس خروجًا على الكلمة القلقة النافرة الشريرة الدنسة، واحتجاجًا على أثارتها، وتفنيدًا لمزاعم قائليها؟

ونحن لا يسعنا إلا أن نشهد لهذه اللجنة بتلك الهمة العالية التي ظهرت من جانبها، والتخفف للعمل، والتلبب للبحث، وادخار قوة التفكير، واستجماع الخاطر، والغيرة في التدقيق، واستقصاء نقط البحث، واستيعاب المناقشة في أمهات المسائل، وإن أنكر عليها كل ذلك المتعجلون المتسخطون، كأنهم حسبوا أن وضع دستور البلاد عمل هين، حسبه عدة الأيام، وقلائل الأسابيع، وتكفي فيه الجلسة والجلستان، والمقنع في النظرة دون النظرتين، والرأي الفطير دون الرأي المختمر، وكأننا صبرنا على الذل والخسف عدة السنوات، والجيل والجيلين، وكادت الحياة تخمد فينا؛ وتعطل في كياننا روح السخط على ما كنا فيه، ثم يزعجنا أن نتمكث للأناة، ونصطبر الشهر والشهرين لإعمال الروية، ومتابعة الحزم، وطول التفكير، وتوفية البحث.

وقد استغرق وضع عدة أنظمة وقوانين صغيرة الأهمية بجانب وضع الدستور العام، وبعض العام، ولسنا الآن حيال وضع قانون الخمسة الأفدنة، أو أجور المساكن، أو حيازة الأسلحة؛ حتى يتألم قوم منا من الزمن الذي مضى على اللجنة إلى اليوم، وهي في عملها ذاك.

فلما أقبل الصيف، واشتدت وقدة القيظ، ووجبت الإراحة من العمل، وإعفاء اللجنة من متابعة الجهد في الصيف القائظ، الملتهب الأفق؛ عاد أولئك الساخطون يتذمرون، ويعبثون باللجنة، ويحسبونها ستنطلق من المدرسة للفسحة التي لا عقل لها، والعطلة التي لا تفكير في خلالها أشبه شيء بطلبة المدارس، وأولاد «الكتَّاب»؛ إذ لا يلبثون بعد الفراغ من السنة الدراسية، ودق ناقوس العطلة أن يعدوا إلى اللعب مارحين، هازئين بالحياة وبالدرس، وبما كانوا من قبل فيه من مذاكرة ومواصلة عمل، وإخلاد إلى كتبهم وكراساتهم، ولكن الأطفال يعيشون بضمير الطفولة، وأذهان السذاجة، وكراهية التفكير والملل من الرزانة والجد والتعقل، وهؤلاء الأعضاء لا يستطيعون أن يتخلصوا في ساع فراغهم، وفي خلواتهم إلى أنفسهم، وفي مشياتهم إلى النزهة، واستقبال نسائم الصباح، وعلائل الماء تحت الشجرة الظليلة، وعلى ساحل البحر الخضم، وفي الملهى المكتظ بالناس، وفي الضجيج والعجيج، والهدوء والسكون، من ذلك النداء الذي يسمعون صيحته من أعماق قلوبهم، يهيب بهم إلى التفكير فيما قدموا من عمل لأمتهم، والتروي، وتقليب ألوان الرأي فيما بقي عليهم أن يؤدوه، وفي الفريضة التي تحتم عليهم القيام بها، وهم يوم يعودون إلى العمل — وقد عادوا اليوم — يقبلون أقوى نفوسًا مما كانوا، وأخف إلى العمل مما خفوا من قبل إليه، وفي جعبة تفكيرهم خواطر طريفة لم يكونوا في جلساتهم الأولى، ودورهم الماضي قد اهتدوا إلى مثلها، وآراء جديدة، ومواضع للنقد غابت من قبل عن أذهانهم.

والناس الذين تسخطوا، والقوم الذين استعجلوا، يدركون ذلك كله، ويعلمون جميع هذا وغيره، ولكنهم يتذرعون بكل وسيلة، وإن وهت ورثت أسبابها لنقد الوزارة، والإساءة إليها، وتحريش الأمة بها، ولكن الوزارة لا يسوءها شيء مما يقولون، ولا يسوء ظن الأمة بها لما يدعون؛ لأنها تعلم أنها لا تلبث أن تحمل بيدها إلى مجلس الإنابة بسطة ما قدمت وأخرت؛ إذ هي ليست السلطة المطلقة آخر الحياة؛ وليست اليد المحركة طول العمر، وقد اجترأت على احتمال عبء المسؤولية، وستسأل عنها، وعن الأمانة فيما أودع من حق الأمة في ذمتها، فليقل هؤلاء ما تشاء أنفسهم أن يقولوا، فإن الأمة مجتمعة في ندوتها، قائلة بعد ذلك كلمتها، صادعة بحكمها الفصل، وقولها الذي لا نقض له.

•••

وكذلك ظلت هذه اللجنة جادة في عملها، غير مستمعة لشيء غير ما تمليه عليها وطنيتها، وقد أُلقي إليهم عمل خطير، وقلدوا منصبًا تعتوره المسؤولية من جميع جهاته، ولم يكونوا بالقوم الذين يستهينون بعملهم؛ فيمضون فيه ركضًا، ويوفضون فيه مغذين السير، لا يهمهم غير أن ينتهوا منه على أي وجه ساروا به، وأية نتيجة ستكون منه؛ لأنهم في موقف من مواقف الظفر بالخلود؛ إذ يضعون للأمة الخالدة مشروعًا لدستور خالد، ويدركون أنهم إذا قصروا وتهاونوا فلن يصيبوا غير سوء السمعة، واحتقار الشعب، وهم من سعة الإدراك، ونبل الوجدان، وشرف العاطفة، وصدق الوطنية بحيث لا يتقبلون أن تجرح كرامتهم إذا جلسوا مجلس المذعان إلى سلطان غيرهم عليهم، وما كان صاحب الترجمة وهو هو عزة نفس، وسمو وجدان، ومتانة إخلاص بالرجل الذي يعمد إليهم مجتمعين أو منفردين فيهمس لهم في آذانهم أن اكتبوا في الدستور هذا، وامحوا ذاك، وتشبثوا بتلك، وعارضوا سوادكم في هذه؛ لأنه لا ينزل نفسه هذه المنزلة، ولا يرضى أن يكون الهامس المشاء بالخديعة، وهو لم ينتخبهم من الطريق حتى يكونوا أداة صامتة تتحرك بمشيئته، وليس لهم من وراء عملهم جعل فيغريهم أن يزيدهم عليه جعلًا، وليسوا يسألون جزاء فيكال لهم الجزاء كيلين، وإنما هم يتوقعون أن يرضوا الأمة، وإن أسخطوا الوزارة، فهم يخشون إذا هم انحرفوا عن هذه البغية، وسلكوا غير هذه السبيل أن لا يصيبوا منها غير السخط، والغضب واللعنات.

ولهذا لا غرو إذا كان الوزير وأعضاء اللجنة قد مضوا في عملهم قدمًا، لا يثنيهم شيء عن واجبهم، فأما الوزير ففي سبيله إلى رد حقوق الأمة كاملة، وإن جشمه هذا الواجب كل مصعبة، وركب له كل شامس جموح، وأما أعضاء اللجنة فمنكمشون إلى مهمتهم، مرتقبون أن يحسنوا إلى أمتهم غير مسيئين إلى أنفسهم، ومكانتهم فيها، وسيرى الله أعمالهم، وستشهد الأمة غدًا ما فعلوا، وها هم أولاء قد أوشكوا أن يتموا العمل، ويفرغوا من سن قانون الانتخاب، فإذا ابتدأت الانتخابات للمجلسين النيابيين فلن تُشْتَرَى رجال من الأمة ليبيعوا الأمة كلها، ولن تدس هذه الوزارة يدًا خفية تحت الانتخابات؛ لتجتمع لها في مجلس الإنابة الأبواق، والقيثارات، والأعواد مترنمة بها، حتى تكون الندوة مصلحة من مصالح الحكومة، للتغني بعمل الحكومة بجملة مصالحها وإداراتها، فإننا لا نظن هذه الأمة التي تصرخ طالبة الحياة الصحيحة المكتملة الناهضة بائعة غدًا نفسها للمشتري، وإلا إذا هي فعلت فقد سجلت على نفسها خجلة مناقضة، شائنة معيبة سافلة، وليس هذا الوزير بالرجل الذي تسول له نفسه أن يفسد على هذه الأمة خلقها؛ لأن فساد الخلق لم يمتزج بنفسه، حتى يجعل الأمة صورة من طبائعه، ومرآة تتراءى فيها نفسيته؛ بل هو لا يملك في هذه الأمة غير وجدانه، وجهده ونيته، واعتزامته، وللأمة ضميرها طليق، لا حكم لأحد عليه، وهي قمينة أن تتبع ضميرها، فلا تنتخب غير من تريد ليكون لها في ندوة الإنابة ما تشاء من سلطان، فلن تكون حلقات الانتخاب أسواقًا للمتاجرة بالأصوات، ولن تجد الحكومة دلالين يقفون على ثنيات السوق، وتلعاتها؛ ليظفروا لها بالمشايعين، والممالئين في المزاد؛ وما دام هذا الوزير رجلًا نبيلًا كما عرفناه، شريف الدخلة كما تبينا من خلقه، وما دامت الأمة حريصة على مطلبها المقدس، وغرضها الأسمى، فالحرية في الانتخاب مكفولة، ومجلس الإنابة غدًا مكتظ بالنواب العاملين الأحرار، الصادقين في الوطنية والجهاد …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤