راعي بقر ووكر براذرز

بعد العشاء يقول أبي: «أتودين الخروج ومشاهدة البحيرة؟» نترك أمي تحيك في ضوء حجرة تناول الطعام، تصنع ملابس لي قبيل بدء العام المدرسي. كانت قد مزَّقت من أجل ذلك بذلة قديمة وثوبًا صوفيًّا مربع النقش من ثيابها، تقص القماش وتوائمه في براعة شديدة وتجعلني أقف وأستدير لضبط المقاس مرات كثيرة، أتعرَّق وأشعر بحكة الصوف الساخن، غير ممتنة لذلك. ونترك أخي في سريره في الرواق الصغير المُطوَّق بالستائر والواقع في نهاية الشرفة الأمامية، وأحيانًا ما يجثو فوق سريره ويلصق وجهه بالستارة ويصيح في حزن: «أحضرا لي بعض الآيس كريم!» لكنني أجيبه دون أن ألتفت إليه حتى: «ستكون نائمًا حين نعود.»

نمضي بعدها أنا وأبي شيئًا فشيئًا عبر شارع طويل حالته متردية نوعًا ما، وتظهر على الرصيف لافتات لسيلفروودز آيس كريم أمام متاجر ضيقة مضاءة. نحن في تابر تاون، بلدة عتيقة تطل على بحيرة هورون، ميناء عريق لتجارة الحبوب. تظلل أشجار القيقب الشارع في بعض أجزائه، والتي صدَّعت جذورها الرصيف لينبعج سطحه، وانتشرت كالتماسيح في الأفنية الجرداء. يجلس الناس في الخارج، لم يرتدِ الرجال سوى قمصان ومن تحتها فانلات، وارتدت النساء المآزر. لم نكن نعرفهم، لكن إذا أبدى أيُّ شخص استعدادًا للإيماء برأسه وقول «ليلة دافئة»، يومئ أبي برأسه أيضًا ويرد بالعبارة نفسها. لا يزال الأطفال يلعبون بالخارج، ولم أكن أعرفهم أيضًا؛ إذ لا تسمح أمي لي ولأخي إلا بالبقاء في فناء منزلنا، مُعلِّلةً أن أخي صغير جدًّا على أن يلعب بالخارج وأنا عليَّ الاعتناء به. لم أشعر بالأسف الشديد وأنا أشاهد ألعاب الأطفال المسائية؛ حيث إن ألعابهم نفسها خلت من النظام والتجديد. يتفرق الأطفال، بمحض إرادتهم، في جزر منعزلة من اثنين أو حتى واحد تحت الأشجار الكثيفة، يشغلون أنفسهم بمثل هذه الطرق الانعزالية كما أفعل طيلة اليوم، يغرسون الحصى في الطين أو يكتبون عليه بالعصيِّ.

نواصل سيرنا متجاوزين تلك الأفنية والمنازل وراءنا، ونمر بمصنع سُدَّت نوافذه بألواح خشبية، كان مخزنًا للأخشاب تُغلق أبوابه الخشبية العالية ليلًا. ثم تنتهي البلدة بمجموعة عشوائية متهدمة من السقائف وبقاع مهملات صغيرة. يصل الرصيف إلى نهايته ثم نسير عبر طريق رملي ويحيط بنا نبات الأرقطيون ولسان الحمل وأعشاب بسيطة لا أعرف لها اسمًا. نصل إلى قطعة أرض خاوية، أشبه بالمتنزهات حقيقةً، فقد كانت تخلو من المهملات، وثمة مقعد واحد كان لوحٌ خشبيٌّ مفقودًا من مسنده الخلفي، كان مكانًا نجلس عليه ونراقب المياه التي تبدو عادةً رمادية في المساء، تحت سماء ملبدة بالغيوم قليلًا، لا نرى غروب الشمس، ويبدو الأفق معتمًا. نسمع ضجيجًا خافتًا للغاية لارتطام المياه بصخور الشاطئ. وبعيدًا جدًّا تجاه الجزء الرئيسي للبلدة، توجد مساحة من الأرض مغطاة بالرمال، وأنبوب تزلج مائي، وعلى سطح منطقة السباحة الآمنة تطفو العوَّامات، ويطل عليها المقعد الطويل المتداعي الخاص بعامل الإنقاذ. وكذلك ثمة مبنى مرتفع أخضر قاتم، كأنه شرفة مسقوفة، يُدعى السرادق، يعج بالمزارعين وزوجاتهم، مرتدين ملابس أنيقة للغاية، أيام الآحاد. كنا نعرف ذلك الجزء من البلدة حينما كنا نعيش في دانجانون، وكنا نأتي ثلاث أو أربع مرات خلال الصيف لنزور البحيرة. كنا نذهب إلى البحيرة وأحواض السفن حيث نراقب مراكب الحبوب العتيقة والصَّدِئة التي تتقاذفها الأمواج؛ مما يجعلنا نتساءل كيف اجتازت حاجز الأمواج، ناهيك عن وصولها إلى فورت ويليام.

يتسكع المتسولون حول أحواض السفن وأحيانًا ما يتجولون في تلك الأمسيات على الشاطئ المتضائل ويتسلقون الطريق المعاكس والمتداعي الذي صنعه الصبية، متشبثين بالشجيرات الجافة، ثم يقول المتسول شيئًا لأبي — الذي كان يرتعد من المتسولين — لم أفهمه من شدة فزعي. يخبره أبي أنه فقير أيضًا ويقول: «سألف لك سيجارة إذا كان ذلك سينفعك بشيء.» ثم يُخرِج التبغ بعناية فوق إحدى الأوراق الرقيقة المزخرفة، ثم يحركها سريعًا فوق لسانه، ويُحكِم لفَّها ليقدمها للمتسول الذي يأخذ السيجارة ويمضي بعيدًا. يلف أبي أيضًا سيجارةً لنفسه ويشعلها ويدخنها.

يحدِّثني عن نشأة البحيرات العظمى، يقول إن منطقة بحيرة هورون الآن كانت أرضًا منبسطة، سهلًا مسطحًا فسيحًا، ثم زحف الثلج من الشمال نحوها، وشقَّ طريقه بقوة إلى الأماكن المنخفضة «هكذا»؛ موضحًا لي بالضغط بيده مبسوطة الأصابع فوق الأرض الصلبة كالصخر حيث كنا نجلس، لكن أصابعه لا تحدث تأثيرًا على الإطلاق، فيقول: «حسنًا، كان الغطاء الثلجي القديم يحمل قوة من ورائه أكبر كثيرًا من قوة هذه اليد.» ثم انحسر الثلج وتقهقر تجاه القطب الشمالي حيث أتى، وترك أصابعه الثلجية في الأماكن العميقة التي شقها، وتحول الثلج إلى بحيرات، وها هي هنا اليوم. كانت البحيرات جديدة، مع مرور الزمن. وأحاول تصور السهل ممتدًا أمامي والديناصورات تسير فوقه، لكنني لم أستطع تخيُّل شاطئ البحيرة عندما كان يعيش عليه الهنود الحمر، قبل تابر تاون. إن القدر الضئيل من الزمن الذي نعيشه يفزعني، رغم أن أبي يبدو أنه ينظر إلى الأمر بسكينة، حتى أبي، الذي بدا لي أحيانًا مطمئنًا إلى العالم ما دام باقيًا، لم يعِشْ حقًّا فوق هذه الأرض سوى ما يزيد بقدر ضئيل عني، من منظور زمان العيش كله. لم يشهد أبي زمنًا، أكثر مني، لم تكن فيه السيارات والمصابيح الكهربية موجودة على الأقل. لم يكن على قيد الحياة عند بداية هذا القرن، وسأكون على قيد الحياة بالكاد، طاعنة في السن للغاية، عند انتهائه. لا أحب أن أفكر في هذا الأمر. ليت البحيرة تظل دائمًا بحيرة ليس إلا، تطفو عليها العوامات في مكان السباحة الآمن مميِّزةً إياها، وكذلك حاجز الأمواج وأضواء بلدة تابر تاون.

•••

يعمل أبي بوظيفة، فهو بائع بشركة ووكر براذرز، وهي شركة تبيع على مستوى البلد بأسره تقريبًا؛ أعني المناطق النائية من البلاد: صانشاين وبوليزبريدج وتيرناروند؛ هذه هي المناطق التي يبيع أبي فيها، لا في دانجانون حيث كنا نعيش؛ فدانجانون بلدة قريبة للغاية، وأمي ممتنة لذلك. يبيع أبي أدوية السعال، ومكمِّلات الحديد، ولاصق مسمار القدم، ومليِّنًا للأمعاء، وحبوبًا للاضطرابات الأنثوية، وغسولًا للفم، وشامبوهات، ومراهم، ودهانات، ومُركَّز الليمون والبرتقال والتوت لصنع مشروبات منعشة، وفانيليا، ومكسبات اللون للأطعمة، وشايًا أسود وأخضر، وزنجبيلًا، وقرنفلًا وغيرها من التوابل، وسمًّا للفئران. كان قد ألَّف أغنية لبضاعته من هذين السطرين:

لديَّ كل المراهم والزيوت،
تعالج كل شيء من مسمار القدم إلى البثور …

لم تكن أغنية مضحكة في رأي أمي، كانت أغنية بائع متجول، وهكذا كان أبي، بائعًا متجولًا يطرق أبواب المطابخ بالمناطق النائية. حتى الشتاء الماضي كان له مشروعه الخاص: مزرعة ثعالب. ربَّى أبي الثعالب الرمادية وباع فراءها إلى أناس يصنعون منها العباءات والمعاطف وقفازات الفراء لتدفئة اليدين. انخفضت الأسعار، وثابر أبي آملًا أن تتحسن العام التالي، لكنها انخفضت ثانية، فثابر عامًا آخر ثم آخر، وأخيرًا لم يكن في الإمكان الاستمرار أكثر من ذلك، فأصبحنا مدينين بكل شيء لشركة العلف. سمعتُ أمي تشرح هذا الأمر، مرات عدة، للسيدة أوليفانت، وهي الجارة الوحيدة التي تتحدث معها أمي. (فقدت السيدة أوليفانت أيضًا مكانتها الاجتماعية لكونها معلمة تزوجت بحارس.) أخبرتها أمي أننا وضعنا في التجارة كل ما كنا نملك، ولم نجنِ منها شيئًا. كثير من الناس يقولون الأمر نفسه هذه الأيام، لكن أمي لم يكن لديها وقت للاهتمام بالمأساة الوطنية، فقط مأساتنا نحن. ألقت بنا الأقدار إلى شارع يقطنه الفقراء (بغض النظر عن أننا كنا فقراء من قبل، فقد كان هذا نوعًا مختلفًا من الفقر)، والسبيل الوحيد للتعامل مع الأمر — حسبما ترى أمي — هو التعامل معه بكبرياء ومرارة ودون تصالح. لن تجد مواساة في حمام به حوض استحمام مزود بأربع أرجل أو مرحاض مزود بصندوق لطرد المياه، أو وجود مياه بالصنبور وأرصفة أمام المنزل ولبن بالزجاجات، أو حتى دوري عرض الأفلام ومطعم فينس ومتجر وولورز البديع للغاية حتى أنه يوجد به طيورٌ تغرد في زواياه المبردة بهواء المراوح، وأسماكٌ صغيرة بحجم الظفر ومضيئة كالأقمار تسبح في الأحواض الخضراء. لا تأبه أمي بذلك.

في فترات بعد الظهيرة غالبًا ما تذهب أمي إلى بقالة سايمونز وتأخذني معها لأساعدها في حمل الأشياء. ترتدي ثوبًا أنيقًا، كحليَّ اللون منقوشًا بزهور صغيرة، وشفافًا، ترتديه فوق لباس داخلي كحلي اللون، وكذلك قبعة صيفية من القش الأبيض، تميلها إلى جانب رأسها، وحذاء أبيض كنت قد لمَّعته توًّا باستخدام صحيفة على السلم الخلفي. أما شعري فقد صففَتْه لي في تموجات طويلة رطبة سيحلها الهواء الجاف سريعًا لحسن الحظ، ووضعت في أعلى رأسي شريطًا أبيض كبيرًا مشدودًا بإحكام. كان الخروج مع أمي مختلفًا أيما اختلاف عن خروجي مع أبي بعد العشاء؛ لا نلبث أن نمر بمنزلين حتى أشعر بأننا أصبحنا هدفًا للسخرية من الجميع، حتى الكلمات البذيئة المكتوبة بالطباشير أعلى الرصيف تسخر منا، لا يبدو أن أمي تلحظ هذا. تسير في طمأنينة كسيدة مجتمع تتسوق، «كسيدة مجتمع» تتسوق، تمر بربات البيوت اللاتي يرتدين ثيابًا فضفاضة بلا حزام وممزقة من تحت آباطهن. أما أنا فصنيعتها، بتموجات الشعر البائسة وشريط الشعر المبهرج وركبتيَّ النظيفتين والجوارب البيضاء؛ كل ما لم أكن أريده. أكره حتى اسمي عندما تقوله على الملأ، بصوت مرتفع للغاية، متعالٍ ورنان، مختلف بتعمد عن صوت أي أم أخرى بالشارع.

أحيانًا ما تُحضِر أمي معها إلى المنزل الآيس كريم، على سبيل الترفيه، الذي يكون بطعوم مختلفة، ولأننا لا نملك ثلاجة في منزلنا نوقظ أخي ونأكله في الحال في حجرة الطعام، التي كان جدار المنزل المجاور يجعلها معتمة على الدوام. أتناول الآيس كريم بالملعقة على مهل وأترك الشكولاتة إلى النهاية على أمل أن يكون لديَّ ما آكله عندما يُفرِغ أخي صحنه. تحاول أمي بعد ذلك محاكاة الأحاديث التي كانت تدور بيننا عندما كنا في دانجانون، وتستعيد الأيام الأولى الأكثر رفاهية قبل أن يولد أخي، عندما كانت تقدم لي قليلًا من الشاي وكثيرًا من اللبن في كوب ككوبها ونجلس في الخارج فوق السلم في مواجهة مضخة المياه وأشجار اللَّيْلَك وحظائر الثعالب من ورائها، لم يكن بوسعها الامتناع عن ذكر تلك الأيام. «هل تذكرين عندما كنا نضعك في المزلجة ويجذبك ميجور؟» (ميجور كان كلبنا واضطررنا إلى تركه مع الجيران عند انتقالنا)، «هل تذكرين الصندوق الرملي الخاص بك أمام نافذة المطبخ بالخارج؟» أتظاهر بأنني أذكر أقل كثيرًا مما أذكره، حذرةً من الوقوع في حصار الشفقة أو مشاعر غير مرغوب فيها.

تعاني أمي من نوبات صداع، غالبًا ما تضطر إلى الاستلقاء، فترقد فوق سرير أخي الضيق في الرواق المستَّر الصغير، الذي تظلله الفروع الكثيفة. تقول: «أنظر إلى الشجرة بالأعلى وأفكر أنني في منزلي.»

يخبرها أبي: «إن ما تحتاجين إليه هو تنشق الهواء المنعش وجولة بالسيارة في الريف.» ويقصد أن تأتي معه في جولة عمله بشركة ووكر براذرز.

لم تكن هذه فكرة أمي عن جولة بالسيارة في الريف.

«هل يمكنني المجيء؟»

«ربما تحتاجك أمك لتجربة الملابس.»

قالت أمي: «لست في حال تسمح لي بالحياكة اليوم.»

«سأصحبها معي، سأصحبهما هما الاثنين لتنعمي بقسط من الراحة.»

ما الذي بنا يجعل الناس بحاجة إلى نيل قسط من الراحة منا؟! لا بأس. كنت سعيدة للبحث عن أخي وحثِّه على الدخول إلى المرحاض، بعد ذلك صعدنا سويًّا السيارة، دون أن ننظف ركبتينا وشعري غير معقوص. أحضر أبي من المنزل حقيبتيه البنِّيَّتين الثقيلتين، المكتظتين بالزجاجات، ثم وضعهما على المقعد الخلفي. كان يرتدي قميصًا أبيض، يبرق تحت ضوء الشمس، ورباط عنق، وبنطلون بذلته الصيفية الخفيف (كانت بذلته الأخرى سوداء، خاصة بالجنازات، وقد كانت لعمي قبل وفاته) واعتمر قبعة من القش فاتحة اللون. كان هذا زي عمله كبائع، كما علق أقلامًا رصاصية في جيب قميصه. رجع إلى المنزل مرة أخرى، على الأرجح ليودِّع أمي، وليسألها ما إذا كانت متأكدة أنها لا تود المجيء معنا، وسمعتها تقول: «كلا، كلا، شكرًا لك، سأكون أفضل حالًا بأن أستلقي هنا وعيناي مغمضتان.» ثم رجع أبي بالسيارة إلى الخلف للخروج من الممر وبداخلنا أمل متصاعد لخوض مغامرة، إنه ذلك الأمل الصغير فحسب الذي يصعد بك فوق المطب ومنه إلى الشارع، بدأ الهواء الساخن في التحرك، وتحول إلى نسيم، وأخذت المنازل تبدو غير مألوفة شيئًا فشيئًا ونحن نسلك الطريق المختصرة التي يعرفها أبي، المسار السريع للخروج من البلدة. مع ذلك، ماذا كان بانتظارنا ساعات ما بعد الظهيرة كلها سوى ساعات حارة في أفنية المزارع، وربما التوقف عند متجر ببلدة وشراء ثلاثة قراطيس من الآيس كريم أو ثلاث زجاجات مياه غازية، وغناء أبي؟ كانت الأغنية التي ألَّفها أبي عن نفسه تحمل عنوان «راعي بقر ووكر براذرز»، وتبدأ بهذه السطور:

نيد فيلدز العجوز، قد مات الآن،
وها أنا أتنقل بدلًا منه …

من نيد فيلدز هذا؟ لا بد أنه الرجل الذي حلَّ أبي محله، وإن كان ذلك، فقد مات حقًّا؛ إلا أن صوت أبي الذي يشوبه الحزن والفرح في الوقت نفسه يجعل من موته لغوًا فارغًا نوعًا ما، مأساة كوميدية. غنى أبي معظم الوقت أثناء القيادة: «صمتًا، لقد عدت إلى ريو جراندي، أغوص في الرمال المظلمة.» حتى وهو يتجه خارج البلدة، يعبر الجسر ويسلك المنعطف الحاد إلى الطريق السريع، يهمهم بشيء، ويدمدم بأغنية ما لنفسه، مُدخِلًا بعض التعديلات عليها، مستعدًا للارتجال، وعلى امتداد الطريق السريع، نمر بمخيم المعمدانيين، ومخيم مدارس الكنيسة بالإجازات، لينطلق أبي في أغنيته:

أين المعمدانيون، أين المعمدانيون،
أين جميع المعمدانيين اليوم؟
ها هم في المياه، تحت مياه بحيرة هورون،
جميع خطاياهم تزول عنهم.

يأخذ أخي هذا الكلام على محمل الجد وينهض على ركبتيه محاولًا أن ينظر إلى البحيرة، ويقول في شك: «لا أرى أي معمدانيين.» فيرد أبي: «ولا أنا أيضًا يا بني. لقد أخبرتك أنهم تحت مياه البحيرة.»

لم يعد هناك طرق ممهدة بعد أن تركنا الطريق السريع. اضطررنا إلى رفع زجاج النوافذ لتفادي الغبار. كانت الأرض مسطحة، تسفعها أشعة الشمس سفعًا، وخاوية. توفر الشجيرات في نهايات المزارع الظل، أما ظلال الصنوبر السوداء فتبدو كالبرك لا يستطيع أحد الاقتراب منها. ترتفع السيارة لنسير فوق ممر طويل، وفي نهايته، ماذا يمكن أن يبدو أكثر تنفيرًا وأكثر وحشة من منزل ريفي مرتفع غير مطلي، وحشائش نامية غير مشذبه عند الباب الأمامي، وستائر معتمة خضراء مسدولة، وباب بالأعلى مفتوح على لا شيء سوى العدم؟ منازل كثيرة بها هذا الباب، ولم أستطع قط اكتشاف السبب. أسأل أبي فيخبرني أنها للسير أثناء النوم. «ماذا؟!» حسنًا إذا تصادف أنك سرت أثناء النوم وأردت الخروج من المنزل. أشعر بالاستياء بعد أن تبينت متأخرةً أنه يمزح كعادته، لكن أخي يقول في شدة: «إذا فعل شخص ذلك فمن الممكن أن يدق عنقه.»

إنها ثلاثينيات القرن العشرين. إلى أي مدى يبدو لي هذا النمط من المنازل الريفية وهذا النمط من فترات ما بعد الظهيرة أنه ينتمي إلى ذاك العقد من الزمان، شأنه شأن قبعة أبي، ورباطة عنقه العريضة الزاهية، وسيارتنا بدرجها الجانبي العريض (من طراز إسكس، وقد فقدت زهوها منذ زمن بعيد)؟ نرى سيارات تشبه سيارتنا بعض الشيء، كثيرة أقدم منها، وقطعًا لم نرَ إحداها مغطاة بالغبار كسيارتنا، تقف في أفنية المزارع. بعضها لم يعد يعمل، وانتُزعت أبوابها وأُزيلت مقاعدها لاستخدامها في أروقة المنازل. لا توجد حيوانات في مجال رؤيتنا، دجاج أو ماشية، لا يوجد سوى الكلاب، نرى كلابًا ترقد في أي بقعة ظليلة تجدها، تستغرق بالأحلام، جوانبها الهزيلة ترتفع وتنخفض سريعًا، تنهض الكلاب عندما يفتح أبي باب السيارة، ويضطر إلى التحدث معها: «كلب لطيف، هذا كلب لطيف، كلب كبير لطيف.» وتهدأ الكلاب، وتعود إلى البقعة الظليلة. لا بد أن أبي يعرف كيفية تهدئة الحيوانات، فقد أمسك بثعالب مستقتلة باستخدام كلَّابات حول رقابها. صوت رقيق لتهدئة الكلاب وصوت آخر مرتفع ومرح للصياح أمام الأبواب: «مرحبًا سيدتي، أنا مندوب شركة ووكر براذرز، ماذا نفد لديك اليوم؟» يُفتَح الباب، ويتوارى أبي داخل المنزل. محظور علينا الذهاب خلف أبي، أو حتى مغادرة السيارة، لم يكن علينا سوى الانتظار والتساؤل عما يقوله أبي. عندما كان أبي يحاول إضحاك أمي، كان يتظاهر بأداء ما يقوم به في مطابخ أحد المنازل، فينثر حقيبة العينات، ويقول: «الآن يا سيدتي، هل تزعجك الطفيليات (بفروة رأس أطفالك أقصد)؟ تلك الأشياء الصغيرة الزاحفة التي نعف عن ذكرها وتظهر في رءوس من هم من أفضل العائلات؟ إن الصابون وحده عديم الفائدة، والكيروسين ليس بطيب العطر، لكن لدي هنا …» أو قد يقول: «صدقيني! بسبب جلوسي وقيادتي طيلة اليوم فإني «أعرف» حقًّا قيمة هذه الأقراص الرائعة، راحة طبيعية، وهي مشكلة شائعة لدى كبار السن أيضًا، ما إن تولي أيام النشاط. ماذا عنك يا جدتي؟» وقد يلوِّح بعلبة الأقراص الوهمية أسفل أنف أمي التي تضحك في النهاية، على مضض. وأتساءل أنا: «هو لا يقول ذلك حقًّا، أليس كذلك؟» فترد أمي: كلا بالطبع، فهو رجل مهذب للغاية.

مررنا بعد ذلك بمنزل تلو الآخر، سيارات قديمة، مطبات طريق، كلاب، مشاهد لحظائر رمادية وسقائف منهارة، وطواحين هوائية معطلة. الرجال، إذا كانوا يعملون في الحقول، فلا نراهم في أي حقل في مرمى البصر، والأطفال بعيدون للغاية، يجرون على قيعان الجداول المائية الجافة، أو يبحثون عن ثمار العليق، أو يختبئون في المنازل، يراقبوننا من بين فراغات الستائر المعتمة. أصبح كرسي السيارة زلقًا جراء العرق. تحديت أخي أن يضغط على بوق السيارة، أريد أن أفعل ذلك بنفسي لكنني لا أريد أن أُلام على ذلك، لكنه كان يدرك عاقبة الأمر. نلعب لعبة التخمين، إلا أنه كان من الصعب العثور على ألوان كثيرة. الحظائر والسقائف والمراحيض والمنازل رمادية اللون، والأفنية والحقول بُنِّية، والكلاب سوداء أو بنية. أما السيارات الصدئة فعكست ألوان قوس قزح، أعتصر عينيَّ لأنتقي منها البنفسجي أو الأخضر؛ وبالمثل أدقق النظر في الأبواب بحثًا عن طلاء عتيق تقشر، كستنائي أو أصفر. ليس بوسعنا أن نلعب لعبة الحروف، وهو ما كان أفضل؛ نظرًا لأن أخي لم يتعلم الهجاء بعد. تفسد اللعبة على أية حال. يدَّعي أخي أنني ظالمة في اختياري للألوان، ويرغب في أدوار إضافية من اللعب.

عند أحد المنازل، لا ينفتح أي باب، رغم أن هناك سيارة تقف في الفناء. يطرق أبي الباب ويطلق صفيرًا، ويصيح: «مرحبًا! أنا مندوب شركة ووكر براذرز!» لكن لا يأتي أي رد على الإطلاق من أية جهة. لا يوجد بهذا المنزل رواق، فقط بلاطة أسمنتية منحدرة يقف عليها أبي. يستدير أبي باحثًا في فناء الحظيرة، التي لا بد أن مخزن التبن بها فارغ لأنه يمكنك رؤية السماء من خلاله، وفي النهاية انحنى أبي ليلتقط حقيبتيه. وحينئذ انفتحت نافذة بالأعلى، وظهر إناء أبيض عند عتبة النافذة، ثم يميل الإناء لأسفل، وينسكب محتواه خارج الجدار. لم تكن النافذة فوق رأس أبي مباشرة؛ لذا لم يمسسه سوى قطرات شاردة. يلتقط حقيبتيه دون عجلة، ويتجه نحو السيارة وقد توقف عن الصفير. أقول لأخي: «أتعرف ماذا كان ذلك؟ إنه بول.» لينفجر أخي ضاحكًا.

يلف أبي سيجارة ثم يشعلها قبل أن يدير محرك السيارة. أُغلقت نافذة المنزل بعنف وأرخيت الستارة المعتمة، ولم نر قط يدًا أو وجهًا. يغني أخي في طرب: «بول، بول، سكب أحدهم بولًا!» فيقول أبي: «لا تخبر أمك فحسب، فليس من المحتمل أن تراه مزحة.» فيسأل أخي أبي أمرًا: «هل هذا الحدث في أغنيتك؟» يجيبه أبي بالنفي لكنه سيرى ما في وسعه لإدخاله في أغنيته.

لاحظت بعد برهة أننا لا ندخل في أي ممرات، بيد أنه لا يبدو لي أننا نتجه إلى المنزل. سألت أبي: «هل هذا الطريق يقودنا إلى صانشاين؟» فأجابني: «لا يا سيدتي، ليس كذلك.» «هل ما زلنا في منطقة عملك؟» يهز رأسه نفيًا. يقول أخي في استحسان: «نحن نسير بسرعة.» وفي واقع الأمر كنا نثب فوق حفر طينية جافة بحيث كانت جميع الزجاجات في الحقيبتين تحدث صليلًا وقرقرة على نحو وعدنا بتجربة جديدة.

نصل إلى ممر آخر، منزل آخر، غير مطليٍّ أيضًا، بدا تحت أشعة الشمس فضيَّ اللون.

«خلت أننا خرجنا من منطقة عملك.»

«وهو كذلك بالفعل.»

«إذن لمَ جئنا إلى هنا؟»

«سترين.»

تقف أمام المنزل امرأة قصيرة القامة وقوية البنية تلتقط الملابس المغسولة، والتي كانت منثورة فوق الحشائش لتبييضها وتجفيفها. عندما توقفت السيارة حدَّقت فيها بنظرة حادة للحظة، ثم انحنت لتلتقط منشفتين أخريين لتضعهما فوق الكومة الموجودة تحت إبطها، ثم تتجه نحونا وتقول بصوت فاتر، لا هو بمُرَحِّب ولا هو بجافٍ: «هل ضللتم الطريق؟»

يترجل أبي من السيارة بأريحية ويقول: «لا أظن ذلك، أنا مندوب ووكر براذرز.»

تقول المرأة: «إن جورج كولي هو مندوب ووكر براذرز الذي يأتينا، وكان هنا منذ أقل من أسبوع مضى. آه، يا إلهي!» تقول بصوت غليظ: «إنه أنت؟!»

يقول أبي: «أجل، هو كذلك في آخر مرة نظرت فيها في المرآة.» تجمع السيدة جميع المناشف أمامها وتمسك بها جيدًا، وتضمها إلى بطنها كما لو أنها تؤلمها.

«من بين كافة الأشخاص الذين لم أتوقع رؤيتهم قط، وها أنت تخبرني أنك مندوب ووكر براذرز.»

يقول أبي في تواضع: «آسف إن كنت تتطلعين إلى رؤية جورج كولي.»

«يا لمظهري! كنت أستعد لتنظيف حظيرة الدجاج، ستعتقد أن هذه ذريعة، لكنها الحقيقة. لا أتجول بهذا المظهر كل يوم.» كانت ترتدي قبعة مزارعين من القش، تتخلل من ثقوب فيها أشعة الشمس لتطفو على وجهها، وترتدي ثوبًا فضفاضًا منقوشًا ومتسخًا، وحذاءً رياضيًّا. وتسألني: «من معك في السيارة، بن؟ ليسا طفليك؟»

فيرد أبي: «إنهما طفلاي بالفعل»، ثم يخبرها باسمَيْنا وعمرَيْنا. «هيا، بإمكانكما الترجل من السيارة، هذه نورا؛ الآنسة كرونين. نورا، عليك أن تخبريني، هل ما زلت آنسة، أم لديك زوج مختبئ في السقيفة الخشبية؟»

تخبره: «إذا كان لديَّ زوج فلن يكون هذا هو المكان الذي سأضعه فيه.» يضحك الاثنان، كانت ضحكتها حادة وغاضبة بعض الشيء. «ستظنون أنني فظة، هذا إلى جانب مظهري الذي يبدو كالمتسولين. تعالوا إلى الداخل بعيدًا عن الشمس، الجو لطيف في المنزل.»

نعبر الفناء. («معذرة لأنني آخذكم من هذا الطريق لكنني لا أعتقد أن الباب الأمامي فُتح منذ جنازة أبي، أخشى أن تسقط المفصلات.») نعبر سلم الرواق، ثم إلى المطبخ، الذي كان الجو فيه لطيفًا حقًّا، كان بسقف مرتفع، والستائر المعتمة مسدولة بالطبع، حجرة بسيطة ونظيفة ورثَّة، مشمع الأرض متآكل، زهور الغرنوقي موضوعة في أصيص، ودلو به مياه للشرب، ومغرفة، وطاولة مستديرة مغطاة بمفرش نظيف. ورغم نظافة الحجرة، والأسطح الممسوحة والمكنوسة، ثمة رائحة كريهة ضعيفة، لعلها منشفة الصحون أو المغرفة الصفيح أو المشمع، أو السيدة العجوز؛ إذ كانت هناك سيدة عجوز تجلس على مقعد وثير تحت رف الساعة. تدير رأسها ببطء تجاهنا وتقول: «نورا، هل معك رفقة؟»

تقول نورا بصوت مفسر سريع لأبي: «إنها ضريرة»، ثم تقول: «احزري من هنا يا أمي، اسمعي صوته.»

يذهب أبي إلى أمام المقعد وينحني ويقول آملًا أن تتعرف عليه: «مساء الخير سيدة كرونين.»

تقول السيدة العجوز بلا دهشة: «بن جوردن، لم تأتِ لرؤيتنا منذ زمن بعيد، هل كنت خارج البلاد؟»

يتبادل أبي ونورا النظرات.

تقول نورا في سرور وقوة: «إنه متزوج يا أمي، متزوج ولديه طفلان وها هما.» تجذبنا للأمام، وتجعل كلًّا منا يلمس يد السيدة العجوز الجافة والباردة بينما تقول أسماءنا تباعًا. ضريرة! إنها أول شخص ضرير أراه عن قرب. كانت عيناها مغمضتين، وجفناها ساقطين لأسفل، بما لا يُظهِر أي شكل لمُقلَتَي العين، تجويفان فحسب. من أحد التجويفين، تظهر قطرة من سائل فضي، ربما دواء أو عبرة تحدت إصابة عينيها.

تقول نورا: «دعني أرتدِ ثوبًا لائقًا. تحدث مع أمي، فهذه مفاجأة سارَّة لها، نادرًا ما نحظى برفقة، أليس كذلك يا أمي؟»

تقول العجوز في هدوء: «لا يمر الكثير من الناس من هذا الطريق، والأشخاص الذين اعتادوا أن يكونوا في الجوار، الجيران القدامى، غادر بعض منهم.»

يقول والدي: «يحدث هذا بالفعل في كل مكان.»

«أين زوجتك إذن؟»

«بالمنزل، لا تحب الأجواء الحارة، تصيبها بتوعك.»

«حسنًا.» من عادات سكان الريف، كبار السن، قول «حسنًا» قاصدين بها: «أهذا صحيح؟» بقليل من الاهتمام والأدب الزائدين.

خرجت علينا نورا تخطو بقوة فوق السلم بالردهة في حذاء له عقب عريض متوسط الارتفاع، وكانت ترتدي ثوبًا مزينًا بالزهور على نحو مفرط أكثر من أي ثوب لدى أمي، كان أخضر اللون وأصفر مائلًا إلى البُنِّية، من الكريب الشفاف الطري، وكان الثوب عاري الذراعين. كانت ذراعاها متينتين، وكل جزء مكشوف من بشرتها كان مُغطًّى بنمش داكن صغير كالحصبة. شعرها أسود وقصير، خشن ومجعد، وأسنانها قوية وناصعة البياض.

قال أبي وهو ينظر إلى ثوبها: «إنها المرة الأولى التي أعلم فيها بوجود خشخاش أخضر اللون.»

ردت نورا: «ستدهشك كافة الأشياء التي لم تكن تعلمها قط.» كانت تنثر رائحة الكولونيا هنا وهناك مع تحركها، وتتحدث بصوت مختلف يتماشى مع الثوب، صوت أكثر ودًّا وشبابًا. «إنها ليست نبات الخشخاش، بل زهور فقط. اذهب وضُخَّ لي بعض المياه الباردة لأصنع لهذين الطفلين مشروبًا.» تُخرِج من خزانة المطبخ عصير برتقال ووكر براذرز المركَّز.

«أخبرتني أنك مندوب ووكر براذرز!»

«إنها الحقيقة يا نورا، اذهبي وألقي نظرة على حقيبَتَي العينات في السيارة في حال أنك لم تصدقيني. منطقة عملي في الجزء الجنوبي من هنا مباشرة.»

«ووكر براذرز؟ هل هذا صحيح؟ تبيع لصالح ووكر براذرز؟»

«أجل يا سيدتي.»

«لطالما سمعنا أنك تربي الثعالب في طريق دانجانون.»

«هذا ما كنت أفعله، لكن لم يعد يحالفني الحظ في تلك المهنة نوعًا ما.»

«إذن أين تعيش؟ ومنذ متى تعمل في البيع؟»

«انتقلنا إلى تابر تاون، وأعمل في هذه المهنة منذ شهرين أو ثلاثة، إنها تدفع عنا غائلة الجوع، تدفعه بالكاد.»

تضحك نورا. «حسنًا أعتقد أنك تعد نفسك محظوظًا لعملك بهذه الوظيفة. زوج إيزابيل في برانتفورد عاطل عن العمل منذ مدة طويلة. فكرت في أنه إذا لم يعثر على شيء في القريب فسأدعو أسرتهما للمجيء إلى هنا للعيش، لكن حقيقةً لم أتُقْ لذلك، فهذا كل ما أستطيع تدبيره لي ولأمي.»

قال أبي: «أتزوجت إيزابيل؟ هل تزوجت مورييل أيضًا؟»

«كلا، غادرت لتعمل بالتدريس غربًا. لم تعد إلى منزلها منذ خمسة أعوام. أعتقد أنها تجد شيئًا أفضل تفعله في عطلاتها. كنت سأفعل ذلك إن كنت محلها.» تُخرِج نورا بعض الصور الفوتوغرافية من درج الطاولة وتبدأ في عرضها على أبي. «هذا ابن إيزابيل الأكبر، التحق بالمدرسة، وها هي الطفلة الصغيرة تجلس في عربتها، إيزابيل وزوجها، مورييل، هذه رفيقتها التي معها بالسكن، وهذا رجل كانت تواعده، وهذه سيارته، كان يعمل في مصرف هناك، وهذه المدرسة التي تعمل بها، بها ثماني حجرات، تدرِّس لطلاب الصف الخامس.» يهز أبي رأسه. «لا أستطيع تخيُّلها إلا وهي في طريقها إلى المدرسة، خجلة للغاية، كنت أُقِلُّها أثناء سيرها على الطريق — وأنا في طريقي لرؤيتك — وهي لا تنبس ببنت شفة، ولا حتى توافقني الرأي بأنه يوم جميل.»

«لقد تغلبَتْ على ذلك.»

تقول العجوز: «عمن تتحدثان؟»

«مورييل، أقول إنها تغلبت على خجلها.»

«كانت هنا في الصيف الماضي.»

«كلا يا إمي، كانت إيزابيل. إيزابيل وأسرتها كانوا هنا الصيف الماضي. سافرت مورييل غربًا.»

«قصدت إيزابيل.»

بعد ذلك بوقت وجيز تستغرق السيدة العجوز في النوم، وتميل رأسها جانبًا، فاغرة فاها. تقول نورا: «أستميحكم عذرًا عن تصرفاتها. إنه كبر السن.» ثم تضع فوقها غطاءً صوفيًّا مغزولًا وتقول: «بإمكاننا الجلوس بالحجرة الأمامية بحيث لا يزعجها حديثنا.»

توجه أبي بالحديث إليَّ وإلى أخي: «أنتما، هل تودَّان الخروج وتسلية نفسيكما؟»

كيف نسلي أنفسنا؟ على أية حال أردت البقاء. كانت الحجرة الأمامية أكثر تشويقًا من المطبخ، رغم أنها لم تكن تحوي الأثاث نفسه. كان هناك فونوغراف وبيانو عتيق، وصورة معلقة على الجدار للسيدة مريم، أم يسوع — هذا كل ما أعرفه — ملونة بدرجات اللونين الأزرق والقرنفلي الزاهية وطوق مدبب من الضوء حول رأسها، أعلم أن هذه الصور لا تتواجد إلا في بيوت الروم الكاثوليك؛ إذن لا بد أن نورا كذلك. لم نعرف أحدًا من الروم الكاثوليك على الإطلاق معرفة جيدة بدرجة كافية تجعلنا نزورهم في منازلهم. أفكر فيما اعتادت جدتي والخالة تينا، في دانجانون، قوله دائمًا للإشارة إلى أن شخصًا ما كاثوليكي: «فلان متمسك بالجاروف العتيق.» هكذا كانتا تقولان. «فلانة متمسكة بالجاروف العتيق.» كانتا ستقولان هكذا عن نورا.

تمسك نورا بزجاجة ممتلئة لنصفها من فوق البيانو العتيق، وتصب بعضًا منها في كوبها وكوب أبي بعد أن فرغا من عصير البرتقال.

يقول أبي: «أتحتفظين بها في حال مرضت؟»

«إطلاقًا، أنا لا أمرض أبدًا، أحتفظ بها فحسب. زجاجة واحدة تكفيني لوقت لا بأس به، لأنني لا آبه بالشرب وحدي. ها أنا محظوظة!» تحتسي هي وأبي الشراب، أدري ما هو، إنه شراب الويسكي، من بين الأشياء التي أخبرتني بها أمي في أحاديثنا معًا أن أبي لا يحتسي الويسكي أبدًا. لكنني أراه يفعل ذلك. يحتسي أبي الويسكي ويتحدث عن أناس لم أسمع بأسمائهم قط، لكن بعد برهة يتحدث عن حادثة مألوفة؛ يخبرها عن النونية التي سكبت من النافذة. يقول: «تصوري أنني أقف هناك، وأصيح بأعلى صوتي: «يا سيدتي، أنا مندوب ووكر براذرز، هل يوجد أحد بالمنزل؟»» يصيح بالفعل ويبتسم ابتسامة عبثية في ترقب سار ثم … ينكس رأسه ويغطيه بذراعيه ويبدو كما لو أنه يستجدي الرحمة (في حين أنه لم يفعل أيًّا من ذلك، فقد شاهدته)، وتضحك نورا ضحكة مجلجلة كما فعل أخي حينئذ.

«هذا ليس صحيحًا! لم يحدث أيٌّ من هذا!»

يقول في جدية: «بالطبع صحيح يا سيدتي. لدينا أبطال في صفوف ووكر براذرز. سعيد أنك ترينه مضحكًا.»

طلبتُ منه في خجل: «أنشد لنا الأغنية.»

«أية أغنية؟ هل تحولتَ إلى مغنٍّ إلى جانب سائر الأشياء الأخرى؟»

يشعر أبي بالإحراج، ويقول: «آه، إنها فقط أغنية ألَّفتها فيما كنت أتجول بالسيارة، فهي تشغل وقت فراغي بنظم القوافي.»

لكن بعد بعض الإلحاح يغني أبي، ينظر إلى نورا ويرتسم على وجهه تعبير مضحك معتذر، وتنفجر ضاحكة حتى أنه في بعض المقاطع كان يضطر إلى التوقف وانتظارها حتى تنتهي من الضحك كي يستأنف الغناء، لأنها تدفعه إلى الضحك أيضًا. ثم يخبرها بأجزاء متعددة من حديثه المنمق كرجل مبيعات. عندما تضحك نورا تضغط بصدرها الكبير أسفل ذراعيها المطويتين. وتخبره: «أنت مجنون، لست سوى مجنون.» ترى أخي يحدق في الفونوغراف فتنهض قافزة وتتجه نحوه. «ها نحن نجلس ونسلي أنفسنا ولا نلقي لك بالًا، أليس هذا بشعًا؟ هل تود أن أضع أسطوانة لك؟ هل تود سماع أسطوانة جميلة؟ هل تستطيع الرقص؟ لا بد أن شقيقتك تجيد الرقص، أليس كذلك؟»

أجيبها بالنفي. تقول نورا: «فتاة كبيرة وجميلة مثلك ولا تجيد الرقص! آن الأوان لتتعلمي. أؤكد لك أنك ستكونين راقصة رائعة. سأضع أسطوانة اعتدت الرقص على أنغامها مع أبيك، أيام كان يرقص، تعلمين أن أباكِ كان راقصًا، أليس كذلك؟ حسنًا، إنه رجل موهوب، أعني أباك!»

تغلق غطاء الفونوغراف وتمسكني على نحو مفاجئ من حول خصري، وتمسك بيدي الأخرى وتبدأ في حثي على الرجوع للخلف. «هكذا الآن، هكذا يرقصون، حاكيني، هذه القدم، هكذا. واحد وواحد اثنان. واحد وواحد اثنان. هذا رائع، هذا جميل، لا تنظري إلى قدمك! حاكيني، هذا صحيح، أترين كم هو سهل؟ ستكونين راقصة رائعة! واحد وواحد اثنان. واحد وواحد اثنان. بن، أترى ابنتك وهي ترقص؟!» واستمرت الأغنية: «نهمس حين تضمني إليك، نهمس فيما لا يستطيع أحد آخر سماعنا …»

أخذنا ندور وندور فوق مشمع الأرض، أشعر بالفخر والعزم، ونورا تضحك وتتحرك بخفة شديدة، تطوقني بفرحتها الغريبة، وأشم منها رائحة الويسكي والكولونيا ورائحة عرقها. ابتلت ثيابها من تحت إبطها، وتتكون قطرات عرق صغيرة بمحاذاة شفتها العليا تعلق بالشعيرات السوداء الناعمة عند زاوية فمها. ثم تلفني سريعًا أمام أبي — مما أدى إلى تعثري، فأنا لست بتلميذة سريعة التعلم بأية حال من الأحوال كما تدَّعي — لتتركني وأنا ألهث.

«ارقص معي يا بن.»

«أنا أسوأ راقص في العالم يا نورا، وأنت تعلمين ذلك.»

«قطعًا لم أعتقد ذلك.»

«ستعتقدين الآن.»

تقف أمامه وذراعاها مرتخيتان في رجاء، ونهداها اللذان أشعراني بالخجل منذ لحظة لدفئهما وضخامتهما، يعلوان ويهبطان أسفل ثوبها الفضفاض المزدان بالورود، ووجهها يلمع جرَّاء المجهود والبهجة.

«بن!»

ينكس أبي رأسه ويقول في هدوء: «ليس أنا يا نورا.»

لذا لا تجد أمامها سوى أن تُخرِج الأسطوانة، وتقول: «بمقدوري احتساء الشراب وحدي، لكن ليس باستطاعتي الرقص وحدي، ما لم أكن أكثر جنونًا مما أظن.»

يقول أبي مبتسمًا: «لست مجنونة يا نورا.»

«امكث حتى العشاء.»

«كلا، لن نزعجك بهذا.»

«ليس بإزعاج، سأسعد بذلك.»

«كما ستقلق أمهما، ستعتقد أن السيارة انقلبت بنا.»

«آه، حسنًا، أجل.»

«لقد أخذنا كثيرًا من وقتك الآن.»

تقول نورا في مرارة: «وقتي، هل ستأتي مجددًا؟»

يقول أبي: «سآتي إن استطعت.»

«أحضر طفليك، أحضر زوجتك.»

يقول أبي: «أجل، سأحضرهم إن استطعت.»

عندما رافقتنا إلى السيارة، قال أبي: «عليك أن تحضري لزيارتنا أيضًا يا نورا، نحن نعيش في جروف ستريت، تسيرين على الجانب الأيسر شمالًا، منزلنا من تلك الجهة — شرقًا — من بايكر ستريت.»

لم تكرر نورا تلك الاتجاهات. تقف بالقرب من السيارة بثوبها الباهر الرقيق. تلمس رفرف السيارة تاركة علامة غامضة على الغبار هناك.

•••

في طريق عودتنا إلى المنزل لم يبتع أبي الآيس كريم أو المياه الغازية، لكنه دخل إلى متجر ريفي واشترى عبوة عرقسوس، وتقاسمها معنا. يدور بخلدي عبارة «إنها متمسكة بالجاروف القديم»، وتبدو الكلمات حزينة كما لم تكن من قبل، غامضة وضالة. لم يخبرني أبي بأي شيء حيال عدم ذكر أيٍّ مما حدث في المنزل، لكنني أعلم — من شروده في التفكير، وصمته وهو يمرر لنا العرقسوس — أن ثمة أشياء لا يجب ذكرها؛ الويسكي، وربما الرقص. ليس هناك داعٍ للقلق من أخي، فهو لم يلحظ الكثير، على أكثر تقدير ربما يذكر السيدة العجوز وصورة السيدة مريم.

يقول أخي في أمرٍ لأبي: «أنشد أغنية»، لكن أبي يقول في جدية: «لا أدري، يبدو أنني استنفدت جميع الأغاني توًّا. لتراقب لنا الطريق وأخبرني إن رأيت أي أرانب.»

يقود أبي السيارة ويراقب أخي الطريق بحثًا عن أرانب، أشعر أن حياة أبي تنساب خلف السيارة مع نهاية الظهيرة، تزداد قتامةً وغرابةً، وكأنها منظر طبيعي به سحر، يجعله عاديًّا ومألوفًا على نحو مواتٍ عندما تنظر إليه، لكنه يحوله ما إن تدير إليه ظهرك إلى شيء لن تعرفه أبدًا، في أجواء وأماكن بعيدة ليس بوسعك تخيلها.

عندما اقتربنا من تابر تاون أضحت السماء ملبدة بالغيوم على نحو طفيف، كما هي الحال دومًا، دومًا تقريبًا، في أمسيات الصيف بجانب البحيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤