سلام أوترخت

١

لي ثلاثة أسابيع حتى الآن في منزل العائلة ولم يكن الأمر موفقًا. فأنا ومادي، مع أننا نتحدث بمرح عن بهجتنا بزيارة طويلة وحميمة كهذه، سنرتاح من حمل يثقلنا حين تنتهي هذه الزيارة. الصمت يربكنا؛ لذا نضحك على نحو مبالغ فيه. أخشى — وأغلب الظن أن كلتينا تخشى — حين تأتي لحظة قول إلى اللقاء، إذا لم تسارع إحدانا بتقبيل الأخرى وتعصر إحدانا كتف الأخرى بحرارة زائفة، أن نضطر لأن نواجه المسافة الشاسعة بيننا ونعترف بأن كلًّا منا ليست فقط غير مكترثة للأخرى، بل يُضاف إلى ذلك أننا في صميم قلبينا ترفض إحدانا الأخرى؛ وبالنسبة لذلك الماضي الذي نبالغ في الحديث عن تشاركنا إياه، فنحن لم نتشاركه على الإطلاق، بل تحتفظ به كلٌّ منا لنفسها في غيرة وحرص، تفكر في نفسها بأن الأخرى صارت غريبة عنها، وخسرت ما لها من حقوق عليها.

وعندما يهبط الليل، كثيرًا ما نجلس في الخارج على سلالم الشرفة، نشرب الجين وندخن بشراهة كي نهزم الناموس ونرجئ وقت الذهاب إلى النوم إلى ساعة متأخرة. الجو حار، والمساء يستغرق طويلًا حتى ينبلج الصبح، والمنزل القرميدي المرتفع، الذي يظل باردًا إلى حد ما حتى منتصف ما بعد الظهيرة، يُبقِي حرارة النهار حبيسة فترة طويلة بعد حلول الظلام. كانت هذه هي الحال دائمًا؛ وأتذكر أنا ومادي كيف كنا نجر مرتبتنا إلى الشرفة في الدور السفلي، حيث نستلقي ونعد النجوم التي تتهاوى ونحاول أن نظل مستيقظتين حتى طلوع الفجر. لكننا لم نفعل قط؛ لأن النعاس كان يغلبنا كل ليلة في الوقت الذي يَنسِم فيه تيار هواء بارد قادم من ناحية النهر، حاملًا رائحة البوص ورائحة الطين الأسود في قاع النهر. في العاشرة والنصف تمر حافلة عبر المدينة، لا تبطئ كثيرًا، نراها مارةً عند طرف شارعنا. إنها الحافلة نفسها التي كنت أستقلها عند عودتي من الكلية إلى المنزل. وأتذكر وأنا أدخل جوبيلي في إحدى الليالي الحارة، رؤية الأرض عارية حول الجذور الضخمة للأشجار، ونافورة الشرب محاطة ببريكات ماء صغيرة في الشارع الرئيسي، ولافتات صعبة القراءة مكتوب عليها بالأضواء الزرقاء والحمراء والبرتقالية «بلياردو ومقهى»، شاعرةً وأنا أتبين هذه اللافتات بإحساس غريب من القمع والتحرر، وأنا أستبدل بعالم المدرسة الترويحي كله — عالم الأصدقاء، وفيما بعد، عالم الحب — العالم المظلم لمحنة لا تنتهي، عالم المنزل. لا بد أن مادي التي كانت تقطع نفس الرحلة منذ أربع سنوات راودها هذا الشعور أيضًا؛ أود أن أسألها: هل يمكن لأطفال في مرحلة نشأتهم، مثلما كنا، أن يفقدوا القدرة على أن يصدقوا وجود — أن يألفوا — أي واقع مستقر وعادي؟ لكنني لا أسألها، فنحن لا نتحدث عن أي شيء من هذا. لا سلوى هنا! هكذا قالت مادي بصوتها المبتهج الرفيع بطابع اللهجة العامية التي كنت نسيتها، لن تكئب إحدانا الأخرى. وهذا ما فعلناه.

ذات ليلة أخذتني مادي إلى حفلة عند البحيرة، التي تبعد نحو ثلاثين ميلًا إلى الغرب من هنا. كانت الحفلة مقامة في كوخ استأجرته امرأتان من جوبيلي لهذا الأسبوع. معظم النساء هناك بدا أنهن أرامل أو عَزَبات أو منفصلات أو مطلقات؛ أما الرجال فكان أغلبهم شُبَّانًا غير متزوجين، من كانوا من جوبيلي من بينهم كانوا صغار السن إلى درجة أنهم ذكَّروني بفتيان الصفوف الأولى. كان هناك رجلان أو ثلاثة أكبر سنًّا، من دون زوجاتهم. أما النساء فمن المستغرب أنهن كن يذكِّرنني بنساء كنت أعرفهن في طفولتي، مع أنني بطبيعة الحال لم أكن أرى قط شخصيات هؤلاء النساء في الحفلات، لم أكن أرى إلا عملهن في المتاجر والمكاتب، وفي كثير من الأحيان، في مدارس الأحد في جوبيلي. كن يختلفن عن النساء المتزوجات في كونهن أكثر دراية بوضعهن في الدنيا، وأنشط وأذكى وأغلظ قليلًا (مع أنني أُكنُّ لهن جميعًا الاحترام عدا واحدة أو اثنتين). كن يرتدين ملابس لا شك في أناقتها وإن كانت وقورة، وكثيرًا ما كانت تهف وترف فوق كورسيهاتهن المطاطية المشدودة بإحكام، ويضعن العطور، قدرًا كبيرًا منها، على أزهارهن الصناعية. وكانت صديقات مادي متمدينات إلى حد كبير، فقد كن يستخدمن على شعورهن غسول اللون النحاسي، ويصبغن جفونهن باللون السماوي، ويتمتعن بقدرة عاتية على ألا يسكرن من احتساء الشراب.

كنت أرى أن مادي لا تبدو واحدة منهن، بجسدها الضئيل وشعرها الداكن الذي ما زالت تصففه دون عناية، ووجهها الذي صار نحيلًا ومشدودًا من دون أن يفقد تمامًا نظرة الفتاة التي تعلوه والتي تشي بالصفاقة والزهو. لكنها ما زالت تتكلم بالخُنَّة الفجة للهجة المحلية، التي كنا في الماضي نسخر منها. وكانت رابطة الجأش وهي تعربد وتشرب. فقد بدا لي أنها لا تدخر جهدًا كي تبدو واحدة من هؤلاء الأشخاص وأنها قد تنجح في ذلك سريعًا. بدا لي أيضًا أنها كانت تود أن أراها تنجح، أراها تتنكر لتلك الخيلاء السرية المبهجة الرهيبة بحق، التي كانت فينا حينما كنا طفلتين معًا، وكنا نمنِّي نفسينا، بطبيعة الحال، بأمور أكبر بكثير من جوبيلي.

أثناء اللعبة التي تضع فيها كل واحدة من النساء قطعة من الملابس — يبدأ الأمر بفردة حذاء من باب الاحتشام والتأدب — في سلة، ثم يأتي كل الرجال ويتنافسون في محاولة ملاءمة كل قطعة على صاحبتها الأصلية، خرجت للخارج ومكثت في السيارة، حيث شعرت بوحشة لزوجي وأصدقائي، واستمعت إلى أصوات الجذل الصادرة من الحفل وإلى الأمواج وهي تتهاوى على الشاطئ، ثم غلبني النعاس. جاءت مادي بعد ذلك بفترة طويلة جدًّا وقالت: «بحق السماء!» ثم ضحكت وقالت بعبث سيدة في فيلم سينمائي إنجليزي: «ألا تروق لكِ هذه الفعاليات؟» ضحكنا نحن الاثنتان، وشعرتُ برغبة في الاعتذار، وبشيء من الاعتلال لأنني شربت ولم أثمل. «قد لا تكون لهم قدرة تُذكر على خوض حوار فكري لكن قلوبهم بيضاء، كما يقول المثل.» لم أجادل في هذا، وقطعنا رحلة العودة من إنفرهورون إلى جوبيلي بسرعة ثمانين ميلًا في الساعة. ومنذ ذلك الحين لم نذهب إلى أي حفل آخر.

لكننا لا نكون وحدنا دائمًا حين نجلس على السلم؛ ففي كثير من الأحيان ينضم إلينا رجل يُدعى فريد باول. كان موجودًا في الحفل، جالسًا في الخلفية في استرخاء يحاول أن يتذكر صاحب كل كأس من كئوس الشراب، بينما يقف بالقرب من سور الشرفة المتهالك. كان قد نشأ في جوبيلي مثلنا لكنني لا أتذكره، ربما لأنه ارتاد المدرسة قبلنا ببضع سنوات ثم ذهب بعد ذلك إلى الحرب. فاجأتني مادي بدعوته إلى العشاء في أول ليلة وصلت فيها هنا، وبقضائه الأمسية معنا، وأمسيات عديدة بعد ذلك، جاعلةً هذا الغريب شاهدًا على طفولتنا، أو على نسخة طفولتنا المحفوظة في أمان في حكي النوادر، في شيء يشبه السيلوفان الفكري. كم كانت الخيالات التي نسجناها حول صورتينا الواهيتين ونحن طفلتين رائعة، إلى حد أنهما ظهرتا مرحتين وتغيرتا تغيرًا جعلهما صورتين أخريين لا نعرفهما. إننا ماهرتان في سرد القصص معًا. فريد باول يقول: «لديكما ذكريات رائعة أيتها الفتاتان» ويجلس يراقبنا بإعجاب وبشيء آخر — تحفظ واضطراب واستهجان — كالذي يبدو على وجوه الأشخاص المتروين الهادئين وهم يشاهدون المهازل المثيرة للممثلين الكوميديين.

الآن وأنا أفكر في فريد باول، أعترف بأن ردة فعلي إزاء هذا — هذا «الوضع»، كما أسميه — كانت أكثر تقليدية بكثير مما توقعت، بل كانت حمقاء. أنا لا أدري حتى ما هو الوضع في الواقع. أعلم أنه متزوج؛ فمادي أخبرتني بذلك في الأمسية الأولى، بطريقة من تريد إخباري بالأمر وحسب. لكن زوجته عليلة، ومادي تقول إنه يأخذها إلى البحيرة في الصيف، وإنه بار بها للغاية. أنا لا أدري إن كان عشيقًا لمادي، وهي لن تخبرني أبدًا. لكن لماذا ينبغي أن يعنيني هذا الأمر؟ إن مادي تعدت سن الثلاثين منذ زمن. لكنني لا أكفُّ عن التفكير في الطريقة التي يجلس بها على سلالمنا ويداه منبسطتان فوق ركبتيه الممدودتين، ووجهه الهادئ الممتلئ متجه باستغراق شبه تام ناحية مادي وهي تتحدث. إن له نظرة رجولية محببة توحي بأنه مستمتع لكنه غير مهتم. تغيظه مادي مازحة، فتخبره بأنه بدين جدًّا، أو أنه لن يدخن سيجارته، أو تقحمه في جدالات لطيفة ذات طبيعة خاصة تحتدم بينهما، ولا معنى لها ولا نهاية. وهو لا يمانع في ذلك. (وهذا ما يخيفني، أعلم الأمر الآن: هو لا يمانع، «وهي محتاجة لذلك».) حين تكون مادي ثملة قليلًا تقول بنبرات تهكمية تحمل ما يشبه التبرير إنه صديقها الحقيقي الوحيد. وتقول عنه إنه يفهمها ولا أحد غيره قادر على ذلك. ليس لديَّ رد على هذا.

ثم أبدأ أتساءل ثانيةً: هل هو «وحده» صديقها؟ لقد نسيتُ قيودًا معينة مفروضة على الحياة في جوبيلي — وهذا واقع حقيقي بصرف النظر عما تقوله روايات الجيب عن الحياة في المدن الصغيرة — ونسيت أيضًا كيف يمكن أن تزدهر في ظل هذه القيود صداقات محترمة قوية، لا يقال صراحةً أبدًا إنها جنسية، بل وتتغذى على هذه القيود أيضًا، إلى حد أن العلاقات من هذا النوع تستحوذ في نهاية المطاف على نصف حياة المرء. أكأبتني هذه الفكرة كثيرًا (العلاقات التي لا تُكلل بالزواج قد تخيب أمل من ليسوا طرفًا فيها أكثر من أي شخص آخر) لدرجة أنني وجدت نفسي أتمنى أن يكونا في حالة حب حقيقي.

•••

إيقاع الحياة في جوبيلي موسمي بإيقاع ثابت؛ فالوفيات تحدث في الشتاء، والزيجات تُعقد في الصيف. لكن ثمة سبب وجيه لهذا، هو أن الأشتية طويلة وحافلة بالعناء، ومن ثم، قد لا يقوى الضعفاء والمسنون دائمًا على اجتيازها. فالشتاء الماضي كان كارثيًّا، على نحو يمكن توقع حدوثه كل عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة؛ كان من الممكن أن ترى كيف كانت أرصفة الشوارع مكسرة، كما لو كانت المدينة قد خرجت لتوها من قصف مدفعي على هامش حرب. في هذه الأوقات، يتعامل الناس مع الموت في خضم صعوبات بالغة؛ ثم يأتي في الصيف وقت للتفكير في الأمر، والحديث عنه. فأنا أرى الناس يستوقفونني في الشارع للحديث عن أمي. سمعت منهم عن جنازتها؛ نوع الزهور التي حظيت بها وحالة الطقس في ذلك اليوم. والآن وقد ماتت، لم أعد أشعر حين يقولون كلمة «أمُّكِ» أنهم يتعمدون توجيه ضربة ماكرة لكبريائي. كنت من قبل أشعر بهذا، حين أسمع هذه الكلمة كنت أشعر أن كياني كله، ذلك الصرح الفتي الزائف، يتداعى وينهار.

الآن أسمعهم يتحدثون عنها، بلطف ولياقة، فأدرك أنها صارت من ممتلكات المدينة وعجائبها، من أساطيرها الموجزة. وقد حَققَت هذا رغمًا عنا، لأننا كنا نحاول، بفجاجة وبدهاء، أن نبقيها في المنزل، بعيدًا عن تلك السمعة المحزنة؛ لا لصالحها، بل لصالحنا، فنحن اللتان كانتا تعانيان من مثل هذا الخزي العظيم من منظر مقلتيها اللتين كانتا تنقلبان لأعلى في محجريهما نتيجة شلل مؤقت في عضلات العين، ومن وقع صوتها المتثاقل، الذي كانت وظيفتنا أن نترجم للغرباء منطوقاته المحرجة. كانت التأثيرات التي يحدثها مرضها غريبةً بدرجة جعلتنا نشعر أننا نضجُّ بالاعتذار (مع أننا كنا نحتفظ بصلابتنا وتحفظنا) كأننا ضمن أحد العروض البالغة الرداءة التي تقام في الشوارع أثناء الكرنفالات. كل هذا قضى على كبريائنا؛ تخلصنا من حدة حنقنا من خلال رسم صور كاريكاتورية جامحة كانت إحدانا تعدُّها للأخرى (لا، ليست صورًا كاريكاتورية، إنما محاكاة، لأنها كانت نفسها صورة كاريكاتورية). كان ينبغي لنا أن نتركها لرعاية أهل المدينة، كانت ستلقى معاملةً أفضل.

إنهم لا يتحدثون عن مادي وسهرها على رعاية أمي طوال عشر سنوات إلا بأقل القليل، ربما رغبةً منهم في الحفاظ على مشاعري، غير ناسين أنني أنا التي رحلت، وها هما طفلاي أمارة على ذلك، بينما مادي وحيدة ولا شيء لديها الآن سوى ذلك المنزل الكئيب. لكنني لا أعتقد ذلك، ففي جوبيلي لا تُراعى المشاعر بهذه الطريقة. فهم يسألونني مباشرةً عن السبب وراء عدم مجيئي المدينة لحضور الجنازة. أنا مسرورة أن العاصفة الثلجية العنيفة التي تسببت في وقف حركة الطيران في ذلك الأسبوع وفرت لي عذرًا لعدم الحضور، لأنني لا أدري ما إذا كنت سأحضر هذه الجنازة على أية حال، بعد أن كتبت إليَّ مادي رسالة ملتهبة المشاعر تحثني فيها على أن أظل بعيدة. راودني شعور قوي بأن من حقها أن تنفرد بهذه المناسبة، إذا شاءت ذلك، بعد مرور كل هذه الفترة.

بعد مرور كل هذه الفترة، مادي هي التي بقيت. كانت هي من رحل أولًا للالتحاق بالكلية، ثم رحلتُ أنا. قالت لي: امنحيني أربع سنوات، ثم أمنحك أنا بعد ذلك أربعًا مثلها. لكنني تزوجت. لم تتفاجأ؛ كانت حانقة عليَّ بسبب ما أشعر به من شعورٍ بائس وغير مجدٍ بالذنب. قالت إنها دائمًا كانت عازمة على البقاء. وإن أمي لم تعد تشكل مصدر «ضيق» لها. قالت: «لقد فاض الكيل بي من أمنا غريبة الأطوار الآن، ولم أعد أفعل شيئًا حيالها. كففت عن محاولاتي المستمرة أن أجعل منها «إنسانة»، كما تعلمين.» لكن من قبيل التبسيط المفرط أن أفترض بأن مادي متدينة، وأنها كانت تشعر بمباهج التضحية بالذات، بالجاذبية الروحانية القوية لنكران الذات التام. لكن من ذا الذي يمكن أن يقول ذلك عن مادي؟ في مراهقتنا، عندما كانت خالتانا، الخالة آني والخالة لو، تتحدثان إلينا عن أحد الأبناء أو البنات البررة الذين ضحوا بكل شيء في سبيل رعاية أحد الأبوين في مرضه، كانت مادي تستشهد بآراء الطب النفسي الحديث على نحو لا يدل على تدين. لكنها بقيت. كل ما يمكنني قوله عن هذا — كل ما أمكنني أن أفكر فيه على الإطلاق — لتعزية نفسي إنها ربما كانت قادرة على ذلك، بل وربما اختارت أن تعيش بمعزل عن الزمن في حرية تامة متخيلة، كما يفعل الأطفال، مستقبل لا يعبث به أحدهم، حيث كل الخيارات متاحة دائمًا.

•••

يسألني الناس — كي يغيِّروا الموضوع — عن شعوري حيال العودة إلى جوبيلي، لكنني لا أدري، ما زلت أنتظر شيئًا يخبرني بذلك، يجعلني أدرك أنني عدت. ففي اليوم الذي وصلت فيه من تورونتو بصحبة طفليَّ في المقعد الخلفي للسيارة كنت في غاية التعب في آخر مراحل رحلة طولها ألفان وخمسمائة ميل. كنت مضطرة للسير خلال منظومة معقدة من الطرق السريعة والفرعية، لأن ما من طريق سهل للوصول إلى «جوبيلي» من أي مكان على الأرض. ثم في حوالي الساعة الثانية بعد الظهر رأيت أمامي القبة المبهرجة المقشرة، المألوفة والمفاجأة، لمجلس المدينة، التي لا تمتُّ بأي صلة على الإطلاق إلى معمار أبنية المدينة المبنية على نحو بسيط، بالقرميد الأحمر والرمادي المتسخ. (معلق أسفل هذه القبة جرس هائل الحجم، يُقرَع في حال حدوث كارثة لن تحدث.) قدت سيارتي نحو الشارع الرئيسي — مركز خدمة جديد، وواجهة زخرفية جديدة لفندق كوينز — وانعطفت نحو الشوارع الجانبية المتهالكة تمامًا التي تعيش فيها العَزَبات المُسنَّات، اللائي لديهن في حدائقهن فسقيات الطيور وزهور نباتات العائق الزرقاء. كانت البيوت الكبيرة المبنية بالقرميد التي عرفتها، بشرفاتها الخشبية ونوافذها ذات الأسلاك الداكنة، تبدو لي حقيقية لكن غير واقعية. (كان كل من أتحدث إليه عن الجو العام المقبض الشبيه بجو الأحلام لهذه الشوارع يرغب في أخذي إلى الجانب الشمالي من المدينة حيث يوجد مصنع جديد لتعبئة زجاجات المياه الغازية، وعدد من البيوت على طراز بيوت المزارع وفرع من فروع تيستي فريز.) أوقفت سيارتي في بقعة ظليلة صغيرة أمام المنزل الذي كنت أسكن فيه. تساءلت ابنتي الصغيرة مارجريت بصوت هادئ حمل قدرًا من عدم التصديق: «أمي! هل هذا منزلك؟»

شعرت في صوت ابنتي بخيبة أمل مضاعفة — بدت أنها، كعادتها، تصالحت معها، أو فعلت ذلك «سلفًا» قبل أن ترى المنزل — احتوت كل فتور وغرابة اللحظة التي انكشفت فيها الحقيقة، المحبطة، المؤسفة، المستعصية لمنبع الأساطير. بدا القرميد الأحمر للبيت قاسيًا وحارًّا تحت الشمس، يعلوه في موضعين أو ثلاثة شقوق طويلة تشوِّه منظره؛ أما الشرفة، التي كانت دائمًا فقيرة الزينة، فكانت مائلة متداعية على نحو جَلِيٍّ. كانت هناك — ولا تزال — نافذة وهمية ذات زجاج ملون إلى جانب الباب الأمامي. ظللت أحدق فيها، متحيرة لا أدرك ما أحس به. ظللت أنظر إلى البيت ولم تتحرك مصاريع النوافذ، ولم ينفتح الباب بغتة، ولم يخرج أحد إلى الشرفة؛ لم يكن ثمة أحد بالمنزل. كان هذا ما توقعته، لأن مادي تعمل الآن في مكتب مجلس المدينة، لكنني فوجئت من استحالة البيت إلى هذا المنظر الفقير الأجرد الموصد، لمجرد عدم وجود أحد به. وأدركت، وأنا أمشي عبر الباحة الأمامية إلى السلالم، أنني قد نسيت، بعد قضائي كل هذه الأصياف على الساحل، ما تتسم به المدن الداخلية من حر قائظ، يجعلك تشعر وكأنك تحمل فوق رأسك السماء المحرقة برمتها.

ثمة لافتة، مكتوبة بخط مادي المنمق والطفولي بعض الشيء، معلقة على الباب الأمامي تقول: «مرحبًا بالزوار، الأطفال مجانًا، والأسعار سنتفق عليها لاحقًا (ستندمون) تفضلوا بالدخول.» فوق طاولة الردهة توجد باقة من زهور الفلوكس الوردية، عبَّقت بعبيرها الناعم الهواء الحار لمنزل مغلق بعد ظهيرة يوم صيفي. قلت للطفلين: «إلى الدور العلوي!» آخذة بيد طفلتي وأخيها الأصغر، الذي كان قد نام في السيارة، وأخذ يتمسح فيَّ، ناشجًا، وهو يسير. ثم توقفت، وإحدى قدميَّ على أولى درجات السلم، واستدرت لأستقبل، دونما قصد منِّي، صورة امرأة على وجهها علامات طول السهر، مسمرة، نحيلة، لها ملامح أُمٍّ شابة، شعرها معقود فوق قمة رأسها، لها صدغان لم يعودا لحيمين انسيابيين، ورقبة سمراء تطل بمنظر مشدود من العقد العظمية الحادة للترقوة؛ كان هذا في مرآة الردهة التي كنت قد طالعت فيها، آخر مرة نظرت إليها، صورة فتاة عادية الجمال، وجهها غير متأثر بما يجيش داخلها، وناعم كثمرة التفاح، مهما كان ما يخبئ وراءه من ذعر أو اضطراب.

لكنني لم أكن قد استدرت لهذا الغرض؛ أدركت أنني ربما كنت أنتظر أن تنادي أمي، من فوق أريكتها في غرفة الطعام، حيث ترقد والستائر مُسدلة لحجب حر الصيف، تحتسي فناجين الشاي التي لم تُنهِ أيًّا منها قط، وتأكل — كانت، كطفل سقيم، ليس لها مواعيد للوجبات على الإطلاق — سلطانيات صغيرة فيها فاكهة محفوظة وفتات الكعك. تراءى لي أنني لا يمكن أن أغلق الباب ورائي دون أن أسمع صوت أمي الضعيف ينادي، فأشعر بنفسي متثاقلة تمامًا وأنا أهم بإجابتها. كانت تصيح: «من هناك؟»

أخذت طفليَّ إلى غرفة النوم الكبيرة في خلفية المنزل، حيث كنت أنام أنا ومادي. كانت تحوي فوق نوافذها ستائر بيضاء رقيقة، تكاد تكون ناحلة بالية، ومشمعًا مربعًا فوق الأرضية؛ كان بالحجرة سرير يتسع لشخصين، وطاولة عليها حوض وإبريق للاغتسال كنت أنا ومادي نستخدمها كطاولة حينما كنا في المدرسة الثانوية، ودولاب للملابس ذو مرايات صغيرة في الجوانب الداخلية لأبوابه. وأنا أتحدث إلى طفليَّ كنت أفكر — لكن بإمعان، ودون استعجال — فيما كانت تفكر فيه أمي وهي تصيح «من هناك؟» كنت أسمح لنفسي — وكأنني لم أجرؤ على فعل ذلك من قبل — بأن أسمع التماس المساعدة — السافر، آه، السافر والفج والمتضرع على نحو مهين — في نبرة صوتها. كانت الصيحة تتردد كثيرًا، ولا يتغير شيء، دون أي جدوى، حتى صرت أنا ومادي نعتبرها مجرد صوت من الأصوات التي يصدرها المنزل ويتعين معالجة سببها، كي لا تنتهي إلى ما هو أسوأ. كانت إحدانا تقول للأخرى: «اذهبي لتتعاملي مع أمي» أو «عليَّ أن أتعامل مع أمي، لن أستغرق أكثر من دقيقة.»

قد يتضمن الأمر أن نقوم ببعض الخدمات البسيطة والكريهة التي لا تكف عن احتياجها، أو أن نضطر لمنحها خمس دقائق من حديث مبهج على نحو مقتضب، وكنا نفعل ذلك بعدم اكتراث لا يعرف الرحمة لدرجة أننا لم نكن ندرك للحظة حقيقة الأوضاع، من دون أية بارقة شفقة تفك ولو لمرة حصار دموعها المضني الطويل. لكن الشفقة لم تعرف طريقها إلى قلبينا، والدموع كانت لتسيل على أية حال، بحيث كنا ننهزم، فنضطر — رغبةً في إيقاف هذه الضوضاء — للتظاهر بإبداء الحب. لكننا صرنا أكثر دهاءً، وصرنا نقدم العناية الفاترة؛ فنزعنا غضبنا وفراغ صبرنا واشمئزازنا، نزعنا كل المشاعر من تعاملنا معها، كما يحدث عندما يُمنع اللحم عن سجين رغبةً في إسقامه، حتى الموت.

كنا نأمرها أن تقرأ، أن تستمع إلى الموسيقى وتستمتع بتعاقب الفصول وتشعر بالامتنان لأنها لم تُصَب بالسرطان، وأنها أيضًا لا تعاني من أية آلام، وهذا صحيح؛ إن لم يكن الحبس في حد ذاته ألمًا من الآلام. في الوقت نفسه كانت هي تطلب حبنا بكل طريقة تخطر على بالها، دون خجل أو حساسية، بتشبث كتشبث الأطفال. قلت في نفسي: كيف لنا أن نحبها، كانت منابع الحب داخلنا شحيحة، وكان قدر الحب المطلوب منا هائلًا أكثر مما يمكن. ثم إن هذا لم يكن ليغيِّر أي شيء.

كانت تقول: «لقد سُلب مني كل شيء.» كانت تقولها للغرباء، ولأصدقائنا الذين كنا نفشل دائمًا في محاولاتنا أن نعزلهم عنها، ولصديقاتها القديمات اللائي كن يأتين، مدفوعات بالشعور بالذنب، لرؤيتها على فترات متباعدة، كانت تتكلم بنفس الطريقة، بنفس الصوت الثقيل الحزين الذي لم يكن مفهومًا أو لم يكن بشريًّا تمامًا؛ وكنا نضطر لترجمة ما تقول. كانت هذه السلوكيات المسرحية تشعرنا بإذلال يكاد يقتلنا، لكني الآن أرى أنها لولا إصرارها على تغذية تلك الأنانية حتى وهي على شفا كارثة، كانت ستغرق سريعًا في حياة مضجرة كئيبة. ظلت تجعل نفسها على صلة بالعالم قدر ما استطاعت، دون أن تعبأ بمدى تقبل الناس لها؛ كانت لا تكف عن الطواف في المنزل وفي شوارع جوبيلي. أوه، لم تكن تستسلم؛ لا بد أنها ذرفت الدمع وكافحت حتى النهاية في ذلك المنزل الحجري (كما أستطيع أن أتخيل، لكني لن أفعل).

لكني لا أزال أرى الصورة ناقصة؛ صورة أمنا الغريبة الأطوار، وراء ما يمثله الشلل الرعاش من قناع مريع بارد جاثم فوق ملامحها، بتثاقلها وبكائها وشرهها لأن تحظى بالاهتمام متى تسنى لها أن تناله، بعينيها الميتتين الحمراوين، المطلتين بثبات على داخل نفسها؛ وليس هذا كل شيء. فهذا المرض عشوائي وبطيء في تدهوره، فقد كانت في بعض الأصباح (التي أخذت تقل شيئًا فشيئًا وتتباعد فيما بينها) تصحو في حال أفضل، وتخرج للفناء وتسوي نبتة من النباتات بالطريقة البسيطة لربة المنزل، وتقول لنا كلامًا رصينًا وواضحًا ومفهومًا، وتنصت في اهتمام إلى الأخبار. وتحاول، كمن استيقظ من حلم مزعج، أن تعوِّض ما ضاع من الوقت، فترتب المنزل، وتُجبِر يديها المتيبستين المرتجفتين على العمل قليلًا على ماكينة الخياطة، وتصنع لنا أحد أطباقها المميزة؛ كعك الموز أو فطيرة كِريمة الليمون. منذ أن ماتت، أحلم بها من آن لآخر (لم أكن أحلم بها قط حينما كانت على قيد الحياة) وأراها تفعل شيئًا من هذا القبيل، وأفكر: لماذا أضخِّم لنفسي الأمر؟ انظري، إنها على ما يرام، جلُّ ما هنالك أن يديها ترتجفان …

في نهاية فترات الهدوء هذه كان يعتريها نوع من الطاقة الهدامة، فتتحدث على نحو مُلحٍّ بترابط منطقي يقل شيئًا فشيئًا، وتطلب منا أن نضع لها أحمر الخدود ونصفف شعرها؛ وقد تستأجر في بعض الأحيان خيَّاطة لتأتي وتحيك لها بعض الملابس في غرفة الطعام حيث يمكنها أن تراقبها وهي تعمل، وتعود لتمضي وقتها أكثر فأكثر فوق الأريكة. كان هذا زائدًا عن الحد، ومبالغًا فيه من أي وجهة نظر عملية (إذ ماذا كانت حاجتها إلى هذه الملابس، أين كانت سترتديها؟) ومرهقًا للأعصاب لأن الخيَّاطة لم تكن تفهم ما تريده أمي، ولا كنا نحن أيضًا نفهم في بعض الأحيان. أتذكر بعد أن رحلت أنا أنني تلقيت من مادي عدة رسائل حائرة، ومسلية، وعصبية تمامًا، تصف فيها هذه الجلسات مع الخياطة. قرأتُها متعاطفة لكن دون أن أقدر على دخول مناخ الإحباط والخبل الذي أَلِفته يومًا ما والذي كانت طلبات أمي كفيلة بصنعه. على أرض الواقع، لم يكن من الممكن بعثها من جديد، وبدت لي صورة وجهها التي يحملها عقلي مروعة للغاية، وغير حقيقية. بالمثل، كان التوتر المضاعف الناجم عن العيش معها، ومشاعر الهستيريا التي كنت أنا ومادي نبددها في الماضي من خلال قدر هائل من الضحك المر، كل هذا قد بدأ الآن يبدو لي خياليًّا إلى حد ما؛ وشعرت ببوادر إحساس مذنب وسري بالوحشة.

•••

جلست في الغرفة مع طفليَّ فترة قصيرة لأنها كانت مكانًا غريبًا، فبالنسبة لهما لم تكن سوى مكان غريب آخر ليناما فيه. حينما نظرت إليهما في هذه الغرفة شعرت أنهما محظوظان للغاية وأن حياتهما آمنة وسهلة. أظن أن معظم الآباء يفكرون على هذا النحو في وقت من الأوقات. نظرت في دولاب الملابس لكنه كان خاويًا، إلا من قبعة مزينة بزهور من متجر السلع الرخيصة، لا بد أن إحدانا صنعتها لأحد أعياد الفصح المبهجة. حينما فتحت درج طاولة الاغتسال رأيت أنه مكتظ بصفحات من مفكرة مفكوكة الأوراق. قرأت: «سلام أوترخت، عام ١٧١٣، وضع حدًّا لحرب الخلافة الإسبانية.» وتبين لي أن الخط المكتوب كان خطي. من الغريب أنه لا يزال هنا منذ عشر سنوات، والأكثر غرابة، أنه بدا وكأنني كتبته اليوم.

لسبب ما، كان لقراءة هذه الكلمات تأثير غريب عليَّ؛ فقد شعرت كأن حياتي القديمة مبعثرة حولي، في انتظار أن ألتقط شتاتها ثانيةً. لم يراودني هذا الشعور إلا حينها وللحظات قليلة في غرفتنا القديمة. تكشفت أمامي صورة القاعات البنية للمدرسة الثانوية القديمة (مبنًى متهالك منذ ذلك الحين)، وتذكرت ليالي السبت في فصل الربيع، بعد أن يذوب الجليد وتعج المدينة بكل أهل الريف. تذكرتنا ونحن نمشي جيئةً وذهابًا في الشارع الرئيسي، متشابكي الأذرع بصحبة فتاتين أو ثلاثٍ أخريات، إلى أن يخيِّم الظلام، ثم نذهب إلى مرقص آل كي نرقص، تحت مجموعة من الأضواء الملونة الخافتة. كانت نوافذ قاعة الرقص مفتوحة، تسمح بدخول هواء الربيع المنعش وما يحمله من رائحة الأرض والنهر. كانت أيدي الفتيان الذين يعملون في المزارع تُجعِّد بلوزاتنا البيضاء وتوسخها عندما نراقصهم. من الغريب أن تجربةً لم تكن جديرة بالتذكر على الإطلاق حينها (في الواقع، كان مرقص آل مكانًا كئيبًا، وكنا نعتبر طقس المشي جيئةً وذهابًا في الشارع لاستعراض أنفسنا حماقةً وسخفًا، مع أننا لم نكن نستطيع مقاومته) تحولت الآن إلى شيء ذي معنًى بالنسبة لي، ومكتمل؛ كان الأمر يتضمن أكثر من مجرد رقص الفتيات والشارع الوحيد، فقد امتد للمدينة برمتها، نمط شوارعها البدائية وأشجارها العارية وأفنيتها الموحلة بعد زوال الجليد عنها، إلى الطرق الترابية حيث كانت أضواء السيارات تبدو مسددة نحو المدينة، تحت غلالة سماوية شديدة الشحوب.

كنا أيضًا نرتدي أحذية «باليرينا»، وتنورات واسعة ضيقة من الخصر من قماش التافتا الأسود، ومعاطف قصيرة بألوان مثل الأزرق الفيروزي، أو الأحمر الزاهي، أو الأخضر الليموني. وكانت مادي ترتدي قوسًا جنائزيًّا كبيرًا حول رقبة بلوزتها وإكليلًا من الزهور اللؤلؤية الاصطناعية في شعرها. كانت هذه موضات إحدى السنوات التي تلت الحرب، أو هكذا كنا نظن. مادي، هذه نظرتها المتشككة المتألقة، أختي.

•••

سألتُ مادي: «ألا تتذكرين كيف كانت قبل المرض؟»

فأجابت: «لا، لا أستطيع.»

فأقول في تردد: «أظن أنني أستطيع أحيانًا، ليس كثيرًا.» حنين هشٌّ جبان، يحاول العودة إلى حقيقة ألطف.

قالت مادي: «أعتقد أنكِ كان لا بد أن تبتعدي. كان لا بد أن تبتعدي خلال تلك السنوات الأخيرة — القليلة — كي يتأتى لك الحصول على هذه الذكريات.»

كان هذا الموقف الذي قالت فيه: «لا سلوى هنا.»

لم تقل شيئًا آخر سوى أن أمي «كانت تمضي الكثير من الوقت في فرز الأشياء. كل أنواع الأشياء؛ بطاقات التهاني، الأزرار والخيوط. كانت تفرزها وتضعها في أكوام. كان ذلك يجعلها هادئة على مدار الساعة.»

٢

ذهبت لزيارة الخالة آني والخالة لو. هذه ثالث مرة أذهب إليهما منذ عودتي، وفي كل مرة كانتا تمضيان فترة ما بعد الظهيرة في صنع سجاجيد من الخرق المصبوغة. إنهما هرمتان الآن. تجلسان في شرفة صغيرة حارَّة تظللها ستائر من الخيزران. تُشيع حولهما الخرق والسجاجيد التي لم تكتمل بعد نوعًا مبهجًا من الفوضى يحمل ألفة المنازل. لم تعودا تخرجان من البيت، لكنهما تستيقظان مبكرًا، ثم تغتسلان وتضعان المساحيق على وجهيهما ثم ترتدي كلٌّ منهما أحد فساتينها المطبوعة العديمة الشكل والمزينة بأشرطة متعرجة وجديلة بيضاء. ثم تعدَّان القهوة والعصيدة وتنظفان المنزل. تعمل الخالة آني في الطابق الأعلى وتعمل الخالة لو في الأسفل. بيتهما نظيف للغاية، معتم ومنمق، وعبق برائحة الخل والتفاح. بعد الظهيرة تستلقيان ساعة ثم ترتديان فستانيهما لفترة ما بعد الظهيرة، وتضعان بروشين عند الرقبة، ثم تجلسان لمباشرة العمل.

إنهما من النساء اللائي يذوب لحمهن أو يتبدد لسبب غير معلوم مع تقدمهن في السن أكثر فأكثر. لا يزال شعر خالتي لو أسود، لكنه يبدو قاسيًا وجافًّا من غطائه الشبكي مثل شوشات الشعر الميتة التي تكون في نهاية كوز ذرة ناضج. تجلس منتصبة وتحرك ذراعيها اللتين نحلتا حتى ظهر عظمهما بحركات وئيدة وشديدة الإتقان؛ تبدو مثل مصرية فرعونية، برقبتها الطويلة ووجهها الحاد الصغير وبشرتها شديدة السمرة والتجعد. أما خالتي آني — ربما بسبب ما تتمتع به من طابع ألطف، بل ولعوب — فتبدو أكثر هشاشة وتدهورًا. سقط شعرها كله تقريبًا، وباتت ترتدي نوعًا من أغطية الرأس اللطيفة التي ترتديها الزوجات الشابات فوق بكرات الشعر عند ذهابهن للنوم. وهي تلفت نظري لهذا وتسألني: ألا ترينه جذَّابًا؟ إن كلتيهما بارعة في هذه الملاحظات الساخرة الصغيرة، وتجذلان قليلًا من الإشارة إلى كل ما هو بشع فيهما. صُحبتهما مرحة إلى أقصى حد، وحديث إحداهما مع الأخرى يتخذ إطارًا بارعًا من الإغاظة والاحتجاج. لقد تراءت لي لمحات رائعة رأيت فيها نفسي ومادي، وقد تقدم بنا العمر، وجمعتنا ثانيةً علاقة الأخوة بعد أن تبدد كل شيء آخر، ونحن نعد الشاي لقريبة من القريبات، شابة ومحبوبة ولا تمثل أهمية كبيرة لنا، ونتظاهر بنفس هذه العلاقة الممتازة. ما الذي سيعلمه عنا أي شخص؟ أتساءل، وأنا أراقب خالتيَّ المسنتين المسليتين: هل يؤدي الأشخاص المسنون مثل هذه الأدوار النموذجية المبسطة معنا لأنهم يخشون من أن أي شيء آخر أكثر صدقًا سيستنفد صبرنا، أم يفعلون ذلك من باب اللطف — لشغل الوقت الاجتماعي — بينما في الحقيقة هم يشعرون بأنهم بعيدون كل البعد عنا، إلى حد عدم وجود أي إمكانية على الإطلاق للتواصل معنا؟

على أية حال، شعرت أنهما تُبقيانني على مسافة منهما، على الأقل حتى هذه الزيارة الثالثة، حينما أظهرتا أمامي بعض علامات الخلاف بينهما. أعتقد أن هذه أول مرة يحدث فيها ذلك؛ فأنا بالتأكيد لم أرهما تتجادلان قط طوال كل السنوات التي اعتدت أنا ومادي أن نزورهما خلالها؛ ليس من قبيل الواجب فحسب، بل أيضًا لأننا كنا نجد عندهما جو التعقل والسكينة مقابل الفوضى التي نعيش فيها، الميلودراما الرهيبة، في بيتنا بالمدينة.

كانت الخالة آني تريد أن تأخذني إلى الأعلى لتريني شيئًا. فاعترضت خالتي لو، في رفض واستياء، كما لو كان الموضوع برمته مصدر حرج لها. كان هذا الشعور بالرغبة في الكتمان، أسلوب المراوغة المُتَّبع في ذلك البيت، هو الذي جعل من غير الوارد أن أسألهما عما تتحدثان بشأنه.

قالت خالتي لو: «أوه، دعيها تتناول شايها.» فردت خالتي آني: «حسنًا، «بعد» أن تتناول شايها.»

«افعلي ما طاب لك إذن. هذا الطابق العلوي حار.»

«هل ستأتين للأعلى يا لو؟»

«ومن الذي سيراقب الطفلتين إذن؟»

«أوه، الطفلتان، لقد نسيت.»

وهكذا انسحبنا أنا وخالتي آني إلى الأجزاء الأكثر عتمة من المنزل. من الحمق أن خطر لي أنها سوف تعطيني ورقة مالية من فئة الخمسة دولارات. فقد تذكرت حينما كانت معتادة على أن تأخذني إلى الردهة الأمامية بهذه الطريقة التي يلفها الغموض ثم تفتح كيس نقودها وتفعل ذلك. لا أظن أن خالتي لو كانت تعلم شيئًا عن هذا السر أيضًا. لكننا ذهبنا إلى الأعلى، وفي غرفة نوم الخالة آني، التي بدت مرتبة للغاية كما لو لم يستخدمها أحد من قبل، ومغطاة بورق حائط مزهر هادئ، كانت طاولة الزينة مفروشة بأوشحة بيضاء. وكان الجو حارًّا للغاية، كما قالت خالتي لو.

قالت الخالة آني وهي لاهثة الأنفاس قليلًا: «الآن، ائتيني بذلك الصندوق الموضوع على الرف العلوي للدولاب.»

ففعلتُ. ثم فتحته وقالت بمرح المتآمر المتلهف: «الآن، أراهن أنك تتساءلين عما حل بكل ملابس أمك.»

لم يكن هذا الأمر قد خطر على ذهني من قبل. جلستُ فوق السرير، ناسيةً أن الأسرَّة يجب ألَّا يُجلس عليها في هذا المنزل، وأنه كان يوجد في كل غرفة نوم كرسي مستوٍ لهذا الغرض، لكن خالتي آني لم تمنعني، وراحت تخرج الملابس وهي تقول: «لم تذكر مادي شيئًا عنها، أليس كذلك؟»

قلت: «لم أسألها قط.»

قالت: «لا، وما كنت أنا لأسألها. ما كنت لأقول أي كلمة بشأن ملابس أمك لمادي، لكنني رأيت أنني يمكن أن أريها لكِ، ولم لا؟ انظري، لقد غسلنا وكوينا كل ما أمكننا غسله وكيه، أما ما لم نستطع فأرسلناه لمحل التنظيف. دفعت أجرة التنظيف من جيبي. ثم أصلحنا كل ما كان بحاجة منها للإصلاح. إنها جميعها بحالة جيدة. هل ترين؟»

ظللت أنظر وأنا مغلوبة على أمري بينما أخذت هي تعرض عليَّ الملابس الداخلية التي كانت على السطح. أرتني أشياء جرى رَفْيها وإصلاحها بمهارة وجرى تجديد أشرطتها المطَّاطية. أرتني سروالًا تحتيًّا قالت إنه كان باليًا قبل ذلك. ثم أخرجت ملابس النوم، وروبًا، وشالًا ذا رباط يُلبَس للنوم. قالت: «هذا ما كانت ترتديه آخر مرة رأيتها. أظن ذلك، نعم.» ميزت في شجو هذا الشال الدرَّاقي اللون الذي كنت قد أرسلته إليها بمناسبة عيد الميلاد.

«كما ترين، تكاد تكون جديدة. كأنها لم تستعمل بتاتًا.»

قلت: «نعم.»

قالت: «في أسفل الصندوق توجد فساتينها.» وراحت تجيل يديها في الأسفل خلال تلك الحرائر المزهرة والمزركشة — التي تزداد غرابة عامًا بعد عام — التي كانت أمي تتمنى أن ترتديها. حتى الخالة آني كانت تبدي ترددًا في ارتداء هذه الألوان الطاوُسية الزاهية بعدما تخيلت نفسها فيها. سحبت بلوزة من الأسفل وقالت: «غسلت هذه غسيلًا يدويًّا. تبدو كالجديدة. ثمة معطف معلق في الصوان، في حالة ممتازة؛ فهي لم ترتدِ معطفًا قط، ارتدته فقط حين حجزت في المستشفى. ألن يكون مقاسك؟»

قلت: «لا.» كرَّرتُ «لا» لأن الخالة آني كانت تتحرك بالفعل نحو الصوان، فأردفت: «لقد اشتريت مؤخرًا واحدًا جديدًا. لدي عدة معاطف يا خالة آني!»

قالت الخالة آني بطريقتها لطيفة العناد: «ولمَ تشترين، بينما توجد أشياء بجودة الأشياء الجديدة تمامًا؟»

قلت: «أفضِّل أن أشتري.» أسِفت فور شعوري بالفتور في صوتي. ومع ذلك أردفتُ قائلة: «حينما أحتاج شيئًا، أذهب وأشتريه.» هذا الإيحاء بأنني لم أعد فقيرة جعل نظرة عتاب وتحفظ تعلو وجه خالتي. لكنها لم تقل شيئًا. رحت أنظر إلى صورة كانت معلقة فوق المكتب للخالة آني والخالة لو وإخوانهما الكبار وأمهم وأبيهم. كانوا يحدقون فيَّ هم أيضًا بوجوه رزينة علتها نظرة اتهامية محتجة، لأنني اجتزت الحالة المادية المتواضعة التي كانت تشكل العقبة الكئود في حياتهم. يجب أن يُستخدم كل شيء، يستخدم إلى أن يبلى، ويُدخر ويُصلح ويُصنع منه شيء جديد ليستخدم ثانيةً؛ كان لا بد أن تسمل الملابس. شعرت أنني جرحت مشاعر الخالة آني، والأكثر، أنني على الأرجح أكدت ما توقعته خالتي لو، لأنها كانت حساسةً إزاء بعض المواقف الدنيوية التي كانت أعقد من أن تهتم بها الخالة آني، وربما قالت إنني لن أرغب في ملابس أمي.

قالت الخالة آني: «لقد رحلت بأسرع مما توقع أي أحد.» استدرتُ مندهشة. فأضافت: «أمكِ.» تساءلتُ عما إذا كانت الملابس هي الشيء الأهم الباقي، لعل الملابس كانت مجرد مقدمة للحديث عن موت أمي، وهو أمر ربما شعرت الخالة آني أنه جزء ضروري من زيارتنا. أما الخالة لو فستشعر شعورًا مختلفًا؛ فهي لديها كره نابع من الخرافات لبعض طقوس التأثُّر بتذكر الموتى، وحديث كهذا لم يكن ليجري قط في وجودها.

قالت الخالة آني: «بعد شهرين من دخولها المستشفى. رحلت بعد شهرين.» رأيتها تبكي ذاهلة، كعادة كبار السن، بدموع زهيدة بائسة. ثم سحبت من ثوبها منديلًا ومسحت وجهها.

قالت: «لم تقل لها مادي سوى أنها ستدخل لتجري فحصًا طبيًّا، وأن الأمر سيستغرق نحو ثلاثة أسابيع. دخلت أمكِ وهي تظن أنها ستخرج في غضون ثلاثة أسابيع.» كانت الخالة آني تهمس كما لو كانت خائفةً من أن يسمعنا أحد. واصلت: «هل تعتقدين أنها كانت راغبة في البقاء هناك حيث لا أحد يستطيع أن يفسر ما تقول، وحيث لن يسمحوا لها بأن تبرح فراشها؟ كانت تريد العودة إلى المنزل.»

قلت: «لكن مرضها كان أشد من أن يُسمح لها بذلك.»

«لا، هذا ليس صحيحًا، كانت على حالها المعتادة، تتدهور قليلًا شيئًا فشيئًا بمضي الوقت. لكن بعد أن دخلت هناك شعرت بأنها سوف تموت، كل شيء من حولها كان مغلقًا، فتدهورت سريعًا.»

قلت: «لعل هذا كان سيحدث على أية حال. ربما عاجلًا أو آجلًا.»

لم تُعرنِي الخالة آني اهتمامًا، وأكملت: «ذهبتُ لرؤيتها، ولشدَّ ما سُرَّت لرؤيتي لأنني كنت أستطيع تفسير ما تقوله. قالت: خالتي آني، إنهم لن يبقوني هنا إلى الأبد، أليس كذلك؟ فقلت لها: بلى.

فقالت أمكِ: «خالتي آني، اطلبي من مادي أن تعيدني إلى المنزل ثانيةً وإلا فسأموت.» لم تكن ترغب في الموت. ألم يخطر على بالك قط أن إنسانًا يمكن أن يرغب في الموت لا لسبب سوى أن الجميع من حوله يرون أنه لا داعي لبقائه على قيد الحياة؛ لذلك أخبرتُ مادي أن تخرجها، لكنها لم تقل شيئًا. كانت تذهب إلى المستشفى يوميًّا وترى أمك، ولا تأخذها إلى المنزل. قالت لي أمكِ إن مادي قالت لها: «لن آخذكِ إلى المنزل.»»

قلت: «لم تكن أمي تقول الحق في بعض الأحيان. تعلمين هذا خالتي آني.»

«هل نما إلى علمكِ أن أمك خرجت من المستشفى؟»

أجبتها: «لا.» لكنني لم أشعر بالمفاجأة، لم أشعر إلا بشعور بالخوف يسري في جسدي، توق إلى ألا أعرف؛ وفوق هذا شعور بأنني أعلم مسبقًا ما سيجري إخباري به، دائمًا كنت أعلمه.

«مادي، ألم تخبرك؟»

«لا.»

«حسنًا لقد خرجتْ. خرجَتْ من الباب الجانبي الذي تدخل منه سيارة الإسعاف، إنه الباب الوحيد الذي لا يُغلق. حدث ذلك ليلًا حينما لم يكن هناك عدد كبير من الممرضات لمراقبة المرضى. ارتدت روبها وخُفَّها — كانت هذه أول مرة ترتدي شيئًا بنفسها منذ سنوات — وخرجت من المستشفى. كان ذلك في يناير، فوجدت الجليد يتساقط، لكنها لم تعد إلى الداخل. كانت قد توغلت مبتعدة في الشارع حينما أمسكوا بها. وبعد ذلك ثبتوا لوحًا على فراشها.»

«الجليد، الروب والخف، لوح فوق الفراش!» صورة كنت أميل كثيرًا إلى مقاومتها. ومع ذلك لم يكن لدي ثمة شك بأنها حقيقية، كل هذا كان حقيقيًّا وكما حدث تمامًا. كان هذا ما يمكن أن تفعله، فكل حياتها التي كنت أعرفها خلالها أدت إلى ذلك الهروب.

قلت: «إلى أين كانت ذاهبة؟» لكني كنت أعلم أن هذا السؤال لم تكن له إجابة.

«لا أدري. ربما لم يكن ينبغي أن أخبرك. أوه، هيلين، حينما عثروا عليها حاولت أن تركض. حاولت أن «تركض».»

الهروب الذي يكدر الجميع. حتى وراء وجه خالتي المألوف الناعم، توجد امرأة أخرى مسنة وأكثر بدائية، يمكن أن ترتعب في مكان لم يمسه إيمانها قط.

بدأت تطوي الملابس وتضعها ثانيةً في الصندوق. وقالت: «ثبتوا لوحًا بالمسامير فوق فراشها. لقد رأيته. لا يمكنِك أن تلومي الممرضات. إنهن لا يستطعن مراقبة الجميع. ليس لديهن وقت لذلك.

قلت لمادي عقب الجنازة: «مادي، أتمنى ألَّا يحدث لك مثل هذا أبدًا.» لم أستطع منع نفسي، فكان هذا ما قلته.» جلست هي الأخرى على الفراش الآن، وراحت تطوي الملابس وتعيدها إلى الصندوق، وهي تبذل جهدًا كي تعيد صوتها إلى نبرته العادية؛ وسرعان ما نجحت في ذلك. فمن ذا الذي يمكن أن يعيش عمرًا مديدًا كهذا من دون أن يكون قد اكتسب حنكة في اللوعة وتمالك النفس؟

قالت أخيرًا: «وجدنا الأمر صعبًا. أنا ولو وجدنا أن هذا الأمر كان صعبًا.»

أهذه آخر وظيفة يمكن أن تؤديها امرأة عجوز، بعد صنع سجاد الخِرَق وإعطائنا ورقات الخمسة دولارات؛ أن تطمئن إلى أن هواجس العذاب التي انتابتنا موجودة معنا، لم يفلت منها أحد؟

كانت تخشى مادي؛ ومن خلال هذا الخوف نبذتها للأبد. فكرت فيما كانت مادي قد قالته: لا يفكر الجميع بالطريقة نفسها.

•••

حينما عدت إلى البيت كانت مادي في المطبخ الخلفي تعد سلاطة، وكانت مستطيلات من ضوء الشمس ساطعة فوق مشمع الأرضية الخشن. كانت مادي قد خلعت حذاءها ذا الكعب العالي، ووقفت هناك حافية القدمين. المطبخ الخلفي عبارة عن غرفة كبيرة لطيفة غير مرتبة تطل، من وراء الموقد ومناشف تجفيف الأطباق، على الفناء الخلفي المنحدر، ومركز إنعاش القلب والرئتين، والنهر السبخي اللامع الذي يكاد يتحلق حول مدينة جوبيلي. طفلاي اللذان كانا قد شعرا بشيء من الكبت في البيت الآخر بدآ على الفور يلعبان تحت الطاولة.

قالت مادي: «أين كنتِ؟»

«لا عليكِ. كنت أزور الخالتين.»

«كيف حالهما؟»

«بخير. لا شيء يقهرهما.»

«حقًّا؟ نعم، أظن أنهما كذلك. لم أرهما منذ فترة. في الواقع لم أعد أرهما كثيرًا.»

قلت: «حقًّا.» وعلمت مادي حينئذٍ ما أخبرتاني به.

«كانتا قد بدأتا تضغطان على أعصابي قليلًا، بعد الجنازة. فريد وفَّر لي هذه الوظيفة وكل شيء وكنت مشغولة للغاية …» ثم نظرت إليَّ، تنتظر في صبر ما سأقول، وعلى وجهها ابتسامة تشي بشيء من الاستهزاء.

قلت في رفق: «لا تشعري بالذنب مادي.» طوال هذا الوقت كان الطفلان يركضان جيئةً وذهابًا ويتصايحان بين أرجلنا.

قالت: «لا أشعر بالذنب. من أين أتيتِ بهذا؟ أنا لا أشعر بالذنب.» وذهبت لتشغل المذياع، وهي تتكلم وظهرها إليَّ. «سيتناول فريد الطعام معنا ثانيةً لأنه وحيد. لقد أحضرت بعض توت العليق للتحلية بعد الطعام. موسم التوت هذا العام انتهى تقريبًا. هل تبدو لك الحبات جيدة؟»

قلت: «جيدة تمامًا. هل تريدين مني أن أُعِدَّها؟»

قالت: «لا بأس. سأذهب لأحضر السلطانية.»

دخلت حجرة الطعام وعادت حاملةً سلطانية زجاجية كبيرة للتوت.

قالت: «لم أستطع التحمل. أردت حياتي.»

كانت تقف على الدرجة الصغيرة الموجودة بين المطبخ وحجرة الطعام، وفجأة انزلقت منها السلطانية، إما لأن يدها بدأت ترتجف أو لأنها لم تكن قد أمسكتها من البداية على النحو الصحيح؛ كانت السلطانية قديمة وفاخرة وثقيلة للغاية. انزلقت من يديها وحاولت أن تمسك بها لكنها تهشمت على الأرض.

بدأت مادي تضحك. وقالت: «أوه، يا للجحيم! أوه، اللعنة، أوه هيل … ين» مستخدمةً واحدة من عبارات اليأس الحمقاء القديمة التي كنا نستخدمها. «انظري ماذا فعلتُ الآن. وأنا حافية القدمين أيضًا. ائتيني بمقشَّة.»

«استردي حياتك يا مادي. اقتنصيها.»

قالت مادي: «نعم، سأفعل. سأفعل.»

«ارحلي. لا تمكثي هنا.»

«حاضر، سأفعل.»

ثم انحنت وراحت تلتقط جُذاذات الزجاج المكسر، ووقف طفلاي إلى الخلف يرقبانها في خشية بينما كانت هي تضحك وتقول: «لم أخسر شيئًا. لدي رف كامل مليء بالسلطانيات الزجاجية. لدي من السلطانيات الزجاجية ما يكفيني لبقية عمري. أوه، لا تقفي هناك تنظرين إليَّ، اذهبي وأتيني بمقشَّة!» فذهبتُ إلى المطبخ أبحث في أنحائه عن مقشَّة وقد بدا أنني نسيت مكان وضعها. وقالت مادي: «لكن لمَ لا أستطيع يا هيلين؟ لماذا لا أستطيع؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤