المكتب

لاح في خاطري — ذات مساء، فيما كنتُ أكوي قميصًا — الحل لحياتي. كان حلًّا بسيطًا لكنه جريء. دخلت إلى حجرة المعيشة، حيث كان زوجي يشاهد التلفاز، وقلت: «أعتقد أنني بحاجة إلى مكتب.»

بدت الفكرة عجيبة، حتى بالنسبة لي. لماذا أنا بحاجة إلى مكتب؟ فلديَّ منزل جميل ورحب، ومطلٌّ على البحر، كما أنه يضم أماكن ملائمة لتناول الطعام والنوم والاستحمام وتجاذب أطراف الحديث مع الأصدقاء، وبه حديقة؛ إنه منزل لا يفتقر إلى الرحابة.

هذا صحيح. لكني ها هنا أكشف لكم سرًّا، وهو ليس بالأمر الهين عليَّ: أنا كاتبة. لا يبدو هذا القول ملائمًا، يبدو غايةً في العجرفة والزيف، أو على الأقل غير مقنع. فَلْأحاول مرة أخرى: أنا أكتب. هل هذا أفضل؟ «أحاول» أن أكتب. هذا يزيد الطين بلة. تواضع زائف. ماذا إذن؟

لا يهم. بغض النظر عن الصياغة، تخلق الكلمات مساحتها من الصمت، تخلق لحظة المجاهرة الهشة تلك. لكن الناس طيبون، فسرعان ما يبتلع الصمت اهتمام الأصوات الودودة، التي تصيح بأشياء مختلفة من قبيل: يا له من أمر رائع! هنيئًا لك، وهذا مثير للاهتمام. يسألونني في حماس: ماذا تكتبين؟ فأجيبهم بأنني أكتب الأدب القصصي، حاملة خزيي حينئذٍ بهدوء، بل وبشيء من جسارة لم تكن يومًا من سماتي؛ ومجدَّدًا، تكسر مثل هذه الأصوات المهيَّأة اللبقة — والتي، مع ذلك، تكون قد استنفدت ذخيرتها من العبارات المشجعة، ولم يَعُدْ بوسعها سوى قول: «أجل!» — دوائر الهلع الملموسة.

قلت لزوجي: ها هو السبب الذي أود امتلاك مكتب من أجله؛ لأكتب فيه. أدركت على الفور أن هذا بدا مطلبًا صعبًا، شيئًا من ترف استثنائي. كي أكتب — كما يعلم الجميع — أحتاج إلى آلة كاتبة أو على الأقل قلم رصاص وبعض الأوراق وطاولة وكرسي؛ وأنا لديَّ كل هذه الأشياء في ركن بغرفة نومي، لكنني الآن أريد مكتبًا أيضًا.

إذا ما تطرقنا إلى هذا الأمر، لم أكن واثقة حتى أنني سأمارس الكتابة فيه. لعلي سأجلس هناك وأحدِّق في الجدار؛ وحتى هذا الاحتمال لم يكن سيئًا بالنسبة لي. في حقيقة الأمر، إن وقع كلمة «مكتب» هو ما أعجبني، وقعها الذي يوحي بالوقار والسلام، والعزم والأهمية. لكنني لم أهتم بذكر هذا الجانب لزوجي؛ لذا شرعت بدلًا من ذلك في شرحٍ بلاغيٍّ منمَّق دار — على ما أذكر — على هذا النحو:

المنزل مكان ملائم ليعمل به الرجل؛ فهو يحضر عمله إلى المنزل، فتُخلى له مساحة ليعمل بها، ويعيد المنزل تنظيم نفسه على أفضل نحو ممكن حوله. يدرك الجميع أنه يعمل؛ فليس من المنتظر منه أن يجيب على الهاتف، أو يبحث عن أشياء مفقودة، أو يتحقَّق من سبب بكاء الأطفال، أو يُطعِم القطة. بإمكانه غلق بابه. (قلتُ) تخيَّل لو أن أمًّا أغلقت باب حجرتها، وأطفالها يعلمون أنها خلف ذلك الباب؛ يا إلهي! إن الفكرة في حد ذاتها مثيرة لحنقهم. أيضًا تبدو المرأة التي تجلس محدقةً في الفراغ، في مكان ليس به زوجها أو أولادها، مخالفة للطبيعة تمامًا. من ثَمَّ، المنزل لا يعني الشيء نفسه للمرأة، فهي ليست بشخص يأتي إلى المنزل، يحقِّق منه نفعًا، ثم يغادره مرة أخرى. إنها «هي» المنزل، يستحيل الفصل بينهما.

(وهذا حقيقي، بالرغم من أنني كعادتي حين أجادل حول شيء أخشى أنني لا أستحقه، أصوغ حديثي بمصطلحات تأكيدية وعاطفية أكثر مما ينبغي. في أوقات بعينها — ربما في أمسيات الربيع الطويلة، بينما الجو لا يزال مطيرًا وكئيبًا، وقد أزهرت بصيلات النبات الباردة، والضوء خافت للغاية بما لا يُمنِّي بالسباحة في البحر — أفتح النوافذ وأشعر بالمنزل يتقلص عائدًا إلى الخشب والجص وتلك المواد البسيطة المصنوع منها، والحياة بداخله تهمد، فيتركني في العراء، خالية الوفاض، لكنني أشعر حينها برجفة من الحرية عنيفة وجامحة، أشعر بوحدة غاية في القسوة والمثالية لدرجةٍ لا أتحملها في تلك اللحظة. ثم أدرك كم أنني طيلة الوقت محمية ومثقلة بالأعباء، وكم أنني مستدفئة ومقيدة بإصرار.)

كل ما قاله زوجي: «إذن، لتمضي قدمًا، إذا ما استطعتِ العثورَ على مكان رخيص بالحد الكافي.» إنه ليس مثلي، هو لا يرغب حقًّا في سماع تفسيرات. كثيرًا ما تسمعه يردد — ودون أدنى شعور بالندم: إن قلوب الآخرين كتب مغلقة.

حتى ذلك الوقت لم أعتقد أن رغبتي هذه شيء يمكن تنفيذه. ربما — في الواقع — بدا لي أنها أمنية غير ملائمة إلى حد يتعذَّر معه تحقيقها. كان من الأيسر كثيرًا أن أطلب معطفًا من المنك أو عقدًا من الألماس؛ فهذه أشياء تحصل عليها النساء. استقبل أولادي مخططاتي، عندما علموا بها، بأكثر أساليب اللامبالاة والارتياب إثارةً، ومع ذلك ذهبت إلى مركز التسوق الذي يبعد شارعين عن منزلي؛ حيث لاحظت على مدى عدة شهور، ودون أن أعتقد أن هذا يمكن أن يمُتَّ لي بصلةٍ، بضعَ لافتاتٍ مكتوب عليها «للإيجار» معلَّقة على نوافذ الأدوار العليا لمبنى به صيدلية وصالون تجميل. تملَّكَني شعور بالانعدام التام للواقعية وأنا أصعد الدرج؛ إن الاستئجار بالتأكيد عملية معقَّدة، هذا في حالة استئجار المكاتب؛ فالمرء لا يطرق باب العقار الشاغر ببساطة وينتظر السماح له بالدخول، فالأمر ينبغي أن يتم عن طريق وسطاء، بالإضافة إلى ذلك، قد يطلبون مبلغًا طائلًا.

حسبما جرت الأمور، لم أضطر حتى إلى طرق الباب. خرجت امرأة من إحدى المكاتب الفارغة وهي تجر مكنسة كهربائية، وتدفعها بقدمها نحو الباب المفتوح على الناحية الأخرى من الردهة، والذي كان من الواضح أنه يؤدي إلى شقة في الجزء الخلفي من البناية. كانت المرأة تعيش مع زوجها في هذه الشقة، وكان لقب العائلة «مالي»، وكانا بالطبع مَن يمتلكان البناية ويؤجِّران المكاتب. أخبرتني المرأة أن الغرف التي كانت تنظِّفها للتوِّ مجهَّزَةٌ لتلائِم عيادة طبيب أسنان، ومن ثَمَّ لن تثير اهتمامي، لكنها ستأخذني لأتفقَّد مكانًا آخَر. دعتني إلى شقتها في حين وضعت المكنسة الكهربائية جانبًا وجلبت مفتاحها. أخبرتني — بتنهد لم أستطع تفسيره — أن زوجها ليس بالمنزل.

كانت السيدة مالي امرأة سوداء الشعر رقيقة المظهر، ربما كانت في أوائل الأربعينيات، متسخة لكنها لا تخلو من مسحة جاذبية، مع تلك اللمسات العشوائية للأنوثة؛ كالخط الرفيع من طلاء الشفاه اللامع، والخفَّين المكسُوَّين بالريش الوردي اللذين يغطيان قدمين ناعمتين متورمتين. كانت تتسم بالسلبية المتأرجحة، مع ذلك المظهر الموحي بالإرهاق والخوف الصامت، مما يعكس حياةً أُفنِيت في الاعتناء الشديد برجل قوي وسريع الغضب ومتواكل. من المستحيل تحديد مقدار ما رأيته من هذه الملاحظات منذ الوهلة الأولى، ومقدار ما قررتُ بشأنه لاحقًا، لكني اعتقدتُ بالفعل أن ليس لديها أطفال، فضغوط حياتها — أيًّا كانت — لم تسمح بذلك. وفي هذا الأمر لم أكن مخطئة.

كان واضحًا أن الحجرة التي كنتُ منتظرةً فيها مزيج ما بين حجرة معيشة ومكتب. كان أول الأشياء التي لاحظتها نماذج لسفن — من طراز الغليون، وسفن شراعية سريعة، وعابرات محيطات ضخمة — مرصوصة فوق الطاولات وأعتاب النوافذ والتلفاز. وفي الأماكن التي لا تتواجد بها نماذج السفن يوجد أُصُص نباتات ومجموعة مما يُسمَّى في بعض الأحيان بالتحف «الذكورية»؛ رءوس غزلان من البورسلين، وخيول برونزية، وطفايات سجائر ضخمة من مادة معرقة براقة. وعلى الجدران، عُلِّقَت صور فوتوغرافية وأشياء ربما كانت شهادات علمية موضوعة في براويز. في إحدى الصور يظهر كلب بودل وكلب بول دوج، يرتديان ملابس ذكورية وأنثوية، متخذَيْن وقفة عاطفية بخجل حزين، ومكتوب على الصورة «أصدقاء العمر». مع ذلك، كانت ثمة صورة تستحوذ على الحجرة بإضاءتها وبروازها المطلي بالذهب؛ كانت الصورة لرجل وسيم أشقر في منتصف العمر، يجلس وراء مكتب، يرتدي بذلة عمل رسمية وتشع منه سيماء النجاح والتفاؤل واللطف. وأيضًا، ربما بالنظر للأمر الآن، اتضح لي أن في الصورة شعورًا واضحًا بالارتباك كذلك، شيئًا من فقدان الثقة تملَّك الرجل في هذا الدور الذي يؤديه، لديه تلك النزعة للانبساط بإسهاب وإصرار بالغين، وهذا — برغم كل شيء — ربما يؤدي إلى كارثة كما يعلم الجميع.

دعنا من آل مالي. ما إن رأيتُ ذلك المكتبَ حتى رغبتُ في استئجاره. كان أفسح مما أردتُ ومقسَّمًا بطريقة تلائم عيادة طبيب. (أخبرتني السيدة مالي بأسلوبها النادم الذي يضنُّ بالمعلومات أن إخصائي تقويم العمود الفقري بالمعالجة اليدوية كان يعمل في هذا المكتب، لكنه غادره.) كانت الجدران باردة وجرداء، بيضاء مع شيء من اللون الرمادي، لتقليل أثر حدة اللون على العين. وبما أنه لا يوجد أطباء في المشهد، ولم يكن هناك لبعض الوقت، كما أخبرتني السيدة مالي بصراحة، عرضتُ عليها دفع خمسة وعشرين دولارًا شهريًّا، فأخبرتني أن عليها التحدث مع زوجها.

عند قدومي في المرة التالية كان عرضي قد حظي بالقبول، والتقيت السيد مالي شخصيًّا. شرحت له — كما فعلتُ مع زوجته سابقًا — أنني لست بحاجة إلى استخدام مكتبي أثناء ساعات العمل الاعتيادية، بل أثناء العطلات، وفي المساء أحيانًا. سألني عن سبب احتياجي للمكتب، فأخبرته دون أن أتساءل أولًا عمَّا إذا كان يتعيَّن عليَّ قول إنني أمارس الكتابة الاختزالية.

استوعب الرجل المعلومة بروح مرحة وقال: «آه، أنت كاتبة.»

«حسنًا. نعم، أنا أكتب.»

قال بأسلوب ودود: «إذن سنبذل قصارى جهدنا لنضمن لك الشعور بالراحة هنا، فأنا رجل أعشق الهوايات أيضًا، فكل نماذج السفن التي ترينها هذه أصنعها بنفسي في أوقات الفراغ، إنه أمر رائع لتهدئة الأعصاب؛ فالناس بحاجة إلى شغل أنفسهم بشيء لتهدئة أعصابهم. أحسب أن الأمر نفسه ينطبق عليك.»

«شيء من هذا القبيل.» قلتها له موافقةً إياه في تصميم، بل وشاعرةً بالارتياح لأنه نظر إلى تصرُّفي في هذا الضوء المبهم المتسامح. على الأقل لم يسألني مثلما توقَّعْتُ إلى حد ما عمَّن سيعتني بالأطفال، وعمَّا إذا كان زوجي قد وافق. عشرة أعوام — أو ربما خمسة عشر عامًا — أوهنَتْ ذلك الرجل الذي يظهر بالصورة وزادته بدانةً وهزمته بدرجة بالغة؛ فالآن تتراكم على أردافه وفخذيه كمية هائلة من الدهون، مما يجعله يتحرك متأوِّهًا حاملًا كومة من الشحم اللين ومتثاقِلَ الخطى في إرهاق أمومي، وقد بهت لون عينيه وشعره، وانطمست ملامحه، وتهافت التعبير اللطيف النهم إلى تعبير يعكس هوانًا مزعجًا وارتيابًا مزمنًا. لم أنظر إليه، ولم أخطط عند تفكيري في استئجار مكتب أن أحمل على عاتقي عبء التعرُّف إلى مزيد من الأشخاص.

•••

انتقلت إلى المكتب في العطلة، دون مساعدة من عائلتي التي كان من الممكن أن تكون من اللطف لتقدِّم لي المساعدة. أحضرت آلتي الكاتبة وطاولة صغيرة قابلة للطي وكرسيًّا، إضافةً إلى طاولة خشبية صغيرة وضعت فوقها موقدًا كهربيًّا، وغلَّاية، ووعاءً به قهوة سريعة التحضير، وملعقة وكوبًا أصفر كبيرًا بيدٍ. هذا كل شيء. تأملت في رضى الجدران الجرداء، وقطعَ الأثاث الأساسية زهيدة القيمة، والغياب الملحوظ للأشياء التي تحتاج إلى التنظيف أو الغسل أو التلميع.

لم يكن المنظر سارًّا للغاية للسيد مالي، الذي طرق باب مكتبي بعد أن استقررتُ على الفور، وقال إنه يود شرحَ بعض الأمور لي؛ أمور تتعلق بفك المصباح في الحجرة الخارجية، التي لن أحتاجها، وعن جهاز التدفئة، وكيفية التعامُل مع مظلة النافذة. تطلَّعَ في الأشياء حوله بأسًى وحيرة وقال إن المكان غير مريح إطلاقًا لسيدة.

قلت: «إنه يناسبني تمامًا.» ليس بأسلوب رادِعٍ كما أردت، لأنني دائمًا ما أميل إلى استرضاء الناس الذين لا أحبهم بغير سبب وجيه، أو ببساطة لسبب لا أود معرفته. في بعض الأحيان أقدِّم لهم قرابين منمَّقَة من المجاملات، على أمل — ينمُّ عن حماقة — أنهم سيرحلون ويتركونني وشأني.

«إن ما تحتاجينه هو مقعد جميل مريح تجلسين عليه، فيما تنتظرين الوحي ليأتيك. لديَّ مقعدٌ في القبو، لديَّ شتى الأشياء هناك منذ أن تُوفِّيَتْ أمي العام الماضي. هناك أيضًا سجادة صغيرة مطوية في زاوية ما، لا أحد يحتاج إليها. بإمكاننا إجراء بعض التحسينات في هذا المكان بحيث يكون أكثر راحة ودفئًا لك.»

قلت له: لكن حقًّا، حقًّا أنا أحب هذا المكان على هذه الحال.

«إذا أردتِ أيضًا وضع مزيد من الستائر، فسأسدِّد لك ثمن لوازمها. إن المكان بحاجة إلى لمسة مبهجة، أخشى أن تصبحي سوداوية بجلوسكِ هنا.»

قلت: كلا، أنا واثقة من أن هذا لن يحدث. وضحكت.

«لو كنتِ رجلًا، لكان الأمر مختلفًا؛ فالمرأة ترغب الأشياء أكثر دفئًا قليلًا.»

نهضتُ، وسرتُ باتجاه النافذة، ونظرت من بين شرائح الستارة المعدنية إلى الشارع الخاوي كعادته أيام الآحاد، لأتحاشى الضعف الاتهامي الذي يطلُّ من وجهه السمين؛ وجربت الحديث بنبرة باردة كثيرًا ما أسمعها تتردد في ذهني لكنها تواجه صعوبةً بالغةً في الخروج من فمي الجبان. «سيد مالي، من فضلك لا تزعجني بهذا الأمر أكثر من ذلك. أخبرتك أن المكان يلائمني. لديَّ كل ما أحتاج إليه. شكرًا لك على إخباري بأمر المصباح.»

كان أثر كلامي مدمِّرًا بما يكفي ليشعرني بالخجل. رد بكلمات مقتضبة وبحزن متحفظ: «بالطبع لم أتصور أنني أضايقك. لم أرغب عند تقديم تلك المقترحات إلا في راحتك الشخصية. لو أدركت أنني أشكِّل عائقًا لك، لغادرت قبل ذلك.» عندما غادر شعرتُ بأنني أفضل حالًا، بل وبقليل من البهجة لما حقَّقْتُه من نصر على الرغم من شعوري بالخجل للسهولة التي جرى بها الأمر. قلت في نفسي إنني كنتُ سأردعه عاجلًا أو آجلًا، وكان من الأفضل حدوث ذلك في البداية.

في عطلة نهاية الأسبوع التالية، طرق بابي، وقد تعاظَمَ تعبير الإهانة على وجهه بدرجة كافية تقريبًا ليبدو تعبيرًا ساخرًا — مع ذلك — من جانب آخَر كان تعبيرًا حقيقيًّا فشعرت بانعدام الثقة في نفسي.

قال: «لن آخذَ سوى دقيقة من وقتك. لم أقصد أبدًا أن أكون مصدرًا للإزعاج. أنا لم أُرِدْ سوى إخبارك أنني آسِف لمضايقتك في المرة الماضية وأعتذر لك. ليتك تقبلين هذه الهدية البسيطة.»

كان يحمل نبتة لم أعرف اسمها؛ كانت لها أوراق سميكة ولامعة، ومزروعة في أصيص ملفوف بإسراف في ورق قصديري وردي وفضي.

قال وهو يضع النبتة بتنسيق في إحدى زوايا الحجرة: «إذن، لا أريد أن يكون هناك أية مشاعر سلبية بيننا. أعترف بمسئوليتي عما حدث. وفكرت في أنك قد لا تقبلين قطع أثاث، لكن ما المانع من نبتة صغيرة جميلة، إنها ستضفي البهجة على المكان من حولك.»

كان من المستحيل في تلك اللحظة أن أخبره أنني لا أريد نباتًا؛ إنني أكره النباتات المنزلية. أخبرني كيفية الاعتناء بها، وكم مرة ينبغي ريُّها وما إلى ذلك؛ شكرته. لم يكن بوسعي فعل شيء آخَر، وترسَّخَ لديَّ شعور منفر بأن وراء ما يقدِّمه من اعتذارات وهدايا إدراكًا جيدًا لموقفي هذا، وأن هذا بطريقة ما أشْعَرَه بالرضى. واصَلَ حديثه، مستخدمًا كلمات «مشاعر سلبية»، «مستاءة»، «أعتذر». حاولت مرة مقاطعته، بنِيَّة أن أوضِّح له أنني قد أعددت لمنطقة في حياتي لا تدخلها مشاعر سلبية أو إيجابية، وأن بيني وبينه — في واقع الأمر — لا داعي لأية مشاعر من الأساس؛ لكن جال بخاطري أن هذه خطوة مستحيلة. كيف سأواجه علانيةً هذا التوق للتودُّد؟ هذا إلى جانب أن النبتة في ورقها اللامع تثير فيَّ شعورًا بالحيرة.

قال لي بأسلوب مَن يضع كافة الاختلافات التعيسة بيننا وراء ظهره: «كيف تُبلِين في الكتابة؟»

«أُبلي فيها كالمعتاد.»

«حسنًا، إذا نفِدَت ذخيرتك من الأشياء التي تريدين الكتابة عنها يومًا، فلديَّ مخزون هائل منها.» صمت برهةً ثم قال بشيء من الابتهاج الأليم: «لكن أعتقد أنني أستنفد وقتك هنا.» كان ذلك اختبارًا لي، لكني لم أَجتَزْهُ. ابتسمتُ، محدِّقةً في تلك النبتة، وقلت إنه لا بأس.

«كنتُ أفكر توًّا في الرجل الذي مكث هنا قبلكِ. اختصاصي المعالجة اليدوية. كان بإمكانك تأليف كتاب عنه.»

اعتدلتُ متخذةً وضعية إنصات، وتوقَّفَتْ يدي عن الحوم فوق المفاتيح؛ حيث إنه إذا كان الجبن وعدم الصدق أسوأ عيوبي، فالفضول بالتأكيد عيب آخَر.

«لقد أسَّس عيادةً ناجحةً هنا، لكن المشكلة الوحيدة أنه كان يُجرِي تقويمات أكثر من تلك المدرجة في كتاب تقويم العمود الفقري بالمعالجة اليدوية. أوه، كان يقوِّم جميع أجزاء الجسم. جئتُ إلى هنا بعد أن رحل وماذا وجدتُ في ظنِّك؟ أجهزة عازلة للصوت! كانت هذه الحجرة بكاملها مزوَّدة بأجهزة عازلة للصوت، كي يجري عمليات التقويم دون أن يزعج أحد. هذه الحجرة التي تجلسين فيها لكتابة قصصك.

علمنا بالأمر للمرة الأولى عندما طرقت سيدة بابنا ذات يوم، وطلبَتْ أن أعطيها المفتاح الرئيسي لعيادته؛ فقد أغلق الباب في وجهها.

أعتقد أنه قد سئم من معالجة حالتها. أعتقد أنه أدرك أنه أخذ يدق على عظامها لوقت طويل. كانت سيدة متقدمة في العمر، وهو لا يزال شابًّا. كانت له زوجة شابة جميلة وطفلان من أجمل الأطفال الذين يمكنك رؤيتهم. هذا جزء قذر من الأشياء التي تجري في هذا العالم.»

استغرقتُ بعض الوقت كي أدرك أنه لم يخبرني بتلك القصة من قبيل النميمة ببساطة، بل باعتبارها شيئًا سيهتم أي كاتب بالاستماع إليه. كانت ثمة صلة لذيذة غامضة بين الكتابة والفسق في ذهنه. مع ذلك، حتى هذه الفكرة، بدت كئيبة للغاية، وطفولية للغاية، حتى إنه خطر ببالي أن في انتقادها إهدارًا للطاقة. أدركت حينئذٍ أنني يجب أن أتحاشى إيذاء مشاعره إكرامًا لي، وليس له. لقد كان خطأً جسيمًا اعتقادي أن قليلًا من الغلظة سيسوِّي الأمور.

•••

كانت الهدية التالية إبريق شاي. أصررتُ على أنني لا أحتسي سوى القهوة، وطلبت منه أن يعطيه لزوجته. قال إن الشاي أفضل لتهدئة الأعصاب، وإنه قد أدرك على الفور أنني شخص عصبي، مثله. كان إبريق الشاي مطليًّا بالذهب ومزخرفًا بالورود، أدركت أنه ليس زهيد الثمن، على الرغم من قبحه الشديد، واحتفظت به فوق الطاولة. كذلك واظبت على الاعتناء بالنبتة التي ترعرعت إلى حدٍّ مثير للاشمئزاز في زاوية حجرتي. لم أستطع تحديد ما يمكنني فعله أكثر من ذلك. ابتاع لي سلة مهملات، سلة فاخرة نُقِشَت فاكهة اليوسفي الصينية على جهاتها الثماني، وأحضر لي وسادةً مطاطية لأضعها على مقعدي. ازدريت نفسي لأنني استسلمت لهذا الابتزاز. إنني حتى لم أشفق عليه في الحقيقة؛ كل ما في الأمر أنني لم أستطع صده، لم أستطع صد ذاك الاشتهاء الذليل. وقد أدرك بنفسه أنه قد اشترى قدرتي على الاحتمال، بطريقة كان يجب أن يمقتني بسببها.

في ذلك الوقت، حينما كان يتلكأ في مكتبي، كان يخبرني قصصًا عن نفسه، وتبادر إلى ذهني أنه يكشف لي عن حياته على أمل أن أكتبها. بالطبع، ربما يكون قد كشف عنها أمام كثيرين من الناس دون سبب معين، لكن في حالتي بَدَا أن ثمة ضرورة خاصة، بل وملِحَّة. كانت حياته سلسلة من النكبات، كما هي حياة الناس في الغالب؛ فقد خذله أشخاص وضع ثقته بهم، ورفض مساعدته أشخاصٌ اعتمد عليهم، وخانه نفس الأشخاص الذين أحسن إليهم وقدَّم لهم مساعدات مادية. وحمل آخَرون — ممَّن لم يكونوا سوى غرباء وعابري سبيل — على عاتقهم تعذيبه بلا مبرر بأساليب جديدة ومبتكرة. بين الحين والآخَر، تعرَّضَتْ حياته للتهديد، فضلًا عن ذلك، كانت زوجته إحدى صعوبات حياته، مع صحتها المعتلة ومزاجها المتقلب؛ فماذا كان بيده أن يفعل؟ قال لي وهو يرفع يده: «ها أنت ترين كيف تجري الأمور، لكني على قيد الحياة رغم كل شيء.» ونظر إليَّ لأوافقه الرأي.

بدأت ألجأ لصعود الدَّرَج على أطراف أصابعي، محاولةً إدخال المفتاح دون إصدار صوت؛ كان تصرفًا أحمق بالطبع لأنني لا أستطيع كتم صوت الآلة الكاتبة. فكَّرْتُ بالفعل في الكتابة بخط اليد، وتمنيت مرارًا وجود ذلك الجهاز العازل للصوت الذي كان يملكه إخصائي المعالجة اليدوية البارع. أخبرت زوجي بالمشكلة، فقال إنها ليست بمشكلة على الإطلاق. قال لي: أخبريه بأنك منشغلة. في واقع الأمر أخبرته بذلك فعلًا؛ في كل مرة كان يأتي إلى بابي — مسلَّحًا على الدوام بهدية صغيرة أو عذر ما — ويسألني كيف حالي، أخبره أنني اليوم منشغلة، وحينها كان يقول وهو يجتاز الباب في سلاسة إنه لن يأخذ من وقتي أكثر من دقيقة. وطيلة الوقت — كما قلت — كان يعلم ما يدور بخلدي، وكم كنتُ أتوق في وهن إلى التخلُّص منه. كان يدرك ذلك لكنه لم يكن يعبأ بالأمر.

•••

ذات مساء بعد أن عُدْتُ إلى المنزل اكتشفت أنني تركت في المكتب خطابًا أنوي إرساله بالبريد؛ لذا عدت إلى المكتب لأحضره. من الشارع رأيت النورَ مُضاءً في الحجرة التي أعمل بها، ثم رأيته منحنيًا فوق الطاولة القابلة للطي. بالطبع كان يأتي ليلًا ويقرأ ما أكتبه!

سمع خطواتي عند الباب، وعندما دخلت كان يلتقط سلة المهملات خاصتي، وقال إن كل ما هنالك أنه فكَّر في ترتيب الأشياء هنا من أجلي، ثم خرج على الفور. لم أنبس ببنت شفة، لكنني وجدت نفسي أرتجف في غضب ورضى. كان عثوري على سببٍ عادلٍ أعجوبةً، بل كان نجدةً لا تُحتمَل.

في المرة التالية التي أتى فيها عند بابي كنتُ قد أغلقته من الداخل. عرفت وَقْع أقدامه، وطرقته المتزلفة الودودة. واصلت الكتابة على الآلة الكاتبة بصوت مرتفع، مع التوقُّف بين لحظة وأخرى، كي يعلم أنني سمعته. ناداني باسمي، كما لو كنتُ أمارس عليه حيلةً؛ عضضْتُ على شفتي كي لا أجيبه. لكن، كما الحال دومًا، سطا عليَّ ذلك الشعور غير العقلاني بالذنب، لكنني واصلت الكتابة. في ذلك اليوم رأيتُ التربة قد جفَّتْ حول جذور النبتة؛ لكني تركتها.

لم أكن مهيَّأة لما حدث بعد ذلك. وجدت ورقة ملصقة على بابي، مكتوبًا بها أن السيد مالي سيكون مُمتنًّا كثيرًا إذا حضرت إلى مكتبه. ذهبتُ على الفور لأنتهي من هذه المسألة. كان جالسًا إلى مكتبه محاطًا بدلائل مبهمة على نفوذه؛ تطلَّعَ إليَّ من بعيد، كما لو أنه مضطر إلى رؤيتي في ضوء جديد غير محبَّب إلى حدٍّ مؤسف، وبدا أن الحرج الذي ظهر عليه ليس لنفسه، بل لي أنا. بدأ حديثه قائلًا — بتردد مصطنع إلى حدٍّ ما — إنه علم بالطبع عندما أجَّرَ لي المكتب أنني كاتبة.

«لم أدَعْ هذا الأمر يقلقني. على الرغم من أنني سمعتُ أمورًا عن الكُتَّاب والفنانين ومثل أولئك الأشخاص لم تَبْدُ لي مبشِّرة كثيرًا. تعلمين هذه الأشياء التي أقصدها.»

كان هذا كلامًا جديدًا؛ لم أستطع التفكير إلى ما سيقود إليه.

«لقد جئتِ إليَّ وقلتِ: سيد مالي أنا أريد مكانًا أكتب فيه. صدَّقْتُكِ، وأعطيتكِ إياه. لم أطرح عليكِ أية أسئلة؛ فهذه طبيعة شخصيتي، لكن أتدرين كلما فكَّرتُ في الأمر — حسنًا — زاد ميلي للتساؤل.»

قلتُ: «عمَّ التساؤل؟»

«وكذلك طريقة تعاملك، التي لم تسهم في بثِّ الطمأنينة في قلبي؛ فأن تغلقي الباب على نفسك وترفضي الردَّ عمَّن يطرق باب مكتبك ليس بسلوك طبيعي يسلكه الشخص، ذلك إذا لم يكن هناك ما يخفيه. وليس بسلوك طبيعي بالمثل لشابة — تقول إن لديها زوجًا وأطفالًا — أن تمضي وقتها في القرع فوق آلة كاتبة.»

«لكنني لا أعتقد أن …»

رفع يده بإشارة عفو. «كل ما أطلبه الآن أن تتحلي بالوضوح والصراحة معي — أعتقد أنني أستحق هذا القدر منك — وإذا كنتِ تستخدمين هذا المكتب لأية أغراض أخرى، أو في أية أوقات أخرى غير معروفة، وتستضيفين أصدقاءك أو أيًّا مَن كانوا يأتون لزيارتك …»

«لا أدري ماذا تقصد.»

«ثمة أمر آخَر، أنت تدَّعِين أنك كاتبة. إنني أقرأ كثيرًا، لكني لم أَرَ اسمك منشورًا قطُّ. ربما تكتبين تحت اسم آخَر؟»

قلتُ: «كلا.»

قال بأسلوب ودود: «حسنًا، لا أشك في أن هناك كُتَّابًا لم أسمع بأسمائهم. دعينا من هذا الأمر. كل ما عليك أن تعديني به هو ألَّا يكون ثمة مزيد من الخداع أو الحماقات، أو ما إلى ذلك، في ذلك المكتب الذي تشغلينه …»

تأخَّرَ غضبي بعض الشيء، أعاقه حالةُ عدمِ التصديق الحمقاء التي كنتُ عليها. سمعت ما يكفي لأنهض وأسير عبر الردهة، بينما صوته يلاحقني، وأغلقت الباب. فكَّرْتُ أن لا بد أن أرحل. لكن بعد أن جلستُ في حجرتي، ورأيتُ عملي أمامي، فكَّرتُ مجدَّدًا كم أحببت هذه الحجرة، وكيف أدَّيْتُ فيها عملًا جيدًا، وقررت ألَّا يجبرني أحد على الرحيل. شعرت، رغم كل شيء، أن الصراع بيننا وصل إلى طريق مسدود. بإمكاني رفض فتح الباب، ورفض النظر في الرسائل القصيرة التي يتركها لي، ورفض التحدُّث معه عندما نلتقي. لقد دفعتُ الإيجار مقدمًا وإذا رحلتُ الآن فمن المستحيل أن أستردَّ أي مبلغ متبقٍّ. عزمت على عدم الاكتراث. كنتُ أصطحب معي مخطوطتي كل ليلة، لأمنعه من قراءتها، والآن بدا أيضًا أن هذا الإجراء الاحترازي تافه. ما الضير إذا قرأ المخطوط، هل هذا يزيد أهميةً عن مرور فأرٍ فوقه في الظلام؟

•••

وجدت رسائل قصيرة منه عند بابي عدة مرات بعد ذلك. اعتزمت عدم قراءتها، لكني دائمًا ما كنتُ أقرؤها. أضحت اتهاماته أكثر تحديدًا. يقول إنه سمع أصواتًا بحجرتي، وإن سلوكي يسبِّب الإزعاج لزوجته عندما تحاوِل أخذ قيلولة في فترة الظهيرة، (لم أحضر قطُّ في فترات الظهيرة سوى في العطلة الأسبوعية!) وإنه عثر على زجاجة ويسكي في قمامتي.

تساءلت كثيرًا حيال أمر إخصائي المعالجة اليدوية ذاك؛ فرؤية الكيفية التي تتشكَّل بها أساطير حياة السيد مالي ليست مريحةً.

مع ازدياد نبرة الشر في الرسائل، توقَّفَتْ مصادفات التقائنا. مرة أو مرتين رأيت ظهره المنحني — مكتسيًا بإحدى كنزاته — يتوارى عند دخولي إلى الردهة. شيئًا فشيئًا تحوَّلَتْ علاقتنا إلى شيء خيالي تمامًا. الآن يتهمني، عبر رسائله القصيرة، بأنني أقيم علاقات مع أشخاص من «نوميرو سينك»؛ وهو مقهى يقع في الجوار، أعتقد أنه استحضر هذا المكان لأغراض رمزية. شعرت بأن لا شيء أكثر من ذلك سيحدث في الوقت الحالي، ستستمر الرسائل، سيصير محتواها أكثر بشاعة وعلى الأغلب أقل تأثيرًا فيَّ.

وفي صبيحة أحد أيام الأحد، طرق بابي، في الحادية عشرة صباحًا تقريبًا. كنتُ قد وصلت توًّا وخلعت معطفي ووضعت الغلاية فوق الموقد الكهربي.

هذه المرة كان وجهه مختلفًا — باردًا ومتعاليًا — يشع منه ذلك الضوء البارد للفرحة العارمة باكتشافه دلائل الخطيئة.

قال بانفعال: «تُرَى هل تمانعين أن تتبعيني إلى الناحية الأخرى من الردهة؟»

تبعته. كان النور مضاءً في الحمام، كان هذا الحمام خاصًّا بي، ولم يكن أحد آخَر يستخدمه، لكن السيد مالي لم يعطني مفتاحه، وكان الحمام مفتوحًا على الدوام. توقَّفَ أمام الحمام ودفع الباب ووقف وهو ينظر إلى الأسفل، ويُخرِج زفيره بهدوء.

قال بصوت خالص الأسف: «الآن مَن فعل هذا؟»

كانت الجدران أعلى المرحاض وأعلى حوض الاستحمام مغطَّاة برسومات وتعليقات من قبيل تلك التي تراها في الحمامات العامة على الشواطئ، وفي مراحيض المجلس المحلي في البلدات المضمحلة الصغيرة كتلك التي نشأت فيها. كانت الرسوم والتعليقات مكتوبة بأحمر شفاه، كالعادة. دار بخلدي أن لا بد من أن شخصًا صعد إلى هنا الليلة السابقة، ربما يكون شخصًا من المجموعة التي تتسكع وتتجول دائمًا حول المركز التجاري في ليالي السبت.

قلتُ في برود وثبات كما لو أنني بذلك أتنصَّلُ من المشهد: «كان من المفترض أن يُغلَق، يا لها من فوضى!»

«إنه مغلق بالفعل. إنها لغة بذيئة بالنسبة لي. ربما هي ليست سوى مزحة بالنسبة لأصدقائك، لكنها ليست كذلك لي. ناهيك عن الرسوم. يا له من منظر جميل ترينه عندما تفتحين أحد الأبواب في عقارك في الصباح!»

قلت: «أعتقد أن أحمر الشفاه سيزول بالغسيل.»

«إنني مسرور لأن زوجتي لم تَرَ شيئًا كهذا. إنه أمر يثير حنق امرأة حظيت بتربية حسنة. الآن لِمَ لا تطلبين من أصدقائك أن يُقِيموا حفلًا هنا بالدلاء والفرش؟ أود أن أرى الأشخاص الذين يتمتعون بهذا الحس الفكاهي.»

استدرت لأمضي بعيدًا، فتحرَّك أمامي بثقل.

«لا أظن أن ثمة شكًّا حول الكيفية التي وصلت بها هذه النقوش إلى جدراني.»

قلت في فتور وضجر: «إذا كنتَ تريد أن تقول إن لي صلة بهذا الأمر، فلا بد أنك مجنون.»

«كيف وصلتْ هذه النقوش إلى هنا إذن؟ لمَن هذا المرحاض؟ لمَن؟»

«إنه بلا مفتاح. أي شخص بإمكانه الصعود إلى هنا ودخوله. ربما صعد بعض الصبية من الشارع إلى هنا وفعلوا ذلك الليلة الماضية بعد أن غادرتُ إلى المنزل، كيف لي أن أعرف؟»

«إنه لشيء مؤسف أن نلقي باللوم على الصِّبْيَة في كل شيء بهذه الطريقة، في حين أن الكبار هم مَن يفسدونهم. يمكنك تأمُّل هذا الأمر قليلًا. هناك قوانين. قوانين مكافحة الفحشاء. تسري على مثل هذه الأمور، وعلى المطبوعات أيضًا حسبما أظن.»

هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أذكر أنني تنفست فيها بعمق وبتعمد، لأغراض تتعلق بضبط النفس. لقد أردتُ قتله حقًّا. أذكر كم بدا وجهه رخوًا ومثيرًا للاشمئزاز، وعيناه مغلقتين تقريبًا، ومنخاره منفوشًا مستنشقًا رائحة الاستقامة المطمئنة، رائحة النصر. لو لم يحدث ذلك الشيء الأحمق، ما انتصر أبدًا. لكنه انتصر. ربما رأى شيئًا في وجهي أوهن عزيمته — رغم لحظة الانتصار هذه — إذ تراجَعَ إلى الجدار، وبدأ يقول إنه حقيقةً، في واقع الأمر، لم يشعر أنني يمكن أن أفعل مثل هذه الأشياء شخصيًّا، بل ربما يفعلها أصدقاء معينون لي — فما كان مني إلا أن دخلت حجرتي وأغلقت الباب.

كانت الغلاية تصدر ضجيجًا مخيفًا، فقد غلى الماء بها حتى تبخَّرَ كله تقريبًا. جذبتها سريعًا بعيدًا عن الموقد، وجذبت القابس ووقفت لبرهة أختنق من فرط الغضب. مرَّتْ نوبة الانفعال هذه وفعلتُ ما توجَّبَ عليَّ فعله من قبلُ؛ وضعتُ آلتي الكاتبة وأوراقي فوق المقعد وطويت الطاولة. أغلقتُ غطاء القهوة السريعة الذوبان بإحكام، ووضعتُ الوعاء والكوب الأصفر وملعقة الشاي في الحقيبة التي أحضرتها فيها؛ كانت لا تزال مطوية فوق الرف. تمنَّيْتُ على نحو طفولي أن آخُذَ بثأري من أصيص النبات الموضوع بالركن بجانب البرَّاد المزخرف بالزهور وسلة المهملات والوسادة، وأيضًا — نسيت ذلك — مبراة أقلام بلاستيكية صغيرة موضوعة خلفه.

وفيما كنتُ أُنزِل الأشياء إلى السيارة جاءت السيدة مالي. لم أَرَها كثيرًا منذ أول يوم جئتُ فيه إلى هنا. لم تبدُ منزعجةً، بل بدت عملية ومذعنة.

قالت: «إنه مستلقٍ. هو ليس على طبيعته.»

حملَتْ الحقيبة التي بها القهوة والكوب. كانت هادئةً للغاية لدرجةٍ جعلتني أشعر بغضبي يغادرني، ليحل محله كآبة غامرة.

•••

لم أعثر على مكتب آخَر بعدُ. أظن أنني سأحاول مجدَّدًا يومًا ما، لكن ليس الآن. عليَّ الانتظار على الأقل حتى تنزوي تلك الصورة التي أراها بوضوح شديد في ذهني، رغم أنني لم أَرَها قطُّ في الواقع: السيد مالي يحمل قطع قماش وفُرشًا ودلوًا ممتلئًا بالماء والصابون، ينظِّف بطريقته الخرقاء، طريقته الخرقاء المتعمدة، جدران المرحاض، وينحني بصعوبة، ويتنفس في أسًى، ويرتِّب في ذهنه روايته الغريبة — التي لن يرضى عنها تمامًا بطريقة أو بأخرى — عن شخص آخَر خان ثقته. وفي الوقت نفسه أنظِّم أنا كلماتي، بينما يدور بخلدي أنَّ من حقي التخلُّصَ منه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤