وقت الموت

بعد فترة، تمددت الأم، ليونا باري، فوق الأريكة، ملفوفةً بلحاف، وأخذت النساء في وضع مزيد من الحطب في المدفأة على الرغم من أن المطبخ كان ساخنًا للغاية، ولم يشعل أحد الضوء. احتست ليونا بعض الشاي ورفضت تناول أي طعام، وقالت بادئةً حديثها كما يلي، بصوت أجشَّ ومُصرٍّ، لكن ليس هيستيريًّا بعدُ: لم أكد أخرج من المنزل، لم أغِبْ عن المنزل سوى عشرين دقيقة …

(قالت آلي ماكجي في نفسها: ثلاثة أرباع الساعة على الأقل. لكنها لم تنطق بذلك؛ ليس في هذا الوقت. لكنها تذكرت ذلك؛ إذ كانت هناك ثلاثة مسلسلات يبثها المذياع تحاول الإصغاء إليها، والتي كانت تتابعها كل يوم، لكنها لم تتمكن من سماع نصفها؛ فقد كانت ليونا هناك في مطبخها تتحدث عن باتريشيا. كانت ليونا تحيك زِيَّ راعية بقر من أجل باتريشيا على ماكينة خياطة آلي، سرَّعت من حركة الماكينة وجذبت الخيط بشكل مباشر إلى الخارج لقطعه بدلًا من أن تجذبه إلى الخلف، على الرغم من أن آلي أخبرتها بألا تفعل ذلك حتى لا تتسبب في كسر الإبرة. كان من المفترض أن ترتدي باتريشيا هذا الزي في الليلة التي ستغني بها في حفل بأعلى الوادي؛ فقد كانت تنشد الأغاني الغربية الخاصة برعاة البقر. كانت باتريشيا تغني مع فرقة ميتلاند فالي إنترتينرز التي كانت تجوب أرجاء البلاد لتقدِّم فقرات في الحفلات الموسيقية والراقصة، وكان يتم تقديمها في تلك الحفلات على أنها «محبوبة ميتلاند فالي الصغيرة»، و«الشقراء الصغيرة»، و«الطفلة ذات الجسم الصغير والصوت القوي». كانت تملك صوتًا قويًّا بالفعل، مفزعًا إلى حد ما لأن يخرج من طفلة ضعيفة للغاية كباتريشيا. جعلتها ليونا تغني أمام الناس عندما بلغت الثالثة من عمرها.

قالت ليونا وهي تنحني للأمام ضاغطة بقدميها على دوَّاسة الماكينة: لا تخاف أيَّ شيء قط، فكان من السهل عليها أن تغني أمام الناس. فُتحت بلوزتها الشفافة عن غير قصد، فانكشف صدرها الهزيل، ونهداها الذابلان، بعروقهما الزرقاء الكبيرة التي تنحدر داخل القميص الداخلي الرمادي المائل للَّون الوردي. لا يهمها أي شيء، حتى وإن كان ملك إنجلترا نفسه يشاهدها، ستقف وتغني، وعندما تنتهي من الغناء، ستجلس، هذا كل ما يحدث فحسب. حتى إن لها اسمًا ملائمًا لمغنية، باتريشيا باري، ألا يبدو لكِ كاسمٍ سمعتِهِ يُذكَر بالمذياع؟ هناك أمر آخر وهو شعرها الأشقر الطبيعي، يتعيَّن عليَّ أن أعقص شعرها كل ليلة، لكن ذلك الشعر الأشقر الطبيعي ليس من المفترض أن يتم عقصه، كما أنه لا يتغير لونه للَّون الداكن أبدًا؛ لدينا هذا النوع من الشعر الأشقر الطبيعي في بعض أفراد عائلتنا والذي لا يصير داكنًا أبدًا؛ فقريبتي التي أخبرتكِ عنها، التي فازت بلقب ملكة جمال سانت كاثرينز لعام ١٩٣٦، كانت من بين هؤلاء، وكذلك خالتي التي توفيت …)

لم تقل آلي ماكجي أي شيء، والتقطت ليونا أنفاسها ثم قالت باندفاع: عشرون دقيقة. كان آخر شيء قلته لها أثناء خروجي من الباب هو: عليكِ الاعتناء بالأطفال! إنها في التاسعة من عمرها، أليس كذلك؟ سأذهب فقط إلى الجهة المقابلة من الطريق لأحيك لك هذا الزي، اعتني بالأطفال. وخرجت من الباب ونزلت الدرج ووصلت حتى نهاية الحديقة، وما إن نزعت الخطاف من البوابة، حتى أوقفني شيء ما، وحدثتني نفسي: «هناك خطب ما!» قلت في نفسي: ما الأمر؟ وقفت هناك وتطلعت خلفي إلى الحديقة، وكل ما استطعت رؤيته هو سيقان الذرة والكرنب المتجمد، واللذين تأخرنا في حصدهما هذا العام، ونظرت عبر الطريق ولم أرَ سوى كلب ماندي العجوز يتمدد أمام منزله، لا توجد سيارات آتية من أي اتجاه، وجميع الأفنية خالية، وكان الجو باردًا حسبما أظن، ولم يكن هناك أطفال يلعبون بالخارج — وقلت في نفسي: يا إلهي! ربما اختلطت الأيام في ذهني وهذا ليس صباح يوم السبت، ربما هو يوم خاص لا أستطيع تحديده — ثم فكرت في أن كل ما في الأمر هو أن الثلوج على وشك التساقط؛ استشعرت ذلك في الهواء، وتعلمون كم يكون الجو باردًا حينئذٍ، كانت البرك الصغيرة في الطريق قد تجمدت وتباعدت — لكن الثلوج لم تبدأ في التساقط، أليس كذلك؟ لم تتساقط الثلوج بعد — فركضت عبر الطريق، ثم توجهت نحو منزل ماكجي وصعدت الدرج الأمامي وقالت لي آلي: ليونا، ماذا بك؟ تبدين شاحبة للغاية …

سمعت آلي ماكجي ذلك أيضًا دون أن تنطق بشيء؛ فلم يكن الوقت مناسبًا لأي نوع من التدقيق. ارتفع صوت ليونا أكثر فأكثر أثناء حديثها، وفي أية لحظة الآن من الممكن أن تتوقف عن الحديث وتبدأ في الصراخ: لا تجعلوا هذه الطفلة تقترب مني، لا تدعوني أراها، لا تجعلوها تقترب مني فحسب.

تحتشد النساء في المطبخ حول الأريكة، وقد أضحى من المتعذر تمييز أجسامهن الضخمة في شبه الظلام السائد، وتبدو وجوههن كأطياف شاحبة وثقيلة، يرتدين أقنعة الحداد والتعاطف الطقسية. يقُلنَ لها: استريحي الآن، بالنبرات المهيبة للتهدئة والعزاء. استريحي يا ليونا، هي ليست هنا، لا بأس.

وتقول الفتاة العضوة في جماعة جيش الخلاص الخيرية الدينية بصوتها الرقيق الرزين: يجب أن تغفري لها سيدة باري، إنها مجرد طفلة صغيرة. أحيانًا كانت هذه الفتاة تقول: إنها إرادة الرب، نحن لا نفطنها. تقول المرأة الأخرى العضوة أيضًا في جماعة جيش الخلاص، والتي كانت أكبر سنًّا، وذات وجه دهني باهت وصوت ذكوري إلى حد بعيد: في جنات النعيم يتفتح الأطفال كالزهور. احتاج الرب إلى زهرة أخرى، فأخذ طفلك. يا أختاه، عليك أن تشكريه وتفرحي.

أصغت النساء الأخريات في انزعاج حينما كانت تتحدث تلك الفتاة والمرأة؛ ارتسمت على وجوههن لدى سماع تلك الكلمات نظرة إجلال طفولية مرتبكة. صنعن الشاي ووضعن فوق الطاولة الفطائر وكيك الفواكه والكعك المحلَّى الذي أرسله الناس والذي صنعوه بأنفسهم، لم يأكل أحد أي شيء لأن ليونا كانت ترفض الأكل. كان كثير من النساء يبكي، لكن لم تبكِ عضوتا جماعة جيش الخلاص، بكت أيضًا آلي ماكجي. كانت امرأة بدينة، ذات وجه هادئ وصدر كبير، ولم يكن لديها أطفال. ثنت ليونا ركبتيها أسفل اللحاف وأخذت تهز نفسها للأمام والخلف وهي تنتحب، وتحرك رأسها لأسفل ثم للخلف (مظهرة، كما لاحظت بعض النساء بشعور من الخزي، الخطوطَ المتسخة برقبتها)، ثم هدأت وقالت بطريقة أشبه بالمفاجأة: لقد أرضعته حتى بلغ عشرة أشهر، كان طفلًا رائعًا للغاية، أيضًا، ما كنت أشعر بوجوده في المنزل قط، لطالما قلت إنه أفضل أطفالي على الإطلاق.

شعرت النساء في المطبخ المظلم شديد الحرارة بمهابة هذا الحزن من منظورهن كأمهات؛ كن متواضعات أمام ليونا القذرة وغير المحبوبة والبائسة. عندما حضر الرجال — الأب وأحد الأقارب وأحد الجيران، حاملين كومة من الحطب أو طالبين في استحياء شيئًا يأكلونه — أدركوا على الفور أن هناك شيئًا يردعهم، ويوبِّخهم. خرجوا وقالوا للرجال الآخرين: أجل، ما زلن على حالهن. وقال الأب — الذي بدا منفعلًا وثملًا قليلًا؛ لأنه شعر بأن الناس كانوا يتوقعون منه أن يتصرف بشكل معين في موقف كهذا، لكنه لم يفعل، ولم يكن هذا منصفًا: أجل، لن يفيد هذا بيني بأي شيء، حتى وإن بكين للأبد.

•••

كان جورج وآيرين يلعبان لعبة القص واللصق، يقصان الأشكال من أحد الكتالوجات، كانا قد قصَّا صورًا لأسرة: الأم والأب والأبناء، والآن يقصان لهم الثياب. شاهدتهما باتريشيا وهما يقصان وقالت: انظرا إلى الطريقة التي تقصان بها! انظرا إلى كل هذه المساحة البيضاء الزائدة حول الأطراف! كيف ستتناسب هذه الملابس مع الصور، ولم تقصا أي أجزاء زائدة مكافئة لها؟! أمسكت هي بالمقص وقصت بدقة كبيرة، ولم تترك أية مساحات زائدة بيضاء حول الأطراف؛ كان وجهها الصغير الشاحب والفطن مائلًا إلى أحد الجانبين، وشفتاها مضمومتين معًا. كانت تقوم بالأشياء كما يقوم بها الكبار؛ لم تكن تدَّعي شيئًا، لم تدَّعِ أنها مغنية، على الرغم من أنها كانت تنوي أن تكون مغنية عندما تكبر، ربما في الأفلام، أو في الإذاعة. أحبت مطالعة مجلات الأفلام والمجلات التي توجد بها صور الملابس والحجرات، أحبت النظر في نوافذ بعض المنازل في الجزء العلوي من المدينة.

حاول بيني التسلق أعلى الأريكة، انتزع الكتالوج فضربته آيرين على يده؛ بدأ في البكاء، فأمسكته باتريشيا بمهارة وحملته إلى النافذة، أوقفته فوق كرسي لينظر إلى الخارج، وقالت له: باو-واو، بيني، أترى باو-واو؟ — كان هذا هو كلب ماندي الذي نهض وهز نفسه وانطلق بعيدًا في الطريق.

قال بيني بأسلوب استفهامي: باو-واو؟ وهو يبسط يديه وينحني في مقابل النافذة ليرى أين ذهب الكلب. كان بيني يبلغ ثمانية عشر شهرًا من العمر والكلمات الوحيدة التي كان يعرف أن ينطقها هي باو-واو وبرام، ويقصد ببرام شاحذ المقصات والسكاكين الذي كان يمر من على الطريق أحيانًا؛ كان اسمه براندون، يتذكره بيني، ويركض إلى الخارج ليقابله عندما يحضر. كان الأطفال الآخرون الأصغر ممن يبلغون ثلاثة عشر أو أربعة عشر شهرًا يعرفون كلمات أكثر من بيني، وكان بإمكانهم القيام بحركات أكثر منه، كالتلويح عند الوداع، والتصفيق، ومعظمهم كانوا أجمل وأذكى منه. كان بيني طويلًا ونحيفًا وهزيلًا، ووجهه مثل وجه أبيه — شاحب، وصامت، وغير آمل — لم يكن ينقصه سوى قبعة مدببة متسخة. لكنه كان طفلًا مطيعًا؛ كان يقف لساعات ينظر فقط من النافذة ويقول باو-واو، باو-واو، بنبرة استفهامية خافتة، وبدندنة، يضرب بيده على اللوح الزجاجي للنافذة. كان يحب أن يرفعه الناس ويحملوه، وكأنه طفل رضيع؛ كان يستلقي ناظرًا لأعلى ومبتسمًا، بشيء من الحياء أو الريبة. علمت باتريشيا أنه أحمق؛ كانت تكره الحماقة، كان هو الشيء الأحمق الوحيد الذي لم تكرهه. كانت تذهب وتمسح له أنفه ببراعة وجدية، كانت تحاول أن تجعله يتحدث، وأن يكرر الكلمات وراءها، وتلصق وجهها بوجهه، وتقول بلهفة: أهلًا يا بيني، أهلًا. فكان ينظر إليها ويبتسم بطريقته البطيئة المرتابة. كان يجعلها ذلك تشعر بشيء ما، شيء من الحزن والسأم، ثم كانت تنصرف وتتركه، تذهب لتتصفح إحدى المجلات السينمائية.

كانت قد تناولت كوبًا من الشاي وقطعة من كعكة محلاة بالسكر في الإفطار؛ والآن شعرت بالجوع. فتشت بين الصحون المتسخة وخليط اللبن والعصيدة فوق طاولة المطبخ؛ التقطت كعكة، لكنها كانت غارقة في اللبن، فتركتها مرة أخرى. قالت: إن هذا المكان مُذرٍ. لم يكترث جورج وآيرين. خطت فوق كمية من العصيدة جفت فوق مشمع الأرضية. قالت: انظروا! انظروا! لماذا يبدو المكان فوضويًّا هكذا دائمًا؟ تحركت في المكان وهي تخطو فوق الأشياء بلامبالاة، ثم أحضرت الدلو المعدني والفرشاة من أسفل الحوض ومغرفة، وبدأت في غرف المياه من صهريج الموقد.

قالت: سأنظِّف هذا المنزل جيدًا؛ فهو لا يحظى بالنظافة اللائقة أبدًا كبقية المنازل الأخرى. إن أول شيء سأفعله هو دعك الأرضية بالفرشاة، وعليكما يا أطفال مساعدتي …

وضعت الدلو فوق الموقد.

قالت آيرين: بدايةً، هذه المياه ساخنة جدًّا.

ليست ساخنة بما يكفي، يجب أن تكون مياهًا مغلية ونظيفة؛ فقد رأيت السيدة ماكجي وهي تدعك «أرضيتها» بالفرشاة.

•••

مكثوا في منزل السيدة ماكجي طيلة الليل، كانوا هناك منذ أن وصلت سيارة الإسعاف. رأوا ليونا والسيدة ماكجي وجيرانًا آخرين يبدءون في نزع ملابس بيني عنه، وبدا أن أجزاءً من جلده تخرج من جسمه، وكان بيني يصدر صوتًا ليس كصوت البكاء، بل صوتٌ يشبه صوتًا سمعوا كلبًا يصدره بعد أن داست سيارة على رجليه الخلفيتين، لكن كان أسوأ، وأعلى، لكن السيدة ماكجي رأتهم؛ فصاحت: ابتعدوا، ابتعدوا من هنا! اذهبوا إلى منزلي. بعد ذلك حضرت سيارة الإسعاف وأخذت بيني إلى المستشفى، وجاءت السيدة ماكجي وأخبرتهم أن بيني سيمكث في المستشفى لفترة وأنهم سيبيتون في منزلها. أعطتهم قطعة خبز بزبدة الفول السوداني وأخرى بمربى الفراولة.

كان الفراش الذي ناموا عليه له مرتبة من الريش وملاءات ناعمة مكوية؛ كانت البطانيات فاتحة اللون وناعمة وتفوح منها قليلًا رائحة النفتالين، فضلًا عن ذلك كان يوجد لحاف نجم بيت لحم؛ علموا أنه يُسمَّى كذلك لأنه عندما كانوا يستعدون للخلود إلى النوم قالت باتريشيا: يا إلهي، يا له من لحاف جميل! فبدت السيدة ماكجي مندهشة وحائرة إلى حدٍّ ما، وقالت: أوه، أجل، إنه نجم بيت لحم.

كانت باتريشيا مهذبة للغاية بمنزل السيدة ماكجي. لم يكن المنزل جميلًا مثل بعض المنازل الموجودة في الجزء العلوي من المدينة، لكنه كان مكسوًّا من الخارج بطوب زخرفي وبداخله كان يوجد مدفأة ديكورية، إضافةً إلى نبات سرخس موضوع في سلة؛ لم يكن مثل المنازل الأخرى الممتدة بمحاذاة الطريق السريع. لم يكن السيد ماكجي يعمل في المصنع كباقي الرجال الآخرين، بل في أحد المتاجر.

كان جورج وآيرين خجولَيْن وخائفَيْن للغاية في هذا المنزل حتى إنهما لم يستطيعا الإجابة عندما كان يُوجَّه الحديث إليهما.

استيقظوا جميعًا في ساعة مبكرة للغاية؛ استلقوا على ظهورهم، وهم يشعرون بالانزعاج على الملاءات النظيفة، وشاهدوا الحجرة وهي تزداد نورًا، كانت الحجرة بها ستائر معدنية وستائر حريرية لونها بنفسجي زاهٍ، وتوجد نقوش على هيئة زهور بنفسجية زاهية وصفراء على ورق الحائط؛ كانت حجرة الضيوف. قالت باتريشيا: نحن ننام بحجرة الضيوف.

قال جورج: يجب أن أتبول.

قالت باتريشيا: سأرشدك إلى مكان الحمام، إنه عبر الردهة.

لكن جورج رفض النزول إلى الحمام، لم يحب المنزل. حاولت باتريشيا إقناعه، لكنه رفض.

قالت آيرين: لنرَ ما إذا كانت هناك مبولة أسفل السرير.

قالت باتريشيا في غضب: إن لديهم حمامًا هنا وليست لديهم أية مباول، لماذا سيحتفظون بمبولة عتيقة كريهة الرائحة هنا؟

قال جورج في تبلُّد إنه لن يذهب إلى الأسفل.

نهضت باتريشيا وسارت على أطراف أصابعها إلى التسريحة وأحضرت زهرية كبيرة. عندما تبول جورج، فتحت النافذة بحرص بالغ بلا صوت تقريبًا وأفرغت الزهرية وجفَّفتها بسروال آيرين التحتي.

قالت: لتصمتا الآن أيها الطفلان وترقدا في هدوء، لا تتحدثا بصوت عالٍ، اهمسا فقط.

همس جورج: هل بيني لا يزال في المستشفى؟

قالت باتريشيا بفظاظة: أجل، هو كذلك.

هل سيموت؟

أخبرتك مئات المرات، كلا.

هل «سيموت»؟

كلا! لقد احترق جلده فحسب، لم يحترق من الداخل، لن يموت بسبب حرق صغير بجلده، أليس كذلك؟ لا تتحدث بصوت عالٍ هكذا.

بدأت آيرين في إخفاء رأسها في الوسادة.

قالت باتريشيا: ما خطبك؟

قالت آيرين ووجهها في الوسادة: كان يبكي على نحو مريع.

حسنًا، ألمه شديد، ولهذا السبب كان يبكي. عندما وصل إلى المستشفى، أعطوه شيئًا لتسكين الألم.

قال جورج: كيف علمتِ بذلك؟

أعلم ذلك.

صمتوا لبرهة ثم قالت باتريشيا: لم أسمع بحياتي قط عن شخص مات لاحتراق جلده، من الممكن أن يحترق جلدك كله، إن هذا لن يهم؛ فسينمو لك جلد آخر. توقفي عن البكاء يا آيرين، وإلا ضربتك.

رقدت باتريشيا في سكون، تنظر إلى أعلى نحو السقف، ينعكس جانب وجهها الشاحب على الستائر الحريرية البنفسجية بحجرة الضيوف بمنزل السيدة ماكجي.

تناولوا في الإفطار عصير جريب فروت، الذي لم يتذكروا أنهم تذوقوه من قبل، ورقائق الذرة والتوست والمربى. راقبت باتريشيا جورج وآيرين ثم أخبرتهما في حدة: قولا رجاءً! قولا شكرًا! قالت للسيد والسيدة ماكجي: يا له من جو بارد اليوم! لن يكون من المدهش أن تتساقط الثلوج اليوم، أليس كذلك؟

لكنهما لم يجيبا عليها. كان وجه السيدة ماكجي متجهمًا. بعد الإفطار قالت: لا تنهضوا يا أطفال، أعيروني السمع، إن شقيقكم الأصغر …

شرعت آيرين في البكاء ودفع هذا جورج إلى البكاء أيضًا؛ قال لباتريشيا وهو ينتحب، وعلى نحو منتصر: لقد مات! لقد مات! لم تجب باتريشيا. قال جورج في نحيب: «هي المذنبة!» فقالت السيدة ماكجي: أوه، كلا، أوه، كلا! لكن باتريشيا جلست في هدوء، بوجه حذر ومهذب، لم تنبس ببنت شفة حتى هدأ البكاء قليلًا ونهضت السيدة ماكجي وهي تتنهد وبدأت في تنظيف الطاولة، ثم أبدت باتريشيا رغبتها في مساعدتها في غسل الصحون.

اصطحبتهم السيدة ماكجي إلى وسط المدينة لتشتري لهم أحذية جديدة من أجل الجنازة، لن تذهب باتريشيا إلى الجنازة لأن ليونا قالت إنها لا ترغب في رؤيتها ثانيةً طيلة حياتها، لكنها ستحصل على حذاء جديد أيضًا؛ سيبدو الأمر فظًّا إن لم يشترِ لها آل ماكجي حذاءً. أخذتهم السيدة ماكجي إلى المتجر وجعلتهم يجلسون وشرحت الموقف للرجل الذي يملك المتجر؛ وقفا معًا يومئان برأسيهما ويهمسان في جدية، طلب منهم الرجل أن يخلعوا أحذيتهم وجواربهم؛ فخلع جورج وآيرين أحذيتهما وجواربهما وبدت أقدامهما، بأظافر سوداء شديدة القذارة. همست باتريشيا إلى السيدة ماكجي لتخبرها بأنها تود الذهاب إلى الحمام، فأخبرتها السيدة ماكجي أنه في نهاية المتجر، فاتجهت إلى هناك وخلعت حذاءها وجوربها، ونظَّفت قدمها قدر استطاعتها بالمياه الباردة والمناشف الورقية، وعندما عادت، سمعت السيدة ماكجي وهي تقول بصوت خافت لصاحب المتجر: كان عليك أن ترى الملاءات التي ناموا عليها. مرت باتريشيا من جانبهما ولم تتظاهر بأنها سمعتهما.

حصل آيرين وجورج على حذاءين خفيضين برباط، في حين حصلت باتريشيا على حذاء من اختيارها، بشريط. نظرت إلى حذائها في المرآة المنخفضة، وسارت جيئةً وذهابًا وهي تنظر إليه حتى قالت السيدة ماكجي: يا باتريشيا لا يهم الحذاء الآن! قالت لصاحب المتجر بنفس الصوت الخافت أثناء خروجهم: هل تصدق هذا؟

بعد انتهاء الجنازة، عادوا إلى المنزل. كانت النساء قد نظفن المنزل ونحَّين جميع متعلقات بيني جانبًا. أصاب الأب الإعياء نتيجةً لتناول الكثير من الجعة في السقيفة الخلفية بعد الجنازة ومكث بعيدًا عن المنزل. أما الأم، فقد وُضِعت بالفراش، مكثت بالفراش ثلاثة أيام واعتنت شقيقة الأب بالمنزل.

أخبرتهم ليونا بألا يسمحوا لباتريشيا بالاقتراب من حجرتها. صاحت: لا تدعوها تقترب من هنا، لا أريد أن أراها، لن أنسى ولدي الصغير. لكن باتريشيا لم تحاول الصعود إلى الطابق العلوي، لم تكترث بأيٍّ من ذلك؛ فكانت تتصفح المجلات السينمائية وتعقص شعرها بقطع القماش، وإذا بكى أحد، لم تكن تهتم؛ شعرت في داخلها وكأن شيئًا لم يحدث.

حضر الرجل الذي كان يعمل مديرًا لفرقة ميتلاند فالي إنترتينرز لمقابلة ليونا، أخبرها أنهم يعدُّون برنامجًا لحفل موسيقي وراقص ضخم بروكلاند، ويريدون أن تغني باتريشيا به، إن لم يكن الأمر متعجلًا للغاية بعد كل ما حدث. قالت ليونا إنه يتعين عليها التفكير في الأمر. نهضت من الفراش وذهبت إلى الطابق السفلي، كانت باتريشيا تجلس على الأريكة تتصفح إحدى مجلاتها، أبقت رأسها منخفضًا.

قالت ليونا: إن شعرك يبدو جميلًا، أرى أنك كنت تصففينه بنفسك، أحضري لي الفرشاة والمشط!

قالت لأخت زوجها: أليست هذه هي الحياة؟ إنها لا تتوقف أبدًا.

ذهبت إلى وسط المدينة واشترت النوتة الموسيقية لأغنيتين: «ليت الدائرة لا تنكسر»، و«ليس خفيًّا: ما يمكن أن يفعله الرب». جعلت باتريشيا تحفظهما، وغنت باتريشيا هاتين الأغنيتين في الحفل الموسيقي بروكلاند. بدأ بعض الحضور من الجمهور في التهامس، لأنهم سمعوا بما حدث لبيني؛ فقد نُشِر الخبر في الصحف. أشاروا إلى ليونا، التي ارتدت الملابس الرسمية وجلست فوق المسرح، وأبقت رأسها منخفضًا، وأخذت تبكي. بكى بعض الناس من الحاضرين أيضًا، لكن باتريشيا لم تبكِ.

•••

في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (والذي لم تبدأ الثلوج فيه في التساقط بعد) حضر شاحذ المقصات والسكاكين بعربته وسار بمحاذاة الطريق السريع، كان الأطفال يلعبون في الأفنية وسمعوا صوته يقترب؛ على الرغم من أنه كان لا يزال بعيدًا على الطريق، فإنهم سمعوا نداءه غير المفهوم، الذي كان حزينًا ورنانًا، وغريبًا للغاية لدرجة أنك قد تتصور — إن لم تكن تعرف صاحبه — أن ثمة رجلًا مجنونًا طليقًا يعوي في الطريق. كان يرتدي المعطف البني المتسخ ذاته، والذي كانت حاشيته تتدلى مهترئة، ونفس القبعة المصنوعة من اللباد؛ اقترب على الطريق، يصيح بصوته، فركض الأطفال إلى منازلهم لإحضار السكاكين والمقصات، أو ركضوا في الطريق يصيحون في بهجة: براندون العجوز، براندون العجوز (إذ كان ذلك اسمه).

بعد قليل في فناء آل باري، بدأت باتريشيا في الصراخ: أكره هذا الرجل العجوز! ثم صرخت بصوت عالٍ: أكرهه! أكره هذا الرجل العجوز، أكرهه! صرخت، ووقفت بلا حراك في الفناء ووجهها يبدو ذابلًا وشاحبًا. تسبب هذا الصراخ العالي المرتعش في أن جاءت ليونا تركض نحو الخارج، وكذلك الجيران؛ جذبوها داخل المنزل، وكانت لا تزال تصرخ، لم يتمكنوا من إقناعها بأن تخبرهم بما بها؛ ظنوا أنها تعاني من نوبة ما. كانت عيناها مثبتتين لأعلى وفمها مفتوحًا على آخره، وأسنانها الصغيرة المدببة بارزة بالكامل تقريبًا، ومتآكلة على نحو طفيف عند نهاياتها؛ جعلها هذا تبدو أشبه بالنمس، حيوان صغير بائس ومجنون في نوبة غضب أو ذعر. حاولوا هزَّها، وصفعها، وإلقاء الماء البارد على وجهها، وفي النهاية نجحوا في جعلها تبتلع جرعة كبيرة من شراب مهدئ به الكثير من الويسكي، ثم وضعوها في الفراش.

قال الجيران بعضهم لبعض أثناء خروجهم من المنزل: هذه ابنة ليونا الغالية. قالوا: هذه «المطربة»، ولأن الأمور عادت إلى ما كانت عليه الآن وعادوا يبغضون ليونا كما كانوا من قبل، ضحكوا في كآبة وقالوا: أجل، نجمة السينما المستقبلية هذه، عندما تراها تصرخ في الفناء، تظن أنها فقدت صوابها.

•••

كان هناك هذا المنزل، والمنازل الخشبية الأخرى التي لم تُطلَ من قبل، بأسقفها المرقعة المنحدرة وشرفاتها الضيقة المائلة، والتي ينبعث من مداخنها الدخان الناتج عن حرق الحطب، ووجوه الأطفال الشاحبة وهي تلمس نوافذها، وخلفها مساحة صغيرة من الأرض، محروثة في بعض الأماكن، وفي أماكن أخرى ينمو العشب، وتمتلئ بالصخور، ومن ورائها كانت توجد أشجار الصنوبر، والتي ليست شديدة الارتفاع. في المقدمة كانت توجد الأفنية، الحدائق الهالكة، والطريق السريع الكئيب يمر عبر البلدة. بدأت الثلوج تتساقط ببطء، وبانتظام، بين الطريق السريع والمنازل وأشجار الصنوبر، في ندفات كبيرة في البداية ثم في ندفات أصغر فأصغر، والتي لم تَذُبْ فوق الأخاديد الصلبة وصخور الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤