صبيان وبنات

كان والدي مُربِّي ثعالب؛ فكان يربي الثعالب الفضية في أقفاص، وفي الخريف وبواكير الشتاء، حينما يَغزُر فِراؤها، يقتلها ويسلخها ثم يبيع فراءها إلى شركة «هدسون باي» أو شركة «مونتريال فير تريدرز». كانت هاتان الشركتان تقدِّمان لنا تقويمات عليها مشاهد بطولية كنا نعلِّقها، واحدة على كل جانب من جانبي باب المطبخ. أمام خلفية من السموات الزرقاء الباردة وغابات الصنوبر السوداء والأنهار الشمالية الغادرة، يقف مغامرون يرتدون قبعات مزينة بالريش وهم يغرسون علم إنجلترا أو فرنسا، بينما ينحني أشخاص همج ضخام الجثث أمام عربات الجر.

كان والدي يظل يعمل لعدة أسابيع قبل حلول «عيد الميلاد» في قبو منزلنا بعد وقت العشاء. كان القبو مطليًّا باللون الأبيض، ومضاءً بمصباح قوته مائة وات معلق فوق طاولة الشغل. وكنت أنا وأخي ليرد نجلس على درجة السلم العليا ونراقبه. كان والدي يسلخ الفرو من فوق جثة الثعلب، الذي كان يتبيَّن حينئذ صغير الحجم على نحو غير متوقع، هزيلًا كالجرذ، بعد أن يُنزَع عنه فراؤه الذي يختال به. كانت الجثث الزلقة العارية تُجمع في جِوَال وتُدفن عند المزبلة. حدث ذات مرة أن دفع الأجير الذي يعمل لدينا — هنري بيلي — الجوال نحوي مازحًا وهو يقول: «هدية عيد الميلاد!» ظنت أمي أن هذا أمرٌ لا يبعث على الضحك. في الواقع كانت تكره عملية السلخ برمتها — أعني القتل والسلخ وتجهيز الفراء — وكم تمنت ألَّا يكون ثمة اضطرار لأن تُجْرَى هذه العملية في المنزل. كانت تنبعث رائحة ما جراء ذلك. فبعد أن يسلخ والدي الفراء ويفرده فوق لوح طويل، كان يكحته في حرص ليزيل تجمعات الدم المتخثر عليه، وكتل الدهن، كانت رائحة الدم والدهن الحيواني — مصحوبة بالرائحة الأصلية للثعلب نفسه — تنفذ إلى كل أرجاء المنزل. بالنسبة لي كانت هذه الرائحة رائحة موسمية، شأنها شأن رائحة البرتقال وأوراق شجر الصنوبر.

كان هنري بيلي يعاني مرضًا صدريًّا. فكان يظل يسعل ويسعل حتى يستحيل وجهه النحيل إلى اللون القرمزي، وتمتلئ عيناه الساخرتان السماويتان بالدموع، فيرفع غطاء الموقد، ثم يقف على مبعدة مناسبة منه، ثم يسدد كتلة عظيمة من البلغم مباشرةً إلى قلب اللهب، فيُسمع هسيس انطفائها. كنا نعجب بأدائه هذا وبقدرته على جعل معدته تقرقر متى شاء ذلك، وبضحكه الذي كان يضج بصوت صفير وقرقرة مرتفع، ويدل على البنية المتهالكة لصدره المريض. أحيانًا كان من الصعب معرفة سبب ضحكه، ودائمًا كان من الممكن أن نكون نحن السبب.

كنا نستطيع شم رائحة الثعالب وسمع ضحك هنري حتى بعد أن نؤمر بالذهاب إلى الفراش، لكن هذه الأمور، التي تذكرنا بعالم القبو الدافئ الآمن ساطع الضوء، تبدأ في التلاشي والاضمحلال طافية فوق هواء الطابق العلوي البارد العطن. كنا نشعر بالخوف في ليالي فصل الشتاء. لم نكن نخاف مما هو في «الخارج» رغم أنه في هذا الوقت من العام كان الجليد يتكدس حول منزلنا فيبدو كحيتان جاثمة، وكانت الريح تزعجنا طوال الليل، آتيةً من الحقول المدفونة، والمستنقع المتجمد، يصاحبها «كورَس» التهديدات والبؤس العتيق «البُعبُعي» المخيف. كنا نخاف مما هو في «الداخل»، من الغرفة التي ننام فيها. ففي ذلك الوقت لم يكن الطابق العلوي من منزلنا قد اكتمل بناؤه. كانت توجد مدخنة من الطوب ذات جدار واحد، وكانت توجد في منتصف الأرضية حفرة مربعة، يحيط بها سور خشبي، ويبرز منها الدرج إلى الأعلى. وعلى الجانب الآخر من بئر السلم كانت توجد الأشياء المهملة التي لم يعد يستخدمها أحد؛ لفة مشمع من أيام الجندية واقفة على طرفها، عربة أطفال من الخيزران، وسلة من نبات السرخس، وأباريق وأحواض خزفية مشروخة، وصورة لمعركة «بالاكلافا»، كئيبة المنظر للغاية. كنت قد أخبرت ليرد، بمجرد أن صار كبيرًا كفايةً بحيث يفهم أمورًا كهذه، أن ثمة خفافيش وهياكل عظمية تعيش هناك، وكنت كلما هرب رجل من سجن المقاطعة، الذي يبعد عشرين ميلًا، أتخيل أنه دخل من النافذة واختبأ خلف لفة المشمع. لكن كانت هناك قواعد للحفاظ على سلامتنا. فحينما يكون النور مضاءً نكون بأمان طالما لا نتخطى محيط السجادة البالية التي تغطي مساحة غرفة نومنا، وحينما يكون النور مطفأً لم يكن أي مكان آمنًا سوى الفُرُش نفسها. كنت أضطر لإضاءة المصباح المتدلي فوق طرف فراشي، فأمط جسدي بأقصى قدر ممكن كي أطال السلك.

في الظلام كنا نستلقي فوق فرشنا، أطواف نجاتنا الضيقة، ونثبت أعيننا على الضوء الخافت المنبعث من بئر السلم، ونتغنى بأغانٍ. كان ليرد يغني أغنية «جينجل بيلز»، كان يحب غناءها في أي وقت، سواء وقت «أعياد الميلاد» أو غيره، وكنت أغني أغنية «داني بوي». كنت أحب وقع صوتي، الذي كان ناعمًا مبتهلًا يرتفع في الظلام. في هذا الوقت كنا نستطيع أن نتبيَّن الأشكال السامقة داكنة اللون التي يعلوها الجليد من خلف زجاج النافذة. وحينما كنت آتي على غناء المقطع الذي يقول: «حينما أموت، لأنني سأموت بالضرورة.» تنتابني رعشة ليست ناجمة عن برودة الأغطية وإنما عن شعور الغبطة الذي يكاد يسكت صوتي. «ستركع فوقي وتلقي صلاة العذراء مريم.» ما صلاة العذراء مريم؟ كان اليوم يمر تلو الآخر وأنا أنسى السؤال عمَّا تعنيه الكلمة.

كان ليرد ينتقل من الغناء إلى النوم مباشرةً. كنت أستطيع سماع تردد أنفاسه الطويلة المطمئنة العالية. وفيما تبقى لي من وقت، هو الأكثر خصوصية وربما الأفضل في يومي كله، كنت أُحكِم شدَّ الأغطية فوق جسدي وأشرع في رواية إحدى القصص التي كنت أرويها لنفسي من ليلة إلى أخرى. كانت قصصًا عني حينما أكبر، أكبر أكثر قليلًا، تقع أحداثها في عالم يدور حولي بالأساس، لكنه عالم يمنحني فرصًا أُظهِر فيها الشجاعة والجرأة والتضحية بالنفس، وهي فرص لم أكن أنالها في عالمي الحقيقي قطُّ. في هذه القصص أنقذت حياة أشخاصٍ من مبنًى مفخخ بالقنابل (لخيبة أملي كانت الحرب الحقيقية قد اشتعلت بعيدًا جدًّا عن بلدتي «جوبيلي»)، وأطلقت الرصاص على ذئبين مسعورين هاجما فناء المدرسة (كان المدرسون منكمشين ذعرًا من خلفي)، وامتطيت في شجاعة جوادًا بديعًا سرت به عبر الشارع الرئيسي في «جوبيلي»، كي أتلقَّى شكر سكان البلدة على عمل بطولي سوف أنجزه (لم يحدث أن قاد أحدٌ جوادًا هناك سوى الملك بيلي في المسيرة الاحتفالية بيوم «البرتقاليين»). كانت هذه القصص دائمًا ما تتضمَّن امتطاء أحصنة وإطلاق رصاص، رغم أنني لم أمتطِ جوادًا من قبل سوى مرتين — ومن دون سرج لأننا لم نكن نملك واحدًا — وفي المرة الثانية انزلقت وسقطت تحت أرجل الحصان، الذي خطا فوقي برفق. أما إطلاق الرصاص فكنت أتدرب عليه في الحقيقة، لكنني لم أكن أستطيع أن أصيب أي هدف بعد، ولا حتى علب الصفيح فوق أعمدة السياج.

•••

كانت الثعالب الحية تسكن عالمًا من صنع أبي، محاطًا بسياج مرتفع، كبلدة من العصور الوسطى، له بوابة توصد بقفل عند حلول الليل، تتراص في شوارع هذه البلدة أقفاص محكمة ضخمة، لكلٍّ منها باب حقيقي يتسع لمرور رجل، ومنحدر خشبي بطول أسلاك القفص، كي يتسنى للثعالب أن تتقافز وتجري صعودًا وهبوطًا عليه، ووجار — شيء يشبه دولاب الملابس ومزود بفتحات تهوية — تلجأ إليه عند نومها وفي الشتاء وتحمي فيه صغارها. كانت توجد أطباق للطعام والسقاية مثبتة إلى أسلاك القفص على نحو يتيح إفراغها وتنظيفها من خارج القفص. كانت الأطباق مصنوعة من الصفيح القديم، وكانت المنحدرات الخشبية والأوجرة مصنوعة من فضلات الخشب القديم وسقط المتاع. كان كل شيء مرتبًا ومنظمًا بإحكام؛ كان أبي يُبدع دون كلل، وكان أفضل كتاب في العالم بالنسبة له هو كتاب «روبنسون كروزو». كان قد أعد برميلًا من الصفيح وتحايل بحيث نجح في تركيبه على عربة يدوية، كي يُستخدَم في جلب الماء إلى الأقفاص. كانت هذه وظيفتي في الصيف حيث تحتاج الثعالب لأن تشرب مرتين يوميًّا. فكنت أملأ البرميل عند الطلمبة مرتين، بين الساعة التاسعة والعاشرة صباحًا ثم مرة أخرى بعد العشاء، ثم أدفعه عبر فناء الحظيرة إلى الأقفاص حيث كنت أركن العربة وأملأ وعاء السقاية الذي أستخدمه أنا، وأمضي عبر الشوارع الفاصلة بين الأقفاص. كان ليرد يأتي هو الآخر، حاملًا وعاءه الصغير ذا اللونين الأخضر والقشدي مملوءًا عن آخره، يصطدم بساقَيْه فتنسكب دفقات من الماء فوق حذائه القماشي. أما أنا، فكان معي وعاء السقاية الفعلي، الذي يستخدمه أبي، ولو أنني لم أكن أستطيع ملأه إلا بمقدار ثلاثة أرباعه فقط.

كانت للثعالب أسماء، تُطبَع على لوحة من الصفيح تُعلَّق بجانب أبواب الأقفاص. لم تكن تُمنَح أسماءها تلك وهي حديثة الولادة، وإنما بعد أن تفلت من موسم السلخ في عامها الأول فتُلحق بثعالب سلالة التربية. كانت الثعالب التي يختار أبي أسماءها تحمل أسماءً مثل «برينس» و«بوب» و«والي» و«بيتي». والثعالب التي أختار أنا أسماءها تحمل أسماءً مثل «ستار» أو «تُرك» أو «مورين» أو «ديانا». ثمة ثعلبة أسماها ليرد «مود» تيمنًا باسم فتاة كانت تعمل لدينا حينما كان صغيرًا، وثعلب أسماه «هارولد» على اسم صبي في المدرسة، وآخر أسماه «مكسيكو» ولم يذكر سبب ذلك.

لم تكن تسمية الثعالب تحيلها إلى حيوانات أليفة، أو أي شيء من هذا القبيل؛ إذ لم يكن أحد يدخل إلى الأقفاص قط سوى والدي، الذي أصيب بتسمم في الدم مرتين جراء ما ناله من عضَّاتها. أما أنا فكنت أراها حين أجلب لها الماء تجوس جيئة وذهابًا على طول الدروب التي صنعتها داخل الأقفاص، ولا تصدر ضُباحًا إلا نادرًا — كانت تدخر ذلك لليل، حينما تشكل جوقة تجمعها نوبة اهتياج — لكنها كانت دائمًا تراقبني، بأعينها المتوقدة، الصافية صفاء الذهب، فوق وجوهها الحاقدة المدببة. كانت جميلة بأرجلها الرقيقة وذيولها الأرستقراطية الأنيقة، وفروها الفضي البراق المنتثر فوق أسافل ظهورها الغامقة — سبب وصفها بالفضية — لكن جمالها كان يتجلى على نحو خاص في أعينها الذهبية ووجوهها المسحوبة بحدة متقنة والتي توحي بعداء صرف.

إلى جانب حمل الماء، كنت أساعد والدي عندما يجز العشب الطويل، ويحش نبتات الزربيح الأبيض والمسك المكسيكي المُزهِرة، التي كانت تنمو بين الأقفاص. كان هو يحش بالمنجل وأنا أجمع ما يحشه في أكوام. ثم يأخذ مذراةً وينشر العشب المقصوص لتوه فوق أسقف الأقفاص، كي تكون الثعالب في جو ألطف ويحمي معاطفها الطبيعية التي كانت تستحيل إلى اللون البني من كثرة التعرض للشمس. لم يكن أبي يتحدث إليَّ إلا في شيء يتعلق بالشغل الذي نقوم به. وهو في هذا يختلف كل الاختلاف عن أمي التي كانت — حين تشعر بالابتهاج — تتحدث إليَّ عن كل شيء — اسم الكلب الذي اقتنته حينما كانت فتاةً صغيرة، أسماء الفتيان الذين خرجت بصحبتهم حينما كانت صبية يافعة، وأشكال فساتين معينة كانت لديها — لكن لم يكن يسعها أن تتصور إلامَ وصل حال كل هذه الأشياء. في المقابل، كانت كل أفكار أبي وقصصه خصوصية، وكنت أستحي منه فلا أطرح عليه أية أسئلة. مع ذلك، كنت أعمل تحت ناظريه عن طيب خاطر، شاعرةً بالفخر. حدث ذات مرة أن جاء بائع علف إلى الأقفاص كي يتحدث إلى والدي، وسمعت والدي يقول: «أود أن أعرفك بعاملي الجديد.» استدرت وجعلت أجمع العشب في همة، ووجهي يتورد سرورًا.

قال البائع: «لا بد أنك تمزح، اعتقدت أنها مجرد فتاة.»

بعد أن قمنا بجز العشب، بدا فجأة أن السنة قد مر منها وقت طويل. كنت أسير فوق بقايا العشب في وقت مبكر من المساء، بينما السماء مخضبة بالحمرة وسكون الخريف يعم الأرجاء. وحينما انتهيت من دفع وعاء المياه إلى خارج البوابة وسكَّرتها بالقفل، كان الظلام على وشك أن يخيم. في إحدى الليالي في هذا التوقيت، رأيت أمي وأبي واقفين يجمعهما حديث عند الممر الترابي القصير الذي كنا ندعوه الممشى، أمام الحظيرة. كان والدي عائدًا لتوه من المجزر، مرتديًا مريلته الفظة المخضبة بالدماء، يحمل في يده ملء دلو من قطع اللحم.

كان من غير المعتاد رؤية أمي في الأسفل عند الحظيرة؛ فهي لم تكن تخرج من المنزل إلا لأداء أمر ما؛ نشر الغسيل أو استخراج ثمار البطاطا من بطن تربة الحديقة. بدت في غير مكانها الصحيح، بساقيها العاريتين المكتنزتين اللتين لم تريا الشمس من قبل، وهي ما تزال مرتديةً مريلة المطبخ المبتلة حول بطنها من أثر غسل أطباق طعام العشاء. كان شعرها مربوطًا تحت وشاح تنفلت خارجه شعيرات بسيطة. كانت تربط شعرها على هذا النحو في الصباح، قائلةً إنها لم يسعها تصفيفه لضيق الوقت، فيظل مربوطًا طوال اليوم. كان هذا صحيحًا، أيضًا، فقد كان الوقت ضيقًا بالفعل. في تلك الأيام كان رواقنا الخلفي يعج بأكوام من سلال الدُّرَّاق والعنب والكمثرى، جرى شراؤها من البلدة، إلى جانب البصل والطماطم والخيار الذي نزرعه في منزلنا، كل ذلك في انتظار أن يتحول إلى جيلي ومربَّى ومحفوظات أخرى كالمخلل وصوص الفلفل. كانت نار الموقد تظل موقدة طوال النهار، تعلوها أوعية يبقبق فيها الماء المغلي، وفي بعض الأحيان كان الكيس القماشي المستخدم في صنع الجبن يُعلق فوق عصًا قائمة على كرسيين، وفيه العنب الأزرق يصفي ماءه لنصنع منه الجيلي. كانت تُحدد لي مهام معينة، فكنت أجلس إلى الطاولة أقشر ثمار الدراق الذي سبق غمره في الماء الساخن، أو أقطِّع حبات البصل، فتلتمع عيناي وتدمعان. وبمجرد أن أنتهي من عملي كنت أنطلق إلى خارج المنزل، محاولةً أن أختفي من أمام ناظري أمي قبل أن تفكر في المهمة التالية التي ستكلِّفني بها. كنت أكره المطبخ المعتم الحار في فصل الصيف، والستائر الخضراء والورق الصمغي المخصص لصيد الذباب، والطاولة القديمة المكسوة بالقماش «المزيَّت» التي لا تتغير، والمرآة المموجة والمشمع ذا الفقاعات. كان التعب والانشغال ينالان من أمي كل منال بحيث لا تقوى على الحديث إليَّ، ويفتُرُ فؤادها عن أن تحكي لي عن حفل التخرج الراقص الذي أقامته كلية المعلمين. كانت حبات العرق تسيل فوق وجهها، وكانت دائمًا تحصي عدد الأوعية هامسة وهي تشير إليها بسبابتها، ثم تفرغ بعددها أكوابًا من السكر. كنت أرى أن عمل البيت لا ينتهي، كئيب بدرجة استثنائية وممل، وأن العمل خارج المنزل، وفي خدمة أبي، مقدس الأهمية.

وبينما كنت أدفع العربة أمامي وفوقها وعاء المياه مُتَّجهةً إلى الحظيرة حيث كانت توضع، سمعت أمي تقول: «انتظري ريثما يكبر ليرد قليلًا، وعندئذٍ سيتوفر لكِ عونٌ حقيقيٌّ.»

لم أسمع ما قاله أبي. كنت مسرورة من طريقة وقوفه منصتًا، بالاحترام الذي قد ينصت به لبائع أو لشخص غريب، لكن بشيء من الرغبة في متابعة عمله الحقيقي. شعرت أنه لا عمل لأمي في هذا المكان في الأسفل ورغبت أن يراوده نفس الشعور. ماذا كانت تعني بما قالته عن ليرد؟ إن ليرد لم يشكل أدنى عون لأي شخص. أين هو الآن؟ يتأرجح فوق الأرجوحة حتى يصاب بالغثيان، أو يجول في دوائر، أو يحاول التقاط يرقات الفراشات. لم يحدث قط أن مكث معي حتى أفرغ من عملي.

سمعتها تقول: «وحينئذ يمكنني أن أستعين بها أكثر في المنزل.» كانت طريقتها في التحدث عني متناهية الفتور، تنم عن الشعور بالحسرة ودائمًا تصيبني بالضيق. أضافت قائلة: «لقد انقصم ظهري وهي تعاف شغل المنزل. وكأنني لم أنجب بنتًا في هذه الأسرة.»

ذهبتُ وجلستُ فوق كيس من أكياس العلف عند زاوية الحظيرة، غير راغبة في الظهور أثناء استمرار هذه المحادثة. كنت أشعر أن أمي ليست أهلًا للثقة. كانت أكثر حنانًا من أبي ويسهل التحايل عليها، لكن لا يمكن الاعتماد عليها، ولم يكن من الممكن معرفة الأسباب الحقيقية وراء ما تقوله وما تفعله. كانت تحبنا، وتظلُّ حتى وقت متأخر من الليل تحيك لي ثوبًا ذا قَصَّة صعبة كنت أرغبه، كي أرتديه عندما يبدأ العام الدراسي، لكنها كانت عدوتي أيضًا، كانت تكيد وتتآمر دائمًا. كانت تتآمر الآن بهدف أن تجعلني أقبع في المنزل لفترة أطول، رغم أنها تعرف أنني أكره ذلك (بل ربما لأنها تعرف أنني أكره ذلك)، وتمنعني من العمل لدى والدي. خطر لي أنها تفعل ذلك لمجرد المعاندة، ولكي تختبر سطوتها. لم يخطر لي أنها ربما كانت تشعر بالوحدة، أو الغيرة. لم أتصور أن يشعر بهذا أي شخص من الكبار، الكبار محظوظون للغاية. جلست أركل كيس العلف بعقبَيْ قدميَّ في حركة رتيبة، تثير الغبار، ولم أخرج إلا بعد أن ذهبَتْ.

لم أكن أتوقع بأية حال أن يعير أبي أي اهتمام لما قالته. من يتصور أن ليرد يستطيع أن يؤدي عملي؟ هل يستطيع ليرد أن يتذكر وضع القفل أو أن ينظف أوعية السقاية من القاذورات بليفة من السعف مربوطة في نهاية عصًا طويلة، أو حتى أن يجر وعاء الماء دون أن يسقطه من فوق العربة؟ بيَّن لي هذا الموقف إلى أي مدى تفتقر أمي أي دراية تُذكر بحقيقة الأمور.

•••

نسيت أن أخبركم عن طعام الثعالب. ذكرتني به مريلة أبي الملوثة بالدم. كنا نطعم الثعالب لحم الجياد. ففي ذلك الوقت، كان معظم المزارعين لا يزالون يحتفظون بجياد في مزارعهم، وحينما كان يشيخ أي جواد بحيث لا يعود قادرًا على العمل، أو تنكسر رجله، أو تتدهور حالته ولا يستعيد عافيته، كما كان يحدث في بعض الأحيان، كان صاحبه يستدعي والدي، فيذهب هو وهنري إلى المزرعة بالشاحنة. كان المعتاد أن يطلقا النار على الجواد ويذبحاه هناك، مقابل مبلغ يدفعانه للمزارع يتراوح بين خمسة دولارات واثني عشر دولارًا. لكن عندما يكون لدينا بالفعل كمية كبيرة من اللحم، كانا يأتيان بالجواد حيًّا، ويستبقيانه لبضعة أيام أو أسابيع في الإسطبل، حتى ينتهي مخزون اللحم الموجود. عقب الحرب، صار الفلاحون يشترون الجرارات الزراعية وبدءوا يستغنون شيئًا فشيئًا عن الجياد، ومن ثم، كان يحدث في بعض الأحيان أن نحصل على جواد قوي معافًى، لا عيب فيه إلا أنه لم تعد هناك حاجة إليه. إذا حدث شيء كهذا في الشتاء، كان من الممكن أن نستبقي الجواد في الإسطبل حتى حلول الربيع؛ لأن العشب يكون موفورًا، وإذا سقطت كميات كبيرة من الجليد — لم تكن الجرافة تنجح دائمًا في إزالة الجليد من طريقنا — كان من الملائم الذهاب إلى البلدة بجواد وزلاجة.

في شتاء العام الذي كنت فيه في الحادية عشرة من عمري كان لدينا جوادان في الإسطبل. لم نكن نعلم اسميهما الأصليين، فأسميناهما ماك وفلورا. كان ماك حصان شغل مسنًّا، حالك السواد وفاتر الطبع. أما فلورا فكانت فرسًا صهباء تُستخدم في جر العربات. أخذناهما معًا بغرض الذبح. كان ماك بطيئًا تسهل السيطرة عليه. أما فلورا فانتابتها نوبات من الذعر العنيف، وراحت تجنح نحو السيارات أو حتى الجياد الأخرى، لكننا أعجبنا بسرعتها وخطواتها الشمَّاء، وما لها من طابع عام يتسم بالنبل والترفع. يوم السبت نزلنا إلى الإسطبل، وما إن فتحنا الباب على عتمته الدافئة العبقة برائحة حيوانية، حتى نفضت فلورا رأسها، وأدارت عينيها، وصهلت في قنوط، وانتابتها حالة عصبية في موضعها. لم يكن من المأمون الدخول إلى حجيرتها، فربما ترفس.

في هذا الشتاء أيضًا بدأت أسمع ما هو أكثر بكثير عن الموضوع الذي أثارته أمي حينما كانت تتحدث أمام الحظيرة. لم أعد أشعر بالأمان. كان يبدو أن في عقول كل الأشخاص من حولي تيارًا ثابتًا من الأفكار المتعلقة بهذا الموضوع، والتي لا سبيل لإثنائهم عنها. كانت كلمة «بنت» تبدو لي من قبل بريئة خالية من أي مدلول، ككلمة «طفل»؛ لكن الآن تبيَّن لي أنها ليست كذلك. لم تكن صفة «بنت» تنطبق على الحال التي كنت عليها، كما كنت أعتقد، وإنما على الحال التي يجب أن أصبح عليها. كانت تعريفًا، دائمًا تقال بنبرة مؤكدة تنضح بالتوبيخ وخيبة الأمل. كانت أيضًا أداة للاستهزاء بي. فقد حدث ذات مرة أن كنا نتعارك أنا وليرد، حينئذ اضطررت لأول مرة على الإطلاق أن أستجمع كل ما أملك من قوة كي أواجهه، ومع ذلك، قبض على ذراعي وشل حركتها لوهلة، شعرت فيها بألم حقيقي. كان هنري يراقب ما يحدث، فضحك قائلًا: «أوه، ها هو ليرد سيُريكِ، يا له من يوم!» كان ليرد يزداد كبرًا في الحجم. لكنني كنت أكبر أيضًا.

جاءت جدتي لتمكث معنا لبضعة أسابيع، فسمعت أشياء أخرى. «البنت لا ينبغي لها أن تَصفِق الباب هكذا.» «البنت ينبغي أن تضم ركبتيها معًا عندما تجلس.» كان هناك ما هو أسوأ، كنت حينما أطرح بعض الأسئلة يقال لي: «هذا أمر لا شأن للبنات به.» ظللت أصفق الأبواب وأجلس بأخرق طريقة ممكنة، ظنًّا مني أنني سأستطيع من خلال هذه التصرفات أن أحافظ على حريتي.

حينما حل الربيع، بات يُسمَح للجوادين أن يخرجا إلى فناء الحظيرة. وقف ماك قبالة جدار الحظيرة محاولًا حك عنقه وفخذيه، لكن فلورا هرولت جيئة وذهابًا واشرأبَّت من السور، وجعلت تركل السياج بحوافرها. سرعان ما تضاءل الجليد، كاشفًا عن الأرض الصلبة السمراء الرمادية، وعن وهادها ومرتفعاتها المألوفة، عارية مكشوفة عقب زوال المشهد الشتوي الرائع. كان ثمة شعور بالانبساط والتحرر. لم نعد نرتدي فوق نعالنا إلا حذاءً مطاطيًّا طويل الرقبة، وبتنا نشعر بأرجلنا خفيفة على نحو لا يُصدَّق. وفي أحد أيام السبت خرجنا إلى الإسطبل فوجدنا كل الأبواب مفتوحة، على نحو جعل قدرًا غير معتاد من أشعة الشمس والهواء المنعش يدخل إلى الداخل. كان هنري موجودًا هناك، يضيع الوقت في النظر إلى مجموعة التقاويم التي كانت معلقة خلف حجيرات الجياد في جزء من الإسطبل لا أظن أن أمي رأته قط من قبل.

صاح هنري: «أجئت لتودع صديقك العجوز ماك؟ هيا أعطه بعضًا من الشوفان.» ثم سكب بعض الشوفان في يدَي ليرد الذي ضمهما إلى بعضهما، وراح يطعم ماك. كانت حالة أسنان ماك مزرية. كان يأكل على مهل، ويحرك الشوفان متأنِّيًا في أنحاء فمه، محاولًا أن يجد جذر ضرس كي يطحن به ما يأكل. قال هنري في رثاء: «يا لماك العجوز المسكين! إن الحصان ينتهي أمره ما إن يفقد أسنانه، هكذا هي الحال.»

سألت: «هل ستطلق عليه النار اليوم؟» كان ماك وفلورا قد ظلَّا لفترة طويلة في الإسطبل إلى درجة أنني نسيت أنهما سيُقتلان.

لم يردَّ هنري على سؤالي، وإنما راح يغني بصوت ساخر متهدج مرتفع: «أوه، لم يعد هناك عمل إضافي للعم نيد المسكين، لقد ذهب إلى حيث يذهب الزنوج الطيبون.» كان ماك يحرك لسانه الغليظ المائل إلى السواد بهمة في يد ليرد. خرجت قبل أن تنتهي الأغنية وجلست عند الممشى.

لم يسبق أن رأيتهما يطلقان النار على حصان، لكنني كنت أعرف أين يجري ذلك. في الصيف الماضي عثرت أنا وليرد على أمعاء حصان لم تدفن بعد. للوهلة الأولى ظنناها حية ضخمة سوداء، ملفوفة تحت أشعة الشمس. كان ذلك بالقرب من الحقل الممتد بجانب الحظيرة. فكرت أننا إذا دخلنا الحظيرة وعثرنا على شق أو ثقب ننظر من خلاله، فسيتسنى لنا أن نراهما وهما يقتلانه. لم يكن ذلك أمرًا أحب رؤيته. مع ذلك، كنت أعتقد أنه إذا كان هناك أمر ما يحدث حقًّا، فمن الأفضل أن أراه وأن أعرف.

خرج والدي من المنزل، حاملًا البندقية.

سأل: «ماذا تفعل هنا؟»

أجاب: «لا شيء.»

«هيا اصعد والعب في المنزل.»

وأخرج ليرد من الإسطبل. قلت لليرد: «هل تود أن تراهما يطلقان النار على ماك؟» ودون أن أنتظر ردًّا منه جذبته نحو باب الحظيرة الأمامي، وفتحته حذرةً ودلفت إلى الداخل. قلت: «ابق هادئًا وإلا فسيسمعوننا.» كان باستطاعتنا أن نسمع هنري وأبي يتحدثان في الإسطبل، ثم صوت الجلبة الثقيلة لخطوات ماك وهو يُسحَب من حجيرته.

في مخزن التبن، كان الجو باردًا معتمًا رقيقًا، وكانت خيوط من نور الشمس تدخل عبر الشقوق وتتقاطع. كان التبن منخفضًا. كانت الأرضية كأرض الريف غير الممهدة، التي تتخللها الوهاد والهضاب، تنزلق تحت أقدامنا. على ارتفاع أربعة أقدام تقريبًا كانت ثمة عارضة خشبية تحيط بالجدران من الداخل. كوَّمنا التبن في أحد الأركان وقمت أنا برفع ليرد عاليًا ثم رفعت نفسي. لم تكن العارضة الخشبية عريضة، زحفنا فوقها وأيدينا منبسطة فوق جدران الحظيرة. كانت هناك ثقوب عديدة، عثرت بينها على واحد من شأنه أن يمنحني المنظر الذي أردت؛ زاوية من فناء الحظيرة والبوابة وجزءًا من الحقل. لم يعثر ليرد على أي ثقب وبدأ يتذمَّر.

أريته شقًّا متسعًا بين لوحين. وقلت له: «اهدأ وانتظر، إذا سمعاك فستوقعنا في مشكلة.»

ظهر أبي في المشهد حاملًا البندقية. كان هنري يسوق ماك ممسكًا زمامه. أسقط الزمام وأخرج ورق لف السجائر والتبغ، وراح يلف سيجارتين واحدة له والأخرى لوالدي. في تلك الأثناء كان ماك يمط أنفه ويتشمم العشب الميت القديم الموجود بجانب السياج. حينئذ فتح أبي البوابة وأخرج ماك. ثم ساق هنري ماك بعيدًا عن الممر إلى رقعة من الأرض وهما يتحدثان سويًّا بصوت لم يكن مرتفعًا بحيث نستطيع سماعه. بدأ ماك يبحث ثانيةً عن عشب طازج يلوكه في فمه، ولكنه لم يكن ليجده هناك. مشى أبي مبتعدًا في خط مستقيم، ثم توقف على مسافة قصيرة، بدت مناسبة له. كان هنري يبتعد هو الآخر عن ماك، لكن في اتجاه جانبي، وهو ما يزال ممسكًا في إهمال بالزمام. رفع أبي البندقية ثم رفع ماك ناظريه إلى الأمام كأنه لاحظ شيئًا ما، ثم أطلق والدي النار عليه.

لم ينهرْ ماك على الفور، وإنما ترنَّح وتمايل من جانب إلى آخر ثم سقط أولًا على جانبه، ثم انقلب على ظهره، وللمفاجأة، ظل يرفس بأرجله في الهواء لبضع ثوانٍ. أثار هذا ضحك هنري كما لو كان ماك يؤدي حيلة لإضحاكه. أما ليرد، الذي سحب نَفَسًا مفجوعًا طويلًا لدهشته عندما أُطلقت الرصاصة، فقال بصوت عالٍ: «إنه لم يمت.» ظننت أن ذلك ربما يكون حقيقيًّا لكن أرجله توقفت، وعاد فانقلب على جانبه ثانيةً، وانتابت عضلاته رجفة ثم خمد جسده تمامًا. تحرك الرجلان نحوه وألقيا عليه نظرة عملية، ثم انحنيا وتفحصا جبهته حيث اخترقت الرصاصة رأسه، حينئذٍ رأيت دمه على العشب البنيِّ.

قلت: «الآن سيسلخانه ويقطعانه، هيا نذهب.» كانت رجلاي ترتعشان قليلًا، وقفزت في إثارة إلى الأسفل فوق التبن. قلت لليرد بنبرة مهنئة: «ها قد رأيت كيف يقتلون جوادًا.» وكأنني قد رأيت هذا المشهد مرات كثيرة من قبل. ثم أردفت: «دعنا نرَ إذا كانت أيٌّ من قطط الحظيرة قد خبَّأت قططًا صغيرة في التبن.» قفز ليرد ورائي، وبدا صغيرًا ومطيعًا من جديد. حينئذ تذكرت فجأة كيف، حينما كنت صغيرة، جلبته إلى الحظيرة وطلبت منه أن يتسلق السلم الخشبي إلى العارضة العلوية. كان هذا أيضًا في الربيع، حينما كان كوم التبن منخفضًا. كنت قد فعلت ذلك رغبةً في الإثارة، رغبةً في حدوث شيء ما يمكن أن أحكي عنه. كان ليرد يرتدي معطفًا واسعًا بالنسبة إليه إلى حد ما، ذا مربعات باللونين الأبيض والبني. كان المعطف لي قبل أن يجري تصغيره كي يرتديه. أخذ يتسلق ليرد صاعدًا إلى الأعلى كما طلبت منه، وجلس فوق العارضة. كان التبن في الأسفل بعيدًا عنه في أحد جانبي الحظيرة، وكانت الأرضية وبعض الماكينات القديمة في الجانب الآخر. عندئذٍ ركضت أنادي أبي صارخة: «ليرد صعد فوق عارضة الحظيرة!» جاء أبي وجاءت أمي، ثم صعد أبي درجات السلم وهو يتحدث في هدوء وأنزل ليرد حاملًا إياه تحت ذراعه، بينما اتكأت أمي إلى السلم وأجهشت بالبكاء. قالا لي: «لماذا لم تحرصي على مراقبته؟» لكن لم يعرف أحد حقيقة ما حدث. ولم يكن ليرد يعرف ما يكفي لأن يحكي ما حدث. لكنني كنت كلما رأيت المعطف ذا المربعات البنية والبيضاء معلقًا في دولاب الملابس، أو في قاع كيس الملابس البالية حيث انتهى أمره، أشعر بثقل في معدتي، ندمًا على ذنب لم أتطهر منه.

نظرت إلى ليرد الذي كان لا يتذكر ذلك أصلًا، لم أكن أحب تلك النظرة التي تعلو هذا الوجه النحيل الشاحب شحوبًا شتويًّا. لم يبدُ مذعورًا أو متكدرًا، وإنما بدا شاردًا مركِّزًا تفكيره في أمر ما. قلت بصوت مرح وودود على غير المعتاد: «اسمع، لن تخبر أحدًا، أليس كذلك؟»

قال ذاهلًا: «بلى!»

«أتعدني بهذا؟»

قال: «أعدك.» جذبت اليد التي خلف ظهره كي أضمن أنه لم يضع إصبعه الوسطى فوق السبابة (دلالة على أنه لن يفي بالوعد). مع ذلك، ربما ينتابه كابوس، فينفضح الأمر بهذه الطريقة. قررت أنني من الأفضل أن أعمل بهمة على انتزاع كل الأفكار المتعلقة بما رآه من عقله، الذي بدا لي أنه لا يستطيع أن يستوعب قدرًا كبيرًا من الأشياء معًا. كان لدي بعض النقود التي كنت قد ادخرتها فأخذته ذلك المساء وذهبنا إلى «جوبيلي» وشاهدنا عرضًا، للممثلة جودي كانوفا، ضحكنا منه كثيرًا. بعد ذلك فكرت أن الأمر سيكون على ما يرام.

بعد أسبوعين علمت أنهم سيقتلون فلورا. علمت ذلك في الليلة السابقة لقتلها، حينما سمعت أمي تسأل أبي عما إذا كان مخزون التبن كافيًا وعلى ما يرام، فقال أبي: «حسنًا، بعد الغد لن يكون لدينا إلا البقرة، وغالبًا سنتمكَّن من إخراجها لترعى الكلأَ الطازجَ بعد أسبوع.» فأدركت أن دور فلورا سيحين في الصباح.

هذه المرة لم أفكر في مشاهدة ما سيحدث، فقد كان هذا أمرًا ينبغي ألَّا يُرى سوى لمرة واحدة. وكنت مذ رأيت قتل ماك لا أفكر فيما رأيت كثيرًا، لكن في بعض الأحيان حينما أكون منشغلة، في المدرسة، أو واقفة أمام المرآة أمشط شعري وأتساءل عما إذا كنت سأصبح جميلة حين أكبر، كان المشهد برمته يبرق في ذهني؛ فأرى طريقة أبي المسترخية المتمرسة في رفع البندقية، وأسمع هنري يضحك لمرأى ماك يرفس بأرجله في الهواء. لم يترك هذا في نفسي قدرًا كبيرًا من الشعور بالرعب والاعتراض، كالذي كان سيصيب أي طفل تربى في المدينة، فقد كنت معتادةً جدًّا على رؤية قتل الحيوانات مدركةً أن ذلك ضرورة بالنسبة لمصدر رزقنا. ومع ذلك، كنت أشعر بالعار إلى حد ما، وطرأ على موقفي من أبي وعمله شعور جديد بالتحفظ، وربما بالإحجام والاتقاء.

كان جو اليوم التالي صحوًا معتدلًا، وكنا نمشي في أنحاء الفناء نلتقط أفرع الشجر التي كانت عواصف الشتاء قد مزقتها. كانت هذه مهمة قيل لنا أن نقوم بها، فضلًا عن أننا كنا نريد استخدام الأفرع في صنع «تيبة» (خيمة مخروطية تشبه خيام الهنود الحمر). سمعنا صهيل فلورا، ثم صوت أبي وصراخ هنري، فركضنا نحو فناء الحظيرة لنرى ما الأمر.

كان باب الإسطبل مفتوحًا، وكان هنري قد أخرج فلورا للتو، فهربت منه. كانت تنطلق حرةً في فناء الحظيرة، من ناحية إلى أخرى. تسلقنا السياج. كان من المثير رؤيتها تركض وتصهل وترتفع على رجليها الخلفيتين، تتبختر وتتوعد كخيل أفلام الغرب الأمريكي، الخيل البريَّة، مع أنها لم تكن سوى فرس عجوز من خيل جر العربات، فرس صهباء عجوز. راح أبي وهنري يركضان ليلحقا بها وحاولا أن يقبضا على زمامها المتدلي. حاولا أن يحاصراها في إحدى الزوايا، وكادا ينجحان لولا أنها ركضت مفلتةً من بينهما، يلوح في عينيها هياج، واختفت خلف زاوية الحظيرة. سمعنا صوت طقطقة أعمدة السياج إثر اجتيازها السور، وصرخ هنري: «إنها في الحقل الآن!»

كان هذا يعني أنها في الحقل الممتد على شكل حرف L باللغة الإنجليزية بجانب المنزل. كانت إذا وصلت بالقرب من المنتصف، واتجهت نحو الممر الضيق، فستجد البوابة مفتوحة، فقد أُدخلت الشاحنة إلى الحقل صباح ذلك اليوم. صرخ أبي فيَّ لأنني كنت على الجانب الآخر من السور، في أقرب بقعة من الممر الضيق: «أسرعي وأغلقي البوابة!»

كان باستطاعتي أن أجري بسرعة، جريت عبر الحديقة، بجانب الشجرة المعلقة عليها أرجوحتنا، ووثبتُ عابرةً قناة الماء إلى الممر الضيق. ووصلت إلى البوابة المفتوحة. لم تكن فلورا قد خرجت بعد، ولم أكن ألمحها في الطريق، لا بد أنها ركضت إلى الجانب الآخر من الحقل. كانت البوابة ثقيلة. رفعتها من الحصى ودفعتها كي أغلقها. كنت قد أغلقتها حتى المنتصف حين ظهرَتْ في المشهد، تعدو مباشرةً نحوي. كان لدي من الوقت ما يكفي لوضع الجنزير، وجاء ليرد يستبق عبر قناة الماء كي يساعدني.

لكن بدلًا من أن أغلق البوابة، فتحتها بأوسع ما استطعت. لم أتخذ قرارًا بأن أفعل ما فعلت، وإنما كان هذا ما فعلته وحسب. لم تبطئ فلورا قط، وجرت سريعًا مارةً من أمامي، بينما ليرد يتقافز ويصيح: «أغلقيها، أغلقيها!» حتى بعد أن فات أوان ذلك. ظهر أبي وهنري في الحقل بعد ذلك بدقيقة واحدة فلم يدركا ما فعلت. رأيا فقط فلورا تتجه صوب طريق البلدة. كانا يظنان أنني لم أدرك البوابة في الموعد المناسب.

لم يضيِّعا أي وقت في سؤالي عن ذلك، وعادا إلى الحظيرة وأحضرا البندقية والسكاكين، ووضعا هذه الأشياء في الشاحنة، ثم اتجها بها صوبنا وتقدما بسرعة ناحيتنا عبر الحقل. ناداهما ليرد: «دعاني أذهب معكما، دعاني أذهب!» فأوقف هنري الشاحنة وأخذاه. أغلقت البوابة بعد أن ذهب ثلاثتُهم.

خمَّنت أن ليرد سيحكي ما حدث، وتساءلت عما سيحل بي. لم يسبق لي قط أن عصيت والدي، ولم يسعني أن أفهم لماذا فعلت ذلك. لا سيما أن فلورا لن تتمكن من الهرب فعلًا؛ فهم يستطيعون اللحاق بها بالشاحنة. وحتى إذا لم يستطيعوا الإمساك بها هذا الصباح، فسيراها أحدهم ويتصل بنا عصرًا أو في الغد، فليست هناك منطقة برية هنا لتهرب إليها، لا شيء سوى المزارع. إلى جانب أن أبي قد دفع ثمنها، ونحن بحاجة إلى اللحم كي نطعم الثعالب، ونحن بحاجة إلى الثعالب كي نكسب عيشنا. كل ما فعلته هو أنني ألقيت بمزيد من الشغل على كاهل أبي الذي كان على كاهله الكثير من الشغل بالفعل. ثم إنه حالما يكتشف أمر ما حدث لن يثق فيَّ بعد ذلك، وسيعلم أنني لست إلى جانبه تمامًا. كنت إلى جانب فلورا، وهذا جعلني عديمة النفع لأي شخص، حتى لها. رغم ذلك، لم آسف على ما فعلت حينما جاءت تعدو نحوي وفتحت لها البوابة؛ إذ لم يكن يسعني أن أفعل غير ذلك.

عدت أدراجي إلى المنزل. سألتني أمي: «لمَ كل هذه الجَلَبة؟» أخبرتها أن فلورا حطمت السياج وهربت. قالت: «يا لأبيك المسكين! الآن سيضطر لملاحقتها في كل أنحاء الريف. حسنًا، لا جدوى من تحضير طعام العشاء قبل الواحدة.» ونصبت طاولة الكي. أردت أن أخبرها، لكنني ظننت أن هذه ليست فكرة سديدة، فصعدت إلى الأعلى وجلست على فراشي.

كنت في الآونة الأخيرة أعمل على تنميق الشطر الخاص بي من الغرفة، أفرش الفراش بستائر «الدانتيل» القديمة، وأهيئ لنفسي منضدة للزينة فرشت فوقها بعضًا من قماش الكريتون الذي تبقَّى من حياكة تنورة. وخطَّطت لأن أنصب ما يشبه الحاجز بين فراشي وفراش ليرد، كي أجعل شطري منفصلًا عن شطره. تحت ضوء الشمس، لم تكن قطع ستائر «الدانتيل» سوى أسمال متربة. لم نعد نغنِّي ليلًا مثلما كنا نفعل. فقد حدث ذات ليلة بينما كنت أغني أن قال لي ليرد: «تبدين حمقاء وأنت تغنين»، فلم أحفل بما قال وواصلت الغناء، لكن في الليلة التالية لم أبدأ الغناء. لم يكن هناك ما يستدعي ذلك على أية حال، فنحن لم نعد نشعر بالخوف. بتنا نعلم أن الأشياء الموجودة في الركن ليست سوى أثاث قديم، ركام عتيق وفوضى. لم نعد نلتزم بالقواعد، لكنني كنت أظل مستيقظة بعد أن ينام ليرد وأحكي لنفسي القصص، لكن حتى هذه القصص كان يحدث فيها شيء مختلف، لقد طرأ عليها تغيُّر غامض. كان من الممكن أن تبدأ القصة على النحو المعتاد بخطر محدق، كحريق أو حيوانات متوحشة، ثم أشرع في إنقاذ أشخاص لبعض الوقت، ثم يتغير كل شيء، ويأتي من ينقذني بدلًا من أن أكون أنا من ينقذ. يمكن أن يكون المنقذ صبيًّا من صفنا في المدرسة، أو حتى السيد كامبل معلمنا، الذي كان يدغدغ البنات تحت إبطهن. عند هذه المرحلة كانت القصة تتمحور بقدر أكبر حول شكلي، مثلًا، كم كان شعري طويلًا وأي نوع من الفساتين كنت أرتدي، وما إن تبدأ هذه التفاصيل في التطور حتى تتلاشى الإثارة الأصلية للقصة.

كانت الساعة قد تعدَّت الواحدة حينما عادت الشاحنة. وكان ثمة مشمع مفروش في خلفيتها، ما يعني أن هناك لحمًا بداخلها. اضطرت أمي لتسخين الطعام ثانيةً، وكان أبي وهنري قد غيَّرا رداءي العمل المخضَّبَين بالدماء بآخرَين خاصَّين بالعمل المعتاد في الحظيرة، وغسلا أذرعهما ورقبتيهما ووجهيهما عند الحوض، ونثرا الماء على شعريهما ومشَّطاهما. رفع ليرد ذراعه متباهيًا بخط دقيق من الدم كان عليها وقال: «قتلنا فلورا، وقطعناها إلى خمسين قطعة.»

قالت أمي: «حسنًا، لا أريد أن أسمع شيئًا عن ذلك، ولا تأتِ لمائدتي بهذه الحال.»

أمره أبي أن يذهب ويغتسل من الدم.

جلسنا جميعًا وشرع أبي يتلو صلاة ما قبل الأكل، وألصق هنري العلكة التي كان يلوكها على نهاية شوكته كما اعتاد أن يفعل. كان حينما يخلعها يجعلنا نستحسن الطريقة التي يؤدي بها ذلك. بدأنا نمرر سلطانيات الخضار المطبوخ أكثر من اللازم، التي يتصاعد منها البخار. صوَّب ليرد نظره إليَّ عبر المائدة وقال في غطرسة ظاهرة: «على أية حال كان هروب فلورا غلطتها هي.»

قال أبي: «ماذا!»

«كان بوسعها أن تغلق البوابة ولم تفعل، بل فتحتها على مصراعيها وهربت فلورا.»

تساءل أبي: «هل هذا صحيح؟»

كان جميع الجالسين إلى الطاولة ينظرون إليَّ. أطرقت، ورحت أزدرد الطعام في صعوبة بالغة. ولخزيي الشديد، انهمرت الدموع من عيني.

نَدَّ من أبي صوت يوحي بالازدراء، وسألني: «لمَ فعلتِ ذلك؟»

لم أُجب، ووضعت شوكتي وظللت جالسة في انتظار أن أُصرَف عن المائدة وأنا لا أزال أنظر إلى الأسفل.

لكن هذا لم يحدث. لم ينبس أحد بكلمة لبعض الوقت، ثم قال ليرد بنبرة تخلو من أي عاطفة: «إنها تبكي.»

قال أبي: «لا بأس.» ثم تحدث بنبرة تنم عن التسليم بالأمر الواقع، وربما بشيء من المرح، فقال الكلمات التي أعفتني من مهامي إلى الأبد. قال: «ليست سوى فتاة.»

لم أحتجَّ، حتى في نفسي. لعل ما قاله صحيح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤