الفصل الثالث عشر

المعارضة

فمكثت لمياء برهة ثم مشت إلى أم الأمراء فرأتها قد أعدت الثوب فلبسته وأصلحت من شأنها حتى لا يشك من يراها أنها غلام صقلبي وودعتها. فأرشدتها إلى الطريق الأقرب المؤدي إلى باب البلد.

فمشت وهي ثابتة القدم لا يعتريها خوف. فمرت في الحديقة لا يستغشها أحد وأهل القصر مشغولون في مهامهم حتى وصلت باب البلد فإذا هو موصَدٌ والخفر وُقُوف عنده بأسلحتهم. فطلبت إليهم أن يفتحوا لها الباب؛ لأنها ذاهبةٌ في مهمة مستعجلة إلى معسكر صاحب سجلماسة. ففتحوه ولا يشك أحد منهم أنها رسول صقلبي.

ففرحت بانطلاء حيلتها وخرجت فإذا هي في الخلاء. ونظرت نحو معسكر والدها فعرفت مكانه من النار الموقدة عنده فمشتْ بسرعة والظلام حالكٌ والمكان خالٍ وكل شيء هادئ. فلم تمش يسيرًا حتى رأت شبحًا طويلا يدنو منها وعليه عباءة سوداء قد التف بها ومشى نحوها بهدوء فتحولتْ عن جهته لئلا يعترضها. فإذا هو قد وقف لها ونادى: «من الرجل؟»

فقالت: «رسول من أمير المؤمنين إلى هذا المعسكر.»

فقال: «قف عندك.»

ولما سمعت الصوت اقشعرَّ بدنُها؛ لأنها تذكرت صوتًا تعرفه لكنها تجلدت وتجاهلت وقالت: «دعني … إني سائر لأمر مستعجل.»

فناداها قائلًا: «لا يخرج الرسل من هذا القصر ليلًا.»

قالت: «إنها رسالةٌ هامةٌ مستعجلةٌ وقد رآني الخفر بالباب ولم يعترضوني.»

قال: «أنا أعترضك … قف عندك أو تعال معي إلى النور لأرى وجهك … إني أعرف غِلمان القصر جميعًا.»

فتحيرتْ في أمرها وتفرست بمخاطبها وأخذت تفكر فيمن عساه أن يكون وصوته يشبه صوت الحسين بن جوهر واستبعدت أن يكون هو هناك وليست الخفارة مِن شأنه. فتجاهلتْ وظلت ماشية وهي تقول: «إني ذاهبٌ في مهمة سرية لا يجوز للخفر أن يطلع عليها ولا أن يعرف من أنا.»

قال: «إذا كان ذلك لا يجوز لسواي فهو جائزٌ لي.» قال ذلك ومد يده يريد أن يمسكها من يدها فنفرت منه وخبأت يدها وراء ظهرها وقالت: «قل لي من أنت قبلا.»

قال: «أنا الحسين بن القائد جوهر.»

فلما تأكدت أنه هو بعينه ارتج عليها ولم تخف على نفسها منه لكنها خافت كشف سرها. فحولت وجهها عنه ومشت وهي تقول: «لا نعهد الحسين بن أكبر القواد ينتحل مهنة الخفر ليتعرض لرسول أمير المؤمنين … دعني وشأني وإلا فإن تأخري تعود عاقبتُهُ عليك.»

فاعترضها وهَمَّ أن يمسك يدها فأفلتتْ يدها منه بجسارة فقال لها: «ليس مِن شأنك أن تعين لكل إنسان مهمته. نحن جميعًا نخدم مصلحة أمير المؤمنين نضرب بسيفه ونخفر قصره. دع عنك ذلك واتبعني وإذا كنت رسولًا كما تزعم فلا خوف عليك بل أكون لك عونًا في إبلاغ الرسالة.»

فلم تجد لمياء بُدًّا من الطاعة فقالت: «ها إني واقف ما الذي تريده مني … اكشف اللثام عن وجهك أولا ثم خاطبني.»

فأزاح اللثام فإذا هو الحسين بعينه فخفق قلبها واستغربت تلك المصادفة وقالت: «نعم أنت مولانا الحسين بن القائد جوهر فما الذي يريده مني؟»

قال: «إني لا أرى وجه صقلبي ولا أسمع صوت صقلبي إني أسمع صوت امرأة.»

فضحكت استخفافًا، وقالت: «أرأيت كيف أنك مخدوع؟ فحسبتني امرأة وأنا غلام؟»

قال: «إذا كنت غلامًا صقلبيًّا فاصدقني ولا تخف.»

فتماسكت لمياء ولم تجد بُدًّا من التصريح فقالت: «تأملْ في وجهي جيدًا» فتفرس فيها على شعاع النور وقال: «أنت فتاة … وكأني رأيت هذا الوجه في صباح هذا اليوم … ألست لمياء بنت صاحب سجلماسة؟»

فلم تطاوعها نفسها على الإنكار فقالت: «نعم أنا هي وما الذي تريده مني؟»

فتنهد وابتسم، ثم قال: «إن ما أُريده منك ليس هنا محل الكلام فيه يا لمياء. ولكنني أطمئنك أنْ لا خوف عليك مني لسبب سوف تعلمينه ولكنني أعجب لخروجك في هذا الليل متنكرةً ومثلك لا يؤذَن لها في الخُرُوج من قصر أمير المؤمنين! كيف خرجت؟»

قالت: «ألم أقل لك إني خارجة في مهمة لصاحب سجلماسة.»

قال: «أنت ذاهبة إلى أبيك.»

قالت: «نعم … ها قد قلت لك … فأنت وشأنك.»

قال بلحن التودُّد: «إن شأني شأن المأمور المطيع يا لمياء، ولو كان الخارجُ في هذا الليل سواك لكانت حياتُهُ في خطر. وأما أنت فإني في خدمتك حتى ترجعي إلى مأمنك، إنما أرجو أن تذكري هذا لي إذا ذكرت به.»

فشعرت أنه يحمِّلها فضلًا سيطالبها به يومًا ما فقالت: «لم أخرج من هذا القصر في هذا الليل وحدي وأنا خائفة من أحد. فإذا شئت أن تبقى على اعتراضك فإني لا أبالي.»

وكان الحسين قد علم في ذلك النهار أن أباه وأباها زارا المعز وأنه خطبها له من أبيها ورضي أبوها. ولكنه كان على يقين أنها لم تطلع على شيء من ذلك بعد. وتوسم في اجتماعها بوالدها في تلك الساعة خيرًا لنفسه إذ يبلغها أبوها ما كان من طلب أمير المؤمنين لها باسم الحسين، فقال: «قلت لك إن شأني معك أن أكون في خدمتك حتى تبلغي مأمنك وتشاهدي والدك. ولعلك وأنت راجعة يتغير لحن خطابك معي.»

فأدركت كل ما جال في خاطره وفهمت ما يُشير إليه لكنها تجاهلت وقالت: «إني لا أقدر أن أذكر ابن القائد جوهر بعد هذه المكارم إلا بالشكر والثناء في كل حال فهل تأذن بانصرافي الآن؟»

قال: «نعم ولكنني أكون في خدمتك لئلا يعترضك سواي فإن في هذه الطرق خفراء آخرين أقامهم والدي سرًّا لزيادة الحرص على سلامة أمير المؤمنين. ولا أحب أن يعرف أحدٌ منهم ولا سواهم بخروجك ولا أُريد أن يخاطبك أحد ولا أن يقول لك كلمة ولو كانت سلامًا واحترامًا … إني أكثر حرصًا عليك منك …» قال ذلك بلحن الحب.

فظلت على تجاهلها وقالت: «بارك الله فيك فأنا واثقة بمروءتك وأحب أن تكتم ما رأيت عن كل أحد كأنك لم تشاهد أحدًا.»

فاستأنس بهذه الوصية واستدل بها على ميل نحوه وقال: «قلت لك إني أحرص منك عليك … وهذا يكفي.»

فلم تجبه ولكنها مشت ومشى هو في أثرها عن بعد حتى دنت من معسكر أبيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤