الفصل الثاني والعشرون

الحقيقة

دخل سالم معسكر حمدون وتجاوز فسطاطه وهو لا يشعر، وكان في عزمه أن يعود إلى ذلك الفسطاط ليقص ما رآه على أبيها، فما شعر إلا وهو بباب خيمة عمه أبي حامد فأراد أن يثني عنان جواده نحو فسطاط حمدون وإذا بأبي حامد قد خرج من تلك الخيمة وأشار إليه أن يدخل فترجل ودخل. فرأى أبا حامد وحده هناك وقد أحمرت عيناه وبان الاهتمامُ في وجهه. وكان قد تعود أن يرى ذلك فيه إذا طال التفكيرُ في أمر عظيم.

فلما دخل ابتدره أبو حامد قائلًا: «قد وصلنا يا سالم إلى الغرض المطلوب اقعد.» وأشار إلى وسادة على البساط فقعد وقعد أبو حامد إلى جانبه وهو يقول له: «أين كنت؟»

قال: «ذهبت لأشيع لمياء إلى المنصورية وليتني لم أذهب.»

فقال: «ولماذا؟»

فقص عليه ما جرى من حيث وجود الحسين هناك وكيف كان في انتظار لمياء وقد رافقها على غير كلفة ولم يذكر فشله.

فقال أبو حامد «وهل ساءك ذلك؟»

قال: «كيف لا؟ وقد كنا منذ ساعة نتحدث في إقناعها أن تقبل به وهي تُظهر أنها لا تريده، فكيف تكون على موعد منه وترافقه في هذا الليل؟»

فضحك ضحكة اغتصابية لا تلتئم مع ما كان فيه من الاهتمام، وقال: يظهر أنك لا تزال تهتم بهذه الصغائر … هل يحول ذلك الاجتماع دون غرضنا الذي أوقفنا حياتنا من أجله؟ كلا بل هو يُهَوِّنُهُ علينا، وخفض صوته وقال: «أم نسيت الغرض الأصلي من علاقتنا مع هذا الأمير المغرور؟»

فسكت سالمٌ وأطرق كأنه يفكر في حديث دار بينه وبين أبي حامد من عهد بعيد.

فقال أبو حامد: «لا أُنكر أن لمياء فتاةٌ شجاعةٌ وجميلة، وهي تجلك ولكن هل خطبناها؛ لأننا لم نجد بين نساء هذه القبائل من يليق بك؟ إنك ستجد خيرًا منها ولا سيما بعد أن ننال بغيتنا ونتخلص من أولئك الخائنين … كن رجلًا واعملْ عمل الرجال وانظرْ إلى الغاية التي نحن سائرون إليها. يكفي أننا أقنعنا هذه الفتاة أن تمهد لنا السبيل لقتل ذلك الرجل وقائده، فإذا قتلناهما لا يبقى لهذا الغلام حظٌّ من الحياة فتكون لمياء لك عند ذلك.» وسكت وهو يتلفت يمينًا وشمالا كأنه يحاذر أن يسمعه أحد، وقال: «ألا تعلم متى تزوجت لمياء بعد ذلك كنت أنت صاحب القيروان؟»

وكان لأبي حامد سلطة عظيمة على أفكار سالم، فإذا قال قولًا صدقه — ولو كان مستحيلا — لكنه أحب الاستفهام فقال: «وكيف ذلك؟»

قال: «ما هو الغرض الذي أوقفت حياتي من أجله؟»

قال: «هو الأخذ بثأر أبي عبد الله، المقتول ظلما.»

قال: «وهل نكون قد أخذنا بالثأر إن لم نُخرج هذا السلطان من أيدي هؤلاء الخونة؟»

قال: «أنت أعلم.»

قال: «أنا أقول لك إن عظام أبي عبد الله — رحمة الله عليه — تُنادينا من ظلمة القبر أن نأخذ بثأره ونُخرج الملك من أيدي هؤلاء الخائنين، وأنت تعلم أننا كنا ندبر ذلك قبل أن يؤخذ صاحب سجلماسة أسيرًا. وكنت أحسبه رجلًا يعول عليه في العظائم فإذا هو ثرثارٌ مغرورٌ بنفسه يقول ما لَا يفعل، وليس هو أهلًا لغير الادعاء الفارغ ولا يغرك ما سمعته مِن إطرائي أجداده ومبالغتي في مدحه … لو كان رجلًا لَمَا صار إلى الأسر واضطر إلى طاعة هذا الرجل. وإنما أنا أداجيه لنستخدم ابنته في تمهيدِ السبيلِ لقتل المعز وقائده فنجعله صاحب القيروان، وإذا تزوجت أنت بابنته وهو ليس له ذكرٌ يرثُهُ صارت الإمارة إليك أو نجعلها إليك قبل موته بما أعددناه من الأحزاب والأموال وسائر المعدات … وعند ذلك نكون قد انتقمنا لذلك المقتول.»

ورغم ما غُرس في ذهن سالم من مقدرة أبي حامد العجيبة لم يَفُتْه ما يحول دون الوصول إلى تلك الغاية من العقبات، فقال: «اسمحْ لي يا سيدي أن أستفهم عن أمر …»

فقطع كلامه وقال: «لا تخف يا سالم؛ إني لا أخطو خطوة قبل أن أقدر ما وراءها، إنك تقول في نفسك كيف تنتهي مهمتنا بقتل ذينك الرجلين وهذه قبائلُ البربر من كتامة وصنهاجة وهوارة كلها من أنصارهما — وهم يعدون بمئات الألوف — ونحن ليس عندنا غير رجال صاحب سجلماسة … إن تلك القبائل يا ولدي لم تذعن للمعز إلا لتخاذُل أمرائها وتفرُّق كلمتهم مع اعتقادهم صحةَ انتسابه إلى الإمام علي، وهذا على تدبيره. أَلَا يكفيك أني عالمٌ بهذا الاعتراض؟ أم أنك تخاف أن أُسيء التدبيرَ ولا أُحسن الحيلة؟ ألا يكفي هؤلاء الأمراء من هذه الغنيمة أن يعود كُلٌّ منهم أميرًا مستقلًّا بحكومته، وأَنَّ مَنْ يفوز بقتل صاحب القيروان يكون له الحقُّ بامتلاكها؟ وهي ستكونُ حصةَ صاحب سجلماسة. وهل تظن أهل القيروان يرمون نبلًا علينا بعد قَتْلِ خليفتهم؟ إن رجال سجلماسة معنا، وهم أشداء قادرون على أَخْذ القيروان وإن لم يساعدهم أحدٌ من سائر القبائل، فكيف إذا ساعدوهم؟»

فازداد إعجابُ سالم بدهاء عمه، وقال: «لله درك مِنْ ملكٍ قادر … إنك — والله — أَوْلَى بهذا الأمر مني ومن سواي.»

فأسرع أبو حامد فوضع كفه على فم سالم يُريد إسكاته عَنْوَةً وقال: «لا تقل ذلك إن هذا الملك مقدر لك هذه وصية إمامنا المرحوم وكفى.»

قال ذلك ونهض وهو ممسك بيد سالم لينهض معه، فنهض وقد تهيب وود لو يستزيده بيانًا؛ لأنه مع طول صحبته لم يسمع منه التصريح بالوصاية، وأما أبو حامد فقال وهو يُصلح عمامته: «لا حاجة بي إن أُوصيك بالكتمان، حتى الحديث الذي ذكرته عن لمياء والحسين أَخْفِه واجعل أنك لم تر شيئًا» ثم سكت وبان الاهتمام في وجهه وقال: «أما أنت فلا ينبغي أن تبقى هنا بعد هذه المقابلة لا بد مِن سفرك إلى مصر في صباح الغد باكرًا لمهمة مثل التي أتيت منها بالأمس … فتقابل ذلك العبد الأسود أميرها (كافور) وتعقد معه عهدًا على هؤلاء الفاطميين؛ فإنه يخافهم — كما تعلم — وسيكون عونًا لنا في تأييد دولتنا مع صاحب بغداد … إذ لا بد من خلافة ثابتة تتأيد بها دعوتُنا. أظنك فهمت مرادي. ولا ينبغي أن يعلم حمدون بهذه المساعي ولا غيرها … فهمت؟»

فأشار بعينيه أنه فهم، وهَمَّ بالخروج فاستوقفه وقال: «لابد من سفرك في الصباح خلسة فإني أخاف من دسيسة عليك …»

قال: «سأُسافر.»

ثم وقف أبو حامد فجأة وقد تذكر أمرًا هامًا ونظر في عيني سالم.

وحدق فيهما طويلا كأنه يستطلع ما يجول في خاطره. فأطرق سالم تهيبًا فقال أبو حامد: «أخاف أن تكون قد بحت لأحدٍ بما أعددناه في فج الأخيار هناك. هناك في فج الأخيار قوتنا التي سيتم لنا بها الأمر فتنشئ دولة تخفق أعلامها على ضفاف النيل وضفاف الفرات.»

فلما سمع قوله اختلج قلبُهُ في صدره؛ لعلمه أنه لم يحافظ على ذلك السر لكنه أسرع إلى طمأنته بأنه يستحيل أن يبوح بذلك السر، فهَزَّ رأسه وقال: «كيف أبوح به وعليه معولنا؟ كن مطمئنًّا.»

فصدقه وقال: «فاذهب إلى فراشك … ولا تثقْ بأحد سواي.»

فهَمَّ بتقبيل يده، وخرج وظَلَّ أبو حامد وحده وقد أصبح بعد هذا الحديث كالجمل الهائج. وازداد احمرارُ عينيه حتى صارتا مثل عينَي المحموم من شدة ما هاج في خاطره من البواعث. فلما خَلَا بنفسه جعل يخطر بالغرفة ذهابًا وإيابًا وهو يقضم أطراف شاربيه بأسنانه. وقد جعل يديه متصالبتين وراء ظهره وأخذ يناجي نفسه قائلًا رحمك الله يا أبا عبد الله … قد آن لي أن أنتقم لك من هؤلاء الغادرين … فج الأخيار … فج الأخيار في جبل إيكجان … هناك دار الهجرة التي جعلها أبو عبد الله هجرةً للأحزاب التي نصر بها العبيديين … هي الآن هجرتنا وفيها الأموالُ التي ضربها أبو عبد الله عند أول الفتح … هناك قوتنا … وضحك ضحكةَ ظافر وقال: «أُحب أن يبعث أبو عبد الله ويرى نجاحنا … ولكن …» وسكت وبلغ ريقه وأخذ في تبديل ثيابه للرقاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤