الفصل الثالث والعشرون

الضمير

أما لمياء فإنها قضت تلك الليلة وهي تتقلب كأنها على فراش مِن شوك القتاد ولم يغمض جفنها إلا في الفجر فنامت وتوالت عليها الأحلام المزعجة، واستغرقت في النوم من شدة التعب حتى صار الضحى فأفاقتْ على قرع الباب فاستيقظت مذعورة وتحركت عيناها وتذكرت حالها أمس فأسفت أنه لم يكن حلمًا. وبادرت إلى الباب ففتحته فرأت حاضنة أم الأمراء وحالَما وقع بصرها عليها قالت: «كيف أم الأمراء عساها في خير!»

قالت: «قد استبطأتْك فأرسلتني في السؤال عنك.»

فأحست بوخز ضميرها من ذلك التلطُّف؛ لعلمها بما دبروه لزوجها من المكائد لكنها تجلدت وقالت: «كان ينبغي لي أن أسرع إليها باكرًا لكنني استغرقت في النوم.»

قالت: «لا بأس يا سيدتي فأنا ذاهبةٌ لأطمئنها عنك.»

قالت: «وقولي لها إني مسرعة لتقبيل يدها حالًا.»

فعادت الحاضنة وعمدت لمياء إلى تبديل ثيابها وخرجت تطلب غرفة أم الأمراء ولحظت وهي سائرة في الدهليز أن أهل القصر في حركة غير اعتيادية كأنهم يتأهبون لاحتفال. ثم علمت أنهم يتأهبون لصوم رمضان فتذكرتْ أنهم دخلوا في شهر رمضان وقد أصبحوا في ذلك اليوم صائمين.

وصلت غرفةَ أم الأمراء فرأتها جالسة على مقعد. وحالَما دخلت لمياء نهضت لها وهي تبتسم كأنها تستقبل بعض أولادها فلم تتمالك لمياء من فرط امتنانها لذلك التلطف أن أَكَبَّتْ على يدها تقبلها وقد سبقتْها العبرات.

فاستغربت أُم الأمراء بكاءَها لكنها ظنتها تبكي لأمر يتعلق بخطبتها للحسين، وهي إنما تبكي أسفًا لما فرط منها في حق الخليفة من المؤامرة. فضمتها أم الأمراء إلى صدرها وقالت: «ما بالك تبكين يا بنية؟»

فأغرقت في البكاء وغلبت على أمرها حتى لم تعد تستطيع إمساك نفسها. فجعلت تخفف عنها وقالت لها: «أرجو أنك لم تنجحي في مهمتك؟» وهي تُشير بهذه المداعبة إلى رغبتها في زفافها إلى الحسين.

فتماسكت وتجلدت وقالت وهي تمسح عينيها: «نعم يا سيدتي إني لم أنجح والظاهر أن الله قد أراد ما أراده أمير المؤمنين.»

فبان السرور في وجه أم الأمراء وأجلست لمياء إلى جانبها وقالت: «ألذلك تبكين يا لمياء؟ لا ينبغي أن تحزني وسوف تتحققين أنك أحرزت نصيبًا حسنًا. وأحمد الله؛ لأنه قدر لك أن تكوني زوجة لهذا الشاب النادر المثال. وبرهانًا على سروري بذلك فإني سأجعل لك مهرًا لم تنله فتاةٌ من أهل القيروان؛ لأنك عزيزة علينا. ومتى علمت أني سأقوم بتأدية مهرك يطمئن خاطرك أنه سيكون مهرًا يليق بك … وسأجعل أمير المؤمنين يهبك قصرًا من قصوره الفخمة أفرشه أحسن فرش وأملأه بالتحف والجواري بحيث يجعلك تنسي ذلك الرجل الذي كاد يسبقنا إلى نيلك.»

فلم يزدها هذا الكلام إلا غيظًا مِن نفسها وندمًا على ما فرط منها، ولكنها تجلدت وقالت: «أشكرك يا سيدتي على هذه النعم إني لا أستحق شيئًا من ذلك.» وهي تعني حقيقة ما تقوله. ولكن أم الأمراء حملت قولها محمل التواضُع فقالت: «بل أنت أهل لأكثر منه ولكن لا بد من الانتظار إلى انقضاء رمضان؛ لأننا دخلنا في هذا الشهر المبارك من صباح اليوم وأظن أمير المؤمنين يؤجل الزفاف إلى عيد الفطر أو ما بعده وسننتظر في ذلك.»

فسَرَّهَا أن يطول أجل الاقتران لعلها تتمكن في أثنائه من تدبير طريقة للتخلص من هذه الورطة. فبان الارتياح في محياها وقالت: «إني أمتك ولساني قاصرٌ عن أداء حق شكرك جزاك الله خيرًا.»

فقالت: «إنما يهمني يا لمياء أن تكوني مسرورة وأحب أن يكون قرانك بالحسين سعيدًا لأفرح أنا أيضًا. وقد أخذتُ أشعر منذ الآن أنك صرت من أهلنا وأصبح والدك يفضُلُ سائر أمرائنا بحقوق القربى من قائدنا. وأنت تعلمين منزلة جوهر من نفس أمير المؤمنين، فإنه يفضله على كثيرين من آله وذوي قرابته. وسترين في هذا المساء متى جلسوا للإفطار عند الغروب كيف يُجلسه بجانبه ويقربه إليه دون سائر العبيديين. ولا ريب أنه سيقرب الأمير حمدون والدك أيضًا إكرامًا لك.»

فلم تعد لمياء تستطيع سماع هذا الإطراء وودت لو أنها تسمع عكسه عسى أن يخف بعض ما بها من وخز الضمير. فأحبتْ تغيير الموضوع فقالت: «سندخل الليلة في شهر رمضان جعله الله شهرًا مباركًا عليك وزادك من نعمه ومتعك بأبنائك. ما هي العادة في تناوُل الإفطار عندكم؟»

قالت: «إن لأمير المؤمنين عنايةً خصوصيةً في هذا الشهر. يأمر أصحاب المطابخ بإعداد طعام الإفطار لأهل القصر فتُمد الأسمطة للخليفة وأهله وقواده وأمرائه وسائر رجال حكومته حسب درجاتهم فيأكلون معًا وتمد الموائد أيضًا للنساء من أهل هذا القصر فأتولى أنا تدبيره على أيدي الجواري. وستكونين أنت في من يفطر معي وسأجعل مجلسك بالقرب مني؛ لأستأنس بك. وكذلك نفعل في طعام السحور أحيانًا وأما أنت فستكونين معي كل هذا الشهر في السحور والفطور. وسأريك في ساعة الغروب كيف تمد الأسمطة وكيف يجلس الخليفة والأمراء عليها وسترين والدك معهم.»

فشكرت لها فضلها وأحبت الاستئذان في الذهاب إلى غرفتها فرارًا من ذلك الحديث ولكي تريح دماغها؛ لأنها أحست بألم في رأسها بسبب ما قاستْه أمس من الانزعاج. وزادها حديثُ أم الأمراء انزعاجًا فأظهرت التعب ولم تكن تحتاج في إظهاره إلى تكلُّف؛ لأنه كان باديًا في وجهها وقالت: «ألا تأذن مولاتي في انصرافي فقد شغلتُها عن شئونها وأنا أحس بحاجة إلى الراحة.»

قالت: «إني أقرأ ذلك في عينيك وهو طبيعي في مثل هذه الحالة ولكنني أرجو أن تنسي ذلك بعد قليل …» وصفقت فجاءت حاضنتها فقالت: «أحب أن تكون عزيزتي لمياء في غرفة قريبة من غرفتي. قولي لقيمة القصر أن تهيئ لها الغرفة بما تحتاج إليه؛ فإنها ذاهبةٌ بعد قليل للراحة فيها.»

فأشارت مطيعةً، وخرجت ولم تفرح لمياء بهذا الإكرام؛ لأنها كانت تود البقاء بعيدة على انفراد خوفًا من أن يظهر شيء منها على حين غفلة فيفضح أمرها. لكنها لم تجد بدًّا من الثناء على ذلك الإنعام. وبعد قليل جاءت الحاضنة وقالت: «إن الغرفة مهيأة.»

فنهضتْ لمياء وودعت. فقالتْ لها أُم الأمراء: «سنلتقي هنا قبل الغروب.» فأومأتْ لمياء مطيعة ومشتْ إلى غرفتها الجديدة وهي تعرف طريقها إليها، لكنها لا تدري ماذا تعمل. فلما وصلت الغرفة رأتها أحسن أثاثًا وفرشًا من تلك. وفيها مرآةٌ جميلةٌ من الفضة الصقيلة مستديرةُ الشكل. وهناك منضدةٌ عليها المكحلة والمشط والسواك وسائر ما تحتاج إليه المرأةُ في إصلاح شأنها.

وسريرُها من الأبنوس وهو مع بساطته ثمينٌ وكل ما في الغرفة ثمينٌ وبسيطٌ، على أنها لم تنتبه إلى شيء؛ لفرط قلقها، وما صدقت أنها دخلت الغرفة حتى أغلقت بابها وتوسدت الفراش واستغرقتْ في الأفكار. وقد سَرَّهَا تأجيلُ الزفاف شهرًا كاملا؛ إذ يكون لها فرصة للتفكير والتدبير. وأخذت تُفكر في استنباط طريقة تُريح بها ضميرها، فتبقى هذه النعمة لها وتعرف حق المعز وامرأته وفضلهما عليها فلَا تخونهما، ومع ذلك تُريد أن تحفظ كرامة والدها.

وأما سالمٌ فحالَما تَصَوَّرَ لها خفق قلبُها لما تذكرته من أمره في أمس وكيف عاد خائبًا وما أظهره الحسينُ من المروءة وكبر النفس في شأنه وأحست بانعطافٍ نحو الحسين، فكذبت نفسها وأخذت في تحويل فكرها عنه وصورتُهُ لا تغيب عن مخيلتها كما رأته في آخر لحظة وهو يودعها ويوصيها بكتمان ما جرى لسالم. وقدرت تلك الأريحية حق قدرها وجعلت تقنع نفسها أن ما تُحس به من الانعطاف نحوه إنما هو مِن قبيل الامتنان؛ لأنها لم تكن تريد بدلًا من سالم وهو أول من طرق حبه قلبها وهي صغيرة، تسرب حُبُّهُ إليها تدريجًا؛ لأنهما تعارفا منذ الصغر فلم يأتها الحب دفعة كما أصابها هذه المرة. ولذلك لم تقتنع أن شعورها نحو الحسين مِن قبيل الحب الذي لا يلبث أن يتمكن. وخصوصًا أنها أصبحت تنتظر ساعة الإفطار بفارغ الصبر لكي تراه جالسًا على السماط في جملة الجالسين — كما قالت لها أم الأمراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤