الفصل الثاني والأربعون

الحسين

أما لمياء فأطرقت وبان الارتباك في وجهها فلحظ الخليفة فيها ذلك، فقال: «ما بالك ساكتة يا لمياء؟ هل شق عليك ذهاب الحسين … ولماذا؟»

قالت: «كيف يشق علي ذهابه في خدمة هذه الدولة وصيانة أمير المؤمنين؛ إن أرواحنا فداه.»

قال: «إني أرى في وجهك قلقًا.»

قالت: «قد همني ذهابه لعلمي بغدر أولئك الخائنين ومكرهم.»

فقطع القائد جوهر كلامها قائلًا: «لا خوف على الحسين من غدرهم … ولا يلبث أن يأتي ظافرًا بإذن الله. وعند ذلك يحق له أن يكون عريسًا لك.»

فخجلت وتوردت وجنتاها وأحبت أن تصرح بما في خاطرها من هذا القبيل فقالت: «هل يأذن مولاي أمير المؤمنين بكلمة أقولها جوابًا على ما سمعته.»

قال: «قولي.»

قالت: «أما وقد سمعت من القائد الأكبر ما قاله فأتقدم إلى مولاي أن …» وأسكتها الحياء والتفتت إلى أم الأمراء كأنها تستنجدها أن تنوب عنها في التعبير عن فكرها ولم تكن أم الأمراء تعلم مرادها فنظرت إليها تستفهمها فأسرت إليها أنها تحب تأجيل الاقتران.

فقال المعز: «سمعت ذلك منها في أمس … طبعًا أننا نؤجله مراعاة للحداد.»

فقالت لمياء: «كلا يا سيدي إنما أعني أنه لا ينبغي أن يتم شيء قبل الانتقام من الخونة.» وتشاغلتْ برفع كمها عن أناملها ويظهر من وجهها أنها لم تتم حديثها.

فقال جوهر: «إن هؤلاء الخونة لا يمضي كثير قبل أن يكونوا في قبضتنا كما قلت لكم، فهل تعنين غيرهم؟»

قالت: «نعم … إنهم كثيرون وبعضهم لا يتيسر الوصولُ إليهم إلا بعد أشهُر؛ لأنهم بعيدون … إن هذه الخيانة يجب أن يقوم صاحب مصر بتحمل عواقبها.» وأشرق وجهها بما بدا فيه من الحماسة.

فأدرك الخليفة أنها تعرض بفتح مصر انتقامًا من صاحبها فالتفت إلى القائد جوهر وابتسم؛ لأنه كان يحادثه في شيء من ذلك قبل مجيء لمياء فنظر القائد إلى الخليفة وابتسم ابتسامة الظافر؛ لأنه كان يرى العزم على فَتْحها والخليفة يتخوف ويتردد فسَرَّهُ أن تقترح لمياء مثل اقتراحه.

وأدركت لمياء ذلك فقالت: «لا ينبغي لنا أن نتردد في تحميل صاحب مصر عواقب هذه الخيانة؛ فإنه شريك فيها، ولا خوف منه فإنه الآن عبدٌ ذميم (كافور) وأحوال مصر في غاية الاختلال.»

فرأى المعز أن يقطع الحديث في هذا الموضوع ريثما يفكر في الأمر وهو لا يحب أن يقول قولا إن لم يكن مصممًا عليه، فقال: «إن أمر مصر لا يزال بعيدًا وربما فكرنا فيه في فرصة أخرى … فنحن نحب أن نعجل بالعقد عليك للحسين.»

قالت: «لا أظن رأي الحسين إلا موافقًا لرأيي؛ لأنه ليس أقل غيرةً على مصلحة أمير المؤمنين مني … أرجو من مولاي أن يجعل أمر مصر مقدمًا على كل شيء وأنا أضمن الظفر بإذن الله.»

فأعجب بتلك الحمية وقال: «ليس ضمان ذلك بالأمر السهل يا بنية … إنه يحتاج إلى المال والرجال.»

فنظرت إلى الخليفة وقد تغيرتْ سحنتُها وبانت البسالة في جبينها، وقالت: «إن الرجال موجودون يا سيدي ومن كان في قواده مثل القائد جوهر لا يخشى بأسًا؛ فقد فتح المغرب على أهون سبيل، وهل يظن أمير المؤمنين فتح مصر أعظم مشقة؟»

فاستحسن المعزُّ إطراءها قائده وقال: «هذا مسلم ولكن ما قولك بالمال إنه لا بد منه لهذا العمل.»

قالت وفى صوتها لحن التأكيد «والمال موجود أيضًا.»

فبغت الجميع من تأكيدها وتوجهوا نحوها بأبصارهم وقال الخليفة «مِن أين لنا المال الكافي ونحن لم نفرغ من الحروب إلا بالأمس.»

قالت: «قلت لمولاي إن المال موجود وسأُبين له ذلك متى شاء، فإذا فعلت هل يبقى لديه مانع؟»

قال: «يبقى أن نستطلع حال المصريين ونتعرف داخليتهم وشئونهم؛ لأننا لم نعلم عنهم إلا ما نتلقفه من أفواه الناس.»

قالت: «أما وقد أشركني أمير المؤمنين بهذا الحديث فأستأذنه في أن أقول إني أضمن له أيضًا كشف ما يريد أن يعرفه من الأحوال.»

فرأى الخليفة من لمياء فوق ما كان يتوقعه ولم يصدقه بحذافيره وإنما حمله محمل الاندفاع كما يفعل الراغب في أمر؛ فإنه يراه سهلًا لرغبته في الحصول عليه. وهَمَّ أن يستزيدها بيانًا وإذا بالحاجب دخل وقال: «إن مولاي الحسين بالباب.» فأمر بإدخاله. أما لمياء فلما سمعت اسمه خفق قلبُها ولم تعد تخاف خفقانه للحسين بعد أن نفضت يديها من محبة سالم، لكنها تماسكتْ والتفتتْ فرأت حسينًا دخل وعلى وجهه غبارُ السفر فعلمتْ أنه عائدٌ من تلك المهمة.

أما هو فحَيَّا، فأمره الخليفةُ بالجلوس فجلس ووقع بصره على لمياء فتجاذب قلباهما وتخاطب بصراهما، ولكنه شغل بالتوجُّه نحو الخليفة، فقال له المعزُّ: «ما وراءك؟ قد أخبرني قائدنا أنك تعقبت أولئك الخائنين … فعسى أن تكون قد ظفرت بهم وحملتهم إلينا.»

قال: «قد حملت إليكم أناسًا وجدتهم قرب المكان الذي كان الخائنون فيه، ولكنهم ليسوا منهم.»

فقال جوهر: «وكيف ذلك يا بني؟»

قال: «قضيت ليل أمس وأنا أبحث في الأماكن التي ينزل فيها الناس أو القوافل في طريق مصر حتى بعدت كثيرًا عن القيروان فلم أجد أحدًا …»

فقطع أبوه كلامه قائلًا: «أخشى أن تكون قد أخطأت الطريق.»

قال: «بل هي الطريق ذاتها والدليل على ذلك أني رأيت جثة ذلك الرسول وبجانبها جثة قاتله كما قصت خبرها لمياء، وأمعنت في تلك الجهات وبثثت رجالي في كل جهة فأخبرني بعضهم في هذا الصباح أنه رأى آثار معسكر. فسرتُ إليه فرأيت بقايا قوم كانوا هناك ورحلوا من عهد قريب، ولعله المعسكر الذي كان فيه أولئك الخونة ومع ذلك لم أقنعْ بما رأيت فواصلتُ السير إلى عين ماء تنزل عندها القوافلُ فرأيتُ قافلةً قادمةً من مصر أتيت بأصحابها معي؛ لعلنا نستفيد منهم خبرًا، إذ توسمت من زخرف فساطيطهم وخيولهم وسائر أحوالهم ما لم أعهده في سواهم من أصحاب القوافل.»

فقال الخليفة: «أين هم؟»

قال: «أتيت برئيسهم معي وهو بالباب إذا شاء مولاي أمر بإدخاله.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤