الفصل الثامن والأربعون

الكتاب

وبعد خُرُوجه أرادت لمياء أن تودع أم الأمراء فأمسكتها وأقعدتها، فقعدت وهي تنظر إليها كأنها تستفهمها عما تريده. فقالت أم الأمراء: «هذا الحسين قد عَرَفْنَا وجهته وخطته أما أنت ﻓ…»

فقطعت لمياء حديثها رغم إرادتها وقالت: «أستأذنك يا سيدتي أن لا تسأليني عن ذلك.»

قالت: «ولماذا هذا التستُّر؟»

قالت: «أرى فيه فَأْلًا حسنًا، وماذا يهمك إذا عرفت خطتي أو وجهتي؟ وإنما يهمك أن آتي مولاي أمير المؤمنين بأخبار تلك الدولة.»

قالت: «ولكن أمرك يهمني؛ لئلا تلقي بنفسك في تهلكة نظرًا لِما في مهمتك هذه من الأخطار مما يربي على مهمة الحسين.»

قالت: «لا تخافي يا سيدتي؛ لأن نصير أمير المؤمنين سلالة بنت الرسول لا بد من أن ينجيه الله وينصره على أعدائه، غير أني أتقدم إليك بأمر هو واجبٌ بحد ذاته.»

قالت: «قولي ماذا تريدين.»

قالت: «إن يعقوب بن كلس اليهودي المقيم بمصر أرسل تلك الرسالة المستعجلة إلى سيدي المعز لدين الله؛ فهو صاحبُ فضل كبير. أليس كذلك؟»

فحنت أم الأمراء رأسها إذعانًا للحق، وقالت: «نعم إنه صاحبُ الفضل الأكبر، ولولاه لنفذت حيلةُ ذلك الشرير.»

فقالت: «أَلَا ترين أن يكتب أميرُ المؤمنين كتابًا يشكره فيه ليستمرَّ على خدمته في مصلحة هذه الدولة!»

قالت: «صدقتِ، وأظنه فاعلًا ذلك.»

قالت: «مع من يرسل الكتاب؟»

فانتبهت أم الأمراء لغرض لمياء من هذا السؤال فقالت: «لا أدري، وأظنه يرسلُهُ مع أحد غلمانه في قافلة أو بطريق آخر … وهل يهمك هذا الأمر؟»

فقالت وهي تحك وراء أذنها: «لا … لكن …» وأطرقت.

فقالت أم الأمراء: «قولي يا لمياء ماذا يخطر لك … لا تخفي عني شيئًا.»

قالت: «أُريد أن أسارك في أمر يهمني حِفْظه مكتومًا … هل أفعل؟»

قالت: «افعلي ولا تخافي بعد أن ارتفع حجاب الهيبة من بيننا وأنت بمنزلة ابنتي تمامًا كما قلت لك مرارًا، بل لا أرى ابنةً أو ابنًا يعامِل والديه بما تعامليننا به يا لمياء.» قالت ذلك وبان الاهتمامُ في جبينها.

فابتسمت لمياء وأبرقت عيناها عند سماع ذلك الإطراء وقالت: «إن سري يا سيدتي يتعلق بالطريق المؤدي إلى خدمة أمير المؤمنين.»

قالت: «قولي يا عزيزتي.»

قالت: «أحب أن أكون أنا رسول أمير المؤمنين إلى يعقوب هذا. ولا أريد أن يطلع سيدي الخليفة على ذلك … دبري طريقة.»

فاستغربت أم الأمراء هذا الطلب على هذا الشكل، وقالت: «وما هو غرضُك من هذا التكتُّم، ولماذا؟»

قالت: «لعلمي أن السر إذا جاوز الاثنين شاع، ولولا حاجتي إلى مساعدتك في نيل الكتاب لكتمت هذا عنك؛ ولذلك أتقدم إليك بإلحاح أن تكتمي خبري. وقد قلت لأمير المؤمنين إني سأسعى في استطلاع حال مصر بطريقةٍ لا أُحب أن يعرفها أحد … وكنت أَوَدُّ أن أفعل ذلك بدون أن أُكاشفك بأمر الكتاب … فلا تسأليني يا سيدتي عن الأُسلوب الذي سأتخذُهُ في البحث. إنما أتقدم إليك أن تستحثي سيدي أمير المؤمنين على كتابة الكتاب واجعلي أنك سترسلينه مع أحد الغلمان أو أوصي الرسول إذا أخذ الكتاب أن يأتي به إليك، أو كما تشائين. والمراد أن تسلمي إلي الكتاب وتطلقي سبيلي بدون أن يعلم أحدٌ بجهة سفري.»

فضحكتْ أُمُّ الأمراء، وقالت: «إني لا أحتاج في ما أطلبه من المعز لدين الله إلى حيلةٍ أو وسيلةٍ، وسأفعلُ ذلك إكرامًا لخاطرك … ولكنني سأشتاق إلى رؤيتك؛ فقد تعودت جوارك و…» ودمعتْ عيناها.

فأثر ذلك المنظر في لمياء وأحست بشيء يجتذبُها نحو تلك المرأة فلم تتمالكْ عن الترامي على كتفها وقد سبقتْها دُمُوعُ الامتنان، فضمتْها أُمُّ الأمراء إلى صدرها وقَبَّلَتْها وقالتْ لها: «ولكن عسى أن تعودي سالمةً ظافرةً ويعود الحسين أيضًا فائزًا فتزفان في هذا القصر وننسى ما قاسيته من الشقاء …»

فتجلدت لمياء واعتدلت وقد بانت الحماسة في عينيها، وقالت: «إنما يكونُ ذلك في الفسطاط — بإذن الله.»

فأُعجبتْ أُمُّ الأمراء بغيرتها وضحكتْ وضمتْها ثانيةً ووَدَّعَتْها على أن تدبر أمر الكتاب.

وانصرفت لمياءُ إلى غرفتها وأخذتْ تفكر في ما هي مُقْدِمَةٌ عليه من الأمر العظيم — سفرٌ وخطرٌ وبعدٌ وشوق — لكنها تجلدت واستحثت عاطفة الشجاعة وقالت في نفسها: «لا بد لي من الصبر حتى أنتقم لوالدي وأثأر لنفسي من ذلك الخائن الذي خدعني وأراد أن يجعلني ضحية مطامعه.»

وسكتت وأطرقت وهي واقفةٌ أمام المرآة تنزع ثيابها. وتصورت ما كان لسالم من المنزلة عندها فخفق قلبُها وسبق إلى ذهنها حُسن الظن به، فقالت: «قد يكون ابن كلس منافقًا أو مخطئًا … هل يُمكن أن يكون سالمٌ خائنًا إلى هذا الحد ويخدعني عدة سنين؟ لا … لا … إذن كيف أفسر عمله؟ ولو كان صادقًا في حبه لم يوافق على الفتك بأبي … ولكن سأتحقق ذلك بمصر قريبًا.»

وكانت قد فرغتْ مِنْ نزع ثيابها فاستلقتْ على الفراش للراحة والتأمُّل وأَجَّلَت الحكم في كل شيء إلى ما بعد وصولها إلى مصر.

وبعد بضعة أيام أتتها أم الأمراء بكتاب المعز لدين الله إلى يعقوب بن كلس، فتناولته وودعتها سرًّا وكان وداعًا مؤثرًا، وكانت لمياء قد أعدت كل ما يلزم للسفر من الخدم والأدلاء؛ لأن الطريق من القيروان إلى مصر بعيدةُ الشقة لا تقطعُهُ إلا القوافل وقد أعدت شبه بريد مؤلف من أربعة أفراس مع ما يلزم من الخدم والحرس وجعلت أن ذلك البريد يحمل غلام أمير المؤمنين إلى مصر، ولما أتاها الكتاب تنكرت بثوب غلام صقلبي وركبت ولا يشك من رآها في أنها غلام الخليفة يحمل رسالةً في مهمة. وسار الركب قاصدًا مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤