الفصل التاسع والأربعون

الفسطاط

كانت الفسطاطُ عاصمة الديار المصرية ومقر الإمارة منذ بَنَاهَا عمرو بن العاص، فلما تولى أحمدُ بن طولون جعل مقره في القطائع — كما تقدم في رواية أحمد بن طولون — ثم ذهبت الدولة الطولونية وأفضت الإمارة إلى محمد الإخشيد، فجعل مقره الفسطاط، فعادت إلى رونقها وزادتْ عمارتُها وتزاحمت الأقدام فيها حتى فاقت البصرة والكوفة في كثير من الوجوه وبلغ طولها على ضفة النيل ثلاثة أميال.

وذكر مؤرخو العرب من مقدار عمارتها أنه كان فيها ٣٦٠٠٠ مسجد و٨٠٠٠ شارع مسلوك و١١٧٠ حمامًا، وقد يستبعد ذلك ولكن إيراده يدل في كل حال على العظمة والعمران. ومما نظمه الشعراء في مدحها قولُ الشريف العقيلي:

أحن إلى الفسطاط شوقًا وإنني
لأدعو لها أن لا يحل بها القطر
وهل في الحيا من حاجة لجنابها
وفي كل قطر من جوانبها قطر
تبدت عروسًا والمقطم تاجها
ومن نيلها عقد كما انتظم الدر

وبلغ مِن تزاحُم الناس في الفسطاط حتى جعلوا المنازلَ طبقات عديدة، بلغ بعضُها خمس طبقات إلى سبع، وربما سكن في البيت الواحد ٢٠٠ من الناس، وبلغت نفقةُ البناء على بعضها ٧٠٠٠٠٠ دينار، وهي دار الحرم لخمارويه.

واشتهر من تلك الأبنية دار ضرب المثل بعظمتها وغِنَى أهلها تُسمى «دار عبد العزيز»، كانت مطلةً، على النيل، بلغ من سعتها وكثرة ساكنيها أنهم كانوا يصبون فيها أربعمائة راوية ماء كل يوم، ونقل بعضهم أن الأسطال التي كانت بالطاقة المطلة على النيل بلغ عددها ١٦٠٠٠ سطل مؤيدة ببكر وأطناب لها تُرخى وتملأ، وذكر رجلٌ دخلها في أواخر القرن الثالث للهجرة في زمن خمارويه بن أحمد بن طولون قال: «طلبت بها صانعًا يخدمني فلم أجدْ فيها صانعًا متفرغًا لخدمتي وقيل لي إن كل صانع معه اثنان يخدمهما وثلاثة، فسألت كَمْ فيها من صانعٍ فأخبرت أن بها سبعين (كذا) صانعًا قل من معه دون ثلاثة سوى من قضى حاجته وخرج.»

وفى ذلك دليلٌ على غنى أهل الفسطاط وترفهم، ومن هذا القبيل استكثارهم من الفرش؛ فقد يقتني أحدهم ألف فرشة أو عشرة آلاف فرشة، وذكروا أن رجلًا من أهل الفسطاط عنده ثلاثمائة فرشة كل فرشة لحظية. وكذلك كانوا يفعلون بالثياب ونحوها، وقد تكون أثمانُها فاحشةً، فلا يُبالون لغناهم. قال القضاعي إن قطر الندى ابنة خمارويه كان في جملة جهازها ألف تكة، ثمن كل واحدة عشرة دنانير، فبلغ ثمنها كلها عشرة آلاف دينار. فإذا كان ذلك شأن الفسطاط في زمن آل طولون ودار الإمارة في القطائع فكيف بعد أَنْ عادتْ دارُ الإمارة إليها في عهد الدولة الإخشيدية؟

وأشرفتْ لمياء على مدينة الفسطاط من جهة الشمال الغربي في صباح يوم صَفَا جَوُّهُ، فوقع بصرُها على المدينة عن بُعد فلَفَتَ إعجابها جامع عمرو في وسطها، وحوله الأبنيةُ الكبيرةُ بينها المآذن العديدة ووراءها النيل قد رست فيه السفن في ميناء الفسطاط من جهة الغرب، وبانت سواريها مصطفةً كالرماح إذا تقلدها صفٌّ مِنَ الفرسان وقف بنظام، وبين الفسطاط والمقطم البساتين والغياض وفيها الأشجارُ الغضة وأنواعُ الرياحين والأزهار، أجملها بين المقطم والخليج بستان الإخشيد أو البستان الكافوري (في محل الأزهر والسكة الجديدة من أبنية القاهرة اليوم) وإلى جنوبي الخليج ناحية المقس ومناخ المهراني وأرض الطبالة، (وهي الأماكنُ التي عمرت فيها بعد ذلك الفجالة والظاهر والتوفيقية والأزبكية وغيرها)، فأخذت لمياء تسأل دليلَ الركب عَمَّا يقعُ بصرُها عليه من البساتين، وهو يقص عليها. ثم استوقف بصرها بستانٌ واسعٌ، فيه بقعةٌ كالميدان قد نُصبت فيها الخيام، فقالت للدليل: «ما هو هذا البستان؟»

قال: «هو بستانُ الإخشيدي يا سيدي.»

قالت: «أراه جميلًا. فلنعرجْ إليه للراحة ثم نواصل السير.»

قال: «لا يمكننا ذلك الآن ولو جئنا في غير هذا اليوم ربما استطعنا دخوله.»

قالت: «ولماذا؟»

قال: «ألم ترَي يا سيدي الخيام المنصوبة في وسطه وعليها الأعلام؟»

قالت: «بلى، وما هي؟»

قال: «هذه سرادقاتٌ نصبوها للأمير كافور الإخشيدي صاحب مصر الآن؛ لأنه منحرف الصحة وأشار عليه طبيبُهُ أن يُقيم في الخلاء؛ لعله ينتفع.»

قالت: «هل كافور هو أمير مصر الآن.»

قال: «نَعَم يا مولاي هو أميرها منذ عامين … ونِعْم الأمير.»

فسكتتْ وتحولتْ إلى مرتفَع بجانب المقطم يطل على ما تحته إلى النيل، فأعجبها ما رَأَتْهُ من العمارة التي لا تعهدها في القيروان ولا في غيرها من البُلدان التي مَرَّتْ بها. ولفت انتباهها — على الخصوص — لَمَعان سطح النيل وراء الفسطاط. ووراء النيل بساتين الروضة والجيزة ووراءها الأهرام تناطح السحاب، وقد اكتنف النيل على ضفتيه بساتينُ النخيل الباسقة تختلط رءوسها برءوس السواري البارزة عن السفن السابحة في مياه الفسطاط، تحمل إليها الغلات والسلع وضروب الأنسجة من كل صقع وبلد، فزادتْ رغبتها في أن تصير هذه البلاد إلى المعز لدين الله، وتصورت الخليفة قد دخلها فاتحًا ورفع أعلامه فوقها فاختلج قلبها فرحًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤