الفصل الستون

الحلم

قضت لمياء في تلك الغيبوبة أيامًا لا تأكل ولا تشرب غير ما يسقونها إياه رغم إرادتها، ثم أفاقتْ وقد شحب لونها وبان الضعف في عينيها وحالَما أفاقت التفتت إلى ما حولها وقد استغربت كل شيء لكن الناظر في عينيها يرى أنها لا تزال ضائعةً رغم حركتها والتفاتها. وكان في الغرفة ساعتئذٍ الشريف مسلم نفسه وامرأة من أهله فتقدمت المرأةُ نحوها وقالت: «ماذا تريدين يا حبيبتي؟»

فلم تجبها لكنها عادت إلى استغراقها. وكانوا قد أعدوا لها لبنًا تشربه فلم تستطعْ ذلك لأنها عادت إلى الرقاد فأمر الحكيم أن تُسقى اللبن كرهًا. وكانت الحمى قد انخفضت والغيبوبة هذه المرة لم يطل مكثها. ففي صباح اليوم التالي سمعوها تئن أنينًا شديدًا كأنها تشكو ضيقًا. فأسرع مسلم إليها فسمعها تقول بأعلى صوتها: «حسين! حسين! تبًّا لهم قبضوا عليك … دعوه قبحكم الله. أما كفاكم ما فعلتموه بأبي؟ آه آه …» وسكتت ثم فتحت عينيها فجأة والتفتت إلى مسلم وهو واقف إلى جانبها وتفرست فيه وقد عاد إليها رشدها فعرفتْه فقالت: «العفو يا سيدي؟ أنت هنا. أين أنا؟ ماذا جرى لي. أين الحسين؟ قد قبضوا عليه؟ ويل لهم …» وشرقت بدموعها.

ثم تراجعت وكأنها انتبهت أنها في يقظة وليس هناك حسين فخجلت فتقدم الشريف نحوها بلطف وقال لها: «ما بالك يا بنية. إنك تهذين أو تحلمين لا تخافي إنك في منزلي وأنتِ أعز من ولدي …»

فأخذت تفرك عينيها بكلتا يديها وهي تنظر إلى ما حولها وقالت: «لست خائفة يا سيدي … لست خائفة … ولكن الحسين بن جوهر. رأيتهم أخرجوه مغلولًا في فج الأخيار … وأولئك اللصوص حوله كالزبانية … رأيتهم رأي العين …»

فقال: «أنت يا لمياء في الفسطاط. وبيننا وبين فج الأخيار عدة أيام … خففي عنك. وعودي إلى رشدك … لا بأس عليك. وبعد هنيهة يأتي الطبيب ويشير بما يجب أن تفعلي.»

قالت: «الطبيب! وأي طبيب؟ إني لا أشكو مرضًا ولكنني أشكو ظلما وخيانة …» قالت ذلك وغصت بريقها وأغرقت في البكاء حتى ملأ نحيبُها الدار. فبعث الشريف يتعجل الطبيب فأتى والفتاة مستغرقةٌ في البكاء فجس نبضها ثم أشار عليهم أن لا يخاطبوها ولا يَقُصُّوا عليها خبرًا بل يكتفوا بالغذاء الخفيف. ووصف لهم ما ينبغي عمله ولكنه أَلَحَّ عليهم أن يتركوها هادئة ساكنة — بقدر الإمكان.

ظلت لمياء في الفراش عدة أسابيع لا يُخاطبها أحدٌ إلا بالضروري وهي تصحو تارة وتغيب أُخرى، والطبيب يترددُ عليها ويصف الأدوية والأغذية حسب الحاجة. ويعقوب يأتي كل يوم للسؤال عنها ويأسف أشد الأسف لِما أصابها على يده، رغم اشتغاله في تلك الأثناء بأُمُور ذات شأن أهمها موتُ كافور وانتقال الإمارة إلى أحمدَ بنِ علي بن الإخشيد، وهو غلامٌ لم يتجاوز الحادية عشرة، وتحول النفوذ إلى جعفر بن الفرات وزير كافور المتقدم ذكره. ولم يكن ابن الفرات يستطيع عملًا في حياة كافور، فَلَمَّا صارت الإمارةُ إلى ذلك الغلام استبد هو في الأمر وأخذ في مطاردة رجال الدولة ومصادرة الأغنياء. وكان يعقوب من جملة المهددين وخاف أن يصل الدور إليه فاستتر، وكان يقضي أكثر أوقاته عند الشريف مسلم بن عبيد الله المُشار إليه بحجة السؤال عن لمياء ويتحادثان في شئون الدولة ويرون قُرب سقوطها لكنهما لا يتحدثان في شيء من ذلك أمام لمياء عملًا بإشارة الطبيب.

وبعد مدة تقدمت لمياء نحو الصحة وأصبحتْ في شوقٍ إلى استطلاع الأحوال، والحكيم يأمرها أن تُلازم الصمت، وبعد مدة أُخرى أذن لهم أن يخاطبوها في الشئون التي تريدها. وكانت لا تزال تترددُ إلى الفِراش وتنزل إلى الحديقة أو تمشي في المنزل. ورأت وجهها بالمرآة فانزعجتْ مما صارتْ إليه من الضعف، فبكت، وعاد إليها رشدها فتذكرت ما انتابها في تلك المدينة وكيف خلفتْ أهل القيروان على مِثل الجمر في انتظار أخبارِها من مصر. وتذكرت أنها رأت الحسين خطيبها مغلولًا أو رأتهم يوثقونه ويضربونه كأنها رأتْ ذلك في يقظة.

كانت هذه الخواطر تمر بذهنها في أواخر أيامِ النقه ولا تجسر على مفاتحة أحدٍ بها. فَلَمَّا أذن لها الطبيبُ بذلك طلبتْ يعقوب وسألته عما جرى في أثناء مرضها، فقص عليها ما كان من موت كافور وتنصيب أحمد بن علي.

فقالت: «ألم تبعثوا بذلك إلى القيروان؟»

فابتسم ونظر إلى مسلم فابتسم أيضًا وفي وجهيهما علاماتُ البشر فقالت: «ما الخبر؟»

قال يعقوب: «الخبر خير يا لمياء … إن أهل القيروان علموا بكل ما جرى هنا، وقد جاءوا إلينا بخيلهم ورجلهم.»

فصاحت: «أتوا إلى هنا؟ القائد جوهر أتى؟ المعز أتى؟ أين هم؟»

فقال: «المعز لم يأت ولكن القائد جوهرًا جاء بجُند كثيف ونزل الإسكندرية ووقع الرعب في قلوب المصريين … ولا ندري ما يكون.»

فأطرقتْ لمياء — وقد بان البشر في مُحَيَّاهَا — وأحستْ بنشاطها الأول كأنها كانت في رقاد وأفاقتْ. وتذكرتْ مهمتها التي جاءتْ مِنْ أجلها وأنها لم تستطع عملًا تخدم به المعز؛ لأن المرض أعاقها. وتذكرتْ — للحال — ما رأتْه من سالم فاقشعرَّ بدنها فقالت: «وماذا جرى بذلك الخائن وعمه؟» قال: «لا أدري؛ لأني لم أعدْ أراهما من تلك الجلسة وأظنهما يشتغلان في دَسِّ الدسائس في قصر السيدة زينب بنت الإخشيد بعد موت كافور وضياع أملهما …»

فلما سمعت اسم بنت الإخشيد تذكرت أشياء أُخرى هاجت أشجانها فأطرقت ومسلم ويعقوب يلاحظانها ولا يتكلمان. ثم انتبهت فجأة، وقالت: «ماذا جرى بأمتعتي وجوادي؟»

قال يعقوب: «أي أمتعة تعنين؟»

قالت: «أعني ما حملته معي من الثياب والأمتعة من القيروان وتركته في الفندق مع الجواد والخادم والدليل.»

قال يعقوب: «أي فندق إن الفنادق كثيرة هنا …»

فقالت: «في الفندق الذي هداني صاحبه إلى منزلك.»

قال: «لم أنتبه له.»

قالت: «أنا لم أعرفه وقد آن لي أن أخرج من البيت ولا خوف علي … أخرج بالثوب الذي يعرفني صاحب الفندق به فألاقيه وأدفع له أجرته وآتي بالأمتعة … والحق يقال إني أحس بقصوري في خدمة أمير المؤمنين وقد شُغلت عن خدمته بخدمة نفسي ثم شغلني المرض.»

قالت ذلك ووقفت وقد عاد إليها نشاطُها والتفتتْ إلى مسلم وعيناها تنطقان بالشُّكر على ما أبداه من الغَيرة. فأجابها على الفور «إنك ستعودين إلينا وتنزلين في دارنا … أو الأفضل أن تمكثي هنا فنرسل مَن يأتي إليك بالأمتعة والجواد.»

قالت: «بل أُفَضِّلُ الذهاب بنفسي وسأعود الليلة أو في صباح الغد — إن شاء الله.»

فقال مسلم «بل تأتين الليلة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤