الفصل التاسع والستون

الرسالة

فوَسَّعُوا لها حتى دخلتْ عليه بعد أن تَرَجَّلَتْ وسلمت الجواد إلى بعض خدمه. وكان مسلم مختليًا في غرفته مع بعض الأعيان والتجار وقد عَلَتْ أصواتهم من النقمة على نقض الصلح. فلما قيل لهم جاء أحدُ الأجناد سكتوا، فدخلت لمياء بلثامها وأشارتْ إلى مسلم أنها تُريد مقابلته على حِدَة. فدخل معها إلى غرفة فأوصدت الباب وراءها ثم أزاحت اللثام فدهش لرؤيتها وقال: «ما وراءك؟ من أين أتيت؟»

فقَصَّتْ عليه خبرها كما هو وأخبرتْه عن وُجُود الحسين في القصر بمأمنٍ، وأنها احتالت في المجيء إليه بحجة تلك الرسالة وإنما غرضها أن تبلغ القائد جوهر حال الدولة من الاختلال والضعف حتى لا يغتر بهذا الصياح.

فأعجب الشريف بحميتها وبسالتها وقال: «لله درك مِن فتاة صادقة باسلة هل تريدين الذهاب إلى القائد بنفسك؟»

قالت: «نعم … لأني أستطيعُ بذلك أن أَزيده بيانًا شفاهيًّا.»

قال: «تفعلين حسنًا، وسيفرح بلقياك؛ لأنك تنقلين إليه خبر الحُسين وأنه حي آمنٌ وقد سمع بوقوعه في الأسر ولا يدري أين هو.»

قالت: «أين المعلم يعقوب؟»

قال: «ألم تسمعي بما أصابه؟»

قالت: «كلا … ماذا جرى له؟»

قال: «إن الوزير ابن الفرات صادره على أربعة آلاف وخمسمائة دينار عرف بوجودها عنده وأراد قتله فالتجأ إلي مدة ثم فر إلى معسكر القائد جوهر١ وقد حملته ما استطعت من الأخبار والملاحظات ولكن رسالتك أعظم أهمية عنده؛ لأنك استقيت الخبر من مظانِّه … اركبي، وسأُرسل معك بعض رجالي … ليس خوفًا عليك، ولكنك لا تعرفين الطريق فيدلونك عليها.»

فقبلتْ ذلك منه وخرجتْ، فامتطتْ فرسَها وركب معها بضعةٌ من رجال الشريف وسارُوا يطلبون معسكر القائد جوهر من ورائه، فقطعوا جسرًا على النيل أسفل الفسطاط والشمس قد مالتْ عن خَطِّ الهاجرة فوصلوا المعسكر قُبيل الغروب، وكان رفاقها قد عرفوا فسطاط جوهر فسارُوا توًّا لا يعترضُهُم معترض.

وكان جوهر جالسًا في فسطاطه وقد أُوقدت الشموع، واجتمع قوادُهُ حوله وهم جُلُوسٌ وجوهرٌ مطرق يفكر في ضياع ابنه الحسين، وكان قد سمع من الذين حملوا إليه الأموال مِن فَجِّ الأخيار أنه تخلف عنهم ولعله قتل أو وقع أسيرًا. وهم في ذلك دَخَلَ الحاجب وقال: «إن بالباب رسولًا من الفسطاط يشترط أن يلقى القائد في خلوة.» فأشار إلى الحضور بالانصراف وأمر بإدخال الرسول فدخلت لمياء بثوبها ولثامها وأزاحت اللثام وأكبت على يده تقبلها فلم يتمالك عن النداء «لمياء، لمياء!»

فأشارت بأصبعها على شفتها أن يكتم أمرها فضمها إلى صدره كأنها ابنتُهُ — وهو يحبها كما يحب الحسين — لكنه تذكر الحسين فانقبضتْ نفسُهُ وكادت الدموع تترقرقُ في عينيه، فقالت: «جئتُك يا سيدي ببشرَى مزدوجة.»

قال: «ما هي … قولي.»

قالت: «الأولى أن سيدي الحسين في أمان ولو عرفني عندما حملني رسالته هذه إليك لكلفني بإلقاء التحية، ولكني اضطررت للتستر. والثانية أن عدوكم الذي يحاربكم وتسمعون صياحه ونداءه كالقصبة المرصوصة أو كالطبل، صوته قوي وقلبه فارغ.»

قال: «ماذا أرى أنت لمياء جئت بهاتين البشارتين وأهمهما وجود الحسين حيًّا بعد أن يئست من وجوده، ولكن أين هو، وكيف عرفت ذلك؟ أخبريني.»

فجلستْ وقصتْ عليه ما رأتْه وقاستْه منذ برحت القيروان إلى أَنْ أخذت تلك الرسالة من الحسين ودفعتْها إليه فقرأها وقال: «سأفعل ذلك حبًّا وكرامة، وأين ذلك الخائنُ وعمه؟» فتنهدت وقالت: «رأيتهما مع الجند يحرضانهم على الحرب وسينالان الجزاء … كيف فارقت مولانا المعز وأم الأمراء؟»

فهز رأسه هز الإعجاب وقال: «إن مولانا المعز — أعزه الله — وأتم نصره من معجزات الزمان …»

قالت: «ومن أكبر أسباب سعادته أنك قائده.»

قال: «كلا يا لمياء إني لو سفكت دمي عند قدميه لا أُكافئه على صنيعه … أنت تعلمين منزلتي عنده ولكنني لو أخبرتك ما فعله يوم خروجي من القيروان بهذه الحملة لرأيت عجبا؛ إنه أمر بإفراغ الذهب في هيئة الأرحية وأن تحمل معي ظاهرة. وأمر أولاده وإخوته الأمراء وولي العهد وسائر أهل الدولة أن يمشوا في خدمتي وأنا راكب. وكتب إلى سائر عُماله يأمرهم إذا أنا قدمتُ أن يَتَرَجَّلُوا مشاة. فكنت حيثما سرت في طريقي من القيروان كل من مررت به فعل ذلك. فلما أتيت برقة عظُم على صاحبها أن يفعل ذلك فافتدى ترجله ومشيه في ركابي بخمسين ألف دينار ذهبًا فأبيت إلا أن يفعل ما أمر به أمير المؤمنين ففعل٢ أَمِثْل هذا الخليفة يكثر فيه الافتداء بالروح؟»

قالت: «صدقت والله إنه نابغة الخلفاء. وهل أنسى أنا ما أكرمني به حتى كان يناديني ابنته. وهل مثل هذا الخليفة يكون نصيبه من حربه غير النصر؟ وهل تصلح الدولة إن لم يكن رجالُها قلبًا واحدًا في طاعة أميرهم؟ أين ذلك من جُنُود مصر ودولتهم؛ فقد سمعتهم يختصمون على أُمُور تافهة ورأيتهم يضربون الناس لاستخراج المال منهم، وهذا أمير المؤمنين قد بعث المال معك بشكل الأرحية. لا شك أن الله أذن بانقضاء دولة الإخشيديين … هل ترى أن أعود إلى الفسطاط. وما هي العلامة التي تجعلها على دار بنت الإخشيد حتى لا يقربها أحد بسوء؟»

فضحك وقال: «كأنك واثقة من دخولنا ظافرين؟»

قالت: «لا شك عندي في ذلك.»

فربت على كتفها بيده وقال: «بارك الله فيك انصبوا بباب القصر علمًا أخضر وسأوصي الجُند أن يتجنبوا ذلك الباب.»

قالت: «أتأذن بانصرافي …»

قال: «تبيتين الليلة هنا ونرى ما يكون في الغد ولا باعث إلى العجلة في الذهاب.»

فأطاعت. أما أهل الفسطاط فقد رأيت ما كان من اضطرابهم وما سامهم الجُندُ من الخسف والإهانة والسلب حتى أصبحوا يفضلون الفاطميين عليهم، وأما بنتُ الإخشيد فإنها مكثت بعد ذهاب لمياء وقد تَوَلَّتْها الدهشة؛ لِما شاهدته من مروءة هذه الفتاة وبسالتها. ولبثتْ تنتظرُ رُجُوعَها، وقضت أكثر أوقاتها في الشرفة المطلة على الجيزة؛ لتراقب حركات الجنديين وقلما كانت ترى شيئًا منهما لبعدهما عن مجال البصر لكنها كانت تتلاهى بذلك ووجهت عنايتها خصوصًا للحسين وأمرت بإكرامه ورعايته.

١  ابن خلكان ١١٠ ج١.
٢  المقريزي ٣٧٨ ج١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤