حَنَان مُصطفى

سمعتُ صوتًا يُناديني فتوقفت عن السير متلفِّتًا إلى الوراء؛ فرأيت سيدة في الحلقة السادسة تنظر نحوي بعينين زرقاوين باسمتين، تطلَّعتُ إليها لحظات متسائلًا ثم اقتحمني التذكُّر، والعرفان كنفحة من عبير الأزهار، فهتفت: حنان!

فقالت فيما يُشبه الامتنان: نعم .. حنان .. كيف حالك؟

وتَصَافحنا بحرارة ونحن نميل إلى جانب من الطوار، وراحت تقول: تذكَّرتُك بسهولة، لم تتغير تغيرًا يُذكر، وخفت ألا تتذكرني، ولكنَّ الظاهر أنني لم أتغير بصورة تدعو لليأس، ماذا جاء بك إلى جليم في مايو أم إنك مقيم هنا في الإسكندرية؟

– بل جئتُ لاستئجار شقة للصيف، وأنت؟

– نفس السبب، وحدك؟

– نعم.

– وأنا كذلك.

وتبادلنا السؤال عن الأهل فعلِمنا بمن ذهب وبمن بقي، وأخبرتها عن حالي الاجتماعيَّة، فقالت: لي أربع بنات متزوجات، وأنا جدة من زمن، أما زوجي فقد توفي منذ عامين.

ومشينا على مهل على الكورنيش حتى سألتني: متى رأيتني آخر مرة؟

فتفكرت مليًّا ثم قلت: منذ أربعة وأربعين عامًا؟

فهتفت ضاحكة: يا للفضيحة، وبرغم ذلك عرفتك من أول نظرة!

– كما عرفتك!

– بل ترددت قليلًا.

– من المفاجأة.

فضحكت ثم تساءلت: أتذكر حُب زمان؟

وجعلت تتكلم بتدفق وتضحك بين ذلك بصوتٍ عالٍ، حتى ذكَّرتني بما كان يُقال عن جنون أمها. ولبثنا معًا دقائق ثم ذهب كلٌّ إلى طريقه، ورجعتُ إلى عباسية الحقول والحدائق والهدوء الشامل. وعاود ذاكرتي بيت آل مصطفى، الأب والأم والابن وحنان، بيت بهر أخيلتنا بسِحْره الخاص، فعند الأصيل يجلسُ الأب في السلاملك المُطِلِّ على الطريق، يجلس على كرسي هزَّاز وبين يديه منضدة عليها زجاجة ووعاء ثلج، وكأس وطبق مَزَّة. رجل بدين متوسط القامة أحمر الوجه أصلع يتحدَّى بكل استهانة تقاليد الزمان والمكان. في أول الجلسة يبدو صامتًا رزينًا بل متعاليًا منطويًا. ثمَّ ينشرح صدره بالانتشاء فيجود بنظرات إنسانية على الطريق والعابرين، وبعد ذلك لا يستنكف من مخاطبة بياعي الملانة، والبطاطة، والسحلب، والدندرمة تبعًا للفصول، ورُبَّما مازحهم واستعادهم الإنشاد المطرب الذي يعلنون به عن بضاعتهم على عادة ذلك الزمان. وكُنا نقف غير بعيدين لنسمع ونشاهد ونشارك في السرور. ونتابع تعليقاتنا مرة مستنكرة في الغالب إلا ما يصدر عن جعفر خليل الذي كان يُحبه، ويُعجب به، ويعتبره فُرجة لا تقل في بهجتها عن السينما والسيرك، وتظهر خلال تلك الجلسة اليومية ربة البيت، طويلة نحيلة تتوكأ على عصا لعرج خفيف بها، فتلقي على ما حولها نظرة مستكبرة مُتأففة، والويل لنا إذا رأتنا نتفرج ونضحك فتنهال علينا قَدْحًا وتقريعًا، ولعنًا لآلِنا الذين لم يحسنوا تربيتنا، ثم تختفي من السلاملك وهي تسب الناس والبلد. كانت تُعَد — مثل زوجها — غير طبيعية، وكثيرًا ما كانت تُرى وهي تتشاجر مع الباعة والخدم، وقيل إنها كانت تكبر زوجها بعشرة أعوام، وإنها غنية تملك أرضًا ونقودًا على حين لا يملك زوجها إلا حصة في وقف، وقد تزوجت منه — رغم أنه لا عِلم ولا عمل — لعراقة أصله، وكان ضمن المترددين على الطريق غجرية ترعى الأغنام، حافية في جلباب أسود مشدود عند الوسط بحزام، متلفعة بخمار أسود ينسدل من تحته على وجهها برقع أسود أيضًا يخفي الوجه ما عدا العينين. وكان بيننا وبينها معركة لا تهدأ فكلما أقبلت وراء الأغنام نصيح بصوت واحد:

يا غجرية
حلي حزامك
من قدامك

فتقذفنا بما في مجال يديها من طوب، ومضى مصطفى بك يهتم بها، ويزجرنا مُدافعًا عنها، ويومًا قال لنا سيد شعير، وكان أسرعنا إلى التطلُّعات الجنسية: ألا ترون ما بين الخروف والماعزة؟!

وأعقب ذلك مشاجرة عنيفة بين البك وحرمه، تصدَّعت لها جدران البيت، وعصفت بالشارع الهادئ حتى ازدحمت خصاص النوافذ بأشباح الحريم، وغادر الرجل البيت فلم يُرَ بعد ذلك، ولكن شاع في الحي أنه تزوج من الغجرية، وأقام معها في الدرب الأحمر، ووجدت الزوجة نفسها بلا رجل فلعبتْ دورَي الرجل والمرأة معًا.

كانت غريبة الأطوار حقًّا، ومن آي ذلك أنها سمحت لحنان باللعب مع أترابها على حين منعت أخاها الأكبر سُليمان من مُغادرة البيت إلا بصحبتها! كان صبيًّا جميلًا رشيقًا، كُنا نراه وهو يلعب في الحديقة منفردًا أو مع خادمة، وكان وديعًا مُهذبًا أرق من أخته نفسها، وكُنَّا نبادله النَّظرات فَنودُّ لو يلعب معنا، ويود لو نلعب معه، ولكننا ظللنا غرباء حتى غادر مع أسرته الحي، وتعلَّق قلبي بحنان قبل أن أُناهز البلوغ، كانت بيضاء، زرقاء العينين ناعمة الصوت، وكانت ليالي رمضان فرصة هنية للصغار من الجنسين، يجتمعون في الشارع بلا اختلاط، ويتراءون على ضوء الفوانيس وهم يُلوِّحون بها في أيديهم، وكنا نترنَّم بأناشيد رمضان ونتبادل مشاعر الحب وهو كامن في براعمه المغلقة، وقنعت عواطفنا الساذجة بتبادل النظرات، وإظهار الرشاقة في الجري والغناء، أو المخاطبة بالابتسام في خفاء. ولما بلغت الثانية عشرة من عمرها مُنعت عن الطريق والمدرسة معًا. لم يكن بيتها يؤمن بالتعلم أو العمل ويعتبرهما من ضروريات الفقراء فحتى سليمان هجر المدرسة قبل أن يحصل على الابتدائية. وباختفاء حبيبتي من الطريق اشتدَّ ولعي بها، وصارت شغلي الشاغل. وكانت تُريني نفسها خطفًا من النَّافذة، أو نتبادل المشاعر بإشعال أعواد الثقاب في الظلام فوق الأسطح، وخطونا خطوة جديدة بفضل خادمتها التي تردَّدَت بيننا خفية حاملة التحيات والورود، وسعدت بذلك سعادة لا تُوصف، فطمعتُ في المزيد منها، ولكني لم أدرِ كيف، وتسلل إلى روحي قلق نشيط غامض تتجاذبه قوى خفية من البهجة والكآبة، وإذا بأمها تزورنا ونادرًا ما كانت تزور أو تُزار، وبصراحة لا يمكن أن تصدر إلا عن امرأة مثلها اقترحت أن نتزوج!

وأحدث اقتراحها ذهولًا، وقالوا لها: إنه شرف كبير ولكنهما لم يبلغا الثالثة عشرة من عمرهما.

فضربت بعصاها الأرض وقالت باستهانة: الزواج يُعقد أحيانًا بين أطفال في الأقمطة.

فقالوا: ولكنه لم يتم دراسته الابتدائية بعد وما زال أمامه مشوار طويل.

فقالت بعجرفة: بنتي غنية، ولن يجد حاجة إلى شهادة أو وظيفة.

– ولكن التعليم ضروري والوظيفة ضرورية.

– كلام فارغ.

– إنه لا يملك ولن يملك شيئًا، ولن يقبل أن يكون مجرد زوج لزوجة غنية.

فتساءلت بحدة: والعمل؟

– لا سبيل إلا الانتظار حتى يُتم تعليمه ثم له أن يتزوج بعد ذلك.

– وما مدى هذا الانتظار؟

– عشرة أعوام على الأقل.

فصرخت المرأة: إنكم تركلون النعمة.

ووقفت غاضبة ثم رددت بنبرة أقوى: إنكم تركلون النعمة!

وغادرت البيت عابسة مُتعجرفة، ودار تحقيقٌ معي لمعرفة الأسباب المجهولة التي تقف وراء تلك الزِّيارة الغريبة، ولم أكن أتخيَّل إمكان وقوع ذلك. ولم أشك في أنَّ الأم المجنونة اطَّلعت على سر ابنتها، فتنازلت لاقتراح الحل السعيد كما تتصوره وهي واثقة من قبوله، وتأثرتُ لذلك غاية التأثر، ورغبتُ رغبة صادقة في الاعتذار إلى حنان، ولكن هالني أنها لم تعد تلوح في نافذتها، كما كفَّت خادمتها عن المجيء إليَّ، ورجعتُ عصر يوم من المدرسة لأعلم أنَّ آل مصطفى قد غادروا البيت والحي إلى مكان مجهول. وعانيت لأول مرة في حياتي عذاب الحرمان والهجر، ولكن حدته لم تقتلني بل ولم تبطش بي، أطبقت عليَّ حينًا، ثم مضت تخف وتبهت حتى استحالت ذكرى مجردة من أي انفعال.

ولم تقع على حنان عيناي مذ غادرت حيَّنا حتى التقيت بها في جليم في مايو ١٩٦٩ وهي تقترب من الستين من عمرها، أمَّا شقيقها سليمان فقد ترامت إليَّ بعض أنبائه عن طريق المرحوم جعفر خليل عقب انعطافه إلى الوسط السينمائي؛ إذ صادفه ليلة في استديو مصر وهو يعمل راقصًا ضمن فرقة جيء بها للتصوير في بعض مناظر فيلم استعراضي، قال: سلمت عليه وذكَّرته بنفسي فتذكَّرني، وأخبرني بأنه هوى الرقص وكرَّس له حياته.

ودهشتُ يومذاك لتلك النهاية غير المتوقعة؛ فقال لي جعفر وهو يضحك ضحكته الكبيرة: يبدو لي أنه يُمارس هوايته وحياته في حرية مطلقة!

وفي لقاء جليم أخبرتني حنان أنَّ أباها توفي في ختام عام انتقالها من العباسية إثر جراحة لاستئصال الزائدة الدودية، وأنَّ أمها توفيت منذ عامين فقط، أمَّا سليمان فقد انقطع عنها انقطاعًا كليًّا فهي لا تعلم أخباره إلا من المجلات الفنية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤