سَابا رمزي

زاملنا في المدرسة الثانوية. زاملنا عامين ثم اختفى، وبالرَّغم من أنَّ زمالته ترجع إلى عام ١٩٢٥ فما زلت أتذكَّر بوضوح عينيه اللوزيَّتين الحادتين، وقامته القصيرة لحد الرثاء، وكان رياضيًّا متفوقًا في القسم المخصوص والكرة. كان الجناح الأيمن لبدر الزيادي، وكان تبادل الكرة بينهما يُشكِّل خطرًا على أي فريق نلاعبه؛ لذلك اكتسب في المدرسة شهرة واحترامًا رغم قِصر قامته، وكنَّا في أوقات الفراغ نقرأ المنفلوطي معًا ونستظهر ما نختاره من جمله الموسيقية، وحدَّثته مرة عن روايات ميشيل زيفاكو فتجهَّم وجْهُه وسألني: أصدَّقت ما جاء في رواياته عن البابوات؟

فقلت ببراءة: ولِمَ لا أصدِّقُها؟

فقال بنبرة تحذير: إنه عدو للكاثوليكيَّة، ولذلك فهو يتعمد تشويه سمعة البابا.

عرفت لأول مرة أسماء جديدة كالكاثوليكية، والبروتستنتيَّة، والأرثوذكسية. وتحيَّرت بينها حتى أخبرني زميلنا ناجي مرقس أنَّ المذهب المسيحي المصري هو الأرثوذكسية، وأنَّ المبشرين أفسدوا بعض الأقباط فجروهم إلى اعتناق الكاثوليكية أو البروتستنتية. وراح جعفر خليل يُداعب سابا رمزي قائلًا: الآن عرفنا أنَّك قبطي فاسد!

وجعفر خليل هو الذي أفشى سِرَّه فقال لنا يومًا: فيكم من يحفظ السر؟

فتساءلت أعيننا باهتمام فعاد يقول: الجناح الأيمن سابا رمزي يحب مُدرِّسة بمدرسة العباسية للبنات!

وراقبناه عقب انصراف المدرسة فرأيناه وهو يتبعها في طريقها حتى مشارف باب الشعرية. وكنَّا يومًا نقرأ بالتبادل في مجدولين فلاحظت تهدُّج صوته حتى كفَّ عن القراءة من شدة التأثر. وشعر بعينيَّ فوق جفنيه المسدلين فتمتم: رأيتكم وأنتم تتبعوني!

ثم بمزيد من التأثر: أنا أحبُّ مثل ستيفن وأكثر!

ووجد مني مُشاركة وجدانية إذ كنت عاشقًا مثله فقال: سأحبها مهما يكن الثمن!

فقلت له بعطف: ولكنَّها مُدرِّسة وما زلت تلميذًا صغيرًا.

فقال بإصرار: الحب أقوى من كل شيء.

وقال: إني أحاول مُحَادثتها ولكنها تتجاهلني، يقال إنَّ ذلك أسلوب من الدلال، ما رأيك؟

– لا أدري.

– كيف أعرف إن كانت تحبني أو لا تحبني؟

– لا أدري.

– هل نسأل جعفر خليل وبدر الزيادي؟

فقلت محذِّرًا: كلا .. إنهما يحبان المزاح وسيجعلان منك نادرة!

واستمرَّت مطاردته اليومية للمُدرِّسة بلا نتيجة، وأخذت ثقته بنفسه تضعف ويغلبه الحزن. وشهدنا عصر يوم منظرًا ليس من السهل أن يُمحى من الذاكرة. رأيناه يعترض سبيل المُدرسة بجرأة ويقول لها: من فضلك.

فمالت عنه ناحية وسارت في طريقها فتبعها وهو يقول: لا بد من كلمة.

فهتفت به غاضبة: لا يمكن أن أحتملك إلى الأبد.

فقال بتوسل: اسمعي كلمة بكل أدب.

– دعني وإلا ناديتُ الشرطي.

وابتعدت تسير بخطوات غاضبة سريعة. وقف ينظر إليها بذهول، وبحركة سريعة غير متوقعة دسَّ يده في جيبه فاستخرج مسدسًا فسدده نحوها وأطلق النار! صرخت الفتاة صرخة فظيعة وارتفع وجهها إلى السماء في حركة مُتَشَنِّجة ثم تهاوت على ظهرها. وجعل سابا ينظر إليها، ذراعه مدلَّاة، ويده ما تزال قابضة على المسدس، وظلَّ كذلك حتى قُبض عليه. وفاضت روح الفتاة قبل مجيء الإسعاف. وعرفنا فيما بعد أنَّ سابا سرق مسدس أخيه الضابط في الجيش ليرتكب جريمته عند اليأس. ولم ندرِ عنه شيئًا بعد ذلك، ولم نره مرة أخرى. لقد طبع في خيالنا صورة لا تُنسى ثم ذهب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤