عَبْد الرحمن شعبَان

شخصية لا تُنسى، عندما جلست إلى مكتبي لأوَّل مرة في إدارة السكرتارية لفت نظري بشدَّة كهربيَّة، عملاق في طول العقَّاد وضخامة زيور باشا، أنيق الملبس فخم المنظر، تخاله وزيرًا رجعيًّا أو مُدير بنك.

– حضرته أستاذنا الكبير عبد الرحمن شعبان مُترجم الوزارة.

ليس هذا فحسب، ولكني عرفتُ أيضًا مع الأيام أن مُرتَّبَه عشرون جنيهًا لا غير! بدا لي أوَّل يوم منطويًا متجهمًا كحصن فقدرت المتاعب في زمالته التي فرضتها الأقدار عليَّ، ولكنَّه كان يفتح قلبه بيسر وبسرعة، وسرعان ما تنفجر قهقهاته كالقنابل ويحتقن وجهه المستدير الريان بالدم، ويتجلى في براءة الأطفال. وعند الحديث تنهمر منه المعلومات كالمطر الغزير، فهو يُحب الموضوعات التي تطرق مُدَّخراته من المعارف بقدر ما يضيق بالموضوعات التي يجهلها فتضطره إلى التزام السمع، وهو أبغض الأشياء إلى نفسه. يحب الكلام لحد العبادة، ولديه معلومات لا حصر لها عن أشياء لا حصر لها؛ السيَّارات والأثاث والزيوت والأمراض والساسة والأفلام والبلاد والنكت والتاريخ والجغرافيا والفلك والقانون والمصارف والدعارة. طفل كبير في الخامسة والثلاثين، خفيف الروح، دعاباته أزهار منورة، ونوادره وشي منمنم، أمَّا غضبه فآه لو انفجر غضبه، وما أسهل أن يثور غضبه! لشيء ولغير ما شيء ينفجر غضبه، وعند ذلك تزلزِل الزلازل وتنفجر البراكين، وتنطلق الأعاصير، فإذا لم يقابل بتحدٍّ هدأ وسكن وتراخى وتراجع فاعتذر وقدَّم السيجارة أو أمر بالقهوة. تناقش مرَّة مع أحد الموظَّفين فعانده الرَّجل حتى أثاره، وأراد أن يفحمه فاستشهد بنادرة من التاريخ الإسلامي — وعبد الرحمن يجهل التراث جهلًا تامًّا — فقال: دخل بدوي على عبد الملك بن مروان فقال …

ولكنَّ عبد الرحمن شعبان انتتر قائمًا كعمود السواري، وصاح وهو ينتفض غضبًا: عبد الملك بن مروان! من هو عبد الملك بن مروان؟! تستشهد لي بحيوان يا حيوان، ملعون أبوك أنت وعبد الملك بن مروان.

وهجم عليه كالوحش فَفَرَّ الرجل من الإدارة كالنحلة، ولكنَّه لم يُقدم فيه شكوى، حتى طنطاوي إسماعيل رئيس السكرتارية كان يتجاهل ذلك التمرد الصارخ على أصول الوظيفة، وكان يقول: إنه أحمق، ولكنَّه أنظف معدن في هذه الوزارة.

وأدركتُ أنَّ مُعاندته غير مأمونة، وأنَّ الخوض معه في موضوع تعرفه ويجهله مُغامرة جنونية. ولعلَّ عباس فوزي كان أوَّل من عرف كيف يداريه بمكره ولباقته، ومع أنَّ عبد الرحمن كان يحتقره في باطنه إلا أنَّه عامله باحترام ومودة، وكان أبوه وزيرًا للحربية، أرسله إلى فرنسا — بالبكالوريا — ليَدرس الطب فمضى يتنقل ما بين فرنسا وإنجلترا عشرة أعوام دون جدوى، مكث عامًا أو عامين في كلية الطب، وعامين آخرين في كلية العلوم، كذلك الحقوق والآداب. ولكنه لم يُثابر ولم يحصل على شهادة. ولما توفي والده رجع إلى مصر في الثلاثين، يحملُ في رأسه دائرة معارف مضطربة غير متكاملة، وخبرة عميقة بالإنجليزية والفرنسية والنساء والقمار والحانات والمسارح والسينما وبيوت الدعارة، كما رجع بزوجة لبنانيَّة تُقاربه في العمر أو تماثله، ولم يترك أبوه له مالًا، وكانت أخته الكبرى مُتزوجة من سفير خارج القطر، فعَمِل مُترجمًا في السفارة الفرنسية.

– لم أُعمِّر في الوظيفة أكثر من عام ثم اضطررت إلى تركها بسبب لكمة وجَّهْتها إلى الملحق الصحفي!

واشتغل بالإذاعة — قبل تمصيرها — ثم اضطر إلى الاستقالة بعد مشاجرة عنيفة، وعمل في جريدة المقطم حتى وجَّه إلى صاحبها كلمة نابية كاد يُقدَّم من أجلها للمحاكمة فتركها، وأخيرًا التحق بخدمة الوزارة بعد نجاحه في امتحان أُعلن عنه في الصحف. وكان اعتاد الحياة الدَّسِمَة المضيئة على الطريقة الأوروبية فلم يَفِ مُرتَّبه بتحقيق مأربه، فاستغل قدراته في اللغتين في الترجمة للصحف ودور النشر وروايات الجيب، مُكرِّسًا جهده الضخم لرفاهية الحياة ولابنة وحيدة كان يعبدها عبادة. وأقام في شقة في شارع فؤاد الأول، وأحاط جوه العائلي بصداقات أوروبية لأُسر فرنسيَّة وإيطالية وأحيانًا إنجليزية، ليكفل لنفسه البيئة التي يعشقها بكل مشتهياتها من أثاث جميل ومأكل طيب وشراب ممتع وصحبة راقية وأحاديث طليَّة رفيعة، وكان يقول بوجد: أوروبا روح الدنيا وأهلها ملائكة الخلق أمَّا من عداهم فهم حيوانات أو حشرات.

ومرَّة قال لي: أُصاب أحيانًا بذهول مَرضي عندما أنظر حولي، فأجد نفسي غريبًا وسط نفر من الموظفين التُّعساء الجُهَلاء الخانعين المُطيعين المتملقين المنافقين، الله يرحمك يا أبي، لِمَ بددت مالك في القمار؟!

ولم يكن يوجد ما يدل على إسلامه إلا شهادة الميلاد، ولا يعرف من دينه إلا اسم «محمد»، ولم ألمس فيه اهتمامًا بقيمة من القيم وإن كان شجاعًا كريمًا محافظًا على كرامته، وكان مُدخنًا مجنونًا وسكِّيرًا عربيدًا ومقامرًا متهورًا وأكولًا متوحشًا، وكنا نسير معًا عادةً عقب انصرافنا من الوزارة حتى محطة الترام الواقعة تحت مسكنه، فلا يكف عن الكلام دقيقة واحدة، وأتابعه أنا بالسمع والبصر، وكان ينتقد كل ما تقع عليه عيناه ويقارنه بنظيره في فرنسا أو إنجلترا: أتُعجبك هذه المحال والدكاكين؟ إنها زنزانات سوقية.

– انظر إلى قذارة الشوارع في قلب المدينة! سيأتي يوم يطالب فيه الذباب بحقوق المواطن!

– ما رأيك في هؤلاء الغلمان الحفاة في شارع سليمان باشا؟!

– انظر إلى هذا المنظر الفريد، الكارو والجمل والسيَّارة في قافلة واحدة، وتقولون الاستقلال التام أو الموت الزؤام؟!

– أيعجبك حقًّا ذلك المقرئ المدعو علي محمود؟ رجل ضريرٌ مُنفِّر المنظر يزعق كالأبله، قارن ذلك بقُداس كاثوليكي تسبح في جوِّه الموسيقى الخالدة!

– صدِّقني إنَّ رجال السياسة الذين تُعجب بهم لا يصلحون موظفين مبتدئين في سفارة أجنبية.

– وملايين الفلاحين القذرين بأي منطق يستحقون الحياة؟ .. لماذا لا تستغنون عنهم بالآلات الزِّراعية الحديثة؟!

– إنَّ خير ما تمخضت عنه الحضارة المصرية هو الحشيش، ومع ذلك فما أقبحه بالمقارنة بالويسكي!

– هل حقًّا تُعجب بهؤلاء الكُتَّاب والأدباء؟ .. صدقني إنهم أُميُّون على المستوى العالمي.

– اسمح لي أبول على جميع من تحبهم من زعماء وأدباء ومطربين.

– أتعرف ما هي أكبر نعمة أُغدقت علينا؟ .. هي الاستعمار الأوروبي، وسوف تحتفل الأجيال القادمة بذكراه كما تحتفلون بمولد النبي.

– لا يغيظني شيء كما يغيظني ضربكم الأمثال بعدالة عمر ودهاء معاوية وعسكرية خالد، عمر شحاذ، ومعاوية دجال، وخالد فتوة درجة ثالثة لم يجد من يؤدبه.

– المرأة المصريَّة هي المخلوق الوحيد الذي يستحق التقدير، فهي لبؤة، ويمكنها إذا مُنحت مزيدًا من الحرية إسعاد هذا الشعب الذي يستحق الإبادة.

– أليس الأفضل للإنسانية أن ينتشر الأوروبيون في الأرض وأن يبيدوا من عداهم من بني آدم؟!

لم يكن يُقرر ذلك عن حقد، ولا عن رأي بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، ولكن عن انفعال، ووسط ضحكات بريئة، ولو صادف بعد ذلك شخصًا يتعصَّبُ لأوروبا لانقلب بنفس الحماس مُدافعًا عن الشرق، فهو مُعارض بطبعه، إنْ قلت حلوًا قال مُرًّا، وإن قلت مُرًّا قال حلوًا، مُغتنمًا الفرص على الحالين للكلام. ولم أجد عنده أصالة في عواطفه إلا ما تعلق بكريمته، فهو يعبدها عبادة، يروي أحداثها التافهة كأنها ملاحم، ويستشهد بكلامها الفارغ كأنه جوامع الحكم، وينقل إلينا آراءها — التي يُنسبها إليها كذبًا وادعاءً — فيما مرَّ بالوطن من أحداث وحروب، منوِّهًا بذكائها المبكر الذي يكبر سنها بعشرات السنين. وكنت دائمًا أخاف أن يصطدم يومًا بشخص قوي ومؤذٍ مثل عدلي المؤذن أو شرارة النَّحال، ولكن ضخامته أسبغت عليه مهابة فرضت على كبار الموظفين احترامه، وهو من ناحية أخرى — بعد تجاربه المؤسفة في السفارة الفرنسية والإذاعة والمقطم — تجنب أصحاب النفوذ ما وسعه ذلك. وكان يقول لي: لعن الله الأيام التي علمتنا احترام الأوغاد، الله يسامحك يا بنتي!

وقد دعوته إلى الفيشاوي وعرَّفته ببعض الأصدقاء مثل جعفر خليل ورضا حمادة وشعراوي الفحَّام، فأعجبه المكان وأَحبَّ الأشخاص، وفي جنازتي شعراوي وجعفر بكى كطفل، وبالرَّغم من مودتنا الحميمة فإنني لم أَسْلَم من غضبه، فيومًا كنت أقرأ الجريدة فاطلعتُ على صفحة مُخَصَّصة لذكرى سلامة حجازي، ونقلًا عن كاتبها قلت للأستاذ عباس فوزي بسرور: هل تُصدق أنَّ فردي قال عن سلامة حجازي إنه لو كان وُلِد في إيطاليا لما كان له — فردي — شأن؟!

وإذا بالأستاذ عبد الرحمن يرمي بكتاب كان يقرؤه وصاح بي كبركان: ما هذا الكلام الفارغ! أتصدِّق أي كلام يتقوَّله هؤلاء الأوباش في الصحف؟ .. مَن هو سلامة حجازي؟ .. إن أيَّ منادي سيَّارات فرنسي أعذب منه صوتًا، ولكن هكذا أنتم أيها المصريون، لن تزالوا غارقين في أوهام الكلمات حتَّى تموتوا، كوكب الشرق … مطرب الملوك والأمراء … سلطانة الطرب … عاهل التمثيل في الشرق … لو لم أكن مصريًّا لتمنيتُ أن أكون مصريًّا، ولِمَ لا تتمنى أن تكون حمارًا، فيكون لك نفع على الأقل، نيلة تاخدكم أنتم وبلدكم!

وفي عام ١٩٥٠ زوَّج معبودته «كريمته» من موظف في البنك الأهلي، واحتفل بزواجها في الأوبرج، وسعد كما لم يسعد من قبل فسعدنا به، وبعد ذلك بعامين، وعلى التحديد في صباح يوم ٢٧ يناير ١٩٥٢ دخل علينا معاون الوزارة وقال: البقية في حياتكم في الأستاذ عبد الرحمن شعبان!

وفزعنا كأنَّما نسمع عن الموت لأوَّل مرة. كان حتى أمس يتخذ مجلسه بيننا في الإدارة، وسرت معه حتى مسكنه في شوارع مُكتظة بالمتظاهرين والمخربين، وألسنة النيران تشتعل هنا وهناك في المحال العمومية والملاهي والسينمات، وعلمنا في أثناء النهار ونحن نُشيِّع جنازته أنَّه كان ساهرًا في الترف كلوب مع بعض أصدقائه من الإنجليز حين هاجم المتظاهرون النَّادي فقتلوا مَن فيه، وقُتل الرَّجل فيمن قُتل، وانتهت حياته العجيبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤