فتحي أنيس

لفت نظري مذ رأيته في أوَّل يوم التحقت فيه بالوظيفة. حسبته موظفًا كبيرًا أو سليل أسرة عتيقة، وكم دُهشت عندما تبَيَّن لي أنه كاتب القيد بالسكرتارية. كان في الثلاثين من عمره، شهادة ابتدائية، مرتب ثمانية جنيهات، متزوجًا وأبًا لخمسة أبناء، ولكنه كان طويلًا رشيقًا عظيم القسمات، حتى قال لي الأستاذ عبَّاس فوزي: انظر إلى عبث الطبيعة، جادت عليه بمنظر يليق بموظف استقبال بالخارجية، ولكنها ضَنَّت عليه بما ينفعه أو ينفع الناس.

وكان يقول عنه أيضًا: إنَّه حي لا يُرزق!

وكان مسئولًا عن أم وأختين مُطلقتين، فاستقبل أيام الحرب وارتفاع مستوى المعيشة وهو على تلك الحال. ولم يكن نادرًا أن يقترب من عبَّاس فوزي أو عبد الرحمن شعبان، ويقول ببساطة: من يعطيني قرشًا أشتري به سندوتش فول وله الجزاء الأوفى في يوم القيامة؟

وكان إذا لمح أحدًا من الأهالي في الممشى الخارجي بادر إليه فيسأله إن كان في حاجة إلى خدمة يؤديها له عن طيب خاطر. وفي الختام يسأله بلا حياء: هل أجد عندك سيجارة؟

وعطفَ الأستاذ عبد الرحمن شعبان عليه يومًا، فقال للأستاذ عباس فوزي: حال فتحي تستحق النظر.

فصدَّق الرَّجل على قوله وقال: العين بصيرة واليد قصيرة!

فقال عبد الرحمن: أسعفوه بوظيفة يمكن أن تُدِرَّ عليه رشوة!

فقال عبَّاس فوزي باسمًا: يوجد فرص في المستخدمين والحسابات والمخازن والمشتريات ولكنه بدون مؤهلات.

فقال عبد الرحمن في شبه غضب: يوجد مديرون بالابتدائية.

– أعني بالمؤهل الوساطة ويبدو أنَّ أعظم من يعرف في الحياة هو عم صقر الساعي!

واهتدى إلى وسيلة يستغل بها منظره في مقاومة الجوع، فكان يتقدم إلى أسرة ما كخاطب، فيُقابَل بالترحيب من ناحية المبدأ حتى تتم الاستعلامات عنه، وفي الفترة الموضوع فيها تحت الاختبار يزور الأسرة فيستقبله رب البيت، ويتعمد البقاء حتى وقت الغداء أو العشاء، ولما يُدعى للمائدة يُلبي وهو يقول: لا يأبى الكرامة إلا لئيم.

ثمَّ يأكل بوحشية وكأنَّما يُخزِّن الطعام ليجتره بقية الأيام، وتجيء نتيجة الاستعلامات في غير صالحه طبعًا، فيعتذرون من عدم قبوله، فيذهب وقد فاز ببضع أكلات خيالية، ويواصل غزواته في أحياء المدينة حتى تسربت أنباؤها إلى الموظفين فجعلوا منه نادرة تُروى. وما ندري يومًا إلا وهو يدخل علينا مرتديًا جلبابًا! وكان الأستاذ طنطاوي إسماعيل ما زال رئيسًا للسكرتارية فاستدعاه وسأله: ما معنى ذلك يا فتحي أفندي؟

فقال ببساطة: البدلة استُهلكت تمامًا، قلَّبتها منذ ثلاثة أعوام فلم يعُد بها رمق، ولا أستطيع أن أشتري زرارًا!

فقال الرجل في حيرة: ولكن ذلك يُخالف التعليمات!

فقال بثقة: لا نص في التعليمات على ذلك!

وتداولنا إن كان ذلك يجوز أو لا يجوز دون أن نهتدي إلى علاج. وزاد الحرج عندما فاجأنا الوزير الوفدي الجديد بزيارة تفتيشية، ولمَّا رآه الوزير ظنه ساعيًا فقال له: ألم يصرفوا لك بدلة السعاة؟

فأجاب بإيمان: أنا موظف يا معالي الباشا، ولكني لا أملك ثمن بدلة جديدة!

فدُهش الوزير وسأله عن وظيفته وشهادته ومرتبه وعدد أولاده الذين بلغوا التسعة عدًّا في ذلك التاريخ، ثم سأله ضاحكًا: أليس لك هواية إلا الإنجاب؟

فقال فتحي بجرأته المعهودة: أنا من شعب الوفد ولن أضام في عهدكم!

وقد منحه الوزير علاوتين استثنائيتين، ثم أدركته علاوة الغلاء التي تقررت لأوَّل مرة، فاشترى بدلة ولكنَّ حاله لم تتحسن إلا قليلًا. وذات صباح همس لي عم صقر وهو يُقدم لي القهوة: أخيرًا وُفق ابن الشحاذة!

فسألته: فتحي أنيس؟

– نعم.

– كيف؟

– سيتزوج من أرملة غنية جدًّا.

– حقًّا؟ .. وجميلة؟

فضحك قائلًا: عمرها ستون عامًا، وهي في الجملة كالمومياء!

وصحَّ الخبر كجميع أخبار عم صقر، وتزوج فتحي من أرملة عجوز تركية مستحقة في وقف كبير، وقيل إنه تزوج بموافقة زوجته الأولى إيثارًا لسعادة الأولاد على نفسها. وتغيَّر حاله بصورة ملموسة، وظهرت عليه النعمة في ملبسه وصحته ورونقه، ورغم كل شيء أثار حسد الكثيرين، وكان عبَّاس فوزي يتهكَّم به فيسأله: كيف طاوعتك نفسك على معاشرة مومياء؟

فيجيبه بصراحته وبساطته: عندما يملأ الإنسان بطنه بثلاثة أو أربعة أصناف من اللحوم وخمس كئوس من الويسكي؛ فإنه يستطيع أن يُعاشر عزرائيل نفسه!

وعقب حرب فلسطين الأولى ١٩٤٨ تُوفيت زوجته الجديدة مُخلِّفة عليه ثروة طائلة، ولم يُفلح في إخفاء أفراحه حتى في الأيام الأولى للحدث، واستقال من وظيفته، وفكَّر في إنشاء عمل حر، حتى هداه تفكيره إلى فتح مقهًى كبير في التوفيقية، وتحمَّل خسائر عام أو عامين حتى يتقن مهنته الجدية، ثم نجح المشروع نجاحًا مُنعدم النظير، وانقطعت أخباره عني بطبيعة الحال حتى بعثها من الظلمات عم صقر عقب خروجه من السجن، فحدثني عن ثرائه الفاحش وما ملك من عمارات، وعن معيشته الحالية في قصره بالهرم، وعن نجاح أبنائه في المدارس والكليات، وقد بلغ عددهم اثني عشر ولدًا. أخبرني كذلك بأنه أبقى على زوجه الأولى ولكنه اتخذ من راقصة إيطالية عشيقة له. قال عم صقر: إنه اليوم في السادسة والستين من عمره، ولكنَّه قوي مهيب كرجل في عز شبابه، ويُرافق راقصة إيطالية، فهل سمعت عن عاشق في مثل هذه السن؟ ولكنه الحظ، ألف ليلة وليلة، وكل ما عداه باطل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤