تقديم١

بقلم  عبد الغفار مكاوي

إذا كنا نقصد بالأدب الشعبي عادةً ذلك التراثَ العريق الذي يُعبِّر به شعبٌ من الشعوب عن نفسه في صدقٍ وبساطةٍ وتواضُع على لسان جنودٍ مَجهولِين استطاعوا أن ينطقوا مُباشرةً بما تُحس به قلوبهم، بعيدًا عن قواعد الأدب الرسمي وقيوده وأشكاله، فلا شك أننا ننتظر أيضًا من المسرحية الشعبية أن تَتوفَّر فيها هذه البساطة والصدق وأن تَتجرَّد من الادِّعاء والطُّموح. ومن الطبيعي أن نجد فيها الفُكاهة الخَشِنة ممتزجةً بالتهويلِ الفاجع، والموعظةَ الأخلاقية بالتأثيرِ الرخيص. هنا يَلقى الأشرارُ الجزاء الرادع، والأخيارُ ينعمون في التَّبَات والنَّبَات، الشُّطَّار المحظوظون يرثون الأرض ويتزوجون بنت السلطان، والكُسالى المنحوسون لا يبخل عليهم أحدٌ بابتسامة الرثاء. يكفي أن يَصُول البطل على خشبة المسرح ويَجُول، ويغترف من كَنزِ الحكمة الشعبية، ويُرجِع حظَّه للبخت والنصيب؛ فالمهم أن «التكنيك» لا يكاد يختلف من بلدٍ إلى بلد، وطريقة التمثيل والإلقاء لا تكاد تعترف بالفُروق بين اللغات والأجناس.

ويظهر أن المدن الكبرى أرادت أن تسير مع الزمن، فجَعلَت من المسرحية الشعبية استعراضًا غنائيًّا، تطوَّرَت به فيما بين الحربَين العالميتَين إلى ما يُسمَّى بالكباريه الأدبي. واستطاع أمثال فانجنهيم في ألمانيا، وأودن في إنجلترا، وبلتسشتين في أمريكا، وآبل في الدنمارك أن يخلُقوا مسرحياتٍ لها شكل الاستعراض الغنائي، قد يكون فيها الكثير من الفن والشاعرية، ولكنها تخلو من بساطة المسرحية الشعبية القديمة، وتَفتقِر إلى براءة الحدُّوتة وسذاجة الحكاية، وتكاد العلاقة بينها وبين المسرحية القديمة أن تكون شبيهةً بالعلاقة بين الأُغنية المذاعة والأُغنية الشعبية؛ فالمسرحيات الاستعراضية لم تُفلِح إذن في أن تُصبح مسرحياتٍ شعبيةً بالمعنى الأصيل لهذه الكلمة، وانتشارها إلى اليوم تعبيرٌ عن حاجةٍ ضرورية لم تستطع تحقيقها، حاجةٍ إلى مسرحٍ شعبي فيه البساطة لا البدائية، والشاعرية لا الرومانتيكية؛ والواقعية لا المذهبية السياسية.

ولعل هذا هو ما دار في خَلَد «برشت» حين فكَّر في كتابة هذه المسرحية التي سماها بالمسرحية الشعبية، مستفيدًا من تجارب الاستعراضات الغنائية والكباريه الترفيهي والأدبي على السواء؛ فالكباريه يُقدِّم نِمرًا أو اسكتشات في مناظرَ مُتصلة، لا تعتمد على خيط الحكاية الواحدة التي تتخلل المسرحية المألوفة من أوَّلها إلى آخرها. وإذا أُحسِن استغلال هذا الشكل أمكن عرض مَشاهِد من الملاحم الشعبية القديمة من خلاله، وإن كان عليها في نفس الوقت أن تُحاول تقديم هذه المَشاهد المَلحَمية في صورةٍ واقعية تَعكِس حياة الناس أو تنعكس عليها، وهي مهمةٌ لا شَكَّ عسيرة. وكاتبُ المسرحية الشعبية يستطيع في هذا المجال أن يستعين بالغناء والرمز والجوقة والحكاية والمثَل وسائر ما يُمكِن أن يقدمه له الرصيد الشعبي الخِصْب، وأن ينسج هذا كله في إطارٍ شاعري غنائي، ولكن المهم أن يحافظ على قدْرٍ كافٍ من الموضوعية، وأن يُصوِّر المواقف — لا الأشخاص الذين ينفعلون بها — في صورةٍ شاعرية، ويُعبِّر عن البساطة دون أن يسقط في البدائية، ويضرب المثل دون أن يلجأ إلى الموعظة، وينطق عن ذات الشعب الحقيقية مع الاحتفاظ بقَدْرٍ كافٍ من الموضوعية. وهذه الصعوبات في أسلوب البناء الفني للمسرحية الشعبية ترتبط بصعوباتٍ أخرى لا تقل عنها في طريقة العرض والتمثيل؛ فالصعوبة الكبرى هنا هي إيجاد الأسلوب الذي يجمع بين الفن والطبيعة في آنٍ واحد. هنا يجد الممثل نفسه أمام أَمرَين: فإمَّا أن يَعمِد إلى ما يمكن أن نُسمِّيه بالطريقة المثالية المُبالِغة في الإلقاء والأداء، وهي الطريقة التي لا تزال تُتبع في الأعمال الكلاسيكية والشعرية الكبرى، أو يلجأ إلى الطريقة الطبيعية الخالصة المُتبَعة في الأعمال الواقعية والاجتماعية الحديثة.

وعَيبُ الطريقة الأُولى أنها كثيرًا ما كانت تهوي إلى التصنُّع والافتعال والشكلية والحساسية المريضة، مما جعل النزعة الطبيعية في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن تحل محلها زمنًا طويلًا. غير أن هذه النزعة الأخيرة سرعان ما سَقطَت هي الأخرى في السطحية والتقليد الأعمى للواقع والبُعد عن الخيال والذوق حتى كادت تخلو هي نفسها من كل أُسلوب. كان لا بُد إذن من البحث عن طريقٍ جديد، اشتدَّت الحاجة إليه بعد كَوارثِ حربَين عالميتَين، وتغييرٍ عميق في جذور الحياة الاجتماعية، وإحساسٍ من جانب كاتب المسرح بضرورة القرب من وِجدان الشعب، والتعبير عن ثورات الضمير في القرن العشرين، وجَعْل المسرح مكانًا للتغيير لا للترفيه. طريق جديد. نعم، ولكن في أي اتجاه؟ ذلك هو السؤال الذي يُواجِهُه المُصلِحون والمُجدِّدون على الدوام؛ فلو جمعنا بين الأسلوب الكلاسيكي — الرومانتيكي في طريقة التمثيل والتأليف — وبين الطريقة الطبيعية الواقعية على مذهب الحل الوسط؛ لكانت النتيجة خليطًا يجمع بين الرومانتيكية والواقعية ويفسد كلا منهما على السواء. أمَّا إذا حاولنا أن نجمع بينهما في وحدةٍ تُؤلِّف بين الفن والطبيعة دون أن تَطمِس التعارض بينهما، فسوف تكون وحدةً خِصبةً واعية، تُحقِّق للعمل الفني عالمه الخاص به وتُرضي طموحه إلى الشمول والبقاء، دون أن تُخل مع ذلك بضرورات الواقع أو تتعالى عليه أو تَقنَع بأن تكون نُسخةً منه. هنالك يتحقق ذلك الحلم العسير: الفن «الطبيعي» والطبيعة «الفنية» في عمل يستطيع أن يُهذِّب الطبيعة والواقع بالشكل الفني، ويُغذِّي الفن بحيوية الواقع وطبيعته.

ويبدو أن مستوى المسرح يَتوقَّف على مدى قُدرته على التغلُّب على التعارُضِ القائم بين ما سمَّيناه بالطريقة المثالية (التي تهتم بِنُبل الحركة وسُمو الأداء)، وبين الطريقة الواقعية (التي تنزع إلى نسخ الواقع ومحاكاة الطبيعة). قد يقول قائل: إن في طريقة التمثيل الواقعي أو الطبيعي شيئًا غير نبيلٍ ولا مثالي، كما أن في الطريقة المثالية النبيلة شيئًا غيرَ واقعي؛ فالفلاحون والصيادون ليسوا «نبلاء»، وإذا أردنا أن نُعبِّر عنهم تعبيرًا واقعيًّا صادقًا لم نَظفَر من وراء ذلك بشيءٍ نبيل، بل إن التعبير الواقعي عن الملوك والنبلاء أنفسهم قد لا يجعل منهم ملوكًا ولا نبلاء، ولكننا نستطيع أن نُزيل هذا الوهم إذا تَذكَّرنا أن المُمثِّل الذي يعبر عن القبح والشر والضَّعة عند الفلاحين أو النبلاء وعند الصيَّادين أو الملوك، لا يحتاج بالضرورة إلى أن يمثل بطريقةٍ وضيعةٍ أو رخيصة، ولا يمكن أن يستغني عن قَدْر لازم من الرقة والإحساس بالجمال، كما أن المسرح الذي يُريد أن يحافِظَ على مستواه اللائق لا يحتاج بالضرورة إلى التضحية بالجمال الفني ثمنًا للواقعية.

ومهما يَبلُغِ الواقع من القبح والمرض والهوان، فلن يكون ذلك سببًا في طرده من على خشبة المسرح، بل إن قبحه ومرضه ربما كانا سببًا كافيًا لتصويره على المسرح تصويرًا حيًّا. هنالك تجد المَلهاةُ مادتها الغزيرة في البخل والجشع والادعاء والغباء، كما تستمد المَأساةُ الجادة مادتها من صراعات المجتمع ومظالم الحياة؛ فالفن عنده القدرة دائمًا على تصوير القبيح في صورةٍ جميلة، والوضيع على نحوٍ نبيل. والفنان هو الذي يستطيع أن يُعبِّر عن الغلظة تعبيرًا رقيقًا، ويُصوِّر الضعف تصويرًا قويًّا. والملهاة التي تهتم أَكثرَ ما تهتم بجوانبِ القبح والشر، والضَّعة في الواقع لا تستطيع أن تتجرد من نُبل التصوير والتعبير. والفن عمومًا — والمسرح على وجه الخصوص — لديه من الأسباب والوسائل ما يكفل له القدرة على تجميل القبيح، والارتفاع بالوضيع؛ لديه الخيال والسخرية والحكمة، ولديه الإضاءة واللون والإشارة والقُدرة على تحريك الأشخاص والمجموعات. هذه كلها أشياء لا بد من إقرارها إذا شئنا أن نُطبِّق الأسلوب الفني بكل ما فيه من سمو ونقاء على ما نسميه بالمسرحية الشعبية؛ فلسنا هنا بصدد مسرحياتٍ كلاسيكية تعالج موضوعاتٍ مثاليةً خالدة عن موقف الإنسان من الكون والغيب والمصير، ولا نحن بصدَد نوعٍ من المسرحيات «الطبيعية» التي تتناول «مشكلاتٍ» اجتماعية وتكافح في سبيل الوصول إلى حلولٍ لها من وِجهةِ نظرٍ فكريةٍ مُعيَّنة، وإنما نحن أمام نوعٍ من المسرحيات كُتِبَت بلغة الشعب، ونَبعَت من وجدانه الجمعي، واستُمِدَّت من حكمته وأمثاله وحكاياته؛ من مغامراته البريئة وعثراته المتواضعة، من سخرياته الطيبة وشطحاته الساذجة، إنها قد تتناول المشكلات، دون أن تصبح مسرحية «المشكلة»، وتكشف عن النفسيات بغير أن تكون رواية «نفسية»، وتعرض لنا أناسًا بدائيِّين، دون أن تكون هي نفسها «بدائية». وسيجعلها كل ذلك تقف في سوق الأدب موقفًا عسيرًا؛ فليس هناك من يعترف بأنها «نوعٌ أدبي»، ومعظم المُؤرخِين والناقدِين ينظرون إليها من علٍ أو يصمتون عنها كل الصمت. ومع ذلك فإن هذا لم يمنعها من إثبات وجودها في الزمن الحديث، ولم يحُلْ بينها وبين التطوُّر بنفسها والبحث لها عن أسلوبٍ ووظيفةٍ ورسالة بين سائر الفنون؛ فهي على قَدْر استفادتها من الأساليب المختلفة في التمثيل والتعبير، سواءٌ كانت مسرحياتٍ كلاسيكيةً أو رومانتيكيةً أو من نوع الكوميديا «دل أرتي» أو من النوع الاجتماعي الواقعي أو حتى من طريقة الأداء الصامت بالرمز والإشارة. وعلى قَدْر محافظتها على طبيعتها الأصلية وحرصها على أن تظل بسيطةً وقوميةً وشعبية كما يدل عليه اسمها، يكون مدى نجاحها أو فشلها في تحقيق الغرض منها؛ ذلك أن البحث عن المسرحية الشعبية يرتبط حتمًا بالبحث عن أسلوبٍ واقعيٍّ جديد في التأليف والتمثيل يجعلها بسيطةً لا ساذجة، وشاعريةً لا عاطفية، وواقعيةً لا نسخةً مُشوَّهة من الواقع، وفنيةً بغير تكلُّف، وشعبيةً بغير حاجة إلى الابتذال.

•••

و«السيد بونتيلا وتابعه ماتي» مسرحيةٌ كتبها برشت بين عامَي ١٩٤٠، ١٩٤١م عندما كان يقيم في منفاه في فنلندا، فرارًا من وجه الطغيان النازي، مستلهمًا فكرتها عن قصة وتخطيطٍ مسرحي للكاتبة الفنلندية هيلا فوليوكى. والمسرحية تختلف عن بقية أعمال برشت، سواءٌ في ذلك مسرحياته المبكرة أو مسرحياته التعليمية أو مسرحياته الكبرى المتأخرة، في أنها ليست من نوع المسرحية ذات الفكرة أو ذات الموضوع. وليس يعني هذا بالطبع أنها خالية من الفكرة والموضوع، بل معناه أنها ليست من اللون «الأيديولوجي» الذي يدافع دفاعًا مباشرًا عن قضيةٍ فلسفيةٍ أو اجتماعية بعينها ويدعو إليها ويُجنِّد كل طاقاته الفنية في سبيلها، وإن مسَّت مثل هذه القضية فهي لا تفعل ذلك إلا ضمنًا وعن طريق الإشارة والتلميح؛ فهي مسرحيةٌ شعبية تستمد شكلها الملحمي، كما يقول برشت، من مغامرات الملاحم الشعبية القديمة و«ملاعيبها». إنها تخلو من الحكاية ذات الحبكة المتصلة التي تربط أول المسرحية بآخرها، لِتَعرِض علينا في لوحاتٍ متجاورة ومَشاهدَ منفصلةٍ ما يجري للإقطاعي «بونتيلا» من أحداث، وما يصيبه في سُكره أو صَحوِه من أحوال. إن مثلها في ذلك مثل مسرحية برشت الأولى «بعل»؛ فكلتاهما تتألف من مجموعةٍ من المشاهد واللوحات تَسُودُها الروح الغنائية الشاعرية، وتهتم بتجسيم المشاعر والأفكار أَكثرَ من اهتمامها بتتبُّع الخيط القصصي أو رسم الشخصيات. وإذا كان الكلام عن المسرح لا يخلو عادةً من الكلام عن الوحدات المسرحية المشهورة، فلسنا هنا أمام وَحدَة من أي نوع، اللهم إلا وَحدَة شخصية البطل نفسه. ومع أن هذا البطل «حيوانٌ منقرض» كما تُسمِّيه أبيات التمهيد الشعري، فالمضمون السياسي الذي ينطوي عليه ضئيل؛ ذلك لأن الجانب المُضحِك من شخصيته يطغى على الجانب السياسي، ولعله بهذا الأسلوب الفني المستور يُبرِز هذا المضمون ويَزيدُنا اقتناعًا به أكثر مما يفعل الأسلوب التعليمي المباشر الذي يكون غالبًا على حساب الفن.

إن المسرحية تكتفي بأن تعرض علينا سلوك هذا «الحيوان المنقرض» — الذي تصفه بأنه نَهِمٌ ولا نفع منه — في مواقفَ مختلفة، فهو حين يشرب فيسكر إنسانٌ طيب القلب، عطوفٌ على الفقراء والعمال، يود لو تسقط الحواجز الطبقية التي تَفصِله عنهم فيجلس إلى جانبهم ويأكل ويشقى معهم، بل إنه لا يمانع في أن يُزوِّج ابنته الوحيدة من سائق عربته الذي يَلمَس فيه الرجولة والشهامة، فإذا صحا من سَكرتِه اكتشفنا أنه كان يُفكِّر بقلبه لا بعقله، ويُحِس بوعيه الباطن لا بشعوره الظاهر. إنه عندئذٍ ينقلب وحشًا حقيقيًّا له مخالب الطبقة المُستغِلَّة وأنيابها وفيه قسوتها وخداعها؛ فها هو ذا غليظٌ مع الفقراء لا يرحم، حريصٌ على غاباته وأمواله، فَظٌّ مع سائقه وتابعه ماتي يتهمه بأنه يستغل ضعفه من ناحية الخَمرِ ويريد أن يخطف ابنته وينهب ضيعته ويُخرب بيته! إنه يتراجع عن كل ما صدر عنه في أثناء سكرته من كلماتٍ رحيمة أو وعودٍ طيبة، ويَتنكَّر لكل تصرُّفاته التي كَشفَت عن ذاته الحقيقية أو التي ينبغي أن تكون هي الحقيقية؛ لأنها الذات الإنسانية التي تُغطِّيها قشور الطبقة ومُواضَعاتها، وتُلزِمها بأن تتنكر لطبيعتها. ولا شك أن شخصية بونتيلا ستُذكِّرنا على الفور بشخصية المليونير التي خلقَتها عبقرية الفنان العظيم «شارلي شابلن» في فيلمه المشهور «أضواء المدينة».

وإذا كانت الشخصيتان تُلقيان الضوء على تعاسة الفقير وضَياعه في العالم الحديث، فشخصية بونتيلا تزيد على ذلك أنها تفضح العلاقة المُفتعَلة بين السيد والخادم، والمالك ومن لا يملك شيئًا، وتُبيِّن من خلال العقيدة الاشتراكية أنها علاقةٌ مُفتعَلة تَنفيها طبيعة الإنسان نفسه، حين يسمَح لها في لحظاتٍ نادرةٍ أن تكشف عن نفسها بنفسها، كما لو كانت في حالة الحلم أو اللاشعور. كلُّ هذا في إطار المَلحَمة الشعبية، بكلِّ ما فيها من شاعرية وبراءة وصدق.

•••

وقد خَصَّ برشت هذه التجربة الفريدة في المسرح الشعبي بكثيرٍ من تعليقاته وتوجيهاته حول الإخراج والتمثيل والإضاءة، سيرًا على عادته مع أعماله المسرحية الأخرى؛ فمهمةُ الإخراج في سخريةٍ كهذه ذاتِ طابعٍ شاعريٍّ مهمةٌ عسيرة، وعليه أن يُبرِز هذه الملامح الشعرية في مجموعة من الصور واللوحات المُؤثِّرة.

إننا نلتقي في بداية المسرحية بشخصية بونتيلا الذي تُحيط به هالةٌ من العظمة تُشبِه أن تكون أسطورية؛ فهو البطل المنتصر الذي بقي وحده بعد أن أغرق طوفان الخمر كل مَنْ حوله. عبثًا يُحاول بونتيلا الوحيد أن يُوقظ القاضي الذي سقط من على كرسيه من شدة السُّكر لكي يشاركه في الشراب، وهو لا يرى أن النادل الذي يقوم على خِدمتِه جديرٌ بالاطِّلاع على أفكاره العالية أو المُشارَكة في عواطفه العميقة، ربما لأن النادل المسكين نجا من الطوفان فلم يَغرَق في سَكرَته، وهو لا يجد أحدًا يتفرَّج عليه وهو يقوم بمغامراته الشجاعة على بحر الخمر، أو يصول صولاته الهائلة على المائدة التي رُصَّت فوقها الكئوس والزجاجات. في هذه الوحدة الأليمة يظهر له سائقه «ماتي»، الذي سئم من انتظار سيده ثلاثة أيام، فيفرح به ويُحيِّيه تَحيَّته لإنسانٍ طال بحثه عنه. ويدعوه بونتيلا دعوة الملوك إلى الشراب، ويَرُوح يكشف له عن نفسه ويبوح بسر مرضه الرهيب؛ إنه مريض من نوعٍ عجيب، تُصيبه من حين لآخر نوبات من الصحو الشامل تجعله يتحول من إنسانٍ طيبٍ نبيل إلى إقطاعيٍّ مُتوحِّش شرير. ويُقبِل ماتي على بقايا المائدة، ولا يمنع نفسه — على الرغم من إحساسه بالمرارة لأن سيده جعله ينتظره في البرد ثلاثة أيام — من الإعجاب بِظُرف هذا الوحش الاجتماعي الذي يُحاول على الرغم من كل شيء أن يقترب من مستوى البشر. ومع ذلك فإن ماتي لا يُفارِقه عقله المتزن البارد أبدًا، بل يحاول أن يضع هذه الإنسانية التي يدَّعيها سيده موضع الاختبار؛ فهو يروي له حكاية الأرواح التي تظهر في ضيعة السيد بايمان، وكيف أن رائحة اللحم المَشوِي تكفي لطردها منها إلى غير رجعة، ولكن بونتيلا يمر على هذه الحكاية مر الكرام؛ فهو يملك حتى في حالة السُّكر أن يصدَّ أذنيه عن سماع ما لا يحب سماعه. وبدلًا من أن يتخذ الموقف الذي تُمليه عليه إنسانيته المزعومة، نجده يحكي لصاحبه وكاتم سِرِّه الجديد عن المشكلة التي تُحيِّره؛ فهو يعتزم أن يزوج ابنته من دبلوماسيٍّ لم يقتنع أبدًا برجولته، وإن كان ينتظر من وراء هذا الزواج مجدًا يليق باسمه وثروته. وهو في سبيل تدبير مهر ابنته يرى نفسه بين اثنتَين: فإمَّا أن يبيع إحدى غاباته العزيزة على نفسه، وإمَّا أن يبيع نفسه وجسده لصاحبة ضَيعة كورجيلا العجوز، ولكن صديقه ماتي لا ينصحه بشيء يعلم سلفًا أنه لن يتبعه. وهكذا ينهضان لمغادرة المسرح، فأمَّا ماتي فيسحب القاضي الغائب عن الوعي وراءه، وأمَّا بونتيلا فيرغمه على التوقُّف من حينٍ لحينٍ لسماع خططه ووعوده وأحلامه في المستقبل.

ومهمة الإخراج في مثل هذا الموقف أن يجسِّم لنا إحساس بونتيلا بِوَحدته وتخلِّي الجميع عنه، كما يُبرز بطولته وانتصاره على الطوفان الذي نجا منه، في شكواه المتصلة من القاضي وندائه له أن يُفيق ويثبت رجولته. كما أن على المخرج أيضًا أن يُوضِّح لنا فرحةَ بونتيلا حين يلتقي مع إنسانٍ حقيقي؛ فهو يقف فوق المائدة في وسط المسرح، سعيدًا بمغامراته الهائلة على بحر الخمر. وحين تقع عينه على ماتي يُهلِّل له وينزل من على المائدة لتحيته ويطوف حولها في خطواتٍ واسعة تُعبِّر عن فرحته بلقاء الصديق الذي طال انتظاره. أمَّا حين يُفضِي له بِسرِّ مرضه الخطير، فهو يتضاءل ويضعُف حتى لَنَكاد نُحس بأنه يزحف على بطنه أمام صديقه العاقل الذي يعرف أنه لا يكاد يُصدِّقه. ويجب كذلك أن يروي ماتي حكاية الأشباح التي تظهر في الضيعة التي كان يعمل فيها من قبلُ، فنحس بالتناقُض الظاهر بين منظره وهو يأكل في نَهَمٍ وبين أولئك الذين يَشقَون في المزارع حتى يموتوا جوعًا، ثم تأتي أرواحهم على رائحةِ اللحم المشوي. وحين يوقفه بونتيلا لِيُضجِره بهمومه الشخصية، فإن من الواجب أن يُحس المتفرج بأنها ليست همومًا بمعنى الكلمة، وأن مُشكلاته الشخصية ليست إلا نتيجةَ جَشعِه وقسوته. ونأتي إلى ختام هذا المشهد لنرى ماتي وهو يسحب بونتيلا إلى خارج المسرح، وكأنه مُدرِّبٌ في سيرك أَفلَح بعد مجهودٍ كبير في ترويض هذا الوحش الآدمي المُضحِك إلى الحد الذي جعله يُسلِّم له حافظة نقوده بما فيها من مالٍ يكرهه ويحتقره … ومع ذلك فلا يجب أن نخدع أنفسنا كثيرًا بما يُبديه بونتيلا في بعض الأحيان من عاطفةٍ إنسانية؛ ذلك أنه لا يكره المال ولا يحتقره إلا في حالة السُّكر، وهو مهما غاب عن وعيه لا يرحم العاملَ الاشتراكيَّ من الطرد من ضَيعته، وإذا سمع نساء كورجيلا الفقيرات يَروِين له حياتهن اليومية لا يترك نفسه على سَجِيَّتها، بل يُسرع في طلب الخمرة القانونية حتى لا يَتورَّط فيما يعود عليه بالخسارة، وإذا أَحضَر معه الشغَّالة من السوق أسرع هاربًا إلى الحمام حتى يُفيق لنفسه قبل أن يَفُوت الأوان. وكل هذا يدل على عُمق نَزعتِه الإقطاعية، كما يستوجب من المُمثِّل إلمامًا بقوانينِ المجتمع ويُفترَض منه اتخاذ موقف بشأنها.

وطبيعيٌّ أن يكون القيام بدور بونتيلا أمرًا عسيرًا؛ فالمشكلة هنا في تمثيل السُّكر الذي لا يكاد يُفيق منه طَوال المسرحية؛ فلو أن الممثل قام بدور سِكِّيرٍ عاديٍّ مما نراه على المسرح، وعرض علينا حالة السُّكر كأنها حالة تسمُّمٍ تختلط فيها الوظائف النفسية والجسدية؛ لبعُد بذلك بُعدًا كبيرًا عن شخصية بونتيلا؛ ذلك أن سكر صاحبنا من نوعٍ خاص، ولا بد أن يُبيِّن لنا المُمثِّل من خلاله كيف يقترب بونتيلا عن طريقه شيئًا فشيئًا من الحالة الإنسانية؛ فالسكر هو المجال الوحيد الذي تستطيع فيه نفسه، بل وجسده أيضًا أن يَسبَحا في مياههما الطبيعية، ويَكشِفا عن معدنهما الأصيل الذي لا يلبث الوضع الاجتماعي المصنوع أن يُبعِدهما عنه. والمُمثِّل الذي يقوم هنا بدور السِّكِّير ينبغي أن يصون نفسه من أسلوب الأداء التقليدي الذي يجعل صاحبه يخلط في كلامه وحركات جسده؛ فلغته ينبغي أن تكون ذات إيقاعٍ موسيقيٍّ لطيف، وحركاته أقرب ما تكون إلى الرقص؛ فهو يتحرك فوق المائدة الكبيرة المكتظة بالكئوس والزجاجات حركاتٍ خفيفةً رشيقة تكاد أعضاء الجسد تُقصِّر في التعبير عن خفتها ورشاقتها، وهو يصعد فوق جبل «هات يلما» الوهمي في نهاية المسرحية كأن له جناحَين. إن كل حركةٍ من هذا الوحش المُضحِك الذي آن أوان انقراضه تُعبِّر عن الجهد اللاشعوري الذي تبذله روحه لِتتحرَّر من قيودها وتعود إلى حالتها الإنسانية الحقة. إنه حين يَرضَى عن صديقه أو يثور غضبًا عليه، وحين يُظهِر الكرم الزائد أو الجشع الدنيء، وحين يُلِحُّ إلى حد الذل والاستجداء أو يدَّعي غطرسة الكبراء والأغنياء، إنما يكشف دائمًا عن عظمةٍ حقيقيةٍ وبراءةٍ مُؤثِّرة. ألا يَزهَد في أملاكه زهادة بوذا، ويثور على ابنته ثورة الملك «لير»، ويدعو نساء كورجيلا المساكين كأنه أحدُ سلاطينِ ألف ليلة أو ملكٌ من ملوك هوميروس؟!

أما ماتي فينبغي أن يُحافظ من البداية إلى النهاية على اتزانه وبروده ونظرته الموضوعية النافذة؛ فمن المهم في تفسير شخصيته أن يظل مثالًا للرجل «العملي» الذي لا يغتر في نوبات صديقه وسَيِّده، فلا يفرح كثيرًا بمعاملته الطيبة، ولا يغضب أيضًا لثورات غضبه؛ ذلك أنه سينظر إليه دائمًا نظرته إلى «ضحية» من ضحايا المجتمع الرأسمالي مهما أتت من الفظائع، فالذنب في الحقيقة يقع على البناء الاجتماعي لا عليها. ويجب أن يحرص ماتي دائمًا على أن يتصرف «كما ينبغي» سواءٌ كان يتحدث مع ابنة الإقطاعي وهو يفُك إحدى عجلات العربة أو وهو يُغازِلها أو يكنس الأرض أو يُدلِّك قدمَي بونتيلا أو يحمل القاضي السكران إلى خارج المسرح أو يُطالب بحق العامل الاشتراكي في العودة إلى وظيفته. إنه دائمًا العقل الواضح والعين النافذة، ومن العلامات الدالة على شخصيته أن مُخرجِي المسرحية في برلين وزيوريخ كانوا يضعون على وجوه بونتيلا والقِسِّيس والمُلحق الدبلوماسي والقاضي والمُحامي وزوجة القِسِّيس أقنعةً تُبرِز جانب السخرية في شخصياتهم وتجعلهم يتحركون على حَسَب الأحوال في عظمة المُلوك أو سَخَف البُلَهاء. أمَّا ماتي (ومعه نساء كورجيلا الفقيرات وخدَم بونتيلا وعمال الضَّيعة وفلَّاحُوها) فقد تركوا وجوههم عاريةً بلا أقنعة، كأن نفوسهم الحقيقية لا تحتاج إلى شيءٍ يُموِّهها أو يُخفيها، فإذا كان الطُّفَيليُّون على المجتمع يحتاجون إلى هذا التمويه، فإن جذوره وأَعمدتَه تستطيع أن تَستغنِي عنها. بذلك يتخذ المسرح الواقعي موقفه من الواقع، ويدعو المُتفرِّج معه إلى تَبنِّي هذا الموقف والاقتناع به ورؤية الواقع على أساسه.

ولْنأخُذ موقفًا تُرْفَع فيه التناقُضات الاجتماعية في لحظةٍ من لحَظات السُّكر الشديد؛ فها نحن في حفلة خطوبةِ إيفا على المُلحَق الدبلوماسي، على المائدة يجلس السيد إلى جانب خادمه، والقِسِّيس مع الطاهي، والعروس المُرفَّهة مع راعية البقر، والقاضي والإقطاعي إلى جوار العامل والسائق. إن بونتيلا يجلس بِبَذلته السوداء الفخمة وياقته المُنشاة وإلى جانبه سائقه ماتي ببذلته الشاحبة الصفراء وقميصه الذي سَقطَت عنه ياقته. النجف البِلَّوري في السقف يَشِع نورًا فخمًا في جو الحفل المُتخَم الشبعان. ولكن بونتيلا الذي تشاجر مع عريس ابنته من لحظة مشاجرةٍ هائلةٍ قد قرر الآن — وهو سكرانُ لا يعي — أن يُزوِّج ابنته لسائقه الهُمام. وبدلًا من اللحوم المشوية والفاكهة النادرة يأمر بأكلة «رنجة» يُؤتَى بها على طبقٍ من الفضة؛ ليمتحن العريس الجديد عروسَه المُدلَّلة، ومعها سائر الطُّفيليِّين والمُقنَّعِين. إن ماتي يقف حاملًا طبق الرنجة في يد وممسكًا باليد الأخرى سمكةَ رنجة من ذيلها. لم يعُد المُتفرِّج في حاجةٍ إلى المَلبَس لِيُفرِّق به بين إنسان وإنسان. تكفيه النظرة المُتزِنة غير المُبالِية أو النظرة المَدهوشة المُتعجِّبة لِيَعرف إن كان صاحبها من الأعلَين أو الأدنَين!

ويستغرق ماتي في النظر إلى سمكة الرنجة، يفحصها ويُناجيها ويبتهل إليها. إنه ينظر إليها نَظرتَه إلى شيءٍ يعرفه من أمدٍ طويل ويكتشفه في نفس الوقت للمرة الأولى، ويظل يُمجِّد فيها شرف العمل وحب الأرض وشقاء العمال: «أجل. إنها هي. إنني أعرفها من جديد. أنتِ أيتها الرنجة، يا سمكة الكلب، لولاكِ لرُحْنَا نطلب من أصحاب الضَّيعة لحم الخنزير. وماذا يكون حال فنلندا حينذاك؟» ويُوزَّع السمك على الحاضرِين بين ضحك البسطاء ودهشة الأغنياء. ويبدأ الجميع في الأكل كأنهم يقومون بعمليةٍ معقدة، ويخدمهم ماتي كما يخدم صاحب البيت ضيوفه الفقراء. وتتوالى عملية الكشف عن طبقات المجتمع، كأن هناك أثرًا يُهيل عنها التراب. بونتيلا يتناول لقمته بلا اعتراض وفي عينَيه تَطلُّع الرحَّالة الذي تطأ قدماه أرضًا جديدة، وسمكة الرنجة تصبح في يده كأنها سمكة قرش أو بياض! وفينا الخادمة الطيبة تلتهم نصيبها وهي صابرة؛ فطالما أَكلَت منه راضيةً أو كارهة، والقِسِّيس يُناول ماتي شوكته وهو ساخط، في ملَلٍ يشبه ذلك الذي يُلقي به موعظة الأحد، بينما تثور زوجته غضبًا وترفض أن تمد يدها، وأمَّا لاينا الطاهية فليس من العسير أن نلاحظ على وجهها أنها أَكلَت أو أَعدَّت في مطابخ الضِّياع الفنلندية من هذه السمكة آلافًا مُؤلَّفة! أمَّا القاضي والمُحامي فيعرفان كيف يتفوَّقان على ماتي بفضل ذكائهما الذي اكتَسَباه من مئات القضايا. وأخيرًا تأتي إيفا ابنة الإقطاعي، لقد اجتازت الامتحان عن جدارة. إنها تُحيِّي الرنجة باحتفال، وتمُد يدها مبتسمة لتتناوُل عطية الحبيب، وتَلتهِمها بصوتٍ أقل ما يدل عليه أنها تتلذَّذ بطعمها، ويا لها من وَجبةٍ تُعرِّي الأقنعة وتفضح القلوب!

•••

أمَّا تمثيل دور نساء كورجيلا الفقيرات، اللائي يدعوهن بونتيلا حين يَسكَر إلى حفل زفاف ابنته، ويَطردُهن شَر طِرْدَة حين يعود إلى نفسه، فيبدو أنه كان من أَصعَب الأدوار على مَسرَح برشت في برلين أو على غيره من المسارح؛ فشخصياتُهن من أنبل شخصيات المسرحية، ولا بد للمُخرِج أو مُصمِّم الأزياء والأقنعة أن يُحاول تصويرهن على نحو يجمع بين الجمال والواقعية، ويرفع التناقض الذي قد يبدو بينهما. أراد المخرج في بداية الأمر أن يُصوِّر نساء كورجيلا في صورةٍ أسطوريةٍ فخلع عليهن ملابسَ رقيقةً ناعمة الألوان، ولكنه وجد أنها تُضفِي عليهن منظرًا شاحبًا بعيدًا عن الواقع. وانتقل إلى الأسلوب الطبيعي الذي يَسخَر من كل جمالٍ فألبسهن أحذيةً ضخمة تُناسِب الكادحات من أمثالهن، وجعل لهن أنوفًا طويلة وملابسَ خشِنة، حتى جاء الفنان المشهور «كاسبارنيهر» ليتفرج على البروفات فراح يَرسمُ مجموعةً من اللوحات التخطيطية التي تُعَدُّ من أجمل ما رَسمَته يدٌ للمسرح، وأزال التناقُض بين سُلوكِهن الذي يتسم بالفطرة والبراءة وبين خبرتهن العملية التي اكتسَبنها من حياتهن الشاقة وجَعلَهن يعبثن مع صاحب الضيعة عبثًا يفيض بالمرح والسخرية. إنهن يدخلن المسرح وهُنَّ يَتعمَّدن اللهو والتمثيل، ويُداعِبن بونتيلا كما لو كن عرائسه الخياليات، اللائي لا يطمعن في أكثر من فنجال من القهوة، ورقصة مع العريس. ووضع «نيهر» على رءوسهن أكاليلَ رخيصةً من الزهور الصناعية، كما أعطى «لماتي» مكنسةً هائلة يظل يُخاطبها كما لو كانت هي المحكمة العليا في فيبورج، كما يُزيل بها أكاليل الزهور التي يُلقِين بها على الأرض بعد أن يَخرُجن من الضَّيعة غاضباتٍ لسوء استقبالهن. وجَمعَت الملابس رقَّة العرائس الخياليات إلى غِلْظة الفلاحات الخشِنات، كما تمثل سحر الخيال وقوة الواقع في شخصيات هؤلاء النسوة الفقيرات اللائي استطعن أن يمنحن الإقطاعي الغني من مَرحِهن وطِيبتِهن ثروةً لا تُقَدَّر بمال!

وإذا كان تصوير شخصيات نساء كورجيلا بهذه الصعوبة، فإن تفسير مَشهَد الحكايات الفنلندية أمرٌ عسير على المُخرج والمُمثلِين على السواء؛ فها هي الطاهية لاينا تظهر أمام الستارة، كما فَعلَت بعد كل مَشهدٍ من المَشاهِد السابقة، وتُعلِّق على الحدث بإحدى أغانيها القصيرة (وقد يجوز أن تكون إحدى مقاطع أغنية بونتيلا التي تتخلل المسرحية كلها)، ويفهم الجمهور أن نساء كورجيلا الأربعة اللائي خطبهن بونتيلا لنفسه في لحظة سُكرٍ ذات صباحٍ جميل ودَعَاهن إلى ضَيعته، قد طردهن الإقطاعي بونتيلا بعد أن أفاق من سَكرتِه وهو يقول: «هل رأى أحد خروفًا يلبس معطفًا من الصوف، منذ أن بدأ الناس يَجزُّون أصواف الخِراف؟»

وتُفتح الستار لنرى في مُؤخرة المسرح على اليسار ثلاث نساءٍ يقتربن من النظَّارة. ونلاحظ أنهن قادماتٌ من سفرٍ طويل؛ فملابسُهن مُعفَّرة بالتراب، وسُتراتهن مفتوحةٌ عند الصدر، وأقدامهن قد كلَّت من السير، حتى إن إحداهن قد حَملَت حذاءها في يدها وسارت حافيةً. وتَتلفَّت عاملة التليفون وراءها لِتُنبِّه جارتها عاملة الصيدلية إلى زميلتهما المُهرِّبة «إيما» التي تَأخَّرت عنهما ونراها تُشير إليها بالانتظار. وتَنتَبه راعيةُ البقر كذلك، ويقف الثلاثة لينتظروا «إيما» التي تدخل المسرح وهي تَعرُج فلا تكاد ترى سورًا واطئًا حتى تلُقي بنفسها عليه. ويَتجمَّعن حولها ليفحصن معًا حذاءها المقطوع، ويشتركن في معالجته والتعليق على سوء صِناعته التي جَعلَته لا يَصلُح للسير به خمس ساعاتٍ متواليةٍ على طريقٍ زراعي. وتَطلُب «إيما» حجرًا لتدقَّ به مِسمارًا برز في حذائها فتقتنع النسوة بحاجتهن إلى لحظاتٍ يسترحن فيها ويُنفِّسن عن غضبِهن على السيد بونتيلا وأمثاله. ويجلس الجميع على يمين «إيما» ويسارها، لا لِيُدلين باقتراحاتهن عن أفضل طريقةٍ لإصلاح الحذاء فحسب، بل كذلك لِيَستخلِصن العبرة مما جرى لهن، أو يروين الحكايات التي تُؤكِّد رأيهن … في المصير التعس الذي ينتظر كلَّ من تنسى نفسها مع هؤلاء السادة الذين يتقلَّبون دائمًا من حال إلى حال.

مثل هذا المشهد ينبغي أن يُصوَّر تصويرًا يُبرِز رقته وغرابته في آنٍ واحد، كما يُبعِده عن كل ما يُمكِن أن يُثير الضحك أو التهكم. ولعله بذلك أن يكون واحدًا من المشاهد القليلة في مسرح برشت التي يمكن أن نطلب فيها من المُتفرِّج أن يتعاطف معه لا أن يقف منه موقف الناقد العلمي الفاحص المُدقِّق!

إن عاملة الصيدلية التي تعلمت في المدينة وخَبَرت حياتها عن قُربٍ تروي حكاية المليونير بيكا الذي يعود إلى الوطن بعد غيبة عشرين عامًا، ويحتفل به أقاربه الفقراء ويُقدِّمون له قطعة لحمٍ مشويٍّ يعلم الله وحده كم تعبوا في سبيل الحصول عليها، ولكن الغني العائد لا يجد أمام البؤس الذي يراه إلا أن يتذكر أن جَدَّته كانت قد اقتَرضَت منه عشرين ماركَا ويأسف على أنهم في حالةٍ من الفقر لا تُمكِّنهم من رد هذا الدَّيْن، ولا بد أن تُرْوَى هذه الحكاية في لهجةٍ تُبيِّن التهكُّم بغباء الفقراء، كما تكشف عن الرثاء لهم والتعاطُف معهم. ولا بد أن تتخلل روايتها فتراتٌ من الصمت تسمح للسامعات بأن يَتخيَّلن ما تعنيه قطعة من اللحم بالنسبة لمثل هؤلاء الفقراء، كما تُصوِّر كذلك مِقدارَ كَرمهِم واستِعدادِهم للتضحية أمام المليونير الذي يَتحسَّر على العشرين ماركَا (أي ما يساوي جنيهَين).

فإذا ضَحكَت النسوة على هذه النكتة علَّقَت عاملة التليفون التي تعرف كل شيء بقولها: «إنهم يستطيعون ذلك.» ومضت تَروي حكايتها عن المُتسول الذي يقود الإقطاعي الغني على الثلج الخطِر في حين تتضاءل وعود الأخير له بالتدريج حتى يصل إلى شاطئ الأمان، فلا يكاد يجد منها شيئًا. إنها تتفرس في وجوه صاحِباتها من حينٍ إلى حين؛ لترى كيف تُعبِّر عن سَخطِهن على الخديعة ومشاركتهن للمخدوع. وإذا كن يشتركن في الثورة على الظلم الذي أصاب المُتسوِّل المسكين كما أصابهن، فإنهن يخرجن منه بهذه السخرية التي تُعبِّر عنها المُهرِّبة إيما بقولها: «كيف تمنعين نفسك عن الشرب من النهر وأنت تموتين عطشًا؟» ويُذكِّرهن هذا القولُ بجُوعهِن وعطَشِهن وبِكِسرات الخبز الجافِّ الذي تُوزِّعه عاملة التليفون عليهن، وبالمائدة الحافلة التي حُرِمْنَ منها في بيت بونتيلا «كذلك يخرج أمثالنا خُواةَ الأيدي».

وهنا تَتدخَّل راعيةُ البقر فتروي حكايتها عن الفتاة التي حَملَت من ابن سيدها الغني، ودفعها الحرص على كرامتها إلى التخلِّي عن نفقة رضيعها. إنها تروي هذه الحكاية المُؤثِّرة وهي تمضغ كِسرتها، فَتبعُد بها عن كل تأثيرٍ عاطفيٍّ رخيص، وُتبيِّن أن عظمة الإنسان تستطيع أن ترفعه فوق الكارثة التي تُصيبه، فإذا رأت عاملة التليفون أن مسلك الفتاة المخدوعة يدل على الغباء عرفت المُهرِّبة إيما كيف تَرُدُّ عليها بقولها: «مثل هذا السلوك قد يَدُل على الغباء وقد يدل على الذكاء.» والدليل على ذلك حكايتها الطويلة التي ترويها عن «آتي» المكافح الاشتراكي الشاب الذي رفض أن يأخذ السمكة والزبد الذي حَملَته إليه أمه الطيبة العجوز، حين عرف أن صاحبة الضيعة تصَدَّقت بهما عليها، على الرغم مما يقاسيه من الجوع في معسكر الاعتقال. ولا تكاد إيما تبدأ في حكايتها حتى تنتهي عملية إصلاح الحذاء، ويَتركَّز انتباه المُمثلِين والجمهور على الحكاية نفسها، وتستمد النساء منه شجاعة تعينهن على الطريق الطويل في السفر وفي الحياة. إن كلماتها تُعبِّر عن العذاب الذي لاقاه السجين في معتقل الجوع والإرهاب الذي لم تَبقَ فيه «ورقةٌ واحدة على شجرةٍ واحدة». كما تُعبِّر بفترات الصمت المُتقطِّع واختلاج الصوت المتُهدِّج عن الجهد الذي عانَتهُ الأم المُرتعِشة العجوز وهي تقطع الطريق الطويل من قريتها إلى المعسكر البعيد، ولكن موقف الفتى الشجاع وإصراره العادل على رفض صدقة من سادته قد صارا حديث الناس على مدى طريق يبلغ ثمانين كيلومترًا. بذلك لم يَضِع جهد الأم المُحطَّمة عبثًا، ولم تعُد القضية من شأنها وحدها، بل أَصبَحَت قضيةً عامة تُعبِّر عنها إحدى المُمثِّلات بقولها: «إن أمثال آتي موجودون.» فترُد عليها الأخرى قائلة: «ولكنهم نادرون.» حتى إذا انتهت الحكايات الفنلندية وظهرت الطاهية أمام الستارة لتغني أُغنيتها عن السادة الأغنياء الذين يقولون رأيهم في عامة الشعب بين كئوس النبيذ وأكواب القهوة وألوان اللحم والفاكهة، كنا نحن المتفرجين قد كوَّنا رأينا في هذا الرأي.

•••

قد يسأل القارئ الآن فيقول: ما الفائدة من هذه المسرحية بعد أن قضينا على أمثال الإقطاعي «بونتيلا»؟ هل هناك ما يدعو إلى قراءتها أو تمثيلها بعد أن تم الإصلاح الزراعي وصدرت القوانين الاشتراكية؟ ولماذا نقف عند نموذج الإقطاعي الذي ينتمي إلى نظامٍ فاسد تَخلَّصنا منه إلى الأبد؟ أليس في مجتمعنا الاشتراكي من النماذج الفاسدة ما هو أَوْلَى بمحاربته والسخرية منه؟ أليس هناك البيروقراطي والانتهازي والمنافق والمدَّعي والسلبي … إلخ؟ هذه الأسئلة وأمثالها تصدُر عن حسن نيةٍ لا شك فيه، ولكنها تدل على شيء من التعجل وقلة الصبر لا يجب أن نستسلم له، فمسرحية كبونتيلا وتابعه ماتي ستظل محتفظةً بأهميتها وعصريتها حتى بعد أن يزول الإقطاع من على ظهر الأرض كلها، والمتفرج سيظل يتمتع بها، سواءٌ كان من بلدٍ اشتراكية أو رأسمالية؛ ذلك لأن الإنسان لا يتعلم من كفاحه فحسب، بل يتعلم كذلك من تاريخ هذا الكفاح. ورواسب الماضي لا تزول من النفوس بمجرد صدور قانون، بل قد تظل عالقة بها أجيالًا وراء أجيال. وقد ينسى الناس الإقطاعي ويَطرُدونه إلى الأبد من حياتهم، ولكنهم قد لا يتخلصون من عقليته وأخلاقه ونظرته للأمور قبل مرور سنينَ طويلة. وإذا كانوا قد تغلبوا على هذا «الوحش المُنقرِض»، واستطاعوا أن يُقيِّدوه بالسلاسل في بلدهم، فهناك بلادٌ أخرى وأُناسٌ آخرون من حقهم أن يستفيدوا بكفاحهم ويتعلموا منه. أضف إلى ذلك كله شيئًا يتصل بالعمل الفني نفسه كعملٍ فني؛ فهو لا بد أن يجمع بين عُنصرَين في آنٍ واحد: المحلية والعالمية، والزمنية والخلود. فإذا فرضنا أن بونتيلا الإقطاعي المرتبط بزمانٍ ومكانٍ مُعيَّن قد اختفى من أماكنَ كثيرةٍ من العالم، وأنه سائرٌ حتمًا إلى الفَناء في أكثرَ من مكانٍ فلا بد أن يبقى بونتيلا نموذج الإنسان المُتقلِّب بين الخير والشر والضعف والقوة والرحمة والقسوة والإنسانية والوحشية. ولا شك أن هذا النموذج سيبقى ما بقي على الأرض إنسانٌ يَعطِف أو يَقسُو على أخيه الإنسان.٢
١  عن حياة برشت وأعماله ونظريته في المسرح، راجع لكاتب السطور مقدمة «الاستثناء والقاعدة».
٢  استفدتُ في كتابة هذه المقدمة من مقالٍ لبرشت عن «المسرحية الشعبية» نُشِرَ ضمن كتاباته عن المسرح، مكتبة زور كامب، برلين وفرانكفورت عن الماين، ص١١٥–١٢٣، ١٩٦١، ومن الكتاب القيم الذي أصدره مسرح برشت أو «فرقة برلين» تحت عنوان «شغل المسرح»، وبه دراساتٌ مستفيضةٌ مزوَّدةٌ بالنماذج والصور عن طريقة الإخراج والتمثيل لِسِت مسرحياتٍ مختلفةٍ ظَهرَت على هذا المسرح، ومن بينها مسرحية بونتيلا، درسدن، ١٩٥٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤