الفصل السادس

حديث عن الكابوريا

(حجرة المطبخ في ضيعة بونتيلا. الوقت مساءً.)

(يُسْمَع من حينٍ لآخر صوتُ موسيقى آتيةٍ من الخارج.)

(ماتي يقرأ الجريدة.)

فينا (تدخل) : الآنسة إيفا تريد أن تُكلِّمَك.
ماتي : حاضر، بعد أن أشرب القهوة.
فينا : لا تتظاهر أمامي بأنك غير مُتعجِّل، يمكنك ألا تشربها إلى آخرها. أعتقد أنك مغرور في نفسك؛ لأن الآنسة إيفا تُقابِلك من وقتٍ لآخر؛ ذلك لأنها لا تجد أحدًا تجلس معه في الضيعة ولا بد أن ترى وجه إنسان.
ماتي : في مثل هذا المساء يطيب لي أن أغتر بنفسي، إذا كانت لديك بالصدقة رغبةٌ في الخروج معي لرؤية النهر، فأنا لم أَسمَع أوامر الآنسة إيفا ويمكنُني أن أذهب معك.
فينا : لا أظن أن عندي رغبة.
ماتي (يتناول جريدة) : هل تُفكِّرِين في المُدرِّس؟
فينا : لم يكن بيني وبينه شيء. كان إنسانًا رقيقًا معي وأراد أن يُعلِّمني فأعارني كتابًا.
ماتي : خسارة أن يتناول هذا الأجر الضئيل على تعليمه.
أنا أتقاضى ٣٠٠ ماركَا والمدرس ٢٠٠ ماركَا، ولكن يجب عليَّ في الحقيقة أن أعرف أكثر منه. إن أسوأ ما يمكن أن يحدث، إذا كان المدرس لا يعرف شيئًا عن أي شيء، هو ألَّا يستطيع الناس في القرية أن يقرءوا الجريدة، لو حدث هذا قديمًا لكان دليلًا على التأخَّر، أما اليوم … فما الفائدة من قراءة الجرائد، والرقابة لم تترك فيها شيئًا يُقْرأ؟ بل إنني أذهب إلى أبعد من هذا وأقول: إنهم لو تخلصوا نهائيًّا من المُدرِّسِين، لما احتاجوا إلى الرقابة، ولَوفَّرُوا على الدولة مرتبات الرقباء. أمَّا أنا فإذا تعطلت بي السيارة في الطريق فإن السادة سيُضطرُّون إلى السير في الوحل وسيقعون في الحفر؛ لأنهم سكارى (ماتي يشير لفينا التي تجلس على ركبته. يدخل القاضي والمحامي، والمِنشفات على أكتافهم. قادمِين من الحمام البخاري).
القاضي : أليس عندك شيءٌ تُقدِّمه لنا؟ شيءٌ من اللبنِ الرائب كالذي شَرِبناه في المرة السابقة؟
ماتي : هل تحضره الخادمة؟
القاضي : لا، دُلَّنا فقط على مكانه.

(ماتي يغرف لهم، تخرج فينا.)

المحامي : رائع.
القاضي : أنا أشربه دائمًا في بونتيلا بعد الحمَّام البخاري.
المحامي : ليالي الصيف الفنلندية!
القاضي : إنها تكلفني الكثير من العمل. قضايا النفقة المرفوعة في المحاكم هي في الحقيقة أغاني تشيد بجمال ليالي الصيف الفنلندية! وفي قاعة المحكمة يقدر الإنسان جمال الغابات. إن الناس لا يسيرون على شاطئ النهر إلا ويصابون بالضعف. جاءت أمامي مرة فتاة اتهمت العشب بأن رائحته كانت نفاذة جدًّا. لا يصح أيضًا أن يجمعوا «الفراولة» ولا أن يحلبوا الأبقار، فذلك يكلفهم غاليًا. وكل لفيفة من الأشجار في الشوارع يجب أن يحيطوها بسورٍ شائك. البنات والصبية يدخلون الحمَّامات البخارية فرادى؛ لكيلا يقعوا في الإغراء الشديد، ولكنهم يذهبون معًا بعد الحمام إلى المراعي، ومن المستحيل إيقافهم في الصيف. إنهم ينزلون من على الدراجات ويتسلقون مخازن البن، إنهم في كل مكان؛ في المطبخ لأن الجو شديد الحرارة، في الخلاء لأن الهواء منعش، وهم ينجبون الأطفال، إما لأن الصيف قصير جدًّا أو لأن الشتاء طويل جدًّا.
المحامي : ومن الأمور الجميلة أيضًا أن العجائز يشاركون في ذلك. إنني أقصد الشهود «البعيدِين»، طبعًا تفهمني، إنهم يرون كل شيء؛ يرون العُشَّاق يختفون في الغابة، والأحذية الخشبية على أبواب مخازن الغلال، والفتاة وهي تعود من جمع التوت وهي تُحس بالحر الشديد، في حين أنه عمل لا يشعر الإنسان معه بالحر أبدًا؛ لأنه لا يبذل فيه أي جهد، وهم لا يرون فحسب، بل يسمعون كذلك؛ فأقساط اللبن ترِن، والأَسِرة تُقرقع. وهكذا يشاركون بالأعين والآذان ويأخذون نصيبهم من الصيف.
القاضي (لماتي وقد دقَّ الجرس) : هل تسمح باستطلاع ما يريدون؟ ولكننا نستطيع على كل حال أن نشهد بأنهم يتمسكون بالعمل ثماني ساعات في اليوم.

(يخرج مع المحامي، ماتي يعود إلى قراءة الجريدة.)

إيفا (تدخل وهي تُدخِّن سيجارةً طويلةً جدًّا وتمشي مشية مغرية تعلَّمَتها من أفلام السينما) : لقد ضَربتُ لك الجرس. هل لديك ما تعمله هنا؟
ماتي : أنا؟ لا. إن عملي يبدأ في الساعة السادسة صباحًا.
إيفا : لقد فكرت فيما إذا كان من الممكن أن تخرج معي إلى الجزيرة في قاربٍ لتصيد بعض «الكابوريا» للأكل في حفلة الخطوبة.
ماتي : ألا تَعتقدِين أن هذا هو وقت النوم؟
إيفا : أنا لستُ متعبةً على الإطلاق. إنني أنام في الصيف بصعوبة لا أدري السبب في ذلك. هل ستنامُ إذا وضعتَ نفسك الآن في الفراش؟
ماتي : نعم.
إيفا : أنت جديرٌ بالحَسَد. جهز أدواتِ الصيد، أبي يريد أن يأكل الكابوريا.

(تريد أن تستدير للانصراف، وتعود إلى مشيتها التي تعلمتها من السينما.)

ماتي (وقد اعتدل مزاجه) : أعتقد أنني سأذهبُ معك، سأُجدف لك في القارب.
إيفا : ألستَ متعبًا جدًّا؟
ماتي : أُحِس أنني انتعشتُ وأفقتُ من النوم، يجب أن تُغيِّري ملابسك لكي تستطيعي أن تخوضي في الماء على راحتك.
إيفا : الأدوات في غرفة الكَرار (تنصرف).

(ماتي يلبس سترته. إيفا تعود في سروالٍ قصير جدًّا.)

إيفا : لم تُحضر الأدوات.
ماتي : سنمسكها بالأيدي. هذا أجمل بكثير، سأُعلِّمُك كيف نفعل ذلك.
إيفا : لكن الأدوات مريحة.
ماتي : من مدةٍ قصيرة كنت في الجزيرة مع الخادمة والطاهية وأمسكناها بالأيدي. كان شيئًا ممتعًا، وتستطيعين أن تسأليهما، أنا خفيف، ألست كذلك؟ بعض الناس لهم خمس أصابع في اليد الواحدة، الكابوريا بالطبع سريعة؟ الصخور منزلقة، ولكن الجو ساطع هناك، والسحب قليلة، فقد نظرت الآن في السماء.
إيفا (مترددة) : أنا أُفضِّل أن نأخذ الأدوات معنا، سنحصل على عددٍ أكبر.
ماتي : وهل نحتاج إلى كل هذا؟
إيفا : بابا لا يأكل من صنف إلا إذا وجد أمامه الكثير منه.
ماتي : إذن فالمسألة جد، ظننت أننا سنَكتفِي بالبعض، ثم نتسلَّى قليلًا، فالليل جميل جدًّا.
إيفا : لا تقل عن كل شيء: جميلٌ جميل! الأفضل أن تُحضِر الأدوات.
ماتي : لا تكوني جادةً إلى هذا الحد، ولا تلاحقي الكابوريا بكل هذه القسوة! سنملأ جيوبنا وهذا يكفي، أعرف موضعًا تكثر فيه، بحيث نصيد ما يكفينا منها في خمس دقائق، لكي نبينه لهم.
إيفا : ماذا تقصد؟ أتنوي أن تصيد الكابوريا أم لا؟
ماتي (بعد فترة صمت) : أظن أننا تأخرنا قليلًا. لا بد أن أصحو في السادسة صباحًا لأُحضِر المُلحَق من المحطة. فإذا ظلَلنا نخوض في الجزيرة حتى الساعة الثالثة أو الرابعة فسوف لن آخذ راحتي في النوم. يمكنني بالطبع أن أُوصلك بالقارب إلى هناك، إذا كنت مُصِرةً على ذلك كل الإصرار (إيفا تستدير في صمت وتخرج. ماتي يخلع سترته من جديد ويعود إلى قراءة الجريدة).

(تدخل «لاينا» قادمةً من الحمَّام البخاري.)

لاينا : فينا ورئيسة الطبَّاخِين تسألان إن كان عندك استعدادٌ للمشي قليلًا على النهر. إنهما ما زالا يتسامران هناك.
ماتي : أنا مُتعَب. كنت اليوم في سوق العمال، ثم قُدت الجرار في البرية حتى كلَّت قواي.
لاينا : أنا أيضًا ميتةٌ من التعب. طول النهار أمام الفرن، وليس عندي استعداد لحفلات الخطوبة. ولكنني انتزعتُ نفسي من السرير لكيلا أنام؛ فلا يزال الجو صافيًا ومن الخطيئة أن ننام. (تُلقي نظرةً على الطريق من النافذة قبل أن تنصرف) أعتقد أنني سأنزل قليلًا؛ فسائس الحظيرة سيلعب على الهارمونيكا وأنا أحب أن أسمعه (تنصرف في غاية التعب، ولكن في عزم وتصميم. تدخل إيفا).
إيفا : أُريد أن توصلني للمحطة.
ماتي : خمس دقائق فقط حتى أُخرج العربة. سأنتظر أمام الباب.
إيفا : طيِّب. أرى أنك لا تسألني لماذا أذهب الآن إلى المحطة.
ماتي : أظن لتركبي قطار الساعة الحادية عشرة وعشر دقائق إلى هلسنجفورز.
إيفا : أرى أن الخبر لم يُدهِشك.
ماتي : يدهشني! ولماذا؟ إن دهشة السائق لم تُغيِّر شيئًا ولم تنفع في شيء. من النادر أن يَنتبِه أحدٌ إليها أو يكون لها معنى.
إيفا : سأُسافر إلى بروكسل لأقضي عدة أسابيعَ عند إحدى صديقاتي ولا أريد أن أُضايق أبي بذلك. عليك أن تُقرضني مائتَي ماركَا ثمن التذكرة. سيدفعها أبي لك بالطبع، بمجرد أن أَكتُبَ إليه.
ماتي (بغير حماس) : بالطبع.
إيفا : أَتعشَّم ألَّا تكون خائفًا على نقودك؟ إن أبي لا يهمه من الذي سيخطبني، ولكنه لن يرضى بأن يبقى مدينًا لك.
ماتي (بحذَر) : لا أدري إن كان سيَشعُر بأنه مدينٌ لي إذا أعطيتُكِ النقود.
إيفا (بعد فترة صمت) : متأسفةٌ لأنني طلبتُها منك.
ماتي : لا أظن أن المسألة ستكون سواءً بالنسبة لأبيك إذا سافرتِ في منتصف الليل قبل الخطوبة، بينما فطائر الحلوى لا تزال في الفرن كما يُقال. وإذا كان قد نصحك في لحظة عدم تَدبُّر بأن تهتمي بي فلا يجب أن تؤاخذِيه على ذلك. إن أباك يضع مصلحتك نُصب عينَيه، يا آنسة إيفا. لقد لَمَّح لي هو نفسه بذلك، وهو حين يسكر — أو لنقل حين يُكثِر قليلًا من الشرب — فإنه لا يعود يعرف أين مصلحتك، بل ينقاد لعاطفته، ولكنه حين يُفيق يشتري لك مُلحَقًا يستحق ما يدفعه فيه، وتُصبحين سفيرةً في باريس أو في ريفال وتستطيعين أن تعملي ما تشائين، إذا كان لك منه مزاجٌ في ليلةِ صيفٍ جميلة، وإذا لم يكن لك مزاجٌ فلَستِ مجبرةً عليه.
إيفا : إذن فأنت تنصحني بأن أتزوَّج المُلحَق؟
ماتي : يا آنسة إيفا! حالتك المالية لا تسمحُ لك بإغضابِ أبيك.
إيفا : أرى أنك غيَّرت رأيَك مثل الراية المُعلَّقة في الريح.
ماتي : هذا صحيح، ولكن ليس من الظلم فقط التحدُّث عن رايات الريح، بل كذلك من الحمق. إنها مصنوعة من الحديد، وليس هناك ما هو أشد منه صلابةً، ولكن ينقصها الأساس المتين. أنا أيضًا ليس عندي هذا الأساس المتين (يَحُكُّ إصبعه الكبير في سبَّابته).
إيفا : يجب عليَّ للأسف أن آخُذ نصيحتك الطيبة بحذرٍ ما دام ينقصك الأساس المتين لكي تَنصحُني بأمانة، وكلماتك الجميلة عن نوايا أبي الطيِّبة معي تأتي على ما يبدو من خوفك من إقراضي ثمن التذكرة.
ماتي : تستطيعين أن تُضيفي إلى ذلك وظيفتي؛ فهي في رأيي لا بأس بها.
إيفا : أنت ماديٌّ جدًّا يا سيد ألتونين، أَوَتَعرِف، كما يقولون في بيئتكم، على أية ناحيةٍ من رغيفك تُوضع الزُّبدة. وعلى أية حال فلم أَرَ في حياتي أبدًا من يُبيِّن في مثل صراحتك مِقدارَ حرصِه على ماله أو على راحته. يَظهَر أن الأغنياء ليسوا هم وحدهم الذين يفكرون في المال.
ماتي : يؤسفني أنني خيَّبتُ أملك، ولكنني كنت مُضطرًّا لذلك؛ لأنكِ طلبتِ مني النقود بشكلٍ مباشر، ولو أنك لمَّحتِ لها وتركتِ الموضوع عائمًا في الهواء أو كما يقولون بين السطور لما كانت هناك مسألة نقودٍ بيننا؛ فهي دائمًا تُفسِد كل شيء.
إيفا (تجلس) : لن أتزوَّج المُلحَق.
ماتي : كلما فكَّرتُ في الموضوع لم أفهم لماذا ترفضين أن تتزوجيه بالذات؟ في رأيي أنهم جميعًا سواء؛ فأنا أعرفهم معرفةً كافية. إنهم مُهذَّبون، ولن يقذفوا أحذيتهم على رأسك، حتى ولو كانوا سكارى، وهم لا ينظرون إلى النقود، خصوصًا إذا لم تكن نقودَهم، ويفهمون كيف يُقدَّرونك، تمامًا كما يفهمون في تذُّوق النبيذ؛ لأنهم تعلموا ذلك.
إيفا : لن أتزوج المُلحَق، أعتقد أنني سأتزوَّجك أنتَ!
ماتي : ماذا تقصدين؟!
إيفا : يستطيع أبي أن يعطينا نُشارة خشب.
ماتي : تقصدين: يُعطيكِ أنتِ.
إيفا : أقصد يعطينا، إذا تزوجنا.
ماتي : كنت أعمل في إحدى الضياع في «كاريليا» وكان صاحبها فيما مضى تابعًا. وعندما كان القِسِّيس يأتي لزيارتهم كانت المدام تُرسِله ليصيد السمك، وعندما كان الضيوف يزورنهم كان يجلس بجانب الفرن ويلعب بالورق لعبة الصبر، وذلك بمجرد أن ينتهي من فتح الزجاجات، وكان عنده أطفال كبار كانوا ينادون عليه باسمه الأول١ ويقولون: «يا فيكتور! أَحضِرْ حذائي ولا تَتسكَّع هكذا.» لن يوافقني ذلك يا آنسة إيفا.
إيفا : لا، أنت بالطبع تريد أن تكون السيد. أستطيع أن أتصور كيف ستُعامل زوجتك.
ماتي : هل فكَّرتِ في ذلك بالفعل؟
إيفا : بالطبع لا، أتظن أنني لا أُفكِّر طُول النهار إلا فيك؟ لا أدري كيف يُداخلك هذا الغرور. لقد شبعتُ من كلامك دائمًا عن نفسِك، وما تُحبه وما لا تُحبه وما يُوافق مزاجك وما سمِعت. إنني أعرف ما تريد بحكاياتك البريئة ودعاباتك الوقحة. إنني لا أحتملك؛ لأن الأنانِّيين لا يعجبونني أبدًا. يجب أن تفهم هذا!

(تخرج. ماتي يتناول جريدته ويقرأ فيها.)

١  من علامات عدم الاحترام عند الأطفال أن يخاطبوا الكبار بأسمائهم الأولى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤