الفصل التاسع

بونتيلا يخطب ابنته لإنسان

(حجرة الطعام وبها موائدُ صغيرة وبوفيه ضخم، القِسِّيس والقاضي والمحامي وقوفٌ يُدخِّنون وهم يشربون القهوة، بونتيلا جالسٌ في الركن يشرب في صمت. بعض المَدعوِّين يرقصون في جانبٍ على صوتِ موسيقى تَنبعِث من الحاكي «الجراموفون».)

القِسِّيس : من النادر أن تجد الإيمان الحقيقي. كل ما تجده هو الشك وعدم المبالاة، حتى لَييأس الإنسان من شعبنا. إنني أحاول على الدوام أن أُدْخِل في عقولهم أنه بغير مشيئة الله لن تنمو توتةٌ واحدة، ولكنهم ينظرون إلى ثِمار الطبيعة كما لو كانت شيئًا طبيعيًّا، ويلتهمونها كأنها حقٌّ لهم. إن جانبًا من هذا الكفر يرجع إلى أنهم لا يتردَّدون على الكنيسة ويتركونني أُلْقِي مواعظي أمام المقاعد الخالية وكأنما ليس لديهم العَدَد الكافي من الدراجات لكي يأتوا إليَّ ويسمعوني. كل راعية بقر لديها دراجة، ولكنهم مفطورون على الشر. وكيف أُفسِّر ما حدث لي في الأسبوع الماضي أمام فراش رجل يُحتضَر، رُحْتُ أُحدِّثه عما ينتظر الإنسان في العالم الآخر فهل تعلمون ماذا كان جوابه؟ «هل تعتقد أن البطاطس ستتحمل الأمطار؟» مثل هذا الحادث يجعلني أسأل: أليس كل نشاطنا هباء؟
القاضي : إنني أَفهمُك؛ فنَقْل الحضارة إلى هذه الأعشاش عملٌ لا لذَّة فيه.
المحامي : نحن المحامِين أيضًا لم تعُد حياتنا سهلة. لقد كنا نعيش دائمًا من صغار الفلَّاحِين، ذوي الأخلاق الحديدية الذين يُؤثِرون التسوُّل على التخلِّي عن حقوقهم. إنهم لا يزالون يُحبون العراك ولكن بخلهم يقف الآن في طريقهم. إنهم على استعدادٍ لأن يَسُبوا ويطعنوا بعضهم بالسكاكين ويشنقوا الخيول المشلولة لبعضهم البعض، ولكنهم حين يلاحظون أن القضايا تكلِّف أصحابها غاليًا تجدهم يتخلَّون سريعًا عن حماسهم ويقطعون أجمل القضايا، كل هذا من أجل الطاغوت المحبوب.
القاضي : هذا هو عصر التجارة والمال. السطحية تنتشر، والزمن الطيب القديم يختفي. إن من أصعبِ الأمور الآن ألَّا نيأس من الشعب، بل نحاول دائمًا معه من جديد، لعلنا أن ننقل إليه شيئًا من نور الحضارة.
المحامي : خذوا بونتيلا مثلًا. إن زراعته تنمو دائمًا في الحقول من تِلقاء نفسها. أمَّا القضية فهي مخلوقٌ حساس إلى أقصى حد. وقد يَشيب شعر الإنسان قبل أن تكبر وتنضج. كم من مرة يقول الإنسان لنفسه: لا جَدوَى الآن من القضية، لا يمكن أن تستمر. لم يعُد هناك دليلٌ جديد. إنها ستموت في شبابها، وفجأة تتحرك القضية وتسترد صحتها من جديد. يجب أن يكون الإنسان في مُنتهَى الحذَر حين تكون القضية في سن الرضاعة؛ فنسبة الوفاة ترتفع أقصى ارتفاعٍ في هذه المرحلة. فإذا نجحنا في أن ندفعها إلى سن الصِّبا فسوف يعرف طريقه بنفسه، والقضية التي يزيد عمرها عن أربع أو خمس سنوات قضيةٌ تضمن لها أن تشيخ ويبيض شعرها، ولكن يا له من تعبٍ حتى تصل إلى هذه السن! آه! ويا لها من حياةٍ كحياة الكلاب!

(يدخل المُلحَق مع زوجة القِسِّيس.)

زوجة القِسِّيس : يا سيد بونتيلا! من الواجب أن تهتم قليلًا بضيوفك. إن السيد الوزير يرقص الآن مع الآنسة إيفا، وقد سأل عنك.

(بونتيلا لا يجيب.)

المُلحَق : ردت السيدة زوجة القِسِّيس الآن على الوزير ردًّا ممتعًا كله ظُرفٌ وذكاء. سألها إن كانت تجد طعمًا للجاز. انتظرتُ على شوق، كما لم أفعل في حياتي، لكي أرى كيف ستتخلص من هذه المعضلة. فكَّرَت قليلًا ثم قالت: إن المعتاد ألَّا يرقص أَحدٌ على أنغام الأرغن في الكنيسة؛ ولذلك فسواءٌ عندها أن يستخدموا في ذلك الآلة التي تعجبهم. كاد الوزير أن يموت على نفسه من الضَّحِك، فما رأيك في هذا يا بونتيلا؟
بونتيلا : لا رأي لي؛ لأنني لا أنتقد ضيوفي.

(يُشير للقاضي أن يقتربَ منه.)

فردريك، هل يُعجِبك هذا الوجه؟
القاضي : أيَّ وجهٍ تقصد؟
بونتيلا : وجه المُلحَق، قل لي: المسألة جِد!
القاضي : حاذِر يا يوحنا. البونش ثقيلٌ جدًّا.
المُلحَق (يُدندِن باللَّحن الذي يدور الرقص عليه ويقوم ببعض الحركات بقدمَيه على الإيقاع) : اللحن يُشجِّع على الرقص. أليس كذلك؟
بونتيلا (يشير مرةً أخرى إلى القاضي الذي يُحاول أن يتغاضى عنه) : فردريك. قل الحقيقة. ما رأيك فيه؟ إنه يُكلِّفني غابة.

(بقية المَدعُوِّين يُدندنون: أنا أبحث عن تيتينا …)

المُلحَق (على سجيته) : إنني لا أحفظ النص أبدًا. من أيام المدرسة وأنا هكذا، ولكن الإيقاع يسري في دمي.
المحامي (الذي يرى بونتيلا يُشير إشاراتٍ عنيفة) : الجو حارٌّ بعض الشيء هنا. لننتقل إلى الصالون! (يُريد أن يسحب المُلحَق معه.)
المُلحَق : أخيرًا استطعت أن أَتذكَّر هذه الجملة «ليس عندنا مَوزٌ We have no bananas» لذلك لم أَفقِد الأَملَ في ذاكرتي.
بونتيلا : انظر إلى وجهه قليلًا ثم احكم! فردريك؟
القاضي : هل تعرف نكتة اليهودي الذي نسي معطفه في القهوة؟ علَّق المُتشائِم على ذلك بقوله: نعم سوف يعثُر عليه! أما المُتفائِل فقال: لا لن يجده!

(المدعون يضحكون.)

المُلحَق : وهل وجده؟
القاضي : أَعتقِد أنك لم تفهم النكتة تمامًا.
بونتيلا : فردريك!
المُلحَق : لا بد أن تشرحها لي. أعتقد أنك بدَّلتَ التعليقات؛ فالمتفائل هو الذي يقول: نعم سوف يجده!
القاضي : لا، بل المتشائم! حاول أن تفهم. إن طرافة النكتة في أن المِعطَف قديمٌ لدرجة أنه يتمنى أن يكون قد ضاع!
المُلحَق : فهمتُ، المعطف قديم؟ لقد نَسِيتَ أن تقول هذا. ها ها ها! هذه أحسن نكتةٍ رأسماليةٍ سمعتُها في حياتي!
بونتيلا (يقف مُتجهِّمًا) : يجب الآن أن أَتدخَّل. إنني لا أستطيع أن أحتمل مثل هذا الإنسان. فردريك! أنت ترفض الإجابة الصريحة على سؤالي الجاد: ما رأيك في مثل هذا الوجه إذا أدخلتُه في عائلتي؟ حسن. لقد وصَلتُ إلى سنٍّ تسمح لي باتخاذ قرارٍ وحدي. إن الإنسان الذي لا يفهم المزاح ليس إنسانًا على الإطلاق. (بِعِزَّة) اخرُج من بيتي! نعم أنت، ولا تحاول أن تدور حول نفسك، كما لو كُنتُ أَقصِد أحدًا غيرك.
القاضي : بونتيلا، أنت تذهب بعيدًا جدًّا.
المُلحَق : سادتي، أرجوكم أن تنسَوا ما حدث. أنتم لا تتصورون مقدار دقة مركز أعضاء السلك الدبلوماسي. إن أقل زلَّةٍ خُلُقية يمكن أن تتسبب في رفض الموافقة على أوراق اعتمادهم. لقد حدَث مرة في باريس، في المونمارتر، أن نزلت حماة سكرتير المفوضية الرومانية ضربًا بالمِظلَّة على رأس عشيقها، وكانت فضيحة على الفور.
بونتيلا : جرادة في ردنجوت! جرادة تلتهم الغابات.
المُلحَق (في حماس) : أنتم تفهمون بالطبع. لم يكن سبب الفضيحة أن لها عشيقًا؛ فهذه هي القاعدة، ولا أنها ضَربَته؛ فهذا شيء مفهوم، ولكن ضربها له بالمِظلَّة هو التَّصرُّف «البلدي» الذي لم يكن يُنتظَر منها. هنا العقدة.
المحامي : بونتيلا. معه الحق. إنه شديد الحساسية فيما يتعلق بشرفه؛ فهو في الهيئة الدبلوماسية.
القاضي : الكونياك قويٌّ جدًّا على أعصابك يا يوحنا.
بونتيلا : فردريك، أنت لا تفهم خطورة الموقف.
القِسِّيس : السيد بونتيلا ثائر بعض الشيء. (مخاطبًا زوجته): آنا، ربما استَطعتِ أن تنتقلي إلى الصالون.
بونتيلا : سيدتي الكريمة! لا تقلقي فأنا مالكٌ زِمامَ أعصابي. إن البونش عادي، أمَّا ما لا أستطيع احتماله، فهو وجه هذا السيد الذي لا أُطيقه، ولا بد أنك تفهمين السبب.
المُلحَق : لقد امتَدحَت الأميرة بيبسيكو إحساسي بالفُكاهة إلى الحد الذي شَعَرتُ معه كأنها تَتملَّقني. قالت لليدي أكسفورد: إنني أضحك قبل سماع النكتة مما يدل على سرعة بديهتي.
بونتيلا : فردريك! انظر إلى فكاهته!
المُلحَق : طالما لم تذكر أسماءً، فمن الممكن إصلاح كل شيء، ولكن بمجرد أن تَذكُر الأسماء مصحوبةً بالإهانات فمن المستحيل أن يعود شيءٌ إلى أصله.
بونتيلا (في سخريةٍ مريرة) : فردريك، ماذا أفعل الآن؟ لقد نَسِيتُ اسمه، ولن أستطيع التخلص منه، كما يقول. الحمد لله! الآن تذَكَّرتُ أنني قرأتُ اسمه على إيصالٍ بالدَّين كان عليَّ أن أشتريه له، وأن اسمه هو أينوسيكالا، لعله يذهب الآن، ألا ترى ذلك؟
المُلحَق : سادتي! الآن قد ذكر الاسم، لا بد من الآن فصاعدًا أن تُوزَن كل كلمة بميزانٍ من ذهب.
بونتيلا : لا فائدة! (يزأر فجأة): اخرج حالًا من هنا ولا تجعل أحدًا يرى وجهك في بونتيلا. لن أُزوِّج ابنتي من جرادةٍ في ردنجوت!
المُلحَق (وهو يستدير له) : بونتيلا، أنت الآن تُهينني. ستتجاوز الحاجز الدقيق الذي يُؤدِّي إلى الفضيحة إذا طَردتَني من بيتك.
بونتيلا : هذا كثير. إن صبري يتمزق. كنتُ أُريد أن تفهم فيما بيننا أن وجهك يُضايق أعصابي وأن من الأفضل لك أن تختفي ولكنك تَضطَرني أن أكون واضحًا وأن أقول لك: «اخرُج يا مَن تَتبرَّز على نفسِك.»
المُلحَق : بونتيلا، هذا كلام سأُسيئ تأويله، سادَتي! لي الشرف (يخرج).
بونتيلا : لا تَمشِ على مهلك هكذا! أريد أن أراك وأنت تجري، سأُعلِّمك كيف تَردُّ عليَّ ردودك الوقِحة!

(يجري وراءه. الجميع يتبعونه، فيما عدا زوجة القِسِّيس والقاضي.)

زوجة القِسِّيس : ستكون فضيحة.

(تدخل إيفا.)

إيفا : ماذا حدث؟ ما هذه الضَّجة في الفِناء؟
زوجة القِسِّيس (تُهرَعُ إليها) : آه يا طفلتي. لقد حدث شيءٌ مؤلم. يجب أن تَتسلَّحي بالشجاعة الهائلة.
إيفا : ماذا حدث؟
القاضي (يُحضر كأس شيري) : اشربي هذا، يا إيفا. أبوك أفرغ زجاجةَ بونش كاملةً في بطنه. وفجأةً أصابته نوبةُ غضبٍ على وجه إينو وطَردَه من البيت.
إيفا (تشرب) : الشيري طعمه كطعم السدَّادات، خَسَارة. وماذا قال له إذن؟
زوجة القِسِّيس : ألستِ خارجةً عن طَورِك يا إيفا!
إيفا : طبعًا طبعًا!

(القِسِّيس يعود.)

القِسِّيس : إنه فظيع!
زوجة القِسِّيس : ماذا؟ ماذا حدث؟
القِسِّيس : مَشهدٌ بَشعٌ في الفناء. لقد قذَفه بالطوب.
إيفا : وأصابه؟
القِسِّيس : لا أدري. لقد رمَى المحامي نفسه بينهما، والوزير هنا في الصالون!
إيفا : يا عم فردريك، أنا الآن متأكدة من أنه سيسافر. من حسن الحظ أننا دعونا الوزير، لولا هذا لَنقصَت الفضيحة بمقدار النصف.
زوجة القِسِّيس : إيفا!

(يدخل بونتيلا ومعه ماتي وخلفهما لاينا وفينا.)

بونتيلا : ها أنا قد ألقيتُ نظرةً عميقة في فساد العالم. لقد دخلتُ هنا بنيةٍ حسنة وفي عزمي أن خطأً قد ارتُكِبَ وأنني كِدتُ أن أزُفَّ ابنتي إلى جرادة وأريد الآن أن أُسرِع فأُزوِّجها إلى رجل. لقد قرَّرتُ من مدةٍ طويلة أن أُزوِّج ابنتي لرجلٍ شريف، هو ماتي ألتونين، وهو سائقٌ نشيط وصديقٌ لي. عليكم إذن أن تشربوا كأسًا في صحة الزوجَين السعيدَين. ما ظنُّكم كيف كان ردُّهم عليَّ؟ الوزير الذي كنت أحسبه رجلًا مُهذبًا، نظر إليَّ كأنني عيش الغراب وطلب سيارته. والآخرون بالطبع قلدوه كالقرود. شيءٌ مؤسف. لقد بدا لي كأنني شهيدٌ مسيحي أَلقَوا به أمام الأُسود ولم أستطع أن أُداري عواطفي. لقد انصرف مسرعًا، ولكنني استطعت لحسن الحظ أن أُدركه وأن أقول له: إنه هو أيضًا في رأيي ولدٌ قذِر. أَعتقِد أنني عبَّرتُ عن رأيكم جميعًا.
ماتي : يا سيد بونتيلا، أعتقد أنه يصح أن ندخُلَ جميعًا المطبخ ونُناقشَ الموضوع أمام زجاجة بونش.
بونتيلا : ولماذا في المطبخ؟ إن خطوبتكم لم يُحتفَلْ بها إلى الآن. الخطوبة التي احتفلنا بها كانت خطأ. خطوبة في الهواء! صُفُّوا الموائد الصغيرة إلى جانب بعضها واجعلوا منها مأدبةً كبيرة تصلُح للاحتفال. سنبدأ الآن. فينا، اجلسي إلى جانبي!

(يجلس في منتصف الصالة، بينما يصُفُّ بقية المَدعوِّين الموائد الصغيرة إلى جانب بعضها البعض ويجعلون منها مأدبةً كبيرة، إيفا وماتي يخرجان معًا لإحضار الكراسي.)

إيفا : لا تنظر إليَّ هكذا، كما ينظر أبي حين يُقدِّمون له بيضةً فاسدة على الإفطار. أَذكُر أنك كنت تنظر إليَّ نظرةً أخرى، من وقتٍ غيرِ بعيد.
ماتي : مُجرَّد إجراءٍ شكلي.
إيفا : عندما أردتَ في الليلة الماضية أن نذهب إلى الجزيرة لصيد الكابوريا، لم تكن تُفكِّر أبدًا في صيد الكابوريا.
ماتي : كان ذلك بالليل، ولم أكن أيضًا أُفكِّر في الزواج.
بونتيلا : أيها القِسِّيس، بجانب خادمة المطبخ! يا زوجة القِسِّيس، إلى جانب الطباخة! فردريك، اجلس أنت أيضًا كما ينبغي!

(الجميع يجلسون مُكرَهِين، صمت.)

زوجة القِسِّيس (للاينا) : هل خلَّلتِ عَيشَ الغُراب هذه السنة؟
لاينا : أنا لا أُخلِّلها ولكن أُجفِّفها.
زوجة القِسِّيس : وكيف تَفعلِين هذا؟
لاينا : أُقطِّعها قطعًا صغيرة، وأَشكُّها في خيط ثم أُعلِّقها في الشمس.
بونتيلا : أريد أن أقول كلمةً عن عريس ابنتي ماتي، لقد درستُكَ في السر وكوَّنتُ فكرةً عن أخلاقك. لا أُريد أن أقول إنني سعيدٌ لأنه لم تعُد هناك آلاتٌ مكسورة منذ حضورك إلى بونتيلا، بل أقول: إنني أحترم الإنسان فيك. لم أنس حادثة اليوم. لقد لاحظتُ نَظرتَك بينما كنت أنا واقفًا في الشرفة مثل نيرون، أطرد الضيوف الأعزَّاء في غضبٍ أعمى. ماتي، لقد كلَّمتُك من قبلُ عن النوبات التي تُصيبني، لعلك لاحَظتَ أنني كنتُ في أثناء الأكل أجلس صامتًا منطويًا على نفسي، ولو لم تكن موجودًا لتصورتَ ذلك من تلقاء نفسك. لقد كنتُ أتخيل النساء الأربعة وهن في الطريق إلى كورجيلا مشيًا على الأقدام، لم أُقدِّم لهن قطرةَ كونياك واحدة، بل كلماتٍ غليظةً ولن أُدهَش إذا شكُّوا في بونتيلا. إنني أُوجِّه إليك الآن هذا السؤال: هل يُمكنكَ أن تنسى هذا يا ماتي؟
ماتي : اعتبرها منسيةً يا سيد بونتيلا، ولكن قل لابنتك بكل ما لَكَ من سلطةٍ عليها إنها لا تستطيع أن تَتزوَّج سائقًا.
القِسِّيس : مضبوط.
إيفا : بابا. حَدثَت أمسِ بين ماتي وبيني مُشادَّةٌ كلاميةٌ بسيطة، عندما كنتَ أنتَ خارج البيت. إنه لا يُصدِّق أنك ستعطينا ورشةَ نشارة ويعتقد أنني لن أحتمل الحياة معه كزوجة سائقٍ بسيط.
بونتيلا : ما رأيك يا فردريك؟
القاضي : لا تسألني عن شيء يا يوحنا، ولا تنظر إليَّ كالوحش الذي يموت من جراحه. اسأل لاينا!
بونتيلا : لاينا، أجيبيني أنت: هل تَتصوَّرين أنني يُمكِن أن أبخل على ابنتي بورشة نشارةٍ وطاحونةٍ بخارية وغابة؟
لاينا (وقد أَحسَّت بأنه يقاطعها في حديثها الهامس مع زوجة القِسِّيس عن عيش الغراب، كما يَرى من إشاراتهما) : سأحضر لك فنجالَ قهوة، يا سيد بونتيلا!
بونتيلا (لماتي) : ماتي، هل تتقن اﻟ…؟
ماتي : يقولون هذا.
بونتيلا : أنا لا أهتم بما يقولون. هل تتقنها حقًّا؟ هذا هو المهم، ولكنني لن أنتظر منك الإجابة؛ فأنا أعرف أنه يؤلمك أن تمدح نفسك، ولكن هل … مع فينا؟ إذن أستطيع أن أسألها. لا؟ لَستُ أفهم هذا.
ماتي : لا تُصِرَّ على هذا، يا سيد بونتيلا.
إيفا (التي أَكثرَت قليلًا من الشرب تقف وتُلقي خُطبة) : عزيزي ماتي. أرجوك أن تَجعلَني زَوجتَك لكي يكون لي رجلٌ مثل غيري، وإن شئتَ ذهبنا حالًا لصيد الكابوريا، ولو بدون شبكة. أنا لا أعتبر نفسي ملكة جمال، كما قد تظن فيَّ، وأعتقد أنني قادرةٌ على الحياة معك حتى ولو كنا فقراء.
بونتيلا : برافو!
إيفا : أمَّا إذا كنت لا تريد أن تذهب معي لصيد الكابوريا — فربما يبدو لك أمرًا غير جاد — فإنني على استعدادٍ الآن لأن أجهز حقيبة يدٍ بسرعة، وأسافِرَ معكَ لزيارة أمك. إن أبي لن يمانع.
بونتيلا : بالعكس. أنا أُرحِّب بهذه الزيارة.
ماتي (ينهض كذلك واقفًا ويشرب كأسَين بسرعة) : يا آنسة إيفا! أنا مستعدٌّ للقيام بكل ما تَطلُبِين من حماقات. أمَّا أن آخذك معي إلى أمي فهذا ما لا أستطيعه بحالٍ من الأحوال، وإلَّا أُصِيبَت العجوز بالشلل، لماذا؟ لأنه ليس عندنا كَنبةٌ واحدة. سيدي القِسِّيس، صف للآنسة إيفا كيف يبدو مطبخُ فقراءَ ينامون فيه أيضًا!
القِسِّيس (جادًّا) : في غاية البؤس.
إيفا : ولماذا يصفه؟ سوف أراه بنفسي.
ماتي : وتَسأَلِين أمي العجوز عن مكان الحمَّام!
إيفا : سأستحم في حمام البلدية.
ماتي : بنقود السيد بونتيلا؟ أنت تتصورينني مالكًا لورشة النشارة، ولكن لا تعتمدي على هذا. غدًا صباحًا، سيصبح السيد بونتيلا إنسانًا عاقلًا، بمجرد أن يعود إلى نفسه.
بونتيلا : اسكت. لا تتكلم عن ذلك السيد بونتيلا عَدُوِّنا المشترك. لقد غرق الليلة في زجاجة بونش، هذا الجدع البطَّال! أنا الآن قد عدتُ إلى نفسي. أصبحت إنسانًا. اشربوا أنتم أيضًا. كونوا بشرًا. لا تيأسوا!
ماتي : قلتُ لكِ مستحيل أن آخُذكِ معي إلى أمي. ستضربني «بالبانتوفل» على رأسي إذا حاولتُ أن أُحضِر إليها واحدةً مثلك. أقول هذا لتعرفي الحقيقة!
إيفا : ماتي. ما كان يصح أن تقول هذا.
بونتيلا : من رأيي أيضًا أنك تتجاوز الحد قليلًا يا ماتي. إن إيفا لها عيوبها، ويمكن أن تسمن قليلًا مثل أمها، ولكن هذا لن يكون قبل الثلاثين أو الخمسة والثلاثين، ولكنها الآن تستطيع أن تظهر في كُلِّ مكان.
ماتي : أنا لا أتكلم عن السِّمنة، إنما أقول إنها غير عملية، وإنها لا تصلح لأن تكون زوجةَ سائق.
القِسِّيس : هذا هو رأيي تمامًا.
ماتي : لا تضحكي يا آنسة إيفا؛ فسوف تفقدين الرغبة في الضحك إذا وَضعَتكِ أمي موضع الاختبار. عند ذلك تتضاءلين جدًّا.
إيفا : فلنُجرِّب يا ماتي! أنت سائق، وأنا زوجتك. قل لي ماذا يجب أن أفعل؟
بونتيلا : هذا هو الكلام! هاتي السندوتشات يا فينا. سنتناول أكلةً مريحة، وسيمتحن ماتي إيفا حتى يعصرها!
ماتي : ابقَي مكانك يا فينا؛ فليس عندنا خدم، وإذا فاجأنا الضيوف فلن نُقدِّم لهم إلا الموجود. أحضري الرنجة يا إيفا!
إيفا (فرحة) : ها أنا أجري! (تخرج.)
بونتيلا (يناديها) : لا تنسَ الزبدة! (لماتي): أنا أُحيِّي تصميمك على أن تستقل بنفسك ولا تأخذ مني شيئًا. هذا شيء لا يفعله كل واحد!
زوجة القِسِّيس (للاينا) : ولكنني لا أضع عيش الغراب في المِلْح، بل أُسوِّيها بالزبدة والليمون، حتى تُصبِح في حجم الأزرار. أنا أُخلِّل كذلك عيش الغراب اللبني في اللبن.
لاينا : إن عيش الغراب اللبني ليس في حد ذاته من النوع الجيد، ولكن طعمه لا بأس به. أفضل أنواع عيش الغراب هو الشامبنيون وعيش الغراب الحجري.
إيفا (تعود حاملةً طبقًا عليه رنجة) : ليس في مطبخنا زُبدة، أليس كذلك؟
ماتي : نعم، ها هو. لقد تعرفتُ عليه. (يتناول الطبق) لقد رأيت شقيقه بالأمس فقط، ورأيت واحدًا من أسرته قبل الأمس، وهكذا. إنني أعرفه منذ بدأتُ آكل في طبق. كم مرةً في الأسبوع تُحبِّين أن تأكلي الرنجة؟
إيفا : ثلاث مراتٍ يا ماتي، إذا لزم الأمر.
لاينا : ستأكلين منه أكثر من ذلك، شئتِ أو لم تشَئِي.
ماتي : سيكون عليكِ أن تتعلمي الكثير. إن أمي التي كانت طاهيةً في ضيعة كانت تأكله خمسَ مراتٍ في الأسبوع، ولاينا تأكلُه ثماني مرات! (يتناول رنجةً ويُمسِكها من ذَيلِها) مرحبًا بك أيتها الرنجة، يا وجبة الفقراء! أنتَ يا مشبع البطون في كل الأوقات، يا أيها الألم المُملَّح في الأمعاء! من البحر جئتَ، وإلى الأرض تعود. أنت القوة التي تقطع أشجار الغابة وتزرع الحقول، وتُسير الآلات التي يُسمُّونها العمال والتي لم تصبح الحركة الدائمة بعدُ. أيتها الرنجة، أنتِ أيتها الوضيعة، لو لم تُوجَدي لرحنا نطلب من الضيعة لحم الخنزير، فكيف يكون عندئذٍ مصير فنلندا؟

(يضعها في الطبق ويُقطِّعها قطعًا صغيرة يعطي واحدةً منها لكل واحدٍ من الحضور.)

بونتيلا : طعمها في فمي مثل طعم الدليكاتيسة التي آكلها نادرًا. هذه تفرقةٌ لا ينبغي أن يكون لها وجود. لو أن الأمر كان بيدي، لوضعتُ دخل الضيعة كلها في خزينةٍ وكل من يحتاج من العمال إلى شيء يسحبه بنفسه منها؛ لأنه لولاه ما كان فيها شيء. أليس معي الحق؟
ماتي : لا أستطيع أن أنصحك بهذا؛ لأنك سرعان ما تُفلِس، ويستحوذ البنك على كل شيء.
بونتيلا : هذا هو رأيك، أمَّا أنا فلي رأيٌ آخر. إنني أكاد أكون اشتراكيًّا، ولو أنني كنت تابعًا أجيرًا لجعلت الحياة جحيمًا في بونتيلا. استمر في امتحانك؛ فأَمرُه يهمُّني.
ماتي : إذا فَكَّرتُ فيما يجب أن تعرفه المرأة التي سأُقدِّمها لأمي فإنني أَتذكَّر جواربي على الفور. (يخلع حذاءه ويعطي الجورب لإيفا) هل يمكنك مثلًا أن تُرقِّعي هذا؟
القاضي : أنت تطلب منها الكثير. لقد سكتُّ في موضوع الرنجة، ولكن حب جولييت لروميو ما كان لِيصمد أمام مَطلبٍ كهذا مثل ترقيع الجوارب. إن حبًّا يَقدِر على مثل هذه التضحية يمكن أن يجرَّ معه المتاعب؛ لأنه بطبيعته ناري جدًّا ويمكن أن يُؤدِّي إلى المحاكم.
ماتي : في الطبقات الدنيا لا تُرقَّع الجوارب بدافع الحب وحده، بل كذلك لأسبابٍ اقتصادية.
القِسِّيس : لا أعتقد أن المُعلِّمات الطيِّبات اللاتي ربَّينَها في بروكسل قد فكَّرن في مثل هذه المسائل العَرَضية.

(إيفا تعود بالإبرة والكستبان وتبدأ في ترقيع الجورب.)

ماتي : من واجبها الآن أن تستدرك ما فاتها في التعليم.
(لإيفا): لن أؤاخذك على عيوب تربيتك ما دُمتِ ستُبدِين استعدادًا طيبًا. لقد كان حظك سيئًا في اختبار أبوَيك؛ فلم تتعلمي شيئًا نافعًا. وقد أظَهَرَت الرنجة الفجواتِ الضخمة في معلوماتك، وقد اخترتُ الجواربَ عن عمد لكي أعرف ماذا يمكن أن تصلُحي له.
فينا : يُمكنني أن أُبيِّن للآنسة إيفا.
بونتيلا : ركزي نفسك يا إيفا. أنت نبيهة، ولا بد أن تنجحي.

(إيفا تعطي ماتي الجورب وهي مُتردِّدة، يرفعه في يده ويفحصه وهو يبتسم ابتسامةً مريرة، عندما يُلاحظ أنها قد أَفسَدته تمامًا.)

فينا : أنا أيضًا لم أكن أستطيع بدون الكستبان أن أُرقِّعه أَحسنَ مما فعلتُ.
بونتيلا : لماذا لم تستعملي البيضة؟
ماتي : جهل. (للقاضي الذي يضحك): لا تضحك فقد هلك الجورب. (لإيفا): إذا تزوجت سائقًا فستحدث مأساة؛ لأنك لا بد أن تمُدِّي رجلَيك على قد لحافه، وهو قصير، أقصر مما تتصوَّرِين، ولكنني سأعطيك فرصةً أخرى؛ لكي تُثبتي كفاءتك.
إيفا : أعترف بأنني لم أنجح في مسألة الجورب.
ماتي : أنا سائق أعمل في ضيعة، وأنت تُساعدين في الغسيل وفي الشتاء تُوقدِين الفرن. أعود إلى البيت في المساء، فكيف يكون استقبالك لي؟
إيفا : سأنجح في هذه المرة. ماتي، عد إلى البيت!

(ماتي يتراجع بضع خطوات إلى الوراء ويتظاهر بأنه يدخل من الباب.)

إيفا : ماتي! (تجري نحوه وتُقبِّله.)
ماتي : أول غلطة! أحضانٌ وقبلاتٌ وأنا مُتعَب وراجع إلى البيت.

(يتظاهر بأنه يتجه إلى صنبور المياه ليغتسل، ثم يمد يده يريد أن يتناول منشفة.)

إيفا (التي بدأت تثرثر) : ماتي يا مسكين! هل أنت تعبان؟ طول النهار وأنا أُفكِّر في العذاب الذي تراه. إنني أتمنى أن أُخفِّف عنك.

(فينا تُناولها فوطة يد، فتُعطيها مُطبَّقةً لماتي.)

إيفا : معذرة. لم أفهم ماذا كُنتَ تريد.

(ماتي يُدمدِم ساخطًا ويجلس على كرسيٍّ أمام المائدة. يمد قدمَيه نحوها فتُحاوِل أن تسحب الحذاء منهما.)

بونتيلا (يقف وينظر بأعصابٍ مُتوتِّرة) : اسحبي!
القِسِّيس : أنا أعتبر هذا درسًا سليمًا جدًّا. أنتم ترون أن هذا كله شيءٌ غيرُ طبيعي.
ماتي : أنا لا أعمل هذا دائمًا، ولكنني اليوم مثلًا قُدتُ الجرَّار وأشعر أنني الآن نصف ميت ويجب أن يُدخِل الإنسان هذا في حسابه. ماذا فعلت اليوم؟
إيفا : غَسلتُ يا ماتي.
ماتي : كم قطعةً أعطَوها لكِ لتغسليها؟
إيفا : أربعة، ولكنها ملاءات سرير.
ماتي : فينا. قولي لها.
فينا : لقد غَسلتُ على الأقل سبع عشرة قطعةً ودَلوَين من القِطَع المُلوَّنة.
ماتي : هل حصلتم على الماء بالخرطوم أم صبَبْتموه بالدلو؟ لأن الخرطوم مقطوعٌ كما هو الحال في بونتيلا.
بونتيلا : أعطني فوق دماغي يا ماتي؛ فأنا إنسان سيِّئ.
إيفا : بِالدَّلو.
ماتي : هل كُسِرَت أظافرُك (يرفع يدها في يده) وأنت تَغسلين أم وأنت تُوقدِين النار؟ أفضل طريقة أن تضعي دائمًا عليها قليلًا من السمن. لقد أصبحت يدا أمي مع الزمن هكذا (يُبيِّن بيده) مُتورمتَين وحَمراوَين. أظن أنك متعبة، ولكن لا بد أن تغسلي بَذلة الشغل قبل أن تنامي فأنا محتاجٌ إليها غدًا.
إيفا : نعم يا ماتي.
ماتي : وبذلك تكون في الصباح قد جفَّت ولا يكون عليك إلا أن تكويها. لا داعي لأن تستيقظي قبل الخامسة والنصف صباحًا (ماتي يبحث بيده عن شيءٍ على المائدة).
إيفا (في فزع) : ماذا؟
فينا : الجريدة.

(إيفا تقفز وتتظاهر بأنها تُقدِّم الجريدة لماتي. ماتي لا يأخذها منها، بل يستمر على الخبط بيده على المائدة.)

فينا : على المائدة!

(إيفا تضع الجريدة أخيرًا على المائدة، ولكنها لم تسحب فردة الحذاء الأخرى بعدُ وماتي يضرب بها الأرض فارغ الصبر. تجلس على الأرض، وعندما تنجح أخيرًا في خلعه تقف متخففةً من هذا العبء، وهي تتنفس الصُّعَداء وتُسوِّي شَعرها.)

إيفا : لقد حِكْتُ المريلة بنفسي، وهذا يضيف بعض الألوان إليها، أليس كذلك؟ من الممكن دائمًا إضافة الألوان، ولا يكلف هذا كثيرًا، المهم أن يفهم الإنسان كيف يفعل ذلك. هل تُعجِبُك يا ماتي؟

(ماتي ينظر إليها متألمًا بعد أن عَطَّلَته عن قراءة الجريدة التي يدعها تسقط من يده على الأرض. تصمت في فزع.)

فينا : لا تتكلَّمي وهو يقرأ الجريدة!
ماتي (واقفًا) : أرأيتم؟
بونتيلا : خيَّبتِ أملي يا إيفا.
ماتي (فيما يشبه الإشفاق) : كل شيءٍ ينقصها … الرنجة لا تريد أن تأكلها سوى ثلاث مراتٍ في الأسبوع، الكستبان تنساه. وعندما أرجع إلى البيت في المساء ينقُصها الإحساس الرقيق، على سبيل المثال أن تسد فمها! والآن. إذا دعوني بالليل لأُحضِر العجوز من المحطة، ماذا يحدث؟
إيفا : سترى ماذا أفعل. (تتظاهر بأنها تذهب إلى النافذة وتصرُخ بسرعة) ماذا؟ في عز الليل، ولم يكد زوجي يرجع إلى البيت وهو في أشد الحاجة إلى النوم، الحكاية زادت وفاضت! يستطيع السيد أن يُفيق لِعقلِه في إحدى حُفَر الشارع. لن أترك زوجي يخرج. سأُخفي سِرواله!
بونتيلا : عظيم! يجب أن تعترف بهذا.
إيفا : تُطبِّلون على أدمغة الناس وتزعجونهم من عز النوم؟! كأنهم لم يروا الْمُرَّ طُولَ النهار. زوجي يرجع إلى البيت ويسقط في الفراش كالموتى. سأستقيل! هل هذا أفضل؟
ماتي (ضاحكًا) : إيفا. هذا مجهود رائع. سيطردونني بكل تأكيد، ولكنك إذا فعلتِ هذا أمام أمي فسوف تَكسبِين عَطفها.

(يضربها بيده على مُؤخرتِها وهو يمزح.)

إيفا (تُبهَت أولًا ثم تقول في غضَب) : ارفع يدك!
ماتي : ماذا حدث؟
إيفا : كيف تَسمحُ لنفسِكَ بأن تضربني في هذا المكان؟
القاضي (يقف ويُربِّت على كتف إيفا) : أخشى أنك رَسبتِ أخيرًا في الامتحان.
بونتيلا : ماذا جرى لك؟
ماتي : هل شَعرتَ بالإهانة؟ ألم يكن يصح أن أضربك واحدة؟
إيفا (تضحك من جديد) : بابا، أنا في الحقيقة أشك إن كان الزواج سيتم.
القِسِّيس : هذا هو الواقع.
بونتيلا : ما معنى هذا؟ تَشُكِّين؟
إيفا : بدأت الآن أُصدِّق أن تربيتي كانت فاسدة. سأصعد إلى حجرتي.
بونتيلا : لا بد أن أتدخل. اجلسي حالًا في مكانك يا إيفا.
إيفا : بابا. الأفضل أن أنصرف. لن تحتفل للأسف بخطوبتك، تُصبِحون على خير! (تخرج.)
بونتيلا : إيفا!

(القِسِّيس والقاضي يتأهبان كذلك للخروج، ولكن زوجة القِسِّيس لا تزال تُواصِل حديثها مع الطاهية عن عيش الغراب.)

زوجة القِسِّيس (في حماس) : كِدتِ تُقنِعينني، ولكنني تعوَّدت على تخليلها. إنني أشعر أن هذا أضمن، ولكنني أُقشِّرها قبل التخليل.
لاينا : لا داعي لهذا. يجب عليكِ فقط أن تمسحي الطِّينةَ عنها.
القِسِّيس : تعالي يا آنا. لقد تأخَّرنا.
بونتيلا : إيفا! ماتي. لقد انتهيتُ منها. أجد لها رجلًا، رجلًا عظيمًا، وأهيئ كل شيء لسعادتها، لكي تستيقظ كل صباح وتغني كالقنبرة. أمَّا هي فتعتبر نفسها أرفع من ذلك وتُساوِرها الشكوك. سأطردها (يجري نحو الباب) سأحرمك من الميراث! اجمعي خرقك واختفي من بيتي! هل تظنين أنني لم ألاحظ كيف كنتِ على وشك أن تتزوجي المُلحَق لمجرد أنني أَوصيتُك أن تتزوجيه؟ لأنك عديمةُ الأخلاق، يا زُبالة! لستِ ابنتي بعد الآن!
القِسِّيس : يا سيد بونتيلا. أنتَ لَستَ في وعيك.
بونتيلا : اتركني في حالي! اذهب وأَلقِ مواعظك في كنيستك؛ فليس هناك أحد يسمعها!
القِسِّيس : يا سيد بونتيلا. أنا حصل لي الشرف.
بونتيلا : نعم! اذهبوا جميعًا واتركوا وراءكم أبًا مفجوعًا! لا أدري كيف خلَّفتُ ابنةً كهذه، أضبطها متلبسة بالدعارة مع جرادةٍ دبلوماسية. أية راعية بقر تستطيع أن تقول لها لماذا خلق الله لها مُؤخرتها والعرق يَتصبَّب من جبينه. تنام مع رجلٍ وتلعق أُصبعها كلما رأت رجلًا. (للقاضي) أنت أيضًا لم تفتح فمك الواسع في الوقت المناسب لكي تُقوِّم شذوذها، اختفِ من أمامي!
القاضي : بونتيلا. يكفي ما حدث. اتركني في حالي. إنني أغسل يدي في براءة (يخرج وهو يبتسم).
بونتيلا : هذا ما تعمله من ثلاثين سنة، لا بد أنه لم يَبقَ منهما شيء! فردريك! كانت لك يدا فلاح قبل أن تصبح قاضيًا وتبدأ في غسلهما في براءة!
القِسِّيس (يحاول أن ينتزع زوجته من حديثها مع لاينا) : آنا، حان وقت الانصراف.
زوجة القِسِّيس : لا، أنا لا أضعها في الماء البارد. ولا أُسوِّي الجذع معها. كم من الوقت تتركينها حتى تستوي؟
لاينا : حتى تغلي غَلوةً واحدة.
القِسِّيس : أنا منتظر يا آنا.
زوجة القِسِّيس : أنا قادمة. أنا أتركها تغلي عشر دقائق.

(القِسِّيس يخرج وهو يهز كتفَيه.)

بونتيلا (بعد أن عاد إلى المائدة) : ليسوا بشرًا. لا أستطيع أن أَعُدَّهم من البشر.
ماتي : إن شئت الدقة فهم كذلك. لقد عرفتُ طبيبًا كان يقول كلما رأى فلاحًا يضرب حصانه: ها هو واحدٌ يُعامِله معاملةً إنسانية. لماذا؟ لأن كلمة «حيوانية» لم تكن هي المناسبة في هذه الحالة.
بونتيلا : هذه حِكمةٌ عميقة. كنتُ أتمنى أن أسكر معه. اشرب كأسًا معي. أعجبَتني طريقتك في الامتحان يا ماتي.
ماتي : لا تؤاخذني يا سيد بونتيلا إذا كنت ضربتُ ابنتَك على المؤخرة. لم يكن ذلك جزءًا من الامتحان، بل قصدت منه أن يكون نوعًا من رفع الروح المعنوية! وقد أوضح الهوة التي تفصل بيننا، كما لا بد أنك لاحَظتَ!
بونتيلا : ماتي! لا داعي للاعتذار. أنا ليس لي بنتٌ بعد الآن.
ماتي : لا تكن عنيدًا هكذا! (لزوجة القِسِّيس ولاينا): هل اتفقتما أخيرًا على عيش الغراب؟
زوجة القِسِّيس : ثم تُضيفين المِلح من الأول؟
لاينا : نعم، من الأول (يخرجان).
بونتيلا : اسمع. ما زال الشَّغَّالة يرقصون في الميدان.

(يَسمَع غِناء سوركالا الأحمر آتيًا من ناحية البحيرة):

١

في بلد السويد
كانت تعيش دوقة
جميلة جدًّا
شاحبة جدًّا
يا أيها الصياد!
يا أيها الصياد!
رباط جَورَبي انخلع
رباطه انخلع … رباطه انخلع …
يا أيها الصياد
اركع على الأرض
اركع على الأرض
واربِطْه لي حالًا!

٢

سيدتي الدوقة!
سيدتي الدوقة!
لا تنظري إليَّ
فإنني أخدمك
للقمة العيش.
نهداك بيضاوان
كطلعة الفجر
لكنها الفأس
يهوي بها الجلاد
يومًا على رأسي
باردة … كالثلج
باردة … كالثلج
الحُبُّ ما أحلاه
وما أَمرَّ الموت!

٣

هرب الصياد
في نفس الليلة
ركب جواده
وجرى للبحر
يا أيها الملاح!
يا أيها الملاح!
خذني بقاربك …
خذني بقاربك …
يا أيها الملاح
لآخر البحر …
لآخر البحر …

٤

كانت هناك ثعلبة
تُحِب ديكًا رائعًا
يا حُبي الذهبي
ترى تُحبني
كمثل حبي لك؟
ما كان أجمل المساء
ثم مضى … والفجر جاء
والفجر جاء …
والفجر جاء …
وكان كل ريشِه
مُعلَّقًا على الشجر …
مُعلَّقًا على الشجر …
بونتيلا : أنا المقصود بها. أمثال هذه الأغاني تُؤلمني ألمًا شديدًا.

(يكون ماتي في هذه الأثناء قد احتضن «فينا» وخرج معها وهما يرقصان.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤