الفصل الثاني

الحب

في قلب لم يعرف الحب
وكان الشاب الذي ألقى على عمه الشيخ تلك الأسئلة في نحو الثلاثين من العمر وقد جاء سائحًا لمشاهدة هذه المدن الثلاث التي سمع بها من بلده، وكان رجلًا قد درس علوم المتقدمين والمتأخرين ووقف على المبادئ القديمة والحديثة وصار يطلب ضالته بينها على غير فائدة، فلا المدنيات القديمة كانت تعجبه لأن حقوق الضعفاء كانت مهضومة فيها وبناءَها قائم على القوة والعنف، ولا المدنيات الحديثة كانت ترضيه لأنها جعلت الحياة عراكًا هائلًا وجهادًا عظيمًا بين الناس، وكان وهو في المدرسة قد لمح في ذهنه عصرًا يسميه مؤَرخو اليونان العصر الذهبي، ويسميه كتاب المسيحية عصر الفردوس الأرضي، فبقي منه في فكره أثر كان يحضر فيه كلما رأى زحام الحياة وجهادها بين أفرادها، فلما سمع بهذه المدن الثلاث ومعيشة سكانها في وسط الطبيعة معيشة خالية من أدران الاجتماع ورذائلهُ خيل له أنها بداية العصر الذهبي الموعود به الإنسان في الأرض١ فقال في نفسه: فلنذهبن لمشاهدة تلك البقعة التي ابتدأ بها العصر الذهبي فإنه قد آن للإنسانية في الأرض أن تصل إليه وتجد شيئًا من الراحة بعد جهاد القرون الماضية.

لكن لما سمع الشاب ما حدَّثه به الشيخ عن نزاع تلك المدن الثلاث سقط أمله وخاب ظنه، على أنه كان من الذين يستفيدون من كل شيء، فقال في نفسه: إنني مولع بدرس كل ما له علاقة بتنازع المال والعلم والدين، فربما قدرتُ في هذه المرة على اكتشاف أسرار جديدة بهذا الشأن، بل ربما كان تنازع هذه المدن الثلاث المنصوبة إحداهما تجاه الأخرى كمنجانيق للحرب مؤَديًا إلى حلِّ لهذه المشكلة القديمة.

وبينما كان الشاب يفكر في هذه الأمور إذ سأله الشيخ: متى تدخل إلى هذه المدن يا ولدي حليم؟ فأجاب الشاب: سأدخلها غدًا، فقال الشيخ: وهل تعرف فيها أحدًا يا بنيَّ؟ فتنهد حليم وأجاب مبتسمًا: كلا، فقال الشيخ: لقد رابني في جوابك شيئان: تنهدك وابتسامك، فأصدقني، فزاد حليم في الابتسام وقال: وما يمنع من أن أصدقك لو كنت أعرف فيها أحدًا.

إلا أن حليمًا لبث بعد هذا الجواب مبهوتًا، وقد تنهَّد هذه المرة تنهدًا لم يدع عمه الشيخ يشعر به وشخصت عيناه حينئذ إلى المدينة الشرقية، مدينة المال، ثم انتقلت من مدينة المال إلى حديقة واقعة تجاه القرية على شاطئ النهر عند مدخل السهل، ولما وقع نظره عليها أغمض عينيه كما يغمضهما من لا يريد أن ينظر ما أمامه أو من يريد أن ينظر في داخله صورة نفيسة مخبوءَة فيها، وكان غرض حليم الأمرين معًا.

وكان مع حليم رفيق أكبر منه سنًّا وأضخم منه جسمًا، فلما شاهد حركاته هذه ابتسم له، فتوردت وجنتا حليم لهذا الابتسام لأنه فهم معناه، فخشي رفيقه أن يكون قد أساء إليه بهذه الإشارة فمال نحو أذنه وهمس فيها قائلًا على سبيل المداعبة: أما تظن أن العصر الذهبي قد ابتدأ.

فازدادت حمرة حليم وأجاب صديقه ضاحكًا: مهما كان في عبارتك من التهكم فإنها مقبولة لأنها اختراع حليم.

فقال له صديقه على سبيل المداعبة أيضًا: أنت أجمل يا صاح، ولكن لا تلهِ نفسك الآن بهذا الكلام عن الأمور المهمة، ثم أشار نحو الطريق.

فلفت حليم نظره إلى حيث أشار صديقه فتمشى قلبه في صدره لمنظر رآه بعيدًا، ذلك أنه شاهد خمسة جياد عليهن خمس فتيات يركضن عليهنَّ خببًا، فطار نظره في الحال إلى التي تلبس ثوبًا أبيض بينهن، فرآها تسير في الوسط وهي أخفهنَّ حركة وجوادها أسرع خطًى، فلبث شاخصًا نحوها، أما صديقه فتركه في مناجاته ولم يزعجه هذه المرة بالمزاح الثقيل لأنه كان يعلم أن النفوس الحساسة المخلصة لا تطيق المزاح أحيانًا في بعض الأشياء، ذلك أن المزاح سهمٌ يخدش دائمًا وإن كان خدشه خفيفًا، والرجل الكريم يغار على ما هو نفيس عنده ومحبوب أن يُخدش حتى بوردة، ومن الغريب أن سؤالًا واحدًا كان في تلك البرهة يشغل فكر حليم وفكر صديقه معًا، وهذا السؤال هو: هل تلتفت الفتاة إلى النافذة أم لا، إلا أن حليمًا كان يشك في التفاتها، وأما صديقه فإنه كان على يقين منه، ذلك لأنه رأى منها في البستان الذي شاهداها فيه مع رفيقاتها قبل وصولهما إلى هذه القرية ما لم يرَه حليم منها، وكانت عالمة أنهما سينزلان في ذلك المنزل، ولكن مع ذلك صدق ظن حليم وخاب ظنه هو، فمرَّت الفتاة مع رفيقاتها في الطريق البعيدة دون أن تلتفت إلى النافذة.

كان حليم شابًا كريمًا، وكان قد صرف عمره في مطالعة الكتب وانتقاد أحوال الاجتماع، ومن سوء حظه لم تعرض في طريقه فتاة تريه خطأ ذلك الانتقاد، ولذلك كان حليم إلى تلك الساعة بلا حب، ولكن لا يجب أن يُستدل بهذا القول على أن قلبه كان جامدًا كالحجارة ولذلك لم يتحرك قبل الآن، كلا، إن قلب حليم كان بسلاسة الماء ولطف النسيم ولين الشمع، ولكنه لم يكن يجد في طريقه من تقدر أن تؤثر عليه وتحرك هذا القلب، فهل الذنب ذنبه في هذا الأمر أم ذنب الناس، وكيف تريدون من النار أن تشتعل إذا لم يكن هنالك حرارة للإشعال، أو من الحديد أن يُجذب إذا لم يكن هنالك مغناطيس للجذب، وقد كان يُقال له أحيانًا: كيف يمكن أن تحب وتتزوج إذا بقيت بعيدًا عن الناس كما أنت، هل الحب هواءٌ يطير ويدخل في الأجسام ليأتيك وأنت بعيد عنه بين المحابر والألوان والأقلام، كلا، إذًا فعاشر وساير إن رمت أن تحب، أما هو فقد كان يجيبهم باسمًا: إنني من الذين يقرأُون الرسالة من العنوان ويعرفون الشجرة من الثمرة، فأنا في وادٍ ونساؤُكم وبناتكم في وادٍ، على أنني لست ألوم النساءَ إذا لم يفهمن أخلاقي وعواطفي ما دام الرجال أنفسهم لا يفهمونها، فالانفراد عن هذه الهيئة الباطلة الكاذبة التي نعيش فيها غير مبالين بها ولا بمسراتها ولا بآمالها — لأنها تختلف عن مسراتنا وآمالنا — خير من الانضمام إليها وسريان عدواها إلينا.

ولذلك كان حليم يقابل السيدات بلا مبالاة ولا مجاملة كما يقابل الرجال، وبينما كنت ترى جميع الشبان في الحفلة يطوّفون بكراسيهم أجمل السيدات والبنات ويبذلون جهدهم في خدمتهن كأنهم كلاب صيد لا شأن لهم في الجلسة إلا إحضار ما يطلبنه أو ندامى لا غرض لهم إلا بسطهن وتسليتهن — كنت ترى حليمًا جالسًا في زاوية يضحك من أولئك وهؤلاء، ويتسلى بمراقبة الحركات الباردة والكلمات الشاردة والنظرات المجاهدة، وعند كل واحدة منها كان يضحك في نفسه ويقول: ما أكذبك أيها الإنسان.

ولكن لما قدم حليم في هذه المرَّة إلى هذه القرية قاصدًا السياحة في المدن الثلاث ووجد في طريقه قبل الوصول إلى القرية تلك الفتاة بين رفيقاتها، تغير وجه المسألة في نظره، والغريب أن هذا الوجه قد تغيَّر بلا سبب مغير أي من غير أن يحادث حليم هذه الفتاة ويختبر أخلاقها ليعرف ما وراء جمالها وهل هي أرقى من بنات بلده حقيقة لتستحق ميله وحبه، فهل ترى كان ذلك التغيير من تأثير السفر على الأخلاق لأنه يهيئها لقبول كل تأثير يعرض لها لأنها تكون في حاجة إليه في غربتها؟ أم ذلك لميل النفوس دائمًا إلى البعيد ونبذها القريب المألوف طبقًا لقول العامة: «الدير القريب لا يشفي»؟ أم ذلك لأن عواطفه المضغوطة في قلبه قد وجدت هذه المرة منفذًا ففاضت رغمًا عنها إذ طال بها عهد انتظار الحب وهو لا يأتي؟ أم ذلك لأن علم حليم بأن تلك الفتاة من إحدى المدن الثلاث قد جعل لها في نفسه مكانًا سنيًّا في الحال فنظر إليها بعين الكمال بعد أن كان ينظر إلى بنات جنسها بعين النقص؟ أم ذلك لأن كهربائية حليم وكهربائية الفتاة قد اتحدتا لأول نظرة؛ لأنهما خُلقا ليتحدا معًا طبقًا لاعتقاد بعض المتقدمين بأن الله يصنع النفوس أنصافًا أنصافًا وأن الحب هو عبارة عن وجود النفس نصفها الثاني المكمّل لها؟

١  ملكوت الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤