الفصل الثالث

المدن الثلاث

مدينة المال، مدينة العلم، مدينة الدين

وفي صباح اليوم الثاني استعدَّ حليم ورفيقه صادق للدخول إلى المدن الثلاث، فنهض حليم إلى ثيابه يصلحها بتأنق خلافًا للعادة، فنظر إليه صديقه وابتسم، فعبس حليم قليلًا وقال له: يظهر أن صحبتك ستكون ثقيلة قليلًا بعد الآن، فأجابه رفيقه: قل ما تشاءُ في ذمي ولومي ودعني أرى فيك ما لم أرهُ قبل الآن، وهو اهتمامك بظاهرك، فقال حليم: وقد رام تغيير الحديث: بأي مدينة نبتدئُ؟ فابتسم رفيقه وأجاب: هل من حاجة للسؤال فإننا سنبدأُ بمدينة المال، ففهم حليم حينئذ أنه انتقل من الرمضاء إلى النار فأجابه ضاحكًا ومتوردًا خجلًا: حقًّا إنك لا تستطيع ترك المزاح.

وما طلعت الشمس في ذلك النهار تبعث إلى الخليقة حرارتها المحيية ونورها المنعش حتى خرج حليم وصادق من القرية وقصدا المدن الثلاث، فوجدا في الطريق الزراع خارجين إلى حقولهم وبساتينهم، والرعاة يسوقون مواشيهم إلى مراعيها الخصيبة وفي مقدمتها ومؤَخرتها الكلاب لحراستها وهم سائرون وراءَها في أيديهم قصب رخيم الصوت ينفخون به نفخًا يذكّر السامع نفخ مزمار الرعاة في جبال لبنان وأوديته أو غناء الرعاة في عصر الإله أبولون لما نزل إلى الأرض وجعل نفسه راعيًا وعلَّم الرعاة أناشيد الآلهة، ثم سارا بضع خطى فوجدا أعمى يستعطي جالسًا تحت سياج بستان على الطريق ووراء السياج في داخل البستان رجل في يده كيس كبير يملأُه من الثمار، والقلق بادٍ على وجهه مما يدل على أنه يسرق تلك الأثمار، ثم بعد برهة شاهدا صيادًا يطارد الطيور ليصطادها رغبة في لحمها ويترك بعد ذلك صغارها تنتظرها في أعشاشها حتى تموت بردًا وجوعًا، وبعيدًا في رأس شجرة منفردة صبي لا يتجاوز عمره عشر سنوات ينصب قضبان دبق للطيور ليمسكها بها، وقريبًا من هذه الشجرة رجلان كل منهما آخذ بخناق رفيقه وهما يتشاتمان ويتضاربان بحدة وجنون كأنهما كلبان يقتتلان على عظمة، وفي الجانب الآخر وراء جذع شجرة فتى يرافق فتاة لا هي أخته ولا هي نسيبته.

فلما شاهد حليم هذه المشاهد قال في نفسه باسمًا: نحن في وادٍ والعصر الذهبي في وادٍ، فإن هذه المصائب والقبائح تدل على أننا قرب مدن كالمدن المألوفة الاعتيادية.

وبعد المسير نحو ساعة وصل الصديقان إلى مدينة المال، فدخلا إليها بلهفة وشوق ليروا داخلها.

وكانت هذه المدينة أكبر المدن الثلاث وأوسعها، وكانت ممتازة عن المدينتين الأخريين بقصورها الشاهقة ودورها الباذخة وجنائنها المحيطة بمنازلها، فلما أخذ حليم ورفيقه يجولان في أسواقها وشوارعها لم يكونا يسمعان إلا نداء الباعة وأصوات التجار ورنين المال يُدفع أو يُقبض ودوي أصوات البضائع تُحمل أو تُنزل، ونظر حليم إلى أهلها نظر منتقد فرآهم بأجسام سمينة وعيون هائمة لا تستقر في مكان لألفتها النشاط والحدّة والتفتيش، وثياب نظيفة مرتبة تدلُّ على سعتهم، فخيل له أنه بين قوم سعداء بمالهم أقوياء بنشاطهم وجدّهم، لكنه كان من الذين لا يكتفون بظواهر الأشياء للحكم عليها حكمًا سديدًا، فقال في نفسه سنرى النتيجة بعد زيارة المدينتين الأخريين.

ومما لا يحتاج إلى بيان أن حليمًا كان يفتش بعينيه كثيرًا عن فتاته لعله يلمحها في نافذة مفتوحة أو شرفة أو حديقة، ولكن تعبه ذهب بلا جدوى، فإنه كان يرى في النوافذ والشرفات والحدائق والطرق كثيرات من الحسان وكلهن كأنهن أقمار فوق أغصان بان، إلَّا أنه لم يقف على أثر لحسنائه، فكان كلما رأَى حسناءَ وظنها إياها ثم ظهرت له خيبة ظنه يردد قول الشاعر:

أَليس عجيبًا أن نكون ببلدةٍ
كلانا بها ثاوٍ ولا نتكلَّمُ

وبعد أن جال حليم وصديقه في مدينة المال ساعتين خرجا منها إلى مدينة العلم، فمرَّا في طريقهما إليها بالحديقة العظيمة الواقعة بين هذه المدن الثلاث وهي ملتقى أهلها ومجمعهم ومتنزههم، فشاهد فيها حليم ورفيقه رهبانًا وقسسًا وشيوخًا وأئمة ورجالًا وشبانًا يحملون بأيديهم كتبًا وصحفًا وهم تارة يقرأُون فيها وطورًا يتأَملون وآونة يتذاكرون، فقال حليم لرفيقه هذه طلائع مدينتي العلم والدين، ثم مرَّا قاصدين مدينة العلم دون أن ينتبه إليهما المقيمون في الحديقة.

ولما وصل حليم ورفيقه إلى مدينة العلم وجدا السكون والهدوء مخيمين عليها حتى إنك لتسمع حين مرورك في الشوارع طنين الذباب في طيرانها، وكانت منازلها صغيرة حقيرة وشوارعها ضيقة، فارتاحت نفس حليم لما وجده من الهدوءِ فيها وقال: أين نحن من جلبة تلك المدينة. غير أن البياض إذا اشتدَّ صار برصًا، ولذلك لم يوغل حليم في المدينة حتى صار ذلك الهدوءُ التام ثقيلًا على نفسه، فإنه لم يكن يسمع حركة ولا يرى شخصًا في الشارع ولا يلمح يدًا ولا وجهًا في النافذة، فكان كأنه في مقبرة أو مدينة أموات لا أحياء، إلا أنه كان أحيانًا في مروره ببعض المنازل يرى شابًا مستلقيًا على سريره وكتابه في يده، أو رجلًا يروح ويجيءُ في غرفته وهو يفكر ويتأَمل كأنه متجرّد عن هذا العالم، أو قارئًا كتابه في يده ولكن فكره يسبح بعيدًا في الفضاءِ الأبدي.

ولو لم يكن حليم ممن ألف هذه الحالات وأحبها لداخلته خشيةٌ منها وعراه نفور عنها، لأن هذا الهدوءَ هدوء الأموات، وذلك الانقباض البادي في وجوه النفر الذي رآه لمما يبعث في النفس شعورًا رهيبًا لمعرفتها أن ما يقع في ذلك الحين في وسط ذلك الهدوءِ الشديد مع ذلك الانقباض الأليم يجب أن يكون أمرًا رهيبًا خطيرًا تقف عنده النفوس رهبة وإجلالًا، والنفس غير مخطئة في شعورها هذا لأن ذلك الأمر هو عبارة عن عراك ونضال بين الأرض والسماءِ، والمعلوم والمجهول، والمادة والروح، والمحدود وما لا حد له، ذلك أن الإنسان الترابي القاصر الضعيف يطلب الوصول بفكره إلى الذي لا يصل إليه فكر، والعقل المحدود يروم الاستيلاء على العقل الذي لا حدَّ له.

وبعد ساعتين خرج حليم ورفيقه من مدينة العلم وقصدا مدينة الدين، وكان حليم يمشي وفكره مشغول للعواطف التي قامت في نفسه حين مروره في مدينة العلم، فهناك تجدَّدت هواجسه كلها وبلغ اضطرابه معظمه، هناك كان ينتظر أن يرى العلم ضاحكًا باشًا لأنه وجد ضالته فإذا به يراه كما عهده منقبضًا مظلمًا يطلب ويفتش عبثًا، فانقبض صدر حليم ونسي في هذه الدقيقة حسناءَه نسيانًا حقيقيًّا، ومن هنا تقدر أن تستدل على أخلاق هذا الشاب استدلالًا مهمًّا وتعرف السبب الذي جاءَ من أجله إلى هذه البلاد، فإن الناس يضعون عادة حبهم فوق كل أمر، وقد وضعه الملوك مرات كثيرة فوق تيجانهم وعروشهم، أما حليم فلم يكن يعرف أحبَّ إليه من أن يعرف.١

ولكن لم يلبث حليم أن دنا من مدينة الدين، وكان يسير إليها وهو مطرق مفكر بكل ما في فكره من القوة، ولكنه ما قرب من باب المدينة حتى سمع أصواتًا شقَّت الفضاءَ وأناسًا بأنغام رخيمة يصيحون من أعالي المآذن: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فالتفت حليم بغتة وقال: هل وصلنا؟ ثم سرّح بصره في المدينة التي أمامه، وكان حينئذ دخول الظهر والمؤذنون يدعون في المآذن إلى الصلاة، فلبث حليم يتأَمل فيهم من بعيد بلذة لا توصف وهو يتبع كل حركة من حركاتهم، وما كاد ينتصف الأذان حتى علت أصوات الأجراس أيضًا من قبب الكنائس، فامتزجت أصوات الأذان بأصوات الأجراس تذكّر البشر في الأرض بالخالق جلَّ جلاله وتنبههم إلى واجباتهم وتنذرهم بأنهم ضيوف في هذا العالم، أما رفيق حليم فإنه ضحك وقال: في بلادنا تستمرّ الصلاة إلى الساعة الحادية عشرة قبل الظهر في يوم الأحد أما في هذه البلاد فالظاهر أنها تستمرّ إلى الظهر، غير أن حليمًا لم تكن نفسه مستعدَّة للضحك في تلك الساعة لأنها كانت تفكر في موضوع أرفع وأسمى، فسرَّح نظره في مدينة الدين بين أصوات المؤذنين الشجية ونغمات الأجراس الرخيمة التي تناجي السماء فراقهُ جمال هذه المدينة بجوامعها النحيفة الجميلة ومآذنها الأنيقة وكنائسها وقبابها المبنية أجمل بناءٍ، وصار يقول في نفسه: هذه مدينة السلام لكثيرين من الناس، هنا مستقرُّ السعادة والراحة لملايين من البشر، هنا وطن الإخاءِ والحب والحرية والسواءِ، هنا مدفن أحقاد الإنسانية ومصائبها ومتاعبها وصغائرها لو كانت تعلم.

ولما دخل حليم إلى مدينة الدين استغرب ما رآه فيها من آثار الثروة والنعمة والغنى، فإنَّ جوامعها وكنائسها — وكلها كانت كنائس وجوامع — كانت مبنية بإتقان وزخرف يستوقف النظر، وكانت شوارعها فسيحة فيها الناس يروحون ويجيئون إلى الجوامع والكنائس ومنها، وهم بين رجال ونساءٍ بأفخر زينة.

فبعد أن جال حليم ورفيقه ساعة في المدينة وشاهدا ما فيها قال لرفيقه: لقد شاهدتُ الآن ما أردت مشاهدته من هذه المدن فهلمَّ بنا الآن نذهب إلى الحديقة التي هي مجمع أهلها ومتنزههم فقد بقي علينا الوقوف على دخائلها بعد أن وقفنا على ظواهرها.

فقال صديقه: ولكن الحديقة تكون خالية في وقت الظهر فأجل إلى المساءِ دخولنا إليها وهلمَّ بنا الآن إلى فندق لنتغدى ونستريح فقد تعبنا.

١  في الحديث: «لا يكمل إيمان المرء حتى لا يعرف أحبَّ إليه من أن يعرف».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤