الفصل الخامس

تمهيد الجلسات الثلاث

رجاء الشيخ الرئيس وشكاوى أهل العلم والدين والمال

وفي المساء برزت الحديقة بالأنوار الساطعة وأقبل الناس عليها من الجهات الثلاث وأكثرهم سكوت كأنهم يفكرون في أمر عظيم، وكانت أشكال ملابسهم تدل على أنهم من طبقات مختلفة بين تجار وعمال وأهل علم وأهل دين، وكان كل فريق مشغولًا عن الفريق الآخر بمناجاة حزبه همسًا استعدادًا للجدال العلني الشديد، وما دخلت الساعة التاسعة مساءً حتى غصت الحديقة بالناس على اتساعها وجلسوا ينتظرون، وكان حليم ورفيقه قد اختارا مقعدًا في زاوية مظلمة قريبة من دكة الرئيس فكانا يشاهدان الحاضرين دون أن يشاهدهما أحد.

وفي الساعة التاسعة والدقيقة الأولى جلس رئيس ذلك الاجتماع على كرسيه، وهو رئيس جمهورية المدن الثلاث، وكان شيخًا جليلًا في نحو الثمانين من العمر وهو بقية الشيوخ الذين عاصروا الشيخ سليمان مؤسس هذه المدن، فلما سكنت الضوضاءُ أخذ يقول:

أيها الأبناءُ الأعزاءُ:

قد عزمتم على عقد ثلاثة اجتماعات كبرى لتتباحثوا في مسائلكم المهمة والمشاكل التي نغَّصت عيشكم وعطَّلت أشغالكم وقسمت قلوبكم وعيالكم، فيسرُّني أنا حاكمكم وأبوكم أن تؤدي هذه الاجتماعات إلى قطع كل ما بينكم من أسباب النزاع والخلاف حرصًا على سعادتكم وعلى عمران مدننا الثلاث التي تعبنا في إنشائها وترقية شؤُونها، إنما قبل الشروع في المباحثة أتمنى من صميم قلبي أمرًا، وهو أن يجتنب كل فريق منكم في أثناءِ كلامه كل قول يسوءُ الآخر فإن الإنسان يستطيع أن يصرّح بأدب ولطف بكل ما توجب عليه مصلحته التصريح به، ولا يجدي العدوان والشدة نفعًا، وإنني أسأل الله أن يوفق أعمالكم ويسدّد آراءَكم وينير عقولكم.

فهنا حصلت ضجة بين بعض من أهل العلم، فانتصب رجل من فريق الدين وقال بصوت جهوري: ماذا؟ هل صرتم تكرهون أن تسمعوا اسم الله أيضًا، فصرخ خمسون عاملًا من العملة كانوا جالسين قرب فريق أهل العلم: كذاب كذاب. فانتصب حينئذ أحد هؤلاء وكان أقربهم إلى العملة وقال مخاطبًا فريق أهل الدين: لا تبدأوا بالعدوان إذا كنتم مخلصين في طلب المسالمة. فقال الشيخ الرئيس حينئذ: لستُ أجهل سبب الضجة التي حصلت بين بعض من الأبناءِ، فإنهم لا يزالون يطلبون ترك المسائل الدينية للجوامع والكنائس ولذلك لا يجيزون لحاكمهم أن يلفظ عبارة دينية في منصبه الرسمي، وأنا على ثقة من أن ذلك لم يكن منهم عن إنكار للمسائل الدينية بل عن رغبة في الفصل بين شؤُون المذاهب المختلفة، ولكني أظن أنهم يُجيزون لشيخ بسني صار قريبًا من القبر أن يستسلم لعواطفه أحيانًا.

ثم قال الرئيس: أما الآن فإننا نسمع الشكاوى التي اجتمعنا للنظر فيها بصدق وحسن نية، ولنعلمن قبلُ نوعها وتفصيلها.

فنهض حينئذ زعيم العملة وقال: إن شكوى العمال من طمع أرباب الأموال، فالعمال يتعبون ويجنون وأرباب الأموال يتمتعون بتعبهم ويتلذذون، فمن العدل أن يشارك أولئك هؤلاء في كل الأشياء.

فنهض النائب عن أرباب الأموال وقال: إن شكوى أرباب الأموال لم تكن من العملة أنفسهم فإننا نحبّ عمالنا كما نحبُّ أولادنا، كيف لا وهم رفقاؤنا وشركاؤنا في أعمالنا، وإنما شكوانا من بعض الطامعين الذين يثيرون خواطرهم علينا ويحرّضون طبقتهم على طبقتنا، فلتفصل الحكومة العمال عن هؤلاء المحرّضين فيستتب السلام بين الجميع.

فنهض رجل من فريق العلم وقال: إذا صحَّ أنه متى رُفعت يد الذين يُسمونهم «محرضين» من بين العمال وأصحاب الأموال فإن السلام يستتبُّ في الحال فقد زال نصف شكوى أهل العلم، وإنما يبقى عليهم في هذا الموضوع أن يبحثوا هل يرافق السلام الذي يحصل حينئذ هناءُ العمال وراحتهم وسعادتهم أم يبقى سلامهم موتًا أدبيًّا وماديًّا كسلام أهل القبور، وإننا معشر أهل العلم نفتخر في هذا العصر بأننا حللنا في هذه المسأَلة محل أهل الأديان وصار همنا الأول التفكير بإنهاض الشعوب وترقيتها بينما نرى أهل الأديان يسلّمون الشعوب بأيديهم إلى الأطماع المختلفة، فكان مثلهم مثل ملوك يخلعون أنفسهم بأنفسهم، ولذلك تراهم يكثرون من التزلف للأغنياء وأرباب الأموال ويجارونهم في كل شيءٍ حتى في ما يخالف مبادئهم الدينية وينقض أساسها ويلهون الشعب في أثناء ذلك بالتدجيل عليه ليشغلوه بالأوهام والأحلام عن مصالحه الحقيقيَّة، فغرض العلم في هذا الزمان تفتيح عيني الشعب وترقية أحواله والضرب على أيدي المدجّلين، وشكواه من كل من يحاول منعه من الوصول إلى هذا الغرض الشريف.

فهمس حينئذ واحد من أهل العلم كان قريبًا من الخطيب في أذن جاره قائلًا: ليت أصحابنا أنابوا عنهم خطيبًا أكثر اعتدالًا من هذا الخطيب فإن مقامًا كهذا المقام لا يفيد فيه غير التأَني والاعتدال، أما رأيت السياسة التي اتخذها نائب أرباب الأموال.

وكان قد نهض نائب فريق الدين فقال: أما شكوانا نحن خدمة الله تعالى فمن أولئك الكفرة الجاحدين الذين يبثون روح ضلالهم وكفرهم في النفوس، فإننا والحق يُقال لولاهم لكنا كلنا في ألف نعمة من الله تعالى، فإنهم بدأوا ضلالهم بيننا بتعليم أولادنا مبادئهم الطبيعية الممقوتة والعياذ بالله، ثم تدرَّجوا منها إلى إنكار المذاهب المختلفة فالوحي وجحود الخالق سبحانه وتعالى، فما دام هؤلاء المفسدون يفسدون عقول الناس فلا سلام ولا راحة عندنا.

فقال الشيخ الرئيس حينئذ: نعم هذه هي الشكاوى المختلفة التي مرَّ عليَّ عشرات السنوات وأنا أسمعها، فأستحلفكم بكل ما هو عزيز مقدس لديكم، أستحلفكم بالشيخ الجليل المحسن إلى هذه المدن والواقف الآن بيننا في وسط الحديقة على تمثاله الرخامي يسمع كلامنا وينظر إلينا، أن تكسروا حدتكم قليلًا وتتباحثوا في مشاكلكم بسلام وأدب، فإننا كلنا يا أبنائي إخوان، وكلنا في هذه الأرض ضيوف وغرباءُ.

أجارتنا إنا غريبان ها هنا
وكل غريب للغريب قريبُ
وأنتم تعلمون أن الإنسان لا يعيش في الأرض عمرين وأن أيامه فيها معدودة، فلماذا لا يصرف هذه الأيام بما يدعو إلى الراحة بدل أن يصرفها في خصام صبياني، هل أن حطام الدنيا وخيراتها الزائلة ومسراتها الفانية تستحق هذا الاقتتال الشديد عليها، أما سمعتم ذلك القول البديع المنسوب لحكيم عظيم:١
أخي خلِّ حيِّز ذي باطلٍ
وكن للحقائق في حيِّز
فما الدار دار مقامٍ لنا
وما المرءُ في الأرض بالمعجز
ينافس هذا لهذا على
أقلَّ من الكلم الموجز
وهل نحن إلَّا خطوط وقعـ
ـن على نقطة وقع مستوفز
محيط السماوات أولى بنا
فماذا التنافس في مركز

فتباحثوا الآن في مسائلكم واذكروا أن عمران مدننا وخرابها متوقفان على نتيجة بحثكم، ولنبدأ أولًا بمشكلة العمال وأرباب الأموال وإن كانت هذه المسائل كلها مرتبطة بعضها ببعض.

١  فيلسوف العرب والعجم أبي نصر الفارابي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤