الفصل السادس

الجلسة الأولى

المال ومشاكله

فساد حينئذٍ في الحديقة سكوت تام لم يُسمع في أثنائه سوى حفيف الأوراق وهمس بعض السيدات اللواتي كن جالسات على مقعد في زاوية مقابلة للزاوية التي جلس فيها حليم ورفيقه، وكان حليم قد بدأ يرمي ببصره إلى هؤلاء السيدات منذ لمح وجودهن هناك لعله يجد ضالته بينهن.

دعوى زعيم العمال

وبعد دقيقة تقدم زعيم من زعماء حزب العمال وقال مفتتحًا البحث:

لقد أحسنتم في تخصيصكم الجلسة الأولى بمشاكل العمال وأصحاب الأعمال لأن هذه أكبر المشاكل في الحقيقة، ومتى حللناها حللنا معها سواها، ولكن لا سبيل إلى حلِّها إلا بطريقة واحدة، وهي إشراك العمال في ربح الأعمال؛ فإننا الآن نخدم أصحاب الأعمال كما يخدم العبد سيده، وأسعدنا حظًّا وأعظمنا قدرًا يتناول في الشهر مائة فرنك، أي يأخذ في السنة أجرة لعمله ١٢٠٠ فرنك، فإذا افترضنا أن عددنا في العمل ٣٠ عاملًا كان مجموع ربحنا جميعًا في العام ٣٦ ألف فرنك، على حين أن ذلك العمل يربح في كل عام مليون فرنك ربحًا مجردًا، وكل هذه القيمة تذهب وتنصبُّ في صندوق صاحب العمل مع أننا نحن السبب في ربحها، فأية عدالة عند الله والناس تُجيز هذا الأمر، وأي دين يرضى بأن يسعى مائة وواحد يأكل.

ولكن فلنترك مسأَلة الربح جانبًا ولننظر إلى مسألة أخرى، وهي أن بين العمال المستخدمين قومًا لا يتناولون في اليوم أكثر من فرنك واحد أجرة لهم، فكيف يمكن أن يكفيهم هذا الفرنك خصوصًا إذا كان لهم أولاد عليهم القيام بأودهم، أليس ذلك عبارة عن ضرب الشقاء والذلة عليهم مدى العمر.

ثم إن العامل قد يمرض وقد يعجز وقد يموت، فماذا يحل به وبعائلته إذا كان قد صرف حياته كلها في خدمة صاحب العمل ولم يعد قادرًا في مرضه وفي آخر عمره أن يكسب رزقه بعرق جبينه، أيموت جوعًا هو وعائلته، أم يدور في المدينة يستعطي.

لذلك نطلب منكم نحن العمال باسم الإنسانية والإخاءِ البشري أن تنصفونا فإننا نحن الأكثرية في البلاد، وبدوننا لا تقدرون أن تصنعوا شيئًا، فنحن نحارب لرد غارة العدو، ونحن نفلح الأرض لنخرج منها القوت والغذاء، ونحن نخدم في دوائر الحكومة والمحال العمومية والخصوصية، ونحن ندير المصانع لصنع المصنوعات ونسج الأنسجة، فحرام أن نصنع كل شيءٍ وعلى ظهورنا تُلقى كل الأحمال ثم تترك الحكومة فريقًا قليلًا من أصحاب الأموال يحتكر منافع البلاد وفوائدها وخيراتها ويسخّر لنفسه الأمة كلها.

فصاح به حينئذ صائح من فريق المال: ولكن ماذا تريدون أن تصنع الحكومة، هل من حقها أن تتداخل بينكم لتجبر أرباب الأعمال على زيادة أجوركم أو مقاسمتكم أرباحهم، ألا تعلمون أن لأصحاب الأموال الحق المطلق في التصرف في أموالهم وأملاكهم كما يريدون، وأن الحكومة لا يمكنها التعرض لحق الملكية لأنه من الحقوق الطبيعية التي لا تُنقض.

فأجاب الخطيب زعيم العمال: هذه شنشنة عرفتها من أخزم، فكأَنكم نسيتم أن هنالك مذهبين متناقضين واحد معكم وواحد عليكم، ومما يحق لنا الفخر به نحن العمال الصغار أن مذهبنا في هذه المعضلة موافق لمذهب جميع شارعي الأديان من موسى إلى يسوع إلى محمد، فإن هؤُلاءِ الكواكب الثلاثة الذين أناروا سماء الشرق والعالم قاطبة لو عادوا اليوم إلينا لكانوا من حزبنا، ذلك لأنهم يعلمون أن كل هيئة اجتماعية تُبنى على ظلم الفئة الكبرى وراحة الفئة الصغرى هيئة فاسدة ستسقط لا محالة، فإذا كان في حزبكم فلاسفة كبار وعلماء أعلام ففي حزبنا من هم فوق العلماء والفلاسفة، ثم هل تريدون منا فلاسفة فاسمعوا رأي الفيلسوف كارل ماكس.

فضحك هنا بعض فريق المال وقال أحدهم: ما شاءَ الله، تستشهدون بأشدّ أنصاركم غلوًّا.

فقال الزعيم: لا، بل نستشهد بفيلسوف من الفلاسفة رأيه يناقض رأيكم في الملكية، فإنكم تقولون: إن أرباب الأموال مطلقو التصرف في معاملهم ومصانعهم ومتاجرهم، أما نحن فنقول لكم مع هذا الفيلسوف: إنكم في خطأ عظيم، فإن معامل الأمة ومصانعها ومتاجرها وأراضيها هي من مرافقها ومنافعها كالأنهر والأبحر والهواءِ، ولذلك لا يجوز أن تكون ملكًا لفردٍ أيًّا كان، بل هي ملك لجميع الأمة، فعلى الأمة إذًا أن تتولى إدارتها بنفسها وتوزع أرباحها بين أبنائها، أي أن الحكومة تجعل نفسها التاجر الكبير الوحيد الذي تنحصر في يده تلك المتاجر والمصانع والمزارع وتستخدم فيها أفراد الأمة وتعطيهم أجرتهم من تلك البضائع نفسها أي من عين المال، كلًّا بقدر حاجته وكفاءته، والعامل يستطيع أن يستبدل البضائع التي تجتمع عنده بأي بضاعة احتاج إليها، هذا ما يراه بعضهم عدلًا وإنصافًا، ونحن لا نطلب منكم كل هذا فإننا نترك لكم مصانعكم ومعاملكم ومتاجركم وأراضيكم، وإنما نطلب منكم أن تعطوا نصف ربحها في كل عام للعمال والمستخدمين الذين تخدّمونهم فيها وتبقوا النصف الثاني لكم.

ولا تقولوا إننا قد طلبنا شيئًا كثيرًا فإننا لا نطلب إلا حقوقنا، لقد كرهت نفوسنا الخدمة بالأجرة كالأجراء، لقد كرهنا هذه العبودية الجديدة التي اخترعها التمدن الجديد، فإذا لم تنصفونا وتريحونا منها فاعلموا أننا نحذو حذو شمشون إذ نأخذ بأعمدة الهيئة الاجتماعية ونشدها قائلين: «علينا وعلى الجميع يا رب»، فيسقط البناءُ علينا وعليكم.

أيها الإخوة، إن نور الشمس ونسيم الصباح وحنان الأمهات ورغد العيش ومسرّات الاجتماع وراحة البال، كلها لم تخلق فقط لأرباب الأموال، فإن الله العادل خلقها لجميع البشر على السواءِ، ونحن معشر الفقراء المساكين من جملة البشر، فانظروا إلينا وارحمونا، صدقونا إن لنا نفوسًا كنفوسكم تتأَلم من المصائب والفقر والشقاء، وإن لنا أولادًا كأولادكم ونساءً كنسائكم يجب علينا سدّ حاجاتهم، صدقونا إن الطبيعة — تلك الطبيعة القاسية الظالمة — لم تخصنا بخواص الجماد، فإنها من — سوء حظنا — جعلت لنا معدًا تتأَلم من الجوع، وقوى تخور إذا لم تُغذَّ، ونفسًا تفضل الجحيم أحيانًا على هذه الحياة، وهذا ما يدفعها مرارًا إلى أقصى حدود الوحشية: كالفوضوية وما أشبهها، ففي أيديكم الآن يا أبناءَ الوطن خراب بلادكم أو عمرانها.

وما سكت زعيم العمال حتى قامت ضجة في صفوف أهل المال فصاح أحدهم: يتهددوننا بالفوضوية، وصاح آخر: لا نخافهم فوراءَنا جيش الحكومة، ولكن لم يلبث أن نهض زعيم أهل المال وأشار إلى رفاقه بالسكوت ثم أخذ يقول:

دعوى أهل المال

أيها السادة:

مسأَلتنا مع عمالنا مسأَلة قديمة منذ وجود الإنسان في هذه الأرض، فمنذ وجد فيها رجلٌ نشيط قوي مدبر عامل ورجل ضعيف ساذج مهمل تسلَّط الأول على الثاني واستخدمه في ما فيه مصلحتهما معًا، وإن هذا الاتفاق بين القوي والضعيف — بين الرأس المدبر الآمر والجسد المدار المأمور — بقي وثيقًا وطيدًا إلى ذلك اليوم الذي قام به الحسد والطمع يحرّضان الضعيف على القوي ويُغريانه بأن يُعطل أعماله إن لم يشاركه فيها، فالحسد والطمع سبب كل هذا الخلاف.

ولقد كان العمال قبلًا يشكون من أن أجورهم قليلة وشغلهم كثير، فإنهم كانوا يعملون من شروق الشمس إلى ما بعد غروبها، وأسعدهم حظًّا كان يتناول فرنكين في النهار، فرأينا أن نخفف عنهم فجعلنا أوقات عملهم ٨ ساعات في النهار١ وأبلغنا راتب الواحد منهم إلى مائة فرنك، ثم أنشأنا لهم منازل صحية رخيصة الأجرة ليقيموا فيها، واعتنينا بنسائهم وأولادهم في أوقات الولادة والمرض، ولكن كل هذا لم يُقنعهم بل تدرَّجوا من طلب إلى طلب حتى وصلوا إلى طلب مشاركتنا في مصانعنا ومتاجرنا ومزارعنا، فإذا أجبناهم اليوم إلى ذلك فإنهم لا يلبثون أن يطلبوا غدًا طردنا منها ليستولوا عليها من دوننا.

فاعلموا أيها السادة أنكم الآن بإزاءِ الطمع والحسد الاجتماعي لا بإزاءِ مظالم بشرية كما يقولون، والويل لحكومتنا ولهيئتنا الاجتماعية إذا تركتموها تخضع للطمع والحسد، ولا ريب عندنا أن حرصكم على مصلحة وطنكم المرتبطة بمصلحة أهل المال والأعمال أشد ارتباط سيجعلكم تردّون دعوى العمال لا محالة.

ذلك أنكم تذكرون ولا بدَّ في هذا المقام أمورًا عظيمة عليها تتوقف حياتنا وحياة بلادنا:
  • الأمر الأول: منزلة أهل المال في الهيئة الاجتماعية، فإنكم تعلمون أيها السادة أننا مصدر ثروة البلاد وحياتها، فبتدبيرنا وسعينا ننشئُ المتاجر الواسعة والمصانع العظيمة والمزارع الخصيبة، وندرُّ على الأمة بها أخلاف الثروة، ولو شئنا أن نحبس أموالنا ونقفل صناديقنا ونبطل سعينا لماتت الأمة في سنة واحدة، والحكومة التي قراطيسها المالية في أيدينا تعرف ذلك حقَّ المعرفة، وإن قيل لكم: إن العملة وأهل العلم سبب هذه الثروة فأجيبوهم: لماذا إذًا لا يستغنون عنا ويتصرفون بهذه الثروة كما يشاءُون دون حاجةٍ إلينا إذا كانوا صادقين، ولكنهم غير صادقين لأنهم يبالغون في نسبة الفضل إليهم، فإنهم بينما يكون الواحد منهم غائصًا في أحلامه وأوهامه يكون فكر الواحد منا حائمًا حول متاجر الأرض ومصانعها يفتش عن ثروة جديدة لبلاده، بينما يكون أحدهم منهمكًا بكتابة مقالة على مائدته (حبر على ورق) أو نظم شعر في غرقته (هباءٌ في الهواء) فإن أحدنا يُسمع الأمة موسيقى أجمل من موسيقى الشعر ويريها جمالًا أبهى من جمال الأدب، أعني به جمال الذهب الذي ينساب من صناديقنا قناطير قناطير وينشر الراحة والسعة والخيرات في طبقات الأمة كلها، فإذا كنتم أيها السادة في غنى عن هذه القوة التي لا تعادلها في الوجود قوة فأخبرونا ذلك ولا تخجلوا منا.
  • الأمر الثاني: حفظ مركز الأمة الصناعي والتجاري والزراعي، فإنكم تعلمون أن المزاحمات الصناعية والتجارية قائمة في الدنيا على ساق وقدم، والنصر النصر في هذه المزاحمات لمن يصنع المصنوعات والبضائع بأرخص الأثمان، فإذا حكمتم علينا بزيادة أجور العمال وتقليل مدة العمل أو إشراكهم فيه كنتم كأَنكم تحكمون بإقفال معاملنا ومتاجرنا لأننا بعد ذلك لا نستطيع مزاحمة المعامل الأجنبية.
  • الأمر الثالث: حفظ شرائعنا المقدسة حفظًا مطلقًا، فإن حق الملكية حق مقدَّس لا يجوز للحكومة مسه، ونحن بموجب هذه الشرائع مطلقو التصرف في أملاكنا ومزارعنا ومتاجرنا، فإذا رامت الحكومة الضغط على حرية الملك نقضت الشريعة والنظام نقضًا يخشى منه بعد ذلك على أساس هيئتنا الاجتماعية.
  • الأمر الرابع: إيقاف تيار الاشتراكية عند حده، فإن هذه الآفة الكبرى قد عظم خطبها وجل أمرها، ولذلك طريقتان بسيطتان: (الأولى) امتناع الحكومة عن المداخلة بين العمال وأصحاب الأعمال لأن ذلك ليس من وظيفتها، (والثانية) إبطال الحكومة جمعيات العملة، أي عدم معرفتها إياها رسميًّا ومنع مداخلتها بين العمال وأصحاب الأموال، فإن الشرَّ كل الشر وارد من هذه الجمعيات التي تحرض العملة وتغرر بهم بوعود باطلة، وهنا مهد الاشتراكية، إذ متى فرَّقت الحكومة هذه الجمعيات استُؤْصلت جرثومة الاشتراكية لسقوط نيرها عن أعناق العمال المساكين وصار أرباب الأعمال يحلون مشاكلهم معهم بكل لطف وسلام.

(فقهقه هنا بعض في صفوف العمال وصاح أحدهم: هذا وعد الهرة للفأْر أن لا تأكله)

فقال زعيم أهل المال من غير أن يجاوبه:
  • والأمر الخامس: هدم التجارة والصناعة والزراعة متى صار صاحب العمل شريكًا لعمَّاله، ذلك لأن هذه الفنون المتشعبة العظيمة تقتضي وحدة الإدارة وإطلاق الإرادة، فمتى كان صاحب العمل مقيدًا بآراءِ عمَّاله فقد خرب العمل لا محالة وخمدت نار النشاط والإقدام الشخصي على الأعمال؛ لأن الفرد لا يعود يخاطر بماله ووقته وذكائه من أجل غيره.
  • والأمر السادس: أن تذكروا أيها السادة أن حكومة بلاد كبلادنا لا يليق أن تُبنى على الأوهام والأحلام ويُلقى زمامها إلى أصحاب التصورات والتخيلات، إن المخلوقات كلها قد خلقها الله طبقات مختلفة، ففيها القوي والضعيف والكبير والصغير والخامل والنبيه، وما الاشتراكية التي تحاول جعل جميع الناس متساوين إلَّا وهم وخيال، فهي تطلب مثلًا أن توزَّع ثروة الدنيا وأراضيها على جميع البشر بالسواء حتى لا يكون فيهم فقير وغني بل يكونوا كلهم في مرتبة واحدة، فهل سُمعت خرافة كهذه الخرافة: وهب أننا وزعنا أموال الدنيا وأراضيها بين الناس بالسواءِ فماذا تكون النتيجة؟ تكون النتيجة أن الكسالى والجهلاء والضعفاءَ والخاملين والمسرفين ينفقون أموالهم ويبيعون أراضيهم بعد مدة وجيزة، فيحصرها ويستولي عليها المجتهدون والمقتصدون وأهل الذكاء والتدبير، وحينئذ تعود الحالة إلى ما هي عليه اليوم ونرجع إلى ما نحن فيه، فهل تريدون ضعضعة أساس الهيئة الاجتماعية من أجل تجربةٍ كل التاريخ البشري في الأرض يشهد بفسادها، كلا، لا تخالفوا نواميس الاجتماع والطبيعة نفسها، إن نواميس الطبيعة الثابتة تُثبت هذا الامتياز بين المخلوقات، ولذلك يأْكل قوي الحيوانات ضعيفها، أية قوة في العالم تقدر أن تساوي بين الذئب والحمَل والهرَّة والفأْر والبازي والعصفور، أية قوة تقدر أن تنقض ناموس تنازع البقاءِ وبقاءِ الأفضل في الأرض، إن هذا الناموس وحده كافٍ لنقض مذهب الاشتراكية، ففي الحياة طبيعيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا القوي يقوم والضعيف يسقط، وهذا سبب انقراض كثير من الأمم وقيام كثير من الشعوب، فمن أراد جرّ القوي من طبقته وإنزاله ليساوي بينه وبين الضعيف كان كمن يهدم قوة الهيئة الاجتماعية ويجعل جميع أفرادها ضعفاءَ خاملين بحجة المساواة بينهم.

ولقد ختم نائب العمال كلامه بذكر كارل ماكس وبتهديده لنا، فنحن نشكُّ في رضائكم عن هذه المبادئ لأنكم تعلمون عقباها، إنكم لا تجهلون أن دعامة مذهب كارل ماكس اعتقاده بأن الحكومات لا يمكن أن تهب الشعب والعمال من تلقاءِ نفسها حق الاستيلاء على مرافق الأمة ومنافعها لأن رجال هذه الحكومات من أهل المال الذين هم في رأْيه أعداء للعمال، ولذلك يوجب على الشعب أن يغتنم إحدى الفرص ويهاجم الحكومة ويستولي عليها، وبعد ذلك يتصرف بها طبقًا لمصلحته من جعل المعامل والمتاجر والمصانع والمزارع ملكًا للأمة نفسها وإعطاءِ أصحابها تعويضًا عنها، فإذا كانت هذه مبادئهم أيها السادة فما هذا التحكيم والرغبة في المسالمة إلا رياءٌ لا ينطلي محالة علينا.

فهم استحلفوكم أيها السادة باسم الإخاء الإنساني أن تجيبوهم إلى طلبهم أما نحن فنستحلفكم باسم دستورنا وعمران بلادنا ومستقبل أمتنا وشرف صيت حكومتنا عند الأمم أن تردوا هذا الطلب.

وما جلس زعيم أهل المال في مجلسه حتى اضطربت صفوف العمال وصفوف أهل العلم المجاورة لها، ثم انفرد أحد رجال العلم وقام، فشخصت إليه جميع الأنظار وأشرقت وجوه العملة لأنه كان معروفًا عندهم، فابتدأَ هذا الخطيب خطابه قائلًا:

دعوى أهل العلم

أيها السادة:

كان في نيتي أن لا أتكلم اليوم بل غدًا ولذلك سمعت كثيرًا من الأقوال والمزاعم التي تقتضي الرد دون أن تتحرك نفسي للرد عليها، غير أن كلمة واحدة لفظها خطيب إخواننا أهل المال في آخر مقاله أثارت نفسي للكلام رغمًا عنها.

فهو أيها السادة استحلفكم في آخر خطابه «بمستقبل أمتنا» أن لا تجيبوا الشعب إلى ما طلب من مشاركة أصحاب الأعمال في أعمالهم، فهذا الاستحلاف «بالمستقبل» أمر مدهش أيها السادة في مسأَلة كهذه المسأَلة، المستقبل! بالله دعوا المستقبل لله، وهل تعتقدون حقيقة أن الإنسانية ستكون في المستقبل على ما هي عليه اليوم من الشقاءِ، أتصدقون أن أكثرية البشر سيبقون في المستقبل عبيدًا وخدَّامًا للأقلية، أيدخل في تصديقكم أن الشعوب ستبقى ضعيفة ضئيلة تحت نير الاجتماع، أقوياؤُها يموتون ضنًى وجهادًا في هذه الحياة لأنهم لا يكادون يقدرون على تحصيل رزقهم ورزق أولادهم، وضعفاؤُها يموتون جوعًا وبردًا في الشوارع والأسواق، وعاجزوها يعاملون معاملة الكلاب، بينما أفراد قليلون في المدينة يجمعون قناطير الأموال.

إذا كنتم تعتقدون حقيقةً بذلك فقد أنكرتم الله وجحدتم العدالة وقررتم الإباحة وبررتم قول من يقول: بطون تدفع وأرض تبلع فلا نظام ولا ناموس.

فصاح حينئذ واحد من صفوف رجال الدين: هذا قول بارد، فإن الإنسان حرٌّ، وله أن يتصرف بحريته كما يشاءُ، ولذلك كان مسئولًا عن أعماله، وما الحيلة بسنة تنازع البقاءِ.

فاستشاط الخطيب حينئذ وصاح مخاطبًا فريق الدين: لله ما أجهلكم.

فأجابه ذاك: لله ما أحمقكم.

فقال الخطيب: نعم نحن نحمق من جهلكم، ألا تعلمون أن سنَّة تنازع البقاءِ هذه سنة وحشية تناقض كل سنة دينية، ألا تعلمون أن السنة الدينية ما وضعت إلا لمقاومتها، ألا تعلمون أن رجال الدين إذا قالوا بها كانوا كأنهم ينتحرون وينحرون مبادئهم.

سنَّة تنازع البقاءِ معناها أن كل واحد من البشر يسعى لنفسه ويجاهد رفيقه ليستأْثر بالمنافع والخيرات دونه، وتكون خاتمة هذا الجهاد أن الأقوى يكون الفائز، والضعيف يُغلب ولا بأْس أن يموت أيضًا؛ لأن الهيئة الاجتماعية في غنى عنه، وبعض المتقدمين كانوا يقتلون أطفالهم الضعفاء وفقًا لناموس بقاءِ الأفضل، فهذه الحالة هي حالة الحيوانات تمامًا أيها السادة، كذا تحيا وتعيش وتموت وتنمو أو تنقرض، فهل صار من فخرنا في تمدننا هذا أن نقتدي بالحيوانات في معيشتها الدنيئة.

فمبدأُ تنازع البقاءِ وبقاءِ الأفضل مبدأٌ فظيع وحشي يهدم كل ما بنته الأديان وكل ما وضعه الفلاسفة وعلماءُ الآداب في الأرض، إذ ما الفائدة من مراعاة الآداب والفضائل ما دامت الطبيعة تسنُّ أن للقوي أن يتمتع بكل قواه، ولماذا توضع الحدود والشرائع لكف الناس آذاهم بعضهم عن بعض ما دام القوي معذورًا في اعتدائه لأنه يعمل وفقًا للناموس الطبيعي، ولماذا تكذب الأديان وتحثنا على الخير والبرّ والرفق والزهد والوئام والسلام ما دام كل هذا مخالفًا لناموس تنازع البقاء، والكلمة العليا هي لهذا الناموس دائمًا، أليس ذلك بمثابة غش للضعفاءِ من أجل منفعة الأقوياءِ.

فرحماكم لا تخلطوا بين الحالة الطبيعية والحالة الاجتماعية، إن تنازع البقاءِ وبقاءَ الأفضل أمران صحيحان في الحالة الطبيعية، وهنالك لا مرد لهذين الناموسين الهائلين، لذلك يأكل القوي الضعيف ويسحق الكبير الصغير كما تصنع الحيوانات الوحشية، أما في الاجتماع فإن الحالة تختلف كل الاختلاف، ذلك أن الحكومة قد أخذت على نفسها من حين عزم البشر على الاجتماع والمعيشة معًا في مدينة واحدة «أن ترفع ظلم القوي عن الضعيف وتمدَّ الضعيف بالقوة ليعيش بأمن وسلام»، وهذا ميثاق معقود بين الحكومة والناس، وبموجبه يعيش في المدن جنبًا إلى جنب الأقوياءُ والضعفاءُ، الأغنياءُ والفقراءُ، المرضى والأصحاءُ، فلزم عن هذا إذًا أن يكون للحكومة حق التداخل لرفع ظلم القوي عن عنق الضعيف كلما شكا الضعيف من الظلم، أي أن وظيفة الحكومة الأصلية التي أعطت على نفسها بها عهدًا إنما هي حماية الضعفاء من الأقوياءِ، أي: مقاومة ناموس تنازع البقاء.

فعلى الحكومة إذًا لا أن تُنزل الأقوياءَ من طبقتهم لمساواتهم بالضعفاءِ بل أن ترفع الضعفاءَ من طبقاتهم لمساواتهم بالأقوياءِ، وهذا أمر ممكن وذلك بالتعليم والتدريب والمساعدة، ومتى حصل هذا وصار جميع أفراد الشعب أقوياءَ بتربيتهم العمومية سقطت حجة الذين يقولون إن البشر نبيه وخامل، وإنه لا بدَّ من تسلط الأول على الثاني كما قال الخطيب.

هذا ما نسميه إصلاح ظلم الطبيعة، على أننا لو كنا حيوانات ضارية نعيش في واسع البر لكان من المحتمل أن نترك الطبيعة تفعل فعلها الذي يحلو لها.

ولكنني أؤَكد لكم أننا لو كنا نعيش في الطبيعة كالحيوانات لما عاش بيننا كثيرون مثل نيوتن، فإن هذا النابغة كان ضعيفًا في صباه إلى درجة الموت، ولم يعش إلا بعناية أمه وعناية الله، ولو عاش بين الأسبرطيين مثلًا لكانوا قتلوه لأنه ضعيف لا يجدي نفعًا فذهب ضحية ناموس بقاء الأفضل وتنازع البقاءِ، وأنتم تعلمون كيف قلب هذا الرجل العلمَ باكتشافاته العظيمة، وذلك يثبتُ أنَّ ناموس بقاءِ الأفضل وتنازع البقاءِ قد يكون أحيانًا ضد ناموس العمران.٢

بقي بعد هذا أن نسأَل: ماذا يصنع الشعب بعد أن يقوى ويتعلم ويتدَّرب؟ هل يعود للاستخدام كالرقيق أم يذهب ويستخدم هو نفسه بعضًا من إخوانه بني الإنسان ويكون سيدًا عليهم فيعمل بذلك عملًا كان هو نفسه يشكو منه؟ لا هذا ولا ذاك، بل على الحكومة حينئذ أن تسلمه معامله ومصانعه ومتاجره ومزارعه، أي أن تشغله فيها تحت إدارتها هي ومراقبتها، وتوزع أرباحها عليه، وفي شيخوخته تعين له راتبًا صغيرًا يكفيه حتى لا يموت جوعًا: هذه كل مطاليبهم أيها السادة، فإذا عرضنا هذه المطاليب على بدوي ساذج لم يدخل المدن قط لاستغرب أن يوجد بين البشر قوم يُنكرونها.

يقولون: إن حق الملكية لا يُنقض، ولكن لماذا تنقضه الحكومة يوم تقرر نزع ملكية الأراضي والأملاك التي تحتاج إليها في مقابلة تعويض تعطيه لأصحابها، فالمعامل والمصانع والمتاجر والمزارع تُنزع ملكيتها ويُعطى أصحابها تعويضًا عنها.

يقولون: إنه إذا قُسمت الأموال والأملاك بين الناس على السواء فإنها تعود تجتمع في أيدي المدبرين المقتصدين، نقول: ليس أحد يطلب قسمتها بالسواء فإن هذا وهم وافتراءٌ علينا وعلى العمال، وإنما نطلب وقف المصانع والمزارع والمتاجر والمعامل للأمة وقفًا لا يجوز بيعه وشراءه لأنه للجمهور، وليس يجوز للجمهور أن يتمتع بسوى ريعه، وتكون الحكومة الوكيلة العظمى لهذا الوقف العظيم.

يقولون: إن ذلك يضعف الهيئة الاجتماعية لأنه يجعل الأقوياء ضعفاءَ، نقول: بل بالعكس إنه يقوّي الهيئة الاجتماعية لأنه يجعل الضعفاءَ أقوياءَ.

يقولون: إن ذلك يهدم التجارة والزراعة والصناعة من قلة الإقدام حينئذٍ عليها وتقييد صاحب العمل بآراء عماله، نقول: إذًا كيف تنجح المشروعات الكبرى التي تديرها الشركات الكبرى، والحكومة أليست حاضرة للمساعدة، وهل نجحت الأعمال التجارية والصناعية والزراعية من غير تنشيط الحكومات ومساعداتها.

يقولون: إن المتاجر تكسد لأنها لا تعود قادرة على مزاحمة البضائع الأجنبية الرخيصة، نقول: إن بضائعنا ترخص أثمانها حينئذٍ بدل أن تغلو لأن الحكومة لا تطلب ربحًا منها تخزنه في صناديقها.

يقولون: إن ذلك يضر بالحالة الحاضرة، فنقول: ولكن هل تريدون أن نخون المستقبل ونؤَخره حفظًا للحالة الحاضرة.

المستقبل، لقد عدنا للمستقبل، إننا نريد في المستقبل حياة أفضل من حياتنا الآن، فإنَّ أعصاب الإنسانية الآن كلها متوترة متهيجة، كل واحد لا يأْتمن أخاه على أقل الأشياء، كل واحد يحذر أخاه حذره من الذئاب الضارية، وما ذلك إلَّا لذلك المبدأ الملعون الذي انبث في نفوسنا وهو مبدأ تنازع البقاءِ، مبدأ طلب الفائدة للذات بكل الطرق وإن أضرَّ ذلك بالغير ضررًا عظيمًا، فنحن نريد بدل هذه الإنسانية المضطربة المتشنجة إنسانية هادئة مطمئنة متمتعة بأمن وسلام بنعم الأرض والسماءِ، وهذا لا يتمُّ مع النظام الحاضر والحالة الحاضرة لأن الإنسان لا تهدأُ نفسه ويسكن جأشه وتتلطف أخلاقه إلا إذا صار أمينًا على رزقه، ولا أمن على الرزق ما دام الأقوياء متروكين على الضعفاءَ يمتصون دماءَهم والضعفاء يزمجرون ويزبدون في سرّهم حسدًا وطلبًا للنقمة.

ولقد سمعت الخطيب الثاني يتهكم على العلم وأهله ويقول: إن أهل المال هم المحسنون إلى الهيئة الاجتماعية بقناطيرهم الذهبية، فهذه دعوى غريبة لأنني كنت أظن أن المال يسمم الآن هيئتنا الاجتماعية تسميمًا.

وليس سبب هذا السم المال نفسه ولكن الطريقة التي يُستعمل بها، فإن طلاب المال لا غرض لهم في مصانعهم ومتاجرهم ومزارعهم سوى «ربح أكثر ما يمكن ربحه بكل الطرق» ولذلك نظلمهم إذا أردنا وضع قواعد أدبية ورمنا منهم حفظها في معاملاتهم، إن طلب المال والأدب لا يجتمعان، ولذلك قيل: «لا يُعبد ربان: الله والمال»، وهذا بخلاف ما لو كانت تلك المصانع والمزارع والمتاجر في أيدي الحكومة، فإنه لما كان أساس كل حكومة عادلة الفضيلة المطلقة، وكان غرضها حماية الضعفاء لا جمع المال، فإنها تنبو بالطبع عن الروح التجاري الإفرادي الذي يسمم الهيئة الاجتماعية اليوم ويبثُّ فيها روح الفساد بدل روح الإصلاح والإحسان الذي أشار الخطيب إليه.

وروح الفساد هذا ظاهر في كل مكان، فإن النفوس اليوم لم تعد تعرف نظامًا غير الذهب، ولا فضلًا لغير الذهب، ولا قيمة لغير الذهب، انظروا إلى أعمالهم لا تجدوا لها غرضًا غير جمع الذهب والظمأ إلى الذهب، ولذلك صار كل شيءٍ يُشرى ويباع عندهم بالذهب، فالاستقامة والأمانة: كلام فارغ لأن المقصود جمع الذهب. الآداب والفضائل: حلية العاجزين لأن الحلية الحقيقة حلية الذهب، الضمير والذمة والشرف والمبادئِ الأزلية والرفق بالناس ومحبة القريب وصنع الخير والله: دعنا منها كلها فما هي إلا حبائل نصبها الساسة والشارعون لإخضاع الشعوب، والحقيقة أن كل شيء دون الذهب. فما هذه الحالة الهائلة التي ترتعد منها فرائص الإنسانية أيها السادة، هذه هي جهنم الحقيقية، هذه هي الهاوية السافلة التي يلقون فيها كل ما هو محبوب وكل ما هو مقدس وكل ما هو جميل وكل ما هو عزيز عندنا، وهم يسمون هذا الأمر سعة وثروة وخيرات ونعمًا، وأما أنا فأسميها فظاعة وجنونًا وهوسًا وشراهة ونهمًا وقبضًا على الهواء.

وقد قلت «قبضًا على الهواء»؛ لأن طالب الذهب يرى وهو على فراش الموت في يومه الأخير في ساعته الأخيرة أنه سعى وتعب وجدَّ عبثًا؛ إذ ماذا عمل؟ وأي فائدة له مما جناه؟ هل كان يأكل كل يوم ألف كبش كما تهكم عليه اليازجي، أم كان يكتفي بكسرة من الخبز وقطعة من اللحم كما كان يأكل جاره الفقير، وما يعمل أولاده بتلك القناطير المقنطرة التي تركها لهم، هل ترى جمعها قطعة قطعة من كل طريق وبكل الوسائط ومن كل الجيوب لكي يرى عدم فائدتها في ساعته الأخيرة وعجزه عن أخذ شيء منها معه، وحينئذ يتمثل له الأشخاص الذين امتصها منهم في حياته، والدموع التي جرت من بعضهم، والغضب الذي ثار في بعضهم، والعرق الذي انصب من بعضهم في سبيل خدمته، فيرى أن حياته كانت حملًا ثقيلًا على البشر، وفي هذه اللحظة الأخيرة يفهم معنى قول الماليّ المشهور كارنجي غريبة الغرب: «سيأتي يوم يكون فيه كل غني يموت دون أن يفرّق أمواله موصومًا عند الناس بوصمة العار»، فيغطي حينئذ عينيه بيديه ويقول: لم يبقَ لي غير رحمة الله، ولكن الله لا يرحمه إلا إذا كان يهب في تلك اللحظة نصف ماله للفقراء والمساكين: أي أن يعيد نصف ماله للأمة التي أخذه منها. وعلى خلاف ذلك مَنْ لا يجعل غرضه في حياته مقصورًا على جمع المال، بل يطلب غرضًا أشرف موافقًا لمصلحته ومصلحة الهيئة التي يعيش فيها معًا.

وهذا الغرض الأشرف هو حفظ النظام في الأرض والمساعدة على حفظه، فإن البشر لا يمكن أن يعيشوا براحة في الأرض من غير شرائع تحكمهم، وهذه الشرائع منها سياسي وديني واجتماعي وأدبي، ومجموعها نسميه «النظام» أي الشريعة المطلقة التي تدخل فيها كل الشرائع، وحفظ النظام أول ما يجب على الإنسان الذي يستحق أن يُسمى إنسانًا، وكل مَنْ يخرق هذا النظام يخرج عن حدود الإنسانية، ولكن كيف يُخرق هذا النظام؟ يُخرق بطرق عديدة، فالصانع الذي يغش صناعته والزارع الذي يغش زراعته والتاجر الذي يغش تجارته إنما يخرقون ذلك النظام لأنهم يخدعون إخوانهم بني البشر ليربحوا منهم أكثر مما اعتادوا ربحه، وصاحب العمل الذي يستخدم العمال في عمله بأجرة قليلة بالنسبة إلى ربحه، وصاحب الأموال الذي يضايق مديونيه، والسيد الذي يسيء في معاملة مسوده لأنه لا يعظمه بقدر ما يريد أن يُعظَّم، كل هؤلاء أيضًا يخرقون حرمة النظام الاجتماعي لأن الرفق والرأفة أساس هذا النظام، فأنتم ترون أن «حفظ النظام» و«جمع المال» نقيضان لا يجتمعان وضدان لا يأتلفان، فأين ما قاله الخطيب من أن الهيئة الاجتماعية لا تستغني عن أهل المال.

كلا ثم كلا، إن الهيئة الاجتماعية تحتاج إلى المال لا إلى أهل المال، والمال متى عاد إلى صندوقه الحقيقي انحصر في يد الحكومة، أما الذين لا يمكن للهيئة الاجتماعية أن تستغني عنهم فهم أهل العلم، هم حفظة هذا النظام الذين نشير إليه، هم الذين يطرحون أنفسهم بين الإنسانية المقتتلة على حطام الدنيا وخزعبلاتها ليسمعوها كلمة المحبة والرفق والألفة، ويذكروها بزوال هذه الأباطيل، هم الذين يولدون فقراء ويعيشون فقراء مفتخرين بفقرهم لأن قناطير الأموال التي تُجمع في الصناديق إنما تُجمع من دماءِ بني جنسهم، إما من التسفل لأقويائهم أو الضغط على ضعفائهم، هم الذين تراهم مع فقرهم هذا مكتفين قنوعين يستنشقون براحة وهناء هواء جوّهم النقي من جراثيم الرذائل والفظائع التي تسمم جوّ غيرهم، هم الذين يطبقون أعمالهم على أقوالهم فلا يظلمون ولا يخدعون ولا يتسفَّلون، فكأنهم أعمدة شامخة نصبها الله بيده الأزلية في هذه الأرض ونقش عليها فضائل أديانه بكتابات جديدة وطرق جديدة بعد أن فسدت الأعمدة الأولى التي نقشها عليها أولًا بفساد قلوب الرجال الذين كانوا يحرسونها.

هذا ما يُقال في العلم حافظ «النظام المطلق» في الأرض، بقطع النظر عما كان له من الفوائد العلمية كالاكتشافات والاختراعات التي أحيت التجارة والصناعة والزراعة ولولاه لما كانت الآن على جزءٍ من تقدمها الحاضر.

فمن الغريب أن يهاجمنا أهل المال وينكروا فضل العلم ونعمته بعد كل ما صنعه العلم للهيئة الاجتماعية.

أما حكمكم في مشاكلنا هذه أيها السادة فليكن كما تشاءون ولكن علينا أن نذكركم بأن الدنيا كلها تنتظر حكمكم بشوق شديد لترى إلى أي درجة وصل العدل في الكرة الأرضية.

ولما جلس الخطيب تزحزح الشيخ الرئيس ونظر في ساعته ثم قال بصوت جهوري: إنني مسرور لأننا سمعنا أقوال الخطباء الثلاثة بكل هدوءٍ وسكينة، فهل ترون أن نتباحث الآن فيها.

فنهض واحد من فريق رجال الدين وقال: بل أرجو أن نترك البحث في كل المشاكل إلى ما عبد سماع أقوال باقي الخطباءِ.

فهزَّ بعض من فريق العلم رؤُوسهم لأنهم علموا أن هذه حيلة عليهم، وقال الشيخ الرئيس: إذًا نعقد غدًا الجلسة الثانية.

١  سبق البرلمان الإنكليزي سائر الأمم بتعيينهِ في العام الماضي ساعات العمل في المناجم ٨ ساعات فقط، وهذه المسألة يهتم بها العمال في كل مكان اهتمامًا عظيمًا، وينكرها أصحاب الأعمال لأنها تعطل أعمالهم.
٢  لأن الفضل في الطبيعة والقوة هي القوة البدنية التي عليها مدار ناموس تنازع البقاء وبقاء الأفضل وأما في الاجتماع فقد تغيرت هذه القوة وصارت عقلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤