الفصل الثاني

مناهج الإستطيقا

(١) مسائل تمهيدية

لا يوجد منهج لوضع منهج للإستطيقا:

هل يمكن أن يكون للإستطيقا منهج؟ بل هل ينبغي أن يكون لها منهج؟

(١-١) الصوفية الإستطيقية le mysticisme esthétique

يفضِّل الصوفيون على الدوام الوقوف موقفًا سلبيًّا، ويرون أن الذكاء وحده لا يكفي لفهم الجميل حق فهمه وإنما يجب أن نضع أنفسنا خارج الذكاء (أو على حدِّ تعبيرهم: فوق الذكاء) في حالة الانجذاب l’extase التي هي تكشُّفٌ غير عقلي للحقائق فوق الحسية. ولا يصل إلى هذه الحالة حسب رأي أفلوطين Plotin إلا «الموسيقِي والعاشق والفيلسوف»، «إن الفن عبادة» كما يقول رسكن Ruskin.
ويبدل البرجسونيون المعاصرون الانجذاب بالحدس intuition ولكنهم يصلون إلى نفس النتيجة السابقة؛ أن تشرح الجمال وتفسِّره هو أن تحياه، هو أن تنفعل به في أعماق نفسك، أما تحليله فهو إذابةٌ وقتلٌ له.

والحدس وكذلك الانجذاب يتجاوزان ويودان أن يتجاوزا حدود «الحق والباطل، الخير والشر، الجميل والقبيح» كما يتصورها العامة والعلماء. ومعروف أنه ليس هناك منهج يتجاوز حدود العقل، ومن المستحسن ألا يكون هناك منهج من هذا النوع. إن الإستطيقا يجب أن تأتي من القلب لا من العقل، وإن علم الجمال إلهام وليس تفكيرًا.

(١-٢) الانطباعية L’impressionnisme

يقول أناتول فرانس: «إن في الإستطيقا — أي هناك في السحب بعيدًا عن الواقع — يكون الجدال أكثر وأحسن منه في أي موضوع آخر، وعليك هنا أن تكون حذرًا.» وليس من شك في أن هذا الرأي يمثِّل نزعةً نصف تشككية في الإستطيقا un demi-septicisme «هل ينبغي ألا يكون هناك إستطيقا ولا نقد؟ لست أقول هذا، وإنما يجب أن نعرف أننا بإزاء فن، وأنه يجب أن نضع فيه العاطفة والحسن وهما شيئان لن يكون بدونهما فن. إن سحر كليوبطرة ورقَّة سان فرانسوا الأسيزي Saint François d’Assise وشِعر راسين لا يمكن تحويلها إلى قوانين، وإن كانت هذه الأشياء لتدخل في نطاق علم من العلوم؛ فإنه سيكون علمًا مختلطًا بالفن، علمًا إلهاميًّا قلقًا يعوزه الكمال على الدوام.»
فالإستطيقا إذَن من شأن الفن لا من شأن العلم. وقد قدَّم لنا أناتول فرانس وجول ليميتر A. France, J. Lemaitre نماذج جميلة جدًّا لهذا الفن، إلا أن مذهبيهما يتَّصفان بالسلبية. لكن برجسون يقول: ليست الحياة أقل سرًّا وخفاءً من الفن، ونحن في ميدان الحياة إذا أردنا أن نفهم عملية الهضم أيحسن أن نشرِّح المعدة أو أن نكتفي بأن نهضم وحسب؟ فلنتمتع إذَن بانطباعاتنا الشخصية؛ فإن هذا حسن، وإن حاولنا أن نتعدى التمتع إلى الفهم؛ فهذا أحسن.

ومن جهة أخرى نلاحظ أننا نثبت الحركة عندما نسير، ونثبت العلم عندما نعرف، وكذلك فنحن نثبت الإستطيقا العلمية عندما نفسر الأحكام التقييمية للفن وشروطها التكنيكية.

(٢) الإستطيقا التجريبية١

إذا تساءلنا هل ينبغي أن تكون دراسة الجميل دراسة قياسية déductive أو دراسة استقرائية inductive؛ فإن ذلك سيكون سوء وضع للمشكلة؛ ذلك أننا في أيامنا هذه لا يفصل العلم بين المنهجين كما كان الحال في الفلسفة المدرسية scolastique. إن العلم اليوم يضمهما متساندَين في الاستدلال التجريبي، وعلينا أن نختبر الآن الدور الذي يلعبه التجريب في الإستطيقا.
قدم عالم الطبيعة المعروف فخنر Fechner مناهجه التجريبية الإحصائية المعروفة «السيكوفيزيقية» لقياس الشدة الذاتية والنوعية لإحساساتنا عن طريق قياس مثيراتها؛ لأن هذه المثيرات موضوعية وكمية، هي وحدها، ولذلك يمكن قياسها.
وقد بحث فخنر أيضًا في قياس شدة اللذة الإستطيقية الباطنية الشخصية عن طريق تجارب منظمة تنظيمًا منهجيًّا على أساس أشياء تُحدث هذه اللذة، وتكون لهذه الأشياء صفات ومميزات إستطيقية يمكن قياسها ماديًّا. وقد سُمي هذا المنهج «الإستطيقا السفلية» l’esthétique d’en bas أو «الإستطيقا التجريبية»؛ وذلك كردِّ فعلٍ مضاد «للإستطيقا العلوية» l’esthétique d’en haut القديمة التي كانت ميتافيزيقية أو قياسية قبلية والتي كانت نوعًا من «الميتاإستطيقا».

ولكي يمكن الوصول إلى قوانين كلية يجب أولًا الاهتمام بتبسيط التجارب التي يحيطها التعقيد المعروف في الموضوعات الفنية بهالةٍ من الإبهام. ويجب بعد ذلك أن نُخضع لهذه التجارب عددًا كبيرًا من الأفراد العاديين حتى نستبعد خصوصيات الأذواق الفردية الاستثنائية أو الشاذة التي تحول دون استخلاص «العلاقات الضرورية النابعة من طبيعة الأشياء». ويمكننا — على العكس — بإحصاء النتائج الجماعية، إقامة النموذج الوسط العادي للذوق ثم المنحنيات البيانية التي تمثل تغيراته.

ولنأخذ هذا المثال: لماذا تبدو لنا أبعاد نافذةٍ ما مستطيلة الشكل أكثر استحسانًا من أبعاد نافذة أخرى؟ لنبسط أولًا التجربة. إننا نقيِّم هذه النافذة بالقياس إلى نوافذ أخرى وبالقياس إلى الواجهة وإلى أقسام كل مصراع. وهذه المجموعة من الأشياء التي تبدو لأول وهلة بسيطة هي في الواقع معقدة غاية التعقيد. وعلى ذلك فإننا في التجربة — أي بعد التبسيط — لن نشاهد إلا مستطيلات منعزلة اختيرت اختيارًا منهجيًّا لتكون موضوعات للاختبار، ويُطلب إلى كل فرد مختبَر ألا يفكر إلا في العلاقات بين أبعادها وحسب، وأن يستبعد من ذهنه كل تطبيق عملي ممكن لهذه المستطيلات (كأن تكون بطاقات، أو إطارات صور مثلًا)؛ ذلك أن هذه الأفكار المتواردة الخارجة عن الميدان الإستطيقي تعقد أو تزيد في تعقيد الأحكام التقييمية التي هي موضوع التجربة.

ولأول وهلة يمكن أن نظن أن العلاقات بين أبعاد هذه المستطيلات أشياء لا دلالة لها. ولكن الأمر في الواقع ليس كذلك؛ فقد اتفقت الإحصاءات المتكررة على وجود نوع من الاستحسان النسبي للمربع، ومن الاستقباح الواضح للمربع المطاول، وعلى وجود شيء من التحقير للمستطيلات المسرِفة في الطول كما لوحظ أن أكثرية التفضيل تحظى بها العلاقة المسماة ﺑ «القطاع الذهبي» la section d’or أو ﺑ «الرقم الذهبي» le nombre d’or «ليوناردو دافنشي» وهي أجمل النسب على الإطلاق.٢
وهذا التفضيل الراسخ بقي سره غريبًا حتى اليوم، وقد ظن أحد السابقين على فخنر أن يثبته نظريًّا لا تجريبيًّا على أساس اعتبارات ميتافيزيقية ورياضية. والواقع أنه في المستطيل الذي يمثل «القطاع الذهبي» نلاحظ أن نسبة الضلع الصغير إلى الكبير هي نسبة الكبير إلى مجموع الضلعَين. وفي عبارة أخرى نقول إن في هذا الشكل المبسَّط نلاحظ وجود الحد الأقصى للوحدة unité منسجمًا مع الحد الأقصى للتباين diversité. ونلاحظ نفس العلاقة أيضًا بين الكميات الثلاث المختلفة التي تمثِّل المعطيات الوحيدة لحكمنا التقييمي. وعلى العكس مما سبق نجد من بين الأشكال المستقيمة أن المربع يمثل كثيرًا من الوحدة، بينما لا يمثل أي نوع من التباين، وهذا يؤدي إلى الرتابة والثقل، أما المربع المشوَّه أو المستطيلات الطويلة جدًّا فإنها تمثِّل كثيرًا من التباين وقليلًا من الوحدة في العلاقات التي ندركها بين أضلاعها، ويؤدي هذا إلى ضعف في بنائها أو قلة في انسجامها.
وهكذا يكون الإدراك المبهم للوحدة مع التنوع variété هو السبب الخفي لتفضيلاتنا التي تبدو في الظاهر مستعصية الفهم. وإن الإستطيقا التجريبية باستخدامها الحقائق والوقائع لتقيم في صلابة ما قد تنبأت به الإستطيقا الميتافيزيقية عن طريق مصادفة سعيدة؛ ولكنها مصادفة يحوطها كثير من صدَف الخطأ وكثير من الفروض التعسُّفية أو عديمة القيمة أشاعتها خرافة الأعداد البسيطة. وسنصادف تطبيقات أخرى أكثر وضوحًا لهذا القانون. المثمر الخاص بالانسجام أو البناء القوي الخاص بالشكل الجيد la bonne forme.

(٢-١) قيمة التجريب في الإستطيقا

إن علمًا وليدًا كالإستطيقا ينبغي أن يستعين بكل المناهج الوضعية، ولكن بعد أن يضع لكل منها حدوده الحقيقية. والمنهج التجريبي الذي نحن بصدده هو بمثابة نوع من «الذرية الإستطيقية» المجردة atomisme esthétique ويذكرنا بعلم الحياة الذي إذا أراد دراسة عملية الهضم مثلًا بدأ بالتحليل المنفصل لكل ذرة من ذرات الأكسجين والأزوت في أعضائنا. وقد أدى هذا التحليل المنفصل إلى ما نلاحظه في الحالة الراهنة لعلومنا من أنه لا يمكن بسهولة لعلم الحياة أن يصل إلى دراسة واقعية واضحة لوظائف المعدة؛ لأن تلك الوظائف لا توجد إلا للجهاز في مجموعه. وبالرغم مما أسلفنا؛ فإن هذه الكيمياء التمهيدية لها قيمتها وفائدتها التي تُنبئ بلا شك بمستقبل غنيٍّ مثمر. والواقع أن فخنر وأتباعه لم يتمكنوا حتى الآن من أن يستخدموا في اختباراتهم سوى بعض الأشكال البسيطة مثل المستطيلات والبيضاويات والمثلثات والصُّلبان ومستقيمات مقسَّمة أو موضوع بقربها نقطة مثل حرف i ومجموعات مركبة فيها نقط كثيرة أو قليلة العدد وسطوح كبيرة أو صغيرة فيها ألوان فاقعة أو باهتة متوازنة بعضها مع البعض، وتؤدي إلى خلق أو تعكير إحساس الفرد بالتوازن عند إيحائها بعلاقات معينة بين الكميات وبمعادلات خاصة بين الكيفيات.
وكان المصور هوجارت Hogarth يفضِّل على الخط المستقيم والخطوط المنحنية الخط المموَّج «خط الجمال» والخط المتعرِّج serpentine «خط الطلاوة la ligne de la gràce».٣وقد استطاع الموسيقيون بعد تجريب ممتاز محقق أن يتوصلوا منذ العصور القديمة إلى العلاقات الكثيرة أو القليلة البساطة للفترات intervalles المتناسقة أو المتنافرة أو النشاز، ولكن هذا المنهج الذي اتبعوه غير صالح للكشف عن الأشكال الأخرى الملموسة في الأعمال الفنية. ذلك أن كل فن هو بوليفونية une polyphonie أي هو تأليف بين عدد من «الأصوات»؛ حيث لا يكون للصوت أو الجزء الواحد منفردًا قيمة كبيرة وإنما تكون قيمته بالنسبة للعلاقات الانسجامية مع الأصوات — الأجزاء — الأخرى.
وبناءً على هذا يمكن القول بأن فخنر قد درس فقط بناء جزءٍ واحد منفصل من «الأجزاء» المكوِّنة للفن، واعتقد آنئذٍ أن عليه أن يهمل إهمالًا منهجيًّا متعمدًا الأجزاءَ الأخرى والبناء الأعلى للكونترابنتو contrepoint الذي تهدف هذه الأجزاء الداخلة فيه إلى إبداع جماله. ومن النماذج التي توضِّح هذا القول: البوليفونية الموسيقية التي وإن لم تكن النموذج الوحيد؛ فإنها تعتبر أوضح النماذج. إن في إمكاننا أن نقول إن كل عمل فني هو لعبة تأليفات ذات بوليفونية أو هو كونترابنتو من بناءات عقلية وتكنيكية ينتج عنها في النهاية بناء البناءات أو البناء الأعلى supra-structure الذي هو الكل في العمل الفني سواء كان هذا العمل الفني موسيقيًّا أو تشكيليًّا أو أدبيًّا٤ وقد أوحت ألعاب التماثُل والمستقيمات والمنحنيات إلى قدماء الإغريق وإلى الفنانين القوطيين واليابان بإحساسات تكنيكية وطرائق فنية تختلف عند بعضهم عنها عند البعض الآخر أكثر الاختلاف في حين احتفظ «القطاع الذهبي» بقيمته المجردة ثابتة لا تتغير بتغيُّر الظروف التاريخية أو الجغرافية للفن. ألا يمكننا إذَن أن نقول إن قيمته «طبيعية» و«خارجة عن الميدان الإستطيقي» أكثر منها «تكنيكية»؟ لا شك أن على الدراسة السوسيولوجية أن تكمل هذا التجريب السيكولوجي المجرد «التحت إستطيقي» subésthetique إن جاز لنا أن نعبِّر هكذا.
والإستطيقا الموضوعية من وجهة نظر أخرى هي إستطيقا سلوكية esthétique de comportement ومع ذلك فعلينا أن نبحث عن المعنى الحقيقي لكل دلالة من الدلائل، وذلك بالقيام بتحليل سيكولوجي وسوسيولوجي للمضمون الشعوري واللاشعوري الذي يوحِي به هذا السلوك بواسطة علامات خارجية. ويوجه هذا التحليل الفكرة الحديثة التي أشرنا إليها والخاصة بالبناءات structures «أو الأشكال» وبالبناءات العليا suprastructure.

وليس من شكٍّ في أن الخطوات الدقيقة التي خطاها المنهج التجريبي لها ثمرتها في الحاضر والمستقبل، ولكنها تتطلب بالضرورة مساندة المناهج الأكثر عملية وحيوية وهي مناهج الملاحظة السيكولوجية والتاريخية؛ فنحن إذا أردنا دراسة لوحةٍ فنيةٍ ما؛ فإن الميكروسكوب سيكون له فائدة هامة؛ ولكنه لن يكون وحده كافيًا لدراستها دراسة كاملة. وإن أحسن معامل الإستطيقا التجريبية حتى الآن هي المراسم وقاعات عمل الفنانين ودور الكتب والمسارح والمتاحف.

(٣) الوقائع والمَثل الأعلى

(٣-١) المنهج الوصفي La méthode descriptive

قدم سنت بيف Sainte-Beuve — منتهجًا في ذلك نهج ديبوس ومارمونتل Dubos, Marmontel — نقده الأدبي على أنه «تاريخ طبيعي للعقول». والمعروف أن التاريخ الطبيعي لا يُصدِر أحكامًا على القيم وإنما يصف وقائع وكائنات ثم يصنفها ويفسرها إن استطاع إلى ذلك سبيلًا ولكنه لا يتعرض إلى الحكم عليها وتقييمها، إن التاريخ الطبيعي علم وصفي نظري speculative يختص بما هو كائن ولكنه ليس تخطيطًا «معياريًّا» normative يختص بما يجب أن يكون.
وقد اعتقد تين Taine هو الآخر أن الإستطيقا في المستقبل لن تكون علمية إلا حين تتخلى عن الحكم على القيم الفنية. «إن الإستطيقا في وقتنا الآن حديثة، وتختلف عن القديمة في أنها تاريخية وليست دجماطية dogmatique أي في أنها لا تعرض مبادئ معينة بل تقرر وجود قوانين … والعلم — وقد فهم على هذا النحو — لن يستبعد هذا ويعفو عن ذاك، بل يقرر ويفسر … إنه يعمل مثل علم النبات، الذي يدرس بنفس الاهتمام وبدون تفريق شجرة البرتقال وشجرة الغار، شجرة الشربين وشجرة البتولا. إن الإستطيقا نوع من علم النبات مطبق لا على النباتات بل على الأعمال الإنسانية.»

وعلى هذا الاعتقاد تحددت صفات الأعمال الفنية على أساس «السلالة والبيئة والعصر». فالفروق التقييمية الوحيدة التي تميِّز عملًا فنيًّا ممتازًا عن عمل آخر تافه، تشبه الصفات «السائدة» والصفات «التابعة» التي تميِّز الفقريات من المحارات حسبما يرتبها علماء الطبيعة بناء على أهمية أو فائدة الصفات وبناءً على تلاقي «النتائج». والجمال والقبح مثلهما مثل الفضيلة والرذيلة «هما منتجات تشبه الزاج «حامض الكبريتيك» أو السكر» أشياء تُوصف وتُفسَّر، تُصنع أو تُباد؛ لكن الحكم عليها شيء لا معنى له قط.

ولكن هذا الامتناع عن الحكم ليس امتناعًا نهائيًّا، «ففي العالم الخيالي — كما في العالم الواقعي — توجد طبقات مختلفة لأن هناك قيمًا مختلفة»، وكل ما هنالك أن قيم الفن هي نفسها قيم الطبيعة؛ «ذلك لأنه يقابل سلم القيم الطبيعية درجة درجة سلم القيم التشكيلية plastique»، «وهذا يعني أن الاتفاق بينهما كامل وأن الصفات المختلفة تجلب معها في العمل الفني القيمة التي كانت لها في الطبيعة». ونستطيع أن نستنتج من المحكَّات السابقة أن أثينا تتفوق على فلورنسا في الميدان التشكيلي في حين تتفوق فلورنسا على البندقية وتتفوق البندقية على باريس الحديثة.٥

(٣-٢) المنهج الدجماطي والنقدي

حيث إن النزعة الطبيعية le naturalisme الشديدة التمسُّك بمبادئها لا يمكنها أن تتنازل عن الحكم على القيم، لماذا إذَن لا نضع في صراحة مثلًا أعلى نحكم باسمه وفقًا للطريقة الدجماطية؟
لاحظ أفلاطون قديمًا أن التجربة لا يمكن لها أن تقِيم مثلًا أعلى idéal بل هي تكتفي بتقرير وجود الحقائق، وأن المثل الأعلى لا يمكنه أن يبرر وجود تعاليم إلا من أعلى عالم علوي، وباسم هذا العلو الآتي عن طريق عقلي سابق على الخبرة a priori. ومعنى هذا أن أفلاطون أدرك في عالم المُثل فوق الحسية جمالًا مطلقًا لا يُرى ولا يُسمع؛ لكن العقل يدركه في شيء من المشقة. وباسم هذا الجمال نحكم نحن على صور الجمال الناقصة الموجودة في عالمنا الأرضي، ونحن نحكم فعلًا باسم هذا الجمال؛ لأننا نحمل في أنفسنا «ذكرى» مبهمة عن هذا المثال ورثناها عن حياة سابقة كنا قد عشناها في موكب الآلهة.
وفي رأي كانط أيضًا أنه من غير الممكن أن نقِيم مثلًا أعلى إلا عن طريق عقلي لا تجريبي، سواء أكان هذا المَثل الأعلى أخلاقيًّا أو إستطيقيًّا. إن المثل الأعلى يفرض نفسه على الوقائع ولا يمكنه البتة أن يصدر عنها. ولهذا عرَّف «الإلزام القطعي» l’imperatif catigorique للواجب في نظره بأنه أمر عقلي سابق على التجربة، وعرَّف قواعد الجميل بأنها رموز لهذه الأخلاقية التي تصدر عنها قوة الرموز الحقيقية. كما أن القانون الخلقي رمزٌ للعالم المجهول الذي لا سبيل إلى معرفته. والإستطيقا عنده نقد للحكم critique du jugement، أي هي تفسير وتبرير للمبادئ اللاتجريبية للذوق. «ليس هناك علم للجميل بل هناك فقط نقد للجميل، ليس هناك علم جميل ولكن هناك فقط فنون جميلة.»
وفي حين كانت الدجماطية القديمة تعتقد في مثَل أعلى «ثابت» «جاهز» كان تلاميذ برجسون يقولون بمثل أعلى أكثر مرونة وحيوية، مثل أعلى «في سبيل التكون qui se fait»، مثَل أعلى تلقائي ساذج يتجدد تجدُّدًا كليًّا في كل لحظة من لحظات حياتنا التي يعبِّر هذا المثل عما ستئول إليه ويعبِّر أيضًا عن عملية الخلق الحر فيها. وهذه الانطباعية الجديدة تعصف بالمثل الأعلى الدجماطي القديم وتحيله إلى هباء من المطلَقات. وهذا لا يمنع أن تكون كل «وثبة حيوية élan vital» خالقة مطلقة على طريقتها.
ونحن نعلم إلى أي صور التطرف والإبهام تنتهي عمليًّا دائمًا الاتجاهات الدجماطية: دجماطية أرسطو وبوالو وبرونتير Brunetière ثم دجماطية المدرسة الأخيرة الذائعة الصيت. أما الدجماطية القديمة فهي تقريظ للتقاليد الميتة، وأما الدجماطية الحديثة؛ فهي تمجيد لنزوة تتحرك اليوم لتموت في الغد. ويتفق الاتجاهان الحديث والقديم على استنكار واستبعاد وعدم فهم كل ما كان خارجًا عنهما. كلٌّ يقول: «لا نجاة في غير المَثل الأعلى الذي أومن به.» إذَن في ميدان الفن تكون الحياة كفرًا لأنها تَطوُّر، وتكون العقيدة الثابتة le dogme هي الموت أو على أقل تقدير تكون النوم.

(٤) المنهج المعياري٦

ينبغي أن نستبقي من المنهج الوصفي والتفسيري نسبيته المنهجية والمنظمة وأن نستبعد منه إنكاره للقيم، وينبغي أن نستبقي من الدجماطية فكرة القيم، وأن نستبعد منها وهم أو خرافة المطلق، وذلك لأن كل قيمة بحكم تعريفها لا توجد إلا بمقارنتها بقيمة أخرى.

والجمع السليم بين الجوانب الإيجابية من هذين المنهجين يؤدي إلى ما يمكن أن نسمِّيه بالمنهج المعياري normative.
وقد أطلق فونت Wundt هذا الاسم — المنهج المعياري — على الدراسة التي تختص بالقيم أو بما يجب أن يكون في مقابل الدراسة الوصفية أو النظرية التي تختص بالوقائع أو بما هو كائن. وتُقابل القيم الإنسانية الرئيسية الثلاث: الحق والخير والجمال، والعلوم المعيارية الأساسية الثلاثة: المنطق والأخلاق والإستطيقا. والفرق بين العلوم المعيارية والعلوم الأخرى هو أن هذه العلوم الأخرى تنتهي إلى قوانين وأحكام واقعية، أما العلوم المعيارية فتصوغ قواعد أو معايير normes أو أحكامًا قيَمية. والإستطيقا لا تقتصر على تقرير ما كان عليه ذوق شخصٍ أو عصرٍ ما — لأن هذا يدخل في اختصاص تاريخ الفنون — وإنما هي تضيف فكرتها عن القيمة المقارنة la valeur comparée لهذا الذوق وسط الأذواق الأخرى.
والفكرة الأساسية في كل علم معياري هي بطبيعة الحال إيجاد نموذج معياري قياسي un type normal نلجأ إلى تحديده إذا أردنا بدافع الاهتمام بإقامة علم وضعي أن نتخلص من التسلط المطلق للاتجريب l’a priori الذي يدَّعي أنه عقلي، وأن نتخلص أيضًا من الحدس العاطفي أو الصوفي. وقد فعل دركايم Durkheim ذلك في علم الاجتماع، ويبدو أن القاعدة واحدة وتسري على كل علم في العالم المعنوي moral أو العالم الحي.
وهناك طريقتان لتحديد المعيار: يحدَّد أساسيًّا بواسطة الوظيفة Fonction ويتحدد عمليًّا عن طريق أخذ المتوسط moyenne.

(٤-١) القيمة السوية La valeur normale

تكون الواقعة سوية أو شاذة بالقياس إلى الوظيفة التي تقوم بها أو التي تفشل في تأديتها في مجموع عضوي. فالمعدة مثلًا أو الرئة تكونان سويتَين أو شاذتَين حسب ما إذا كانتا تقومان بالهضم أو التنفس طبقًا لحاجات الجسم أو على العكس أكثر أو أقل من الضروري أو بطريقة تخالف مطالب الصحة مما يؤدي إلى حدوث متاعب إفراطية أو تفريطية أو انحرافية كما يقول الأطباء troubles en hypes, hypo, para.
وبنفس الطريقة نقول إن العمل الفني تكون له قيمة سوية؛ أي يكون جميلًا عندما يكون مطابقًا لوظائفه النفسية والاجتماعية الخاصة بتحقيق الانسجام l’harmonie أو بالبحث أو التخلي عنه، والخاصة بتكرار الحياة الفردية أو الجماعية وتطهيرها أو السمو بها إلى المثالية، والخاصة أخيرًا بالاستمرار في مرحلة من مراحل التطور التاريخي إذا كانت هذه المرحلة موجودة فعلًا أو بالثورة ضدها إن ظلت فعَّالة بعد ظهور المرحلة الجديدة.
وعلى العكس من ذلك يكون للعمل الفني قيمة سلبية أو شاذة anormale أي يكون قبيحًا عندما يفشل في القيام بوظيفة من وظائفه أو عندما يحاول القيام بدور من أدواره في اتجاه خطأ يتعارض مع اتجاه آخر من اتجاهاته.
وعلى هذا نقول إن هناك مبررات للحكم بأن الملحمة l’epopée كانت سوية في العصور البدائية التي ظهرت فيها الإلياذة أو أغنية رولان la chanson de Roland، وأن قيمتها تكون مبهمة في عصر أكثر نضجًا كالذي ظهرت فيه الإنيادة Enéide، وتكون شاذة أو قبيحة مثل المسخة أو المرض الإستطيقي — أو تكون على الأقل ظاهرة بعد أوانها — في عصر أدبي كالذي ظهرت فيه «البوسيل» لشابلان La Pucelle de Chapelain أو منظومة الهزيادة لفولتير.
غير أن البحث العلمي عن وظيفة عضوية لعملٍ فنيٍّ ليس دائمًا بالشيء الميسور، ولهذا نستعيض عنه في الحياة العملية بإقامة متوسط une moyenne يدل دلالة مؤقتة تقريبية على الصحة السوية la santé normale، وهذه الطريقة الأخيرة هي التي سلكها فخنر في دراساته الخاصة ﺑ «القطاع الذهبي».

(٤-٢) القيمة المثالية La valeur idéale

بَيدَ أن المتوسط يخشى أن يكون شيئًا قليل القيمة. ثم إن في ميدان الذوق — أكثر من أي ميدان آخر — نلاحظ أن الصفوة تفوق العامة، لهذا وُجدت فوق القيم المعيارية قيمٌ مثالية.

والمَثل الأعلى الإستطيقي — مثله في ذلك مثَلُ المُثل العليا الأخرى — كان كثيرًا ما يحدد بطريقة عقلية لا تجريبية ويفرض من الخارج على الوقائع. وفي هذه الحالة إذَن يكون تحديد السوي حسب شكل المَثل الأعلى التعسفي الذي سبق تصوُّره. وليس ثمة طريقة للتخلص من هذا التعسف أو النزوة إلا هذه؛ أن نتوصل إلى المَثل الأعلى بحسب ارتباطه بالسوي، ذلك لأن السوي هو الوحيد القابل للتحديد تحديدًا علميًّا أو على الأقل تحديدًا منهجيًّا قائمًا على وقائع معطاة فعلًا.

وهكذا يكون المَثل الأعلى هو سوي المستقبل أو على الأقل هو السوي الممكن وجوده في مرحلة متقدمة من التطور المقدَّر. وهذا التنبؤ الخيالي هو فرض نضعه في اتجاه التقدُّم الذي سيأتي وله من الميزات والعيوب مثل ما لأي فرض آخر. ولا شك أن الناقد الفني أو المؤرخ أو الإستطيقي أو حتى الفنان الذي يحكم على نفسه بنفسه يفترض هذا الفرض بخيره وشره ثم ينتظر أن يحققه المستقبل القريب أو البعيد أو أن تحققه جماهير تخلصت من رواسب الآراء القديمة واعتصمت بخبرة وثقافة أكثر وأقوم. وهذا هو الحكم الذي يلتجئ إليه تحت اسم الأجيال المقبلة والملجأ الذي يلوذ به كل من أدانتهم محكمة الرأي العام المعاصر لهم إدانة عاجلة أو إدانة بعد التأجيل.

وقد ظلت مؤلفات بودلير ونيتشه وباخ وفاجنر لوقت طويل مؤلفاتٍ أُنكرت قيمتها، ولم تكن في حياة مؤلفيها مؤلفات سوية إلا في نظر عدد محدود من المتذوقين. ويمكننا إذَن أن نقول إنها كانت بالنسبة لجمهور زمانها مؤلفات تفيض بمستقبل عظيم؛ أي كانت لها قيمة المَثل الأعلى. إن العمل الفني المثالي هو ذلك الذي يتجاوز جمهوره أو هو ذلك العمل الذي يُحس فيه مؤلفه أنه يتجاوز نفسه في اتجاه التقدُّم؛ فيخلق للمستقبل بدلًا من أن يكرر نفسه. أما العمل الفني الكلاسيكي فهو العمل الذي يتفق مع كل الجماهير أو على الأقل مع أكبر عدد منهم بعكس الأعمال الفنية الأخرى التي تتعرض لتقلبات واسعة تتغير حسب الأذواق. وتعتقد الأعمال الفنية الأكاديمية أو الكلاسيكية الكاذبة القائمة على التقليد والاقتباس أنها خالدة؛ لأنها ولِدت في غير زمانها، وكان من الممكن أن تكون حقًّا مؤلفات سوية لو أنها ظهرت في أجيال سابقة.

وقد يرى البعض أن في إعطائنا للمَثل الأعلى في الفن دَور الفرض في العلم تحقيرًا لشأن المثل الأعلى. غير أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تمكننا من انتشاله من براثن النزوة والموضة وهي أشياء غير لائقة بفن عظيم. وعلينا أن نذكر أيضًا أن الفرض هو خير جانب في شخصية العالم، والمهم أنه ضروري في الميدانَين، ميدان الفن وميدان العلم، بل إنه يكوِّن جانبًا كافيًا إذا نحن تخلينا عن الخرافة الرومانسية القائلة بأن الشخصية هبة من السماء ليس بينها وبين الإنسانية رباط مشترك، وإذا نحن تذكرنا أيضًا إلى أي الملكات يُرجع كلود برنار Claude Bernard الفكرة الرئيسية الموجهة للعالم ذاته، إنه يرجعها إلى «الخيال – العبقرية – العاطفة – الحدس».

(٤-٣) المستويات المختلفة لإستطيقا تكاملية

لكي تقيم الإستطيقا هذه القيم السوية أو المثالية لا يمكنها إلا أن تصبح جزءًا تابعًا لعلم النفس. فالظروف السوية الحاضرة أو المستقبلة لعمل من الأعمال الفنية تعتمد أساسًا على كل العلوم التي يمكن أن تتعاون على تهيئتها وإعدادها.

لنفرض على سبيل المثال أن قطعة ترديدية من البالسترينا Palestrina وضعت موضع التحليل الإستطيقي، سنجد أن انسجاماتها التناسقية يمكن أن تكون موضوع دراسة رياضية بحتة على الطريقة الفيثاغورية، وتكمل هذه الدراسة تجارب فيزيقية أو فسيولوجية على طريقة هلمهولتس Helmholz ثم نطابق مع هذه الأبحاث التفسيرات السيكولوجية للأنغام والمقامات التي قال بها ﻫ. ريمان H. Riemann ودندي D’Indy أو بورجس Bourguès ودنيرياز Denereaz، وفي النهاية لن نفهم القيمة الكلية «أو حتى لنقل: القيم الكلية» لهذا الإلهام إلا عندما نستحيي من التطور الجماعي والديني والإستطيقي «خاصة» اللحظة التي أنتجت بطريقة سوية المدرسة البالسترينية، واللحظة التي جعلتها تقع في النسيان لفترة طويلة من الزمن، ثم اللحظة التي جعلت لها قيمة «مثالية» في نظر جمهور من جماهيرنا الحالية. ولا شك أن هذا التطور الجماعي للأساليب والأذواق يخضع لدراسة علم الاجتماع. ثم إن الترتيب السلمي الذي اتبع آنفًا في تحليل القطعة سوف يوحي حتمًا بتحليل بناءات تكنيكية أخرى مثل الإيقاعات والجرسات والحركات التشكيلية والصيغ اللحنية الجيدة ووزن الشعر ثم معنى ومغزى الأبيات الشعرية المغناة … إلخ.
ثم يبقى بعد ذلك أن نفسر — حسب الطريقة نفسها — التركيب الأعلى لهذه البناءات المتباينة. وهذا البناء هو العمل الفني بعينه؛ وذلك لأن الجمال يتولد من التوافقات الانسجامية «الصناعية، المجهولة، الغريبة، العبقرية، السحرية، الأعجوبية، الإلهية» التي تضمُّ هذه البناءات الشديدة التباين والتي يثير كل بناء منها فينا إحساسًا بصفاته الخاصة النوعية ولكنه يبقى حتمًا دون بلوغ «عتبة الشعور الإستطيقي» la conscience esthétique إذا فصلناها الواحد عن الآخر. أما إذا وفقناها في تأليف كلي فإنها تبلغه. إننا بصدد لعبة تأليفات حرة وصناعية يعتبر بناؤها الأعلى الكل بالنسبة لكل عمل فني في كل الفنون.

والإستطيقا العلمية التكاملية إذَن رياضة أو ميكانيكية ثم فسيولوجيا وسيكولوجيا وسوسيولوجيا على التتابع. إنها علم نسبي إلى أقصى الحدود لأنه يُخضع قيمة العمل الفني لعلاقات عديدة قائمة بينها وبين الحقائق الأخرى وفي كل مستويات الواقع. إن النسبية هي التأليف العلمي بين الدجماطية المطلقة والانطباعية البالغة التشكك.

ولسوء الحظ أدت الحالة الحاضرة لعلومنا إلى أن بعض جوانب الإستطيقا التكاملية المستقبلة لم تستوفِ البحث بعد، ولنأخذ مثلًا فسيولوجية الإيقاع أو فسيولوجية العلاقات بين الكلام والفكر؛ فهي أبحاث ما زالت في دور الطفولة. وسيؤدي هذا القصور إلى أننا سنقتصر في كتابنا هذا على دراسة الأجزاء التي تحتل الدرجات العليا من سلم الأبحاث الذي قلنا به؛ حيث إنها تفترض وجود الدرجات الأخرى وتحتويها احتواءً ضمنيًّا لأن العلوي منها يحتوي السفلي والمركب يحتوي البسيط. ونعني بهذه الأجزاء العليا: الإستطيقا السيكولوجية والإستطيقا السوسيولوجية.

والإستطيقا النسبية المفهومة على هذا النحو السابق لن تدعي وضع أو فرض قواعد مباشرة على العبقرية ولا إعطاء وصفات تؤدي بمن يستخدمها إلى بلوغ الإلهام، ثم إنها لا تعتقد مع ذلك أن عليها أن تمتنع امتناعًا كليًّا عن مباشرة أي تأثير على الذوق أو على عملية الإبداع والخلق وترى أن أثرها لا يمكن ولا ينبغي أن يكون إلا أثرًا غير مباشر أشبه شيء بالإيحاء بفكرةٍ ما ولكنه مع ذلك أثر حقيقي واقعي.

وإن كان قد قيل إن «كل فكر قوة»؛ فإن على الإستطيقا أن تنشر أفكارًا لتكون قُوًى؛ فتقدِّم التفسيرات وتصوغ الأحكام المسببة؛ فإن استطاعت الإستطيقا أن تجعل هذه الأفكار أفكارًا حية؛ فإنها لن تلبث — إذا ما هضمها عقل موهوب — أن تترعرع وتؤثِّر شيئًا فشيئًا على الذوق الذي يُعتقَد في ظاهره أنه شيء تلقائي فطري، ولن تلبث أيضًا أن تصبغ الحماس بألوانها وتدفع بطريقة لا شعورية النشاط والفاعلية.

١  انظر شارل لالو في كتابه «الإستطيقا التجريبية المعاصرة» ص٢٨–١١٥.
Ch. Lalo. L’Esthétique experimentale Contemporalne.
٢  هذه النسبة هي الكسر اللاعقلي حيث «١» يمثل الضلع الصغير و«١,٦١٨» يمثل الضلع الكبير. وكذلك ، ، وهي تقريبات أخرى تصاعدية (قارن بين العلاقات البسيطة بين الأنغام المتسقة الموسيقية les consonances musicales التي توضع بطريقة أخرى: ، ، … إلخ). وقد استخدم فخنر ثلاثة مناهج تجريبية: ملاحظة الأشياء المستعملة والتي يفضلها الجمهور (كملاحظة حجوم الكتب والبطاقات … إلخ)، وبناء أشكال وتحوير هيئتها حسب إرادة الشخص الموضوع موضع التجريب، ثم الاختيار التفضيلي بين الأشكال البسيطة التي توجد في اختبارات القيم الإستطيقية التي تُعدُّ مقدمًا (حتى يمكن الحكم حكمًا فعليًّا على ذوق فرد من الأفراد أو على الذوق الشائع أي الذي يعتبر أحسن ذوق في مجموعة الأفراد المختبرين).
٣  في كتابة «تحليل الجمال» l’Analyse de la Beauté (عام ١٧٥٣م والمترجَم من الإنجليزية إلى الفرنسية عام ١٨٠٥م) ينسب هوجارت إلى هذه الأشكال المصطنعة قيمًا ثابتة ومطلقة ويسميها مؤنثة ويعلن أنها هي الشائعة «الموضة». وهذا ما يجعلها نسبية إلى حدٍّ كبير. إن هذه الأشكال هي في الواقع ما يميِّز الأجسام والكورسهات المرسومة على طريقة فاتو Watteau والأساليب المسماة روكاي، روكوكو، ولويس الخامس عشر أو شبندال rocaille, rococo, Louis XV, Chippendale.
٤  اللوحة الفنية بوليفونية من عدة «أصوات» لا تتوافق مع الطبيعة بقدر توافقها مع أسلوبٍ ما مصطلح عليه؛ هذه «الأصوات» أو العناصر نعني بها السطح وامتداد المنظور والألوان المحلية والصبغة العامة والأنماط الطبيعية والمثالية … إلخ. وإن بيت شِعر جميل هو كونترابنتو شبه موسيقيٍّ مركَّب من أربعة أو خمسة أجزاء رئيسية: إيقاعات، رنينات، روابط منطقية أو نحوية، معانٍ حرفية، إيحاءات شخصية. وتبين إحدى التجارب البسيطة كيف أن صوتًا واحدًا ناشزًا يفقد البيت الشعري قيمته أو يضعفها، ففي بيت مثل:
Poète, prends ton luth et me donne un baiser.
لألفريد د موسيه يكفي أن نبدل me donnedonne-moi وهو التركيب الأصح لغويًّا حتى تصبح البوليفونية نشازًا لا قيمة له؛ ومع ذلك فإن شيئًا من الجانب الفكري خارج النطاق الفني لم يطرأ عليه أي تغيير بهذا الإبدال الذي قمنا به على سبيل التجربة. انظر: Ch. Lalo, l’Analyse esthétique de L’Œuvre d’Art. Journal de Psychologie, 1946.
كذلك في البيت العربي لشوقي:
نحن اليواقيت خاض النارَ جوهرُنا
ولم يَهُن بيَدِ التشتيت غالينا
ثم:
نحن اليواقيت خاض جوهرنا النار
ولم يهن غالينا بيَدِ التشتيت
(المترجم).
٥  انظر: Ch. Lalo: Taine et Zola, Revue bleue 12 et 19 août 1911.
٦  انظر: Ch. Lalo: Introduction à l’Esthétique p. 159–198, l’Art et la Morale, pp. 105–179.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤