الفصل الثالث

التطورات الجمعية للفنون

(١) شروط التطور الخارجة عن الميدان الإستطيقي

(١-١) الفلسفة القديمة للفن

ظن فيكو Vico في القرن الثامن عشر أن ثمة دورات زمنية متشابهة تتكرر باستمرار في تاريخ الفنون. وأتى أوجست كونت فعبَّر عن ذلك بقانونه المعروف ﺑ «قانون الأحوال الثلاث للإنسانية»؛ ذلك أن الفلسفة الوضعية لا ترى في الفن إلا نشرًا شعبيًّا عاطفيًّا للحقيقة العلمية، وأن «الفاعلية الشعبية» هي «المحك الحقيقي للفنون الجميلة». وقد عرَّف هِجل الفن بأنه «ظهور الفكرة l’idée» في صورة مجسمة وحسية؛ تكون رمزية في الشرق، كلاسيكية في اليونان، ورومانسية في الغرب المسيحي. وفي رأي هِجل أيضًا أن «الرأي والرأي المضاد والتأليف بينهما thèse, antithèse, synthèse» هي إيقاعات ثلاثية تنظم سير كل فكرة، وليست هذه الفكرة فكرة شيء معين أو شخص معين بل هي الفكرة ذاتها.
ونحن لن ننتقد هذه النظريات؛ ذلك لأننا نعرف أن «فلسفة التاريخ» القديمة هي ميتافيزيقا علم الاجتماع، في هذه النظريات تختلط القبلية l’a priori المنظمة بالوقائع كما تختلط الإستطيقا بما هو خارج عن المجال الإستطيقي في ارتباك براق يقدم مادة للتفكير ولكن في صورة خطرة. وإن علم اجتماعٍ أكثر وضعية لجدير بأن يستوقفنا أكثر.

(١-٢) نشأة الفنون، البدائيون

درس عدد كبير من علماء السلالات ethnologue، أمثال جروس Groos الفنون عند الشعوب المتأخرة الموجودة حاليًّا، وقام عدد آخر من العلماء بدراسة الفنون في عصر ما قبل التاريخ؛ ذلك العصر الذي خلف لنا بقايا تشكيلية ترجع إلى العهد الأورينياسي. وترجع التحف الممتازة التي لدينا في هذا الميدان إلى العهد المجداليني.
والحق أن قيمة فنون القبائل البدائية لا تتناسب في شيء مع باقي نواحي حضارتهم؛ فهي تتضمن الترف والاستقلال الذاتي. وقد لوحظ أن كثيرًا من عصب الصيادين les clans de chasseurs فنانون ورسامون أكثر امتيازًا من الرعاة ومن الزراع الذين يُعتبرون في مستوى حضاري أرقى منهم. فالمشاهد إذَن أن في المستوى الواحد توجد اختلافات كبيرة في مواهب كل سلالة بالنسبة للتشكيل والموسيقى والشعر.

وهذا الفن البدائي له — تقريبًا على الدوام — غايات دينية أو حربية فهو يشكِّل طواطم طقوسية ويؤلف منشدات سحرية. ولكنه قلما يؤلف لذاته. أما صياغاته الأسلوبية المهوشة؛ فإن لها في الغالب معاني لا ندركها نحن ولا يدركها أصحابها أنفسهم بمرور الزمن. وهذا الفن أخيرًا يحب أن يخلط الأنواع والفنون — على سبيل المثال — في الرقصات الجمعية المسرحية أو الموزعة أوركستراليًّا أو المنشدة أو المؤداة بتعبيرات حركية أو المقنَّعة، وهي كلها الصورة الأكثر بدائية لكل فن، الصورة التي تتولد منها الأنواع المختلفة في المستقبل.

ولهذه الدراسات التي أصبحت الآن مزدهرة أكثر من ذي قبل فائدة تاريخية واضحة. ولكننا لا يمكننا أن نطلب منها رغم تقدمها أن تتوصل إلى الكشف الكامل القاطع عن أصل وطبيعة ووظائف الفن الخاصة. فالأعمال الفنية البدائية التي يمكن أن نعرفها ونرى أنها عريقة في البدائية، بعيدة أشد البعد عن التلقائية وعن السذاجة وعن النقاوة العذرية التي تُنسب إلى مثل هذه الأعمال في بعض الأحيان. هذه الأعمال أعمال لها تاريخ؛ أعمال مرت عليها مؤثرات وهجرات، وأكثر من هذا أنها تكون أحيانًا تدهور فن كان من قبل ناميًا مترعرعًا. ثم إن جانبًا كبيرًا من هذه الأعمال أعمال غير نقية أو خارجة عن المجال الإستطيقي.

فموضوع النشأة المدعاة للفنون البدائية يجب ألا يكون في الإستطيقا الحديثة أكثر من مقدمة — مقدمة لا مناص منها — لملاحظة ودراسة الأشكال الإستطيقية الأكثر تقدمًا ونقاوة. إنها دراسة تمكننا — كما يقول ليفي بريل — من أن نشخص في هذه الأشكال المتقدمة البواقي البعيدة «لفكر بدائي صوفي سابق على المنطق»، ونضيف نحن إلى هذه الأوصاف «وسابق على الإستطيقا». وقد ذكرنا من قبل لماذا لا نبحث في هذه العقلية البدائية وفي نهضاتها المتأخرة عن جوهر الفكر الإستطيقي ذاته.

(٢) قانون اختلاف مستوى القيم الإستطيقية١

منذ قرن من الزمان وديماجوجية إستطيقية منكرة للمراتب مستوحاة من الرومانسية تدعو إلى وضع كل الأنواع الفنية في مستوًى واحد، جميع الأنواع «ما عدا النوع الممل» كما قد قال من قبل فولتير.

يقول هوجو:

«ليس ثمة كلمات وضعية! ليس هناك كلمات عظيمة! لقد ألبستُ القاموس القديم قبعة حمراء!»

ليس من شك في أن الترتيب السلمي للقيم يتطور، ولكن هذا التطور لا يمنع أن يكون من بين القيم قيمة أكثر أو أقل وضوحًا من غيرها وأن يكون هناك فن عظيم وفن وضيع، فن علمي مثقف أي مهذب وفن شعبي، أشكال حية أو موضة وأشكال أخرى محتضرة أو بطلت موضتها. وهذه الظواهر الاجتماعية إستطيقية في جزء منها وخارجة عن المجال الإستطيقية في الجزء الآخر.

لذا كانت إحدى الحقائق البالغة الكلية في التطور الجماعي للفنون هي المرور من شكل معتبر وضيعًا واطيًا إلى مستوًى يعتبر عاليًا أو هو المرور المتبادل من أحدهما إلى الآخر. ثم إن «تطور الأنواع الفنية» ليس فقط عملية تحول transformation فحسب، وإنما هو أيضًا عملية «تغيير في قيم» التكنيكات؛ فإما تقدُّم أو ارتداد أو العكس. والآن لنسأل: هل يمكن أن تظهر صورة من صور الفن ظهورًا مفاجئًا ضمن الفن العظيم لجيل من الأجيال؟ لا شك أنه يمكننا إن حدث هذا أن نراهن في ثقة على أن هذه الصورة من صور الفن كانت موجودة من قبل، موجودة في صورة مبهمة وخصوصًا على مستوًى واطٍ. ففي الحياة الإستطيقية نجد أن ظهور أكثر الأجيال الفنية تلقائية وحدوث الاحتفاءات الكاملة لبعض الاتجاهات ليس إلا قشرة ظاهرية وأن الحقيقة هي أن أمثال هذه الظواهر ليست إلا هجرات من صورة من صور الفن من مستوًى قيمي إلى مستوًى آخر. ففي الميدان الإستطيقي كما هو الحال في الميادين الأخرى «لا يضيع شيء ويفنى ولا يخلق فجأة، وإنما يتحول من صورة إلى أخرى.»
وقد ظل الناس يبحثون زمنًا طويلًا في الأشكال الأدبية للشعر اللاتيني وهي أشكال موزونة عروضيًّا أو مبنية على عدد ثابت من الأقدام pieds أو الشطرات غير المتساوية، ظلوا يبحثون فيها عن أصل الشعر الأدبي الفرنسي وهو شِعر مقطعي أو مبني على عدد ثابت من المقاطع معروف أنها متساوية؛ فذهبت أبحاثهم أدراج الرياح ولم تنتهِ إلى نتيجة لأن هذا التطور الذي انتهى إلى الشعر الفرنسي بدأ بالشعر الشعبي اللاتيني، وهو شعر مقطعي نعرفه أسوأ المعرفة، وكانت حلقة الاتصال بينهما — وهذا احتمال — الأنشودات الطقوسية المسيحية.٢
أما تغير المستوى في الاتجاه العكسي؛ فيُرى في كثير من التدهورات والبقايا الحية؛ فعدد من الرقصات القروية ومن الألحان الشعبية هو في الأصل أشكال قديمة من فنون الصالون أو البلاط، وقد بطلت موضتها منذ زمن طويل في نظر البيئات الأرستقراطية التي سبق لها أن حبَّذتها وبقيت في الأقاليم الريفية البعيدة منكمشة في استعمال محلي. وهذا الكلام يصدق على أغلب القطع التي يقال إنها شعبية في المسرح البريتوتي والباسكي؛ فالقطعة المسماة في «ضوء القمر» هي تأليف النديم الرقيق لولي Lully، والقطع الذائعة في قاعات الموسيقى في مونمارتر الآن ستنتقل بعد بضع سنين وتصبح شعبية لدى الصيادين الفرنسيين في كندا، ولا شك أن ثمة خطأً واضحًا يقع فيه أولئك الذين يمتدحون في أيامنا هذه «الفن الشعبي» الذين يرون في هذه البقايا الحية التي تثقل حمل كل الفلكلورات إنتاجات ساذجة تلقائية فطرية يؤدي استخدامها المنعش إلى «دعوة إلى الطبيعة»؛ وبالتالي إلى تجديد فنِّنا المسرف في العلمية.

(٣) قانون الأحوال الثلاث الإستطيقية٣

إن القانون الكبير للحركة الفنية هو الحاجة إلى عدم النقل حتى يمكن تجاوز عبودية المهنة تجاوزًا يتم عن طريق خلق أشكال جديدة؛ ولهذا فإن كل جيل جدير بالحياة حياة إستطيقية يفضل شيئًا آخر غير الذي كان للجيل السابق. غير أن وضع القانون بهذا الشكل يجعله مبهمًا سلبيًّا؛ لأن الأجيال ينفُذ بعضها في البعض الآخر بواسطة انتقالات غير محسوسة، ويظل اتجاه هذا التطور التحرري الضروري الذي نتحدث عنه بعيدًا عن التحديد بعدًا يجعله غير مناسب لأهواء الموضة إلا أقل المناسبة غير متفق إلا أسوأ اتفاق مع قوانين الفن الحق؛ غير أن تتبع تاريخ التكنيكات يؤدي بنا إلى تدقيق أكثر من هذا.

ولقد قرر أغلب مؤرخِي الفنون المختلفة أن فترات التكوين والنضج والتدهور تتتابع الواحدة بعد الأخرى تتابعات قليلة أو كثيرة الانتظام. وهذه الحقيقة العامة هي ما يمكن أن نسمِّيه قانون الأحوال الإستطيقية الثلاث. إن كل فن سائر في طريق نمو مستقبل استقلالًا ذاتيًّا نسبيًّا لا توقفه أو تغير اتجاهه بعض الأحداث الخارجة عن المجال الإستطيقي، هذا الفن يمرُّ عادة في مراحل ثلاث تتوسطها المرحلة أو العصر الكلاسيكي ويكون العصر قبل الكلاسيكي والعصر بعد الكلاسيكي طرفيها. وأهم ما يميز هذه الفترات الثلاث هو نقاء الأذواق وأمانة التكنيكات وفصل الأنواع ثم صفة الوضوح والعقل التي تتميز بها المؤلفات في العصور الكلاسيكية. أما العصران المتطرفان فيتميزان بالإفراط في الخلط وبانعدام النقاء أو بوجود تأثيرات معقدة مشكوك في ذوقها.

ويعتبر تاريخ الأدب الفرنسي أحد أمثلة النمو الإستطيقي الكامل الذي يمتاز التحليل فيه بأنه أوضح تحليل؛ فلو أخذنا فترة ما قبل الكلاسيكية لوجدناها تمثل العصر البدائي لأغاني المعارك الملحمية ثم نمرُّ بعد ذلك في فترة من التعقيدات الغريبة عند «كبار البلغاء les grands rhétoriqueurs» حتى نصل إلى فترة رد فعل تتجه نحو البساطة والنقاء وهي فترة الممهِّدين للنهضة La Renaissance ويمثلها مثلًا جماعة «البلياد» La Pleiade وهم مدرسة كانت ما تزال مشبعة بكثير من التصنعات الغريبة على عبقرية اللغة.

وقد انتهت هذه الحركات العشوائية إلى العصر الكلاسيكي في القرن التالي، ثم أدت عظمة الكلاسيكيين الكبار — كما هي العادة — إلى ظهور فترة من النقل والخلط الأكاديمي بقي فيها الفن الكلاسيكي حيًّا؛ ولكن حياته لم تكن حياة حقيقية، وكان ذلك في القرن الثامن عشر، قرن شبه الكلاسيكية.

ثم جاء رد الفعل الرومانسي فأعاد الحياة إلى هذا التكنيك المنهوك خصوصًا عندما رفع إلى مصاف الفن العظيم الأنواع الفنية التي قيل عنها في الأجيال السابقة إنها وضيعة. ثم انتهى الهوج والسرف الرومانسي إلى مرحلة تدهور في الفترة التالية التي خلطت في غير تماسك الواقعية والرمزية، وهما اتجاهان شقيقان متعاديان ينتجان مؤلفات غاية في التعقيد.

ثم تنقفل الدائرة بعد المراحل السِّت لهذه الأحوال الثلاث، وتنتهي كل إمكانيات الفهم القديم ولا يكون هناك بدٌّ من السير في تطور جديد بتجديد الاستعمال الفني المألوف للغة وللأنواع أو الأساليب تجديدًا إلى أقصى ما يستطيع الإمكان. والحق أن المحاولات المبلبلة التي يقوم بها كثير من «الفنانين الشباب» توحي وتمهِّد فطريًّا لنقطة بدء جديدة حقًّا؛ فمن أسلوب زنجي أو تلغرافي بدون تركيب نحوي إلى تصنيع الطفولة أو السذاجة الشعبية إلى تعقيدات طبوغرافية أو مزاجات «بربرية» للأنواع الفنية — بل وحتى للفنون ذاتها — إلى شعر حُر ونُظم جديدة لوزن الشعر ثم فوضى دادائية dadaïste وتحللات مستقبلية faturistes وصخاب الوجودية. وتتفرع أمام أعيننا من حركة التدهور التي أعلنتها مدرسة مللارميه Mallarmé لجلجات مؤلمة لفترة بدائية يمكن أن تبدأ منها دورة مقبلة سائرة على نفس الإيقاع الثلاثي مؤسسة على فهم جديد للنثر والشعر لا يمكننا إلا بشق الأنفس أن نخمن أشكالها النهائية.
وهذا الإيقاع الثلاثي ليس جامدًا ولا واحدًا في كل الأحوال؛ فالتتابع الكامل المنتظم للمراحل الست نادرًا ما يلاحظ في التاريخ؛ إذ إنه تحدث عثرات تُوقف التقدُّم وتوجد بقايا حية وارتدادات. وتشهد على ذلك التطورات الملتحمة المتلاصقة للأنشودة الجريجورية وللبوليفونية وللهارموني الحديث.٤ فعندما تدهورَ الهارموني الحديث تبعه من يومنا هذا تخبطات عشوائية ما زالت بعيدة عن الترابط والتماسك، فمن اقتباسات من الموسيقات الشعبية والأمريكية والزنجية والشرقية إلى إدخال دقات جديدة وضوضاءات إلى محاولات للتأليف اللانغمي والعديد الأنغام، كلها محاولات تنبئ بفجر جديد محتمل لعصر بدائي مبني على فهمٍ جديد للأنواع وللمبادئ نفسها في الفن.

وهذه التطورات الكبيرة ليست فردية ولكنها اجتماعية؛ فليست هناك شخصية مهما كانت من العبقرية تستطيع أن تخلق حركة جمعية في جوهرها أو أن تخلق حركة دولية مثل الحركات الكلاسيكية أو الرومانسية أو الأساليب القوطية والنهضية أو الحديثة. في مقدور هذه الشخصية فقط أن تضيف طابعها الشخصي إلى إنتاج هو في أصله اجتماعي.

وهذا التطور خاص بالإستطيقا؛ برغم التداخلات العديدة التي تربطه بتطورات الوقائع الاقتصادية والسياسية والدينية؛ ذلك أن مراحل هذه الإيقاعات المختلفة لا تتفق إلا فيما ندر وبالمصادفة؛ فالامتياز والعظمة الفنية لمدينة البندقية ينبئان بتدهورها التجاري والسياسي. وقد تأخرت الثورة الرومانسية في فرنسا نصف قرن من الزمان عن الثورة السياسية. وحدثت حركة الإصلاح الموسيقي الحديث في اللحن المصاحب حوالي عام ١٦٠٠م؛ أي بعد مضي قرن على الإصلاح البروتستانتي، ذلك الإصلاح الذي لم يُلحق بالنظام البوليفوني الموجود في ذلك الوقت مشتركًا بين الأديان والبلاد كلها إلا فروقًا طفيفة. كما أن حركة الإصلاح الموسيقي هذه لم تحدث إلا بعد قرنين من النهضة الإيطالية في ميدانَي التشكيل والأدب.٥

إن كل عمل من الأعمال الفنية إنما يكون في آخر المطاف نسبيًّا إلى هذا التطور الباطني للفن. وإن آخر سؤال ينبغي علينا أن نسأله لنحدد بطريقة منهجية قيمة من القيم هو: هل العمل الفني آخذ وضع نكوص، أو أنه بقية حية لاتجاه مضى، أو أنه في مكان السوي في لحظة من لحظات الإيقاع الثلاثي للفن؟

وإن أعلى نهاية لسلم العلاقات التي يمكن أن ينتظمها قانون بعد الدراسة السيكولوجية هو المستوى السوسيولوجي، هذا السلم الذي ينتظم كل قيمة فنية أو جمالية في إستطيقا نسبية.

(٣-١) السلطات الثلاث الإستطيقية

إن ألعاب التركيبات البوليفونية للبناءات غير المتجانسة التي هي الفنون تنبع أولًا من التكوين السيكوفسيولوجي لكل فرد لديه هبة لبعض التكنيكات، غير أن التمثيلات الجماعية les reprèsentations collectives تمارَس فيها ثلاث وظائف رئيسية تتجاوز كل شخصية حتى ولو كانت في غاية العظمة. وهذه الوظائف الثلاث هي: التشريعية والقضائية والتنفيذية.
  • السلطة التشريعية: ومَهمتها وضع قواعد اللعب «أساليب – أنواع – مدارس» الخاصة بكل لحظة من لحظات التطور.
  • السلطة القضائية: ومَهمتها الحكم على الجولات الرابحة أو الخاسرة الملغاة أو المغشوشة «جمال – قبح – إسفاف – أكاديمية» وتأكيد النجاحات التي ضربت الرقم القياسي والمباريات التكنيكية «درر الأعمال الفنية الثابتة أو المهدرة القيمة أو التي رد إليها اعتبارها».
  • السلطة التنفيذية: توجيه المكافآت والعقوبات الإستطيقية «نجاح أو فشل حاليَّين، نسيان أو عظمة متوقعة في المستقبل».

ونظرًا لعدم وجود أية وضعية للجمال الخيالي المطلق — الذي هو حدٌّ لا يمكننا إلا أن نهدف إليه ونسلك سبيله على الدوام دون أن نستطيع أن نبلغه أو حتى أن نعرفه، وطبعًا دون أن نستطيع أن نحياه؛ فإن الوظائف الثلاث السابقة هي الضمانات الوحيدة التي يمكن التحقق منها لكل قيم الفن في كل تطوراتها المعاشة فعلًا، وبفضل هذه الوظائف الثلاث لن تكون تقديراتنا خاصة بعقل وحيد في الدنيا «وإلا لكان عقلًا مجنونًا»، بل ستكتسب الموضوعية الوحيدة التي تناسب البناءات الروحية.

١  القانون هنا قانون إمكانية واحتمال لا قانون ضرورة؛ لأنه يتعلق بحقيقة كلية حقيقة عالمية.
٢  أمثلة أخرى: كان فولتير يرى على المسارح الشعبية الفقيرة في البون نيف Le pont-Neuf التهريجيات البشعة les farces monstrueuses المشئومة «للإنجليز البرابرة». وإنَّا لنجدها أيضًا في ذلك الوقت نفسه في روايات الفروسية وروايات المغامرات العاطفية وروايات الجنيات والرعاة والمحاربين أو التي كان يقال عنها إنها تاريخية. لقد بقيت هذه التهريجيات البشعة منذ القرن الثالث عشر الذي خلقها بعد أن «خلق» أغنيات المعارك les chansons de geste والقرن الخامس عشر الذي استعادها حية، ولا يزال الناس يستحيونها ويستعيدونها. فحفظت لها «المكتبة الزرقاء» والتداول الأريافي شعبيتها حتى نهاية القرن التاسع عشر، وكان ذلك في الروايات المسلسلة التي اشتهرت في ذلك الوقت وورثتها Le Grand Cyrus, L’Astrée؛ فكانت جديرة بالوراثة، وكانت الرواية بصفة عامة يُنظر إليها على أنها نوع فني واطٍ، فلما مات العصر شبه الكلاسيكي ضعيفًا هزيلًا تجرأ بعض الشباب الموهوبين على أن يدخلوا في زمرة الفن العالي المتعب عناصر كانت حتى ذلك الوقت موضع تقدير كبير؛ ولكنه كان تقديرًا واطي المستوى، وهذا هو نصف سر نشأة ونجاح الدراما والرواية والغنائية والرومانسية.
وقد تمت البوليفونية في العصر الوسيط بإدخالها في الفن الكنائسي الخاص موضوعات بعيدة عن الدين بُعدًا فاضحًا مثل «الرجل المسلح l’Homme armé»، وكانت ثورة الأوبرا الفلورنسية في حقيقتها — وراء مظاهر الهلينية — استخدامًا للحن الشعبي المصاحب الذي كان العصر البوليفوني يحتقره. ثم المتتابعات les suites التي خرجت منها السوناتا والسيمفونية الكلاسيكية ليست إلا مجموعات من الرقصات التي كان الفن الراقي فيما سبق ذلك يستهجنها. ومن قبيل هذا أيضًا ما يحاوله بعض السيمفونيين الشبان هذه الأيام من مدينة جازباند الزنوج الأمريكيين بتكييفه مع جو الكونشرتات الكبيرة عندنا.
٣  انظر: Ch. Lalo: Esthétique musicale scientifique p. 262–320.
القانون الذي نقترحه هنا يختلف اختلافًا كبيرًا عن «قانون الأحوال الثلاث» الذي قال به أوجست كونت، والذي يودُّ لو ينطبق على كل النظم الإنسانية وفقًا لتسلسل مستقيم يبدأ من أصل الإنسان. غير أن أصل الإنسان هذا يستدعي القول فيه توقع استئنافات وتسلسلات عديدة غير متجانسة؛ تتوازى أحيانًا وتتداخل أحيانًا أخرى وتحدث في أوقات مختلفة في البلاد المختلفة والفنون المختلفة والوظائف الإنسانية العديدة القائمة بذاتها قيامًا نسبيًّا. ولنأخذ مثالًا لذلك العصور التي يسمِّيها مؤرخو الفنون «بدائية» «الملاحم الهندية والإغريقية والفرنسية، وبدائيو التصوير الإيطالي والفلاندري … إلخ.» هذه العصور لا تتطابق إطلاقًا والأنماط الاجتماعية التي توصف بأنها بدائية حسب ما يراه علماء السلالات «قبائل الصيادين الأستراليين والهنود والبوشمان … إلخ.» والحق أنه ينبغي — في سوسيولوجية نوعية نسبيًّا فيما يتعلق بالوظائف الفردية — أن تتميز الوظائف الاجتماعية المختلفة النوعية نسبيًّا بعضها بالقياس إلى البعض الآخر أي الوظائف الاجتماعية التي لا تتصادف نظمها وتطوراتها معًا بالضرورة. وقد أكدت الحربان العالميتان (١٩١٤و١٩٣٩م) الاستقلال الذاتي النسبي للفن. لقد أمكن لمصائب الحرب أن تصيب الحياة السياسية والاقتصادية لكثير من الدول بالاضطراب؛ ولكنها لم تصل إلى مثل ذلك في حياتها الفنية. قد تكون نجحت في إبطاء مجرى هذه الحياة؛ ولكنها لم تتلفها في أعماقها؛ فإن المدارس التي كانت موجودة قبل الحرب ظلَّت بعد أن وضعت الحرب أوزارها.
٤  في البوليفونية الصوتية vocale: البدائيون الفرنسيون، الرواد الفلاندريون، الكلاسيكية البالستربنية، العصر المادريجالي الكلاسيكي الكاذب، الرومانسية البوليفونية عند باخ وهندل، وقد أمكن تفادي التدهور في ذلك الوقت بصعود التلحين القديم «الشعبي كما هو على الدوام، الجريجوري من حيث ما قد صار إليه بعد» إلى مرتبة الفن العظيم في الأوبرا والليد Lied والسوناتا والسيمفونية الحديثة، ومن ناحية النظام الهارموني le système harmonique يعتبر مونتفيرد Monteverde من البدائيين، أما جلوك Glück فرائدًا، وأما موتسارت وبيتهوفن فكلاسيكيَين، ومندلسون Mendelessohn فشبه كلاسيكي، وبرليوز وفاجنر فرومانسيَين، وديبوسي Debussy تدهوريًّا — وسوف نرى من جديد طائفة من البدائيين تنكر بلا شك الثالوث الهارموني القديم «الغمى، السائد، ما دون السائد، tonique, dominante, sous-dominante» وتجتهد في أن تضع محلها «النظم اللانغمية atonal، العديدة الأنغام polytonal، والعديدة الإيقاعات polyrythmique».
٥  إذَن فتطوُّرات الفنون المختلفة لا تسير على الدوام معًا. فقد كان القرن السابع عشر في فرنسا القرن الكلاسيكي للتراجيديا والخطابة، وكان القرن الثامن عشر قرن الأوبرا والسيمفونية. وما زالت فترة التدهور في الأدب والموسيقى المعاصرة مستمرة حتى الآن؛ ولكن العمارة والفنون الزخرفية التي كانت مدفونة نصف ميتة رهينة الخلط والنقل الأكاديمي طوال قرن أو نحوه قد صحَّت وازدهرت ازدهارًا كاملًا منذ جيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤