الفصل الخامس

الرواية الأفريقية وأسئلة النقد

عبَّرت الرواية الأفريقية في المرحلة الحديثة عن قضايا خاصة ظلت عالقةً في المحلي من هموم الإنسان الأفريقي، وجاءت مرحلة ما بعد الاستعمار في تشخيص ترسُّبات الثقافة التي تركها المستعمر في أفريقيا من خلال نخب سياسية وثقافية. حاول الروائي الأفريقي اللعب على أوتار التاريخ والتراث الشفهي؛ لإعادة الكتابة عن أحداث من التاريخ رسمها الكتاب بطرق سردية ممزوجة بالخيال. روايات التجريب وأعمال فوضوية بدأت في عملية الشك، وفقدان الثقة في الرسمي والمروي من جهات معينة؛ مما حدا بالروائي الأفريقي أحيانًا إلى التخلص من قيود التقاليد والعادات، ويلامس القضايا الجزئية، وأحيانًا عودته إلى الذات، ولكل ما هو إنساني عابر للحدود سببه الصراعات والحروب الدامية، كما أسلفت الإشارة إلى روايات أمير تاج السر من السودان؛ فالرواية كلًّا ظاهرة متعددة في أساليبها متنوعة في أنماطها الكلامية، متباينة في أصواتها، يقع الباحث فيها على عدة وحدات أسلوبية غير متجانسة، توجد أحيانًا في مستويات لغوية مختلفة، وتخضع لقوانين أسلوبية.١ هذا النوع من الأجناس الأدبية منح الحكاية الأفريقية قيمةً وميزة عالمية، حتى ظل الروائي الأفريقي يكتب بلغة الآخر؛ إلا أن الصوت ينادي في قراءة مواقف الآخر الذي كان بالأمس مستعمرًا من قِبَل الرجل الأبيض. تجربة أفريقيا في الرواية المكتوبة حديثة، وبالمعنى الشفهي الحكاية متجذرة في ذاكرة الإنسان وتراثه الشعبي. يحكي الناس عن الماضي والذكريات، وتروى القصص من التجارب اليومية وتجارب الأجداد، والطقوس والمعتقدات دليل على الميراث الخصب للحكاية. ففي الغرب الأفريقي نشطت محاولات تأليف الرواية بلغات اليوروبا والهوسا والإيبو، وكلها في نيجيريا، كما نشطت محاولات في الشرق باللغة السواحلية في تنزانيا والكيكويو في كينيا والإتشولية في أوغندا، ولكن هذه المحاولات لم تخرج بعدُ عن دائرة المغامرات الفردية.٢
يكتب النقاد عن دواعي كتابة الرواية بلغة الآخر، رغم المحاولات السالفة الذكر باللغات المحلية؛ إلا أن تعدد اللغات يفتح المجال للكتابة بالإنجليزية والفرنسية وغيرهما، أسرع في الانتشار وتوصيل الرسالة للآخر؛ حيث نالتْ بعض الروايات الأفريقية شهرة واسعة في العالم، وتُرجمت إلى لغاتٍ عدة؛ حتى يمكن القول إن هناك أدبًا أفريقيًّا تبلور في مناطق عدة بدون استثناء. وفي الوقت الحاضر لا وجودَ لشكل أدبي يتمتعُ بالقوة التي تتمتع بها الرواية؛ إذ إننا نستطيع أن نربط بها بطريقة دقيقة كل الدقة، بالعاطفة أم بالعقل، حوادث حياتنا اليومية التي لا قيمة لها في الظاهر، والأفكار والحدس والأحلام التي هي ظاهريًّا أكثر ما تكون بعيدةً عن لغتنا اليومية.٣
الرواية الأفريقية سرد جديد وواقعي في قضايا آنية وتاريخية؛ إلا أن الحبكة وفن السرد يتوقف على آليات الروائي في تقديم المتن الروائي، والتماس تقنيات جديدة في إخراج صورة واقعية ومتخيلة عن الحكاية. إن للأشياء تاريخًا مرتبطًا بالإنسان كذات. يعيش الكاتب تجارب في المكان والزمان، لا يستعاد الحدث بالتفاصيل، كما أن الروائي لم يَعِشِ الوقائع، لكن الإنسان ابن بيئته. هناك عقدة ما شكَّلت معارفَ الذات في بُعدها النفسي الوجداني والاجتماعي والأخلاقي. الأنا المركَّب من أبعاد وسِمات حاضرة في المكان والزمان بالذاكرة والتذكر، الأنا الذي يقيم في أمكنة منتشرة في صحراء ممتدة وشائعة، وطبيعة غنَّاء ومعطاء، وتركيبة سكانية متعددة. ينهل الأدب الأفريقي من الواقعية، وانعكاس الأدب على الواقع. ولو تأملنا مليًّا في الرواية الحديثة لعثرنا على الحدَث المستمد من المكان والزمان، من القبيلة والعشيرة والوطن، زمن ما قبل الاستعمار؛ حيث تنسجم الذوات مع قيمها المحلية، وزمن الاستعمار وما بعده. الأزمنة وإن كانت منفصلة تبدو للروائي متصلةً عندما يتكسر الزمَن في ديمومة وانسياب. تجاري اللغة إيقاع الزمن وتصف المكان وتبني عالمًا روائيًّا من شخصيات متخيلة، تحكي أزمة الإنسان الأفريقي في بيئته. الرواية تجربة أدبية تصوِّر بالنثر حياةَ مجموعة من الشخصيات، تتفاعل مجتمعة لتؤلف إطار عالم متخيل، غير أن هذا العالم المتخيل الذي شكَّله الكاتب ينبغي أن يكون قريبًا مما يحدث في الواقع الذي يعيش فيه؛ أيْ إن حياة الشخصيات في الرواية يجبُ أن تكون ممكنةَ الحدوث في واقع الكاتب. والحياة الروائية حياة ممتدَّة في الزمان إلى حدٍّ ما؛ فقد تمتد إلى سنة أو عدة سنوات، ولا شك أن هذا الامتداد الزمني يؤدِّي إلى توسُّع في التصوير.٤

وليس الزمان وحده، المكان كذلك، الذي يكاد يجمع كل مكونات الرواية؛ لأنه الفضاء الذي تجري فيه الأحداث، وأحيانًا يتخيل الروائي مكانًا مبهمًا غير محدد. إنه يحيل بالذات إلى أفريقيا، الأمر الذي يستدعي أن يكون الروائي الأفريقي على دراية بالفكرة الأساسية المراد تبليغها للقارئ. هذا وتستعصي الرواية المعاصرة على التنميط؛ فهي تروم البقاء منفتحة على احتمالات قابلة للقراءة والتأويل؛ من قِبَل قارئ متمرس بالكتابة وآليات السرد الروائي.

يبقى السؤال كالتالي: إلى أي درجة يُمكن الحكم على قيمة وجمالية الرواية الأفريقية؟ أبو الأدب الأفريقي «أتشيبي» نال من الشهرة الكثير جعلتِ العديد من النقاد والقراء يقرُّون بوجود أدب أفريقي، ونالت روايته الذائعة الصيت «أشياء تتداعى» شهرةً عن المكان المستعاد في الرواية، والهوية الضائعة، وشخصيات حالمة وعازمة مع مجتمع مخترق من قِبَل الرجل الأبيض. أما الروائي وول سوينكا؛ فقد نال كذلك مكانة عالية عند المثقفين، عند تكريس ثقافة الرفض من خلال الكتابات الإبداعية عن الاستبداد والانقسام داخل الوطَن، وتهميش قومية الإيبو. الشهرة تكلَّلت بجائزة نوبل للآداب والصيت العالمي. أما الطيب صالح أيقونة الحكاية في الأدب العربي والأفريقي على السواء، إنسانية الرجل كائنة في حسن الإصغاء للكل والتقريب بين الشرق والغرب، والعودة التامة للمكان منه يستقي الحكاية. كتب بأحرفٍ صادقة عن كل ما يَعتصر قلبه حرقةً من مشاهد في لندن، ومشاهد الحكاية والهوية في القرية. وتبلورت أفكار «مصطفى سعيد» في عملية الالتقاء بدل الغزو الذي لم يكن مفيدًا ومثمرًا في التعريف بأفريقيا وكنوزها.

فالرواية الحديثة باتت توجه قدرًا أكبر من الاهتمام نحو الواقع العادي، وصار الواقع العادي بدوره، أي التجربة المعاشة والمختبرة بكل تفاصيلها الثرية المصحوبة بشدَّة مكثفة، بؤرة اهتمام الروائي الحداثي.٥ القول هنا يسري على آليات السرد الروائي بعيدًا عن السرد الخطِّي، وعن زمن الأبطال والقيم الثابتة التي كانت تتغنى بالبطولات، أو أشياء من هذا القبيل. الفكرة تجسدت عند أتشيبي وغيره في سؤال وجيه عن فقدان الناس القدرة على قتال الرجل الأبيض. دواء الرجل الأبيض كان سريع المفعول وأعطى نتائج هامة في زرع ثقافته. السيف يتبعه القلم، والرسالة التي أراد «أوكونكو» توصيلها للعالم عن أفريقيا وقيمها أصبحتْ من الماضي. كل الأشياء بدأت تتهاوى، وما للأشياء من رمزية ودلالة ساهمتْ في تشكيل كيان الإنسان الأفريقي. حوار ذاتي عميق عن أسباب الإخفاق والسقوط في مخطَّطات الآخر، تدفع الروائي أن يتوارى أحيانًا خلفَ شخصيات متخيلة. يكون القصد في الحكاية أنَّ الروائي شاهد على مرحلة من تاريخ أفريقيا، وأنه بالفعل يدون ما هو منحوت في ذاكرة الناس من حكايات؛ فالروائي يواجه أيضًا الأسئلة التي تجد أجوبة مؤقتة من خلال مغامرة البحث عن لغة متفردة، هي لغة النثر الروائي المطبوعة بالحوارية والتعدد، المأخوذة في شرك الانشطار والشك، الموزعة بين الحلمي والملموس، المفتوحة على ذاكرة النصوص وعلامة الموضة العابرة.٦ أول ما يثير الروائي الأفريقي تنوع الحكايات الشعبية والأساطير من قبائل شتى. والجانب الأهم أن الأدب الأفريقي لا يجب أن يقسم على أساس إثني أو ديني، كالقول إن الأدب خاص بالمناطق غير الناطقة بالعربية، أو أدب للزنوج الذين لا يدينون بالإسلام. الأدب الخاص بشمال أفريقيا والأدب الخاص بأفريقيا جنوب الصحراء. أعتقد أن هذا النوع من التقسيم استعماري وعنصري واستئصالي؛ لأن أفريقيا بحدودها مجال ترابي شاسع، يستوعب كل القوميات والأديان. والكتابة الروائية تتعالى عن الحسابات الضيقة؛ لترسم لنفسها عالمًا جديدًا يعبر فيه الروائي عن هموم الإنسان الأفريقي.
الروائي الأفريقي عندما عاد لذاته ووطنه بعد غياب في بلاد المهجر، أدرك للتو أن تاريخ أفريقيا يجب أن يُعاد كتابته بطريقة سردية، وأدرك المفارقة الغريبة بين ما يجري من عقلانية وديمقراطية في أوروبا، والخارج الذي يعُج بالانتقاص من الآخر وثقافته. عاد الروائي الأفريقي للتاريخ، ومنه ارتوى بالحكايات من صميم الواقع، أي وصف لا يشتمل على نظرة شخصيات العمل الأدبي إلى العالم لا يمكن أن يكون تامًّا؛ فالنظرة إلى العالم هي الشكل الأرقى للوعي، والكاتب يطمس العنصر الأهم من الشخص القائم في ذهنه حين يهمل النظرة إلى العالم. إن النظرة إلى العالم هي تجربة شخصية عميقة يعيشها الفردُ، وهي أرقى تغيير يميز ماهيته الداخلية، وهي تعكس بذات الوقت مسائل العصر.٧ من منطلق القراءة المادية للعلاقة بين الفكر والواقع، تبدو الواقعية علامة مميزة للكاتب، أن يدرك الآلية المناسبة لإسقاطها على الوقائع الموضوعية. لا توجد أشكال أخرى من الموضوعية العلمية غير امتلاك الرواية هذه القراءة التي تعمل على كشف المستور في عالم الاستغلال الاستعماري الإمبريالي للآخر. الروائي بهذا المعنى يعرف أن العمل الإبداعي ليس في العناية بالشكل والتيه في عتَبات الرواية، دون تحديد بوصلة الحكاية في دقائق التاريخ، دون أن يلتف على عمل المؤرخ.
أساس الأدب المفيد يدور عن العالم المشترك بين الناس، وعالم الذات في قلب المجموع. هذا الأدب الواقعي يرصد بالفعل ديناميةَ وسكونَ المجتمع، وأشكالًا من الصراع الذي لا ينتهي. الروائي الحاذق يصنع من الحكاية عالمًا يتسم بالموضوعية والصدق للواقعة، مع قوة الخيال في تصوير الأمكنة والأزمنة، ووضع اللمسات الفنية على الشخصيات المتخيلة. إن الرواية عند لوكاتش هي الشكل الرئيس لعالم لم يعُد فيه الإنسان، لا في وطنه ولا مغتربًا كل الاغتراب؛ فلكي يكون هناك أدبٌ ملحمي، والرواية شكل ملحمي، لا بدَّ من وجود وحدة أساسية.٨ إنها الواقعية بالمعنى الذي يترك الروائي قريبًا من الأشياء، ويحكي من عالم الطبقات والصراع الاجتماعي والسياسي، عالم تنعكس فيه الثقافة على ما هو مادي قابل للقياس والتغيير، عندما يلم الكاتب بحيثيات الزمان والمكان. هذا الشكل من السرديات الذي يتسم بالواقعية يُعطي للكتابة تأثيرًا في ذهن القارئ مباشرة، ويثير قضايا بشكل فني يصوغها الروائي في قالب سردي يستعين فيه بالشخصيات المتخيلة التي لها دلالة مستوحاة من المجتمع. الرواية في جانبها الفني نسيجٌ من العناصر المتفاعلة، من اللغة والأسلوب والعقدة والرموز وتدوير الحكاية، وقلبها نحو أفق ترسم خيوطها شخصيات متخيلة؛ إضافةً إلى الحوارية التي تقر بوجود أكثر من وعي داخل الرواية، وتجعل الروائي يدخل في الحوار مع أنماط متعارضة من الوعي الإنساني. بذلك لا تقتصر وظيفة الحوار على التعبير السطحي عن المواقف وتحقيق التواصل، بل تصبح الحوارية وسيلة لاستجلاء عمق الأشياء، والخروج من الحوار الأحادي الموزَّع على أكثر من شخص.٩
هذا النوع من السرد أقرب للرواية الحديثة في معالمها الأساسية التي تمرَّدت على التقاليد، وكرست رؤية مغايرة للمتن الروائي. بداية الواقعية السحرية في توظيف الحكايات والأوهام والعجائب مع الاحتفاظ بالأصل في الحكاية لتبليغ الفكرة، ومن تراكمات الإنتاج في الأدب الأفريقي منحت مصداقية كبيرة للكُتاب في العالم عن طريق الترجمة. عندما نسج الروائي الأفريقي في الرواية كانت الكلمة صرخةً للوعي الفردي والجمعي، نداء لأجل التجاوز للصراعات الداخلية. والقول للآخر أن أفريقيا حضارة وتاريخ، واقع حالها يئن من أنين الهويات القاتلة، ومن العولمة الاقتصادية وجشع الكيانات الأخرى التي لا زالت تعتبر أفريقيا خزانًا للموارد الطبيعية. وإن الإنسان الأفريقي مُطالَب بامتلاك الثقافة الغربية وغيرها؛ فالروائي لا يقدم ألبومًا للصور، ولا دروسًا، لكن الروائي أيضًا يبث أيديولوجيا، نظرات، رؤية، مما يتصل بالعلاقات الإنسانية، بالإنسان ومحيطه الاجتماعي والطبيعي أيضًا، بالتاريخ. وهذا الذي يبثه الروائي ليس إلهامًا ولا ذاتية خالصة، إنه إنتاج فردي اجتماعي معين.١٠ هذا الوعي المرافق للروائي يُعيد صياغته، فيتجلى العمل الروائي على طبيعته المتخيلة، والمستوحى من التاريخ والتراث والقصص الخيالية، أو من الواقع المعاش. المونولوج الداخلي للروائي يولد مشاعرَ الحيرة والسؤال من الواقع الاجتماعي والسياسي، ويولد الشكَّ في الرسمي والموجه بالدافع الأيديولوجي، وقلق المصير والتنمية للإنسان الأفريقي.
مواقف وآراء الروائي الأفريقي (سوينكا مثلًا) تتجلى في اللقاءات الصحفية والندوات المنعقدة هنا وهناك في بلدان الآخر؛ من خلال نقاشات فكرية في قراءة رهانات الرواية الأفريقية، وواقع أفريقيا السياسي والاجتماعي من منظور الأديب، ثقافة الرفض والمقاومة بالكلمة التي يعبر عنها وول سوينكا نتيجتها السجن وراء القضبان والتهديد بالتصفية. لا يهدأ النقد والسؤال وراء القضبان؛ فالكاتب يطالب بالحرية الفعلية والعدالة الاجتماعية، وتحرير الإنسان من التعسف؛ لأجل المساهمة في بناء الأوطان المكبلة بسلطة الفرد الواحد. كوابح التنمية في أفريقيا تعالجها الرواية من خلال نماذج من الشخصيات في الرواية الحديثة والمعاصرة، مع الاختلاف طبعًا في البناء العام للمتن الروائي. أسماء دالة على المكان والتاريخ، وأسماء أخرى من نتاج الصدفة أو الاختيار المبني على تراضي أطرافٍ في وضع أسمائهم في الرواية، كما هو الشأن مع أمير تاج السر. عتبات الرواية تحمل للقارئ العادي تأويلاتٍ لما يمكن أن يحمله النص الروائي، والتأمل في بنية السرد الروائي من قبل الناقد؛ حيث إن قيمة الإنتاج تكمن أساسًا في وحدة النص. البنية الداخلية للإبداع الروائي من تناغم الشخصيات والرموز والعلامات، وتناسب الزمان والمكان ودقة الحبكة والنهايات المفتوحة، عناصر أساسية في الارتقاء بالعمل الروائي. فأول شروط النقد هو اعتبار العمل كله دالًّا؛ إذ إن أيةَ قواعد نحوية لا تشرح جميع الجمل، فهي ناقصة. ولا يكمل أي نظام للمعنى وظيفته، إن لم تعثر على كل الكلمات فيه على وضْعها ومكانة المفهوم. وإذا كان الكاتب عالمًا؛ فإن الناقد يجرب أمامه ما سبق أن جرَّبه الكاتب أمام العالم.١١
النقد إعادة القراءة من جديد لكل ما أغفله الروائي، ويمكن أن يكون تنبيهًا إلى الشكل والموضوع والرسالة التي أغفلها الروائي في عمله، تقييم الأعمال في جودتها ودقة بنائها المتكامل ما يعطي للرواية قيمة فنية وجمالية. معيار القول النقدي إذن هو الدقة، مثله في ذلك مثل الموسيقى؛ فالنوتة الدقيقة ليست هي النوتة الحقيقية؛ إذ إن حقيقة الغناء تتوقف على دقته التي تعتمد بدورها على قوانين التناغم. وهكذا فإن الناقد؛ كي يقول الحقيقة، لا بدَّ أن يكون دقيقًا في محاولته لوصف الشروط الرمزية للعمل الأدبي.١٢ من هذه الرؤية للنقد الأدبي، يعتبر الناقد محلِّلًا وقارئًا في فنية الرواية من شتى الجوانب، ومن جهة أخرى يترك النقد كذلك للقارئ والروائي أن يكتشفا الخفيَّ في القصة. أما الحقيقة التي يروم تقديمَها الروائي للقارئ؛ فهي من صميم الرؤية الذاتية، دون أن تكون معممة وذات يقين نهائي. ميولات النقاد والأسئلة النقدية أجراسٌ تدق في سماء النقد الأدبي، من هنا تبلورت نظريات أدبية. والنقد الأدبي ككلِّ علمٍ ناشئ عن مَلَكات خاصة، تنمو بالتربية والتمرين. فلو سُئلتُ عن ناشئ يريد أن يعدَّ نفسه ناقدًا، أي طريق يسلك؟ أقول: إنه يجب عليه أولًا أن يكثر من قراءة الأدب، ويتفهمه ويحاكي جيِّدَه.١٣
هذا النقد غير معزول عن مجالات معرفية أخرى، كالفلسفة واللسانيات والعلوم الإنسانية؛ أي إلمام الناقد بالمعارف والعلوم السائدة، وآليات الكتابة في الرواية، كالتناص الذي أضحى يميز الرواية الجديدة، تعالق النصوص بعضها ببعض؛ فكل تعبير يفترض تعبيرًا آخر. والأعمال الإبداعية ليستْ خالصة تمامًا؛ لأنها ببساطة متعلقة بنصوص سابقةٍ وإنجازات سالفة تستمد منها الأرضية، أي تقاطع النصوص وتداخلها. إن التناص بحكم معناه العام الذي استعمل به في بدايات توظيفه مع باختين وكريستيفا يتعلق بالصِّلات التي تربط نصًّا بآخر، وبالعلاقات أو التفاعلات الحاصلة بين النُّصوص مباشرة أو ضمنًا، عن قصد أو غير قَصد.١٤ هذا الفعل يميز الكتابات الأدبية المعاصرة التي انفتحت على تيارات معرفة لأجل صياغة أعمال روائية متناسبة. والسياقات الجديدة متفاعلة أكثر في رصد الإنسان كوحدة مركبة ومنسجمة. سلوكات وأفعال ومغامرات في المكان، الإنسان العابر للحدود من جحيم الصراعات وويلات الحروب الشرسة نحو فضاء يعم فيه السلم والأمان، فرار المرأة وقساوة الظروف، والمعاناة التي تواجهها كلاجئة في دول الجوار وبعيدًا عن المكان، الفرار القسري والاختياري والرغبة في العودة من جديد إلى الوطن الأم، والهوية الأفريقية للقَول تعني أن الأوطان الأخرى تضيق بالإنسان الأفريقي، والوطن الأم يفتح أحضانه، والأرض تهفو للعناق مرة أخرى. مشاعر صريحة في روايات بثينة خضر مكي وآخرين؛ فالناقد المتمرس بالقراءة والكتابة يحلل عناصر الرواية ويمنحها لمسةً أخرى تضفي ولعًا جديدًا باكتشاف آلية السرد، وتقنيات البناء بالنسبة للعمل الإبداعي. ليس النقد مسألة ذوق وحسب، ليس الناقد مجرد قارئ يمتعه النص أو لا يمتعه؛ فيصدر حكمه عليه في هذا الاتجاه أو ذاك. إن إخضاع النص لسلطوية الذوق لا يعني فقط بقاء النص قيمة مرهونة لصاحبِ هذا الذوق أو ذاك، بل يعني أيضًا إخضاع النص لسلطوية موقع اجتماعي لهذا الذوق، وفي إجهاض للعطاء الثقافي في معناه الواسع، وقوننة لمعنى الإبداع في نكهته البكر وتربته الخصبة.١٥ والعلاقة بين القارئ الناقد والنص جدلية، لا يحكمها الذوق الجمالي والفني عند إصدار حكم على العمل الروائي من حيث الأصالة والجدة، لكن الحكم تحدده عوامل نفسية وثقافية وأيديولوجية؛ علمًا أن الناقد لا يقفُ دائمًا عند عتبات النص فقط، بل يغوص في تأملات ما وراء السطور والكلمات، جمالية الرواية نسيج من القصة، ولغة الكتابة أي أسلوب الرواية يكون مدخلًا آخر لفهم مقاصد الإبداع.

عند قراءة الرواية الأفريقية الحديثة ينتابُك هذا السرد عن المكان والتاريخ والشخصيات، ومنطق الفكاهة والسخرية والتعرية للواقع الأفريقي، إذ أصبحت الرواية الأفريقية تكشف عن الجانب المنسيِّ والمهمش من القضايا الواقعية التي تُعاني منها القارة. وإذا كان القول يسري على تحييد الرموز الروائية السابقة للجيل الجديد من الروائيين؛ فالأمر كذلك معقولٌ شريطةَ أن تكونَ القضايا الأفريقية في صميم الحكاية. الروائي ليس ذاتًا تنوب عن كل الذوات، وفي المقابل لا يسكن في أبراج إسمنتية، يخاطب العقول ويغيِّر من قناعات الأشخاص عندما يمتلك القدرة على بناء مواقف إنسانية من قضايا عادلة، دون التماس المبررات الواهية للاستعمار الغربي مثلًا. وهذا ما سأعالجه في المحور الأخير عن نماذج روائية من أفريقيا؛ خصوصًا نادين غوديمير وجون ماكسويل كوتزي من جنوب أفريقيا، ومن رواية الآخر عن أفريقيا، من الوعي بالذات والآخر، جاءت الكتابات من المستفرقين والأدباء الأفارقة ذوي اللون الأبيض، الذين كانوا أكثر إنصافًا في نقد وتفكيك آليات الاستعمار الغربي ونظام الميز العنصري بين البيض والسود.

أحقية الإنسان الأفريقي في أرضه وتنظيم أموره من الأشياء الحتمية؛ ولذلك عندما كتب الروائي الأفريقي عن قضايا جوهرية، أراد تبليغ رسالة مهمة إلى العالم عن أفريقيا في الخصوصية الثقافية والهوية. والرواية الأفريقية عندما تصوِّر مشاهدَ معينة تصويرًا فنيًّا يتجلَّى فيه المكان والشخصيات، لا يعدو أن يكون العملُ هواجس وأحلامَ الذات في الإصلاح والتنمية، والعودة للجذور. حوار لا ينتهي بين الذات وذاتها بلغة القبيلة، واللغة الأدبية نفسها، المتكلَّم بها والمكتوبة؛ لكونها فريدة، لا فقط استنادًا إلى علاماتها العامة اللسانية بكيفيةٍ تجريدية، وإنما طبقًا لأشكال تأويلاتها. هي لغة منضدة طبقات ومتعددة لسانيًّا بمظهرها الملموس الذي هو دلالي وتعبيري في نظَر الغير.١٦ فالرواية المكتوبة تحتوي في طيَّاتها عباراتٍ ومعانيَ يستقيها الروائي من الثقافة الأفريقية، خصوصًا إذا مزج بين اللغة الفرنسية أو الإنجليزية واللغات المحلية. شاعرية الكلمة ودقة المشاعر التي تصف أمكنة بذاتها، وتهيم في الأزمنة المختلفة ما يميز الإبداع الروائي. عودة أتشيبي إلى بداية الاستعمار الغربي للحكاية، وعودة أمير تاج السر إلى الثورة المهدية. يمكن القول إن الروائي اغتذى من التاريخ؛ فكل مجتمع له عقدة أساسية ينبغي فكها، ولو عدنا للتاريخ والماضي، لَوجدنا السرَّ في الأزمات الآنية التي تعاني منها أفريقيا. لماذا العنصرية في المجتمعات الأفريقية؟ السبب هو الرجل الأبيض، والميز على أساس اللون والعِرق والثقافة … ولماذا تعدُّد الأديان في أفريقيا؟ يكون الجواب هو الآخر. علمًا أن المجتمع الأفريقي متعدد التقاليد والأعراف والقِيَم المحلية، حتى أصبحت أفريقيا تعجُّ بالحركات والجماعات التي تقاتل على الهوية، وتحت يافطة السيادة للعقيدة الواحدة. كان بالأحرى على الأفارقة أن يختاروا ما يناسبهم بقناعة دون تعسُّف أو إرغام في تبني قِيَم من أي حضارة أخرى.
ينقل الروائي الأفريقي عبارات وكلمات من عالم غني بالحكايات والتقاليد، والاحتفالات للآخر. الخطاب الروائي تنسجه ذاتٌ مفكِّرة تمتلك رؤية بالظواهر التي تخترق المجتمع، ورؤية من صميم الحكاية المستمدة من الواقع والملون بألوان السرد والتخيل. من الواضح أن الإنسان الذي يتكلم ليس مشخصًا وحده، وليس فقط بوصفه متكلمًا؛ ففي الرواية يستطيع الإنسان أن يكون فاعلًا على نحوٍ لا يقل عن قدرته على الفعل في الدراما أو الملحمة؛ إلا أن لفعله دائمًا إضاءة أيديولوجية. إنه باستمرار فعل مرتبط بخطاب.١٧ لا يخفي الروائي الأفريقي الانتماءَ للنص المعبر عن الانتماء للجذور والأصل والمكان. خطابه في الرواية ليس موجَّهًا للاستهلاك أو الدعاية المجانية، ولا إنتاج اليقين والحقيقة الصلبة؛ لأن الروائي يعبر عن الممكن من عالم يرسمه بالخيال واللغة المتدفقة، حيث تترك الكلمات والقصة انطباعات لدى القارئ؛ لإعادة النظر في العالم، وتربية الإنسان على احترام مشاعر الآخر.

الروائي الأفريقي يرصد تقلبات السياسة والحياة الجماعية، ويلوذ للوراء نحو الماضي البعيد والقريب، عن الضَّعْف الذي أصاب الإنسان الأفريقي أمام الرجل الأبيض. سلاح السخرية، ولو على الطريقة السقراطية، يبدو أنه عملية ووظيفية عند أتشيبي مثلًا في تتبُّع مسار شخصيات الرواية وإيقاع الحكاية. المثال الجلي من شخصية «أوكونكو» الذي عاش شهمًا وطموحًا، وانتهى إلى مصير تراجيدي، يدفع الروائي إلى بلورة خطاب مفعم بالكلمة والسؤال، موجَّه للقارئ عن أسباب التداعي والانهيار للقيم الراسخة في القبيلة. ينتج النقد الروائي آليات جديدة للفهم والتأويل، ويستعين الناقد بالنظريات الأدبية للتوغُّل أكثر في بنية النص الواضحة، والكامنة خلف الكلمات والرموز، والشخصيات الأساسية والثانوية في الرواية. تحليل الخطاب الروائي من آليات التجديد للرواية، ورؤية النقاد للرواية الجديدة مبني على تكسير الجمود، والصور الثابتة في الرواية السابقة. لا يوجد شيء خارج النص كما يقول جاك دريدا، كل ما يكتب يحيل على معانٍ ومقاصد في نوايا الروائي. والنص بهذا المعنى يستجيب للتفكيك والخلخلة؛ من خلال استراتيجية ينتهجها القارئ في المعرفة، وإغناء النقد بالقراءة الموسعة دون التقيد بالنوايا المباشرة التي قصدها الرِّوائي. فالروائي يرسم عالمه المتخيل، ويترك مسار الرواية في نمو الأحداث، دون أن يعلو صوت الراوي في الحكاية. عالم الرواية بلا ضفاف، غير ما تحمله الرواية من مفاجئات وأسرار تُستشَف من مسار النهاية غير القطعية. دروب السرد متاهة في أدغال أفريقيا، يلتقط الروائيُّ الجزئيَّ والكليَّ من وقائع فريدة، وحكايات ممتعة من سياق التاريخ، والذاكرة الحية للشعوب الأفريقية. يلتف السَّرد دوراتٍ ويتخذ منعرجات، ويتجه نحو رسم الممكن في الحكاية بنوع من التشويق والأسلوبية؛ حيث يتيه القارئ في دروبها ومساراتها، فالروائي الأفريقي ضمير وجرس يدق في آذان القارئ، وموجَّه نحو الفكرة التي شكَّلت وحدة الجماعة، من خلال عالم سردي يجمع بين الوصف والسَّرد عن أزمنة وأمكنة، وعن عوالم حاضرة وغائبة. إنه مؤرخ من نوع آخر، لا يهتم بفحص الأرشيف والمخطوطات؛ إلا أنه من المادة التاريخية يصنع عالمًا فريدًا وغنيًّا بالقصة من تاريخ أفريقيا البعيد والقريب، وتتكوَّن الانطباعات الذاتية لدى القارئ في تغيير الآراء الثابتة والمواقف. هكذا يعمل النقد للرواية الأفريقية والعالمية نحو ميلاد آفاق جديدة للإبداع يطيح بالصورة التقليدية، ويترك انطباعات عن ملامح الرواية الجديدة، أو ما يُعرف الآن برواية ما بعد الحداثة.

١  ميخائيل باختين، «الكلمة في الرواية»، ص٩.
٢  علي شلش، «الأدب الأفريقي»، ص١٣١.
٣  ميشال بوتور، «بحوث في الرواية الجديدة»، ترجمة فريد أنطونيوس، عويدات للنشر والطباعة، سلسلة زدني علمًا، ١٩٨٦م، ص١٢.
٤  طه وادي، «دراسات في نقد الرواية»، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة، ١٩٩٤م، ص١٧.
٥  جيسي ماتز، «تطور الرواية الحديثة»، ترجمة لطيفة الدليمي، دار المدى، الطبعة الأولى، ٢٠١٦م، ص١٢٤-١٢٥.
٦  محمد برادة، «أسئلة الرواية أسئلة النقد»، الطبعة الأولى، ١٩٩٦م، ص١٦-١٧.
٧  جورج لوكاتش، «دراسات في الواقعية»، ص٢٥.
٨  سيد بحراوي، «بنية الشكل الروائي»، ص٧.
٩  محمد برادة، «أسئلة الرواية أسئلة النقد»، ص٨٠.
١٠  نبيل سليمان، «وعي الذات والعالم»، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، ١٩٨٥م، ص١١.
١١  صلاح فضل، «نظرية البنائية في النقد الأدبي»، دار الشروق، الطبعة الأولى، ١٩٩٨م، ص٢١٨.
١٢  صلاح فضل، «نظرية البنائية في النقد الأدبي»، ص٢١٨.
١٣  أحمد أمين، «النقد الأدبي»، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ٢٠١٢م، ص١٤.
١٤  سعيد يقطين، «الرواية والتراث السردي»، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، ١٩٩٢م، ص١٠.
١٥  يمنى العيد، «في معرفة النص»، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٩٨٥م، ص١٩.
١٦  ميخائيل باختين، «الخطاب الروائي»، ترجمة محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، ١٩٨٧م، ص٦٠.
١٧  م. باختين، «الخطاب الروائي»، ص١٠٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤